وهذا هو السبب في ثورة تلك البلاد إثر وفاة الرسول، وفيما ترتب على ذلك من حروب الردة، فقد أراد أبو بكر أن تظل هذه البلاد كما كانت في عهد الرسول، وأرادت هذه البلاد أن تسترد حريتها السياسية كاملة، وكان لأبي بكر من إيمانه بالله ورسوله أبلغ العذر عن الإصرار على أن يؤدي من أسلم كل ما فرض الله مما كان يؤدي لرسول الله، وكانت هذه البلاد ترى لنفسها حقا في الاستقلال وتقرير المصير كحق أهل المدينة، وتأبى لذلك أن يفرض المهاجرون والأنصار رأيهم عليها بعد أن لم يبق بينهم رسول الله يوحى إليه فيؤمن الناس بكلمته؛ لأنها كلمة الله جل شأنه.
وما حدث من بيعة أبي بكر بالمدينة جدير بأن يقف نظرنا كما وقف نظر العرب في ذلك العهد، فما بال المهاجرين والأنصار قد استأثروا باختيار الخليفة دون سائر العرب؟! وما دلالة ذلك في تطور النظام السياسي يومئذ؟ أتراهم استأثروا باختيار أبي بكر؛ لأنهم رأوا في سبقهم إلى الإسلام وفي تقدمهم الصفوف للدفاع عنه ما يجعلهم أصحاب الأمر في شئون العرب، وما يقدمهم في ولاية السلطان عليهم؟! لعلك تذكر اعتراض عمر بن الخطاب على أبي بكر حين أرسل أهل مكة يشاورهم في فتح الشام ويستمدهم إليه، بعد أن قاتل أهل مكة المرتدين كما قاتلهم المهاجرون والأنصار، ثم لعلك تذكر كلمة سهيل بن عمرو لعمر في هذا المقام وإجابة عمر إياه، فقد قال سهيل: «ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب! أفئنكم أن كان الله قدم لكم في هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعو أرحامنا ومستهينون بحقنا!» وكان جواب عمر: «إني والله ما قلت ما بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم من المسلمين.» فإن يكن ذلك رأي عمر ومن وافقه في أمر مكة وأهلها فما أحراه أن يكون رأيهم في أمر سائر العرب! أما كلمة سهيل فصريحة في إنكار رأي عمر، وفي تمسك أهل مكة بما لهم من حق في المشورة يعدل ما لأهل المدينة فيها.
هذا الحوار واضح الدلالة في تصوير العوامل التي كانت تتجاذب لتكيف النظام السياسي في الدولة الناشئة، فلئن قضت ضرورة المحافظة على كيان الدولة أن يسارع المهاجرون والأنصار بالمدينة إلى اختيار الخليفة ومبايعته، لقد انقضت هذه الضرورة أول ما تمت بيعة أبي بكر واطمأن المسلمون لها، ولقد أقامت مكة والطائف على الإسلام وشاركتا في حروب الردة، وصار لهما بذلك من حق الرأي في الحكم ما لأهل المدينة، أفيكون سبق المهاجرين والأنصار إلى الإسلام سببا في تقدمهم على جميع المسلمين ومسوغا لاستئثارهم بالأمر على العرب كلهم؟ ذلك ما رآه ابن الخطاب، مستندا إلى ما دار في سقيفة بني ساعدة من حوار بين المهاجرين والأنصار، أما أهل مكة فبرموا به، وأنكره باسمهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو.
لم يذهب أبو بكر في هذا الأمر إلى المدى الذي ذهب إليه عمر، مع أنه في سقيفة بني ساعدة، هو الذي أيد بحجته البالغة حق المهاجرين في الإمارة لسبقهم الأنصار إلى الإسلام واحتمالهم الأذى في سبيله، ذلك أنه رأى سائر الذين أقاموا على إسلامهم من غير أهل المدينة قد شاركوا في حروب الردة، وذهب منهم من ذهب لغزو العراق؛ فمن العدل أن يكون لهم ما لأهل المدينة من حق في الرأي والمشورة، لهذا دعا أهل مكة يشاورهم في غزو الشام ويستمدهم إليه، كما أنه سوى في قيمة الذهب الذي كان يجيء من المنجم الذي فتح على مقربة من المدينة في عهده بين المسلمين، فلما قيل له في تفضيل السابقين إلى الإسلام كان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة؛ وإنما هذه الدنيا بلاغ.» وبهذا التصرف الحكيم مهد للتطور السياسي في البلاد في لين ومرونة.
وقد تجدد الخلاف على هذا الرأي في عهد عمر فأصر على رأيه الأول فيه، مخالفا مذهب الصديق وسياسته، ثم إنه حاول في آخر عهده أن يعود إلى رأي سلفه فعاجلته المنية دون أن يتم ما عزم.
أدت سياسة الصديق إلى تطور العرب نحو الوحدة السياسية، وجعلتهم ينظرون إلى المدينة على أنها عاصمة دولتهم ومصدر سياستهم، لذلك اتجهت أنظارهم إليها فانضووا تحت سلطانها واستظلوا برايتها.
ما لون هذا السلطان؟ أكان ثيقراطيا (دينيا)، أم أرستقراطيا (حكم الخاصة)، أم ديمقراطيا (حكم الشعب)؟
1
لقد رأينا أنه لم يكن من نوع السلطان الديني الذي عرفته مصر الفراعنة، ولا الذي عرفته عصور أوربا الوسطى، لم يكن أبو بكر يستمد سلطة الحكم من الله، بل من الذين بايعوه، وقد انقضى نزول الوحي منذ اختار الله رسوله إليه، وبقي كتاب الله بين المسلمين هدى لهم جميعا، وحجة عليهم جميعا؛ فهو ميثاقهم الذي آمنوا به وارتضوه، وهو دستور الحكم، يسير الحاكم في حدوده لا يتعداه، فإن فعل وجبت طاعته، وإلا فلا طاعة له على مسلم.
هذه الصورة الدقيقة للحكم الإسلامي تنأى به عن الفكرة الثيقراطية، فهو كما ترى حكم مقيد لا سبيل للقائم به إلى السلطان المطلق، وفي طبيعة الحكم الثيقراطي أن يكون مطلقا لا يعرف قيدا إلا هوى الحاكم وحرصه على الاحتفاظ بسلطانه، وهذا الحرص هو مصدر الزعم بأن إرادة هذا الحاكم الثيقراطي من إرادة الله، وأنها لذلك هي القانون، بل هي فوق القانون؛ بيد صاحبها كل شيء: بيده العذاب والرحمة، والشقاء والنعمة، والحياة والموت، شتان ما بين هذا وبين تقيد الحاكم بمشاورة، وبما أنزل الله في كتابه.
صفحة غير معروفة