128

الصديق أبو بكر

تصانيف

عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم، فراعوني، فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإن رأيتموني زغت فقوموني.» وقد رأيت أبا بكر كيف قاتل الذين ادعوا النبوة، والذين ارتدوا عن دين الله وعن الإيمان به وبرسوله، وكيف كان صلبا في حرب هؤلاء جميعا، حتى ردهم إلى الهدى ودين الحق.

ولقد تولى أبو بكر قيادة المسلمين وسياسة أمورهم بعد رسول الله باختيار المسلمين ورضاهم، لم يبعثه الله خليفة عليهم كما بعث محمدا رسولا إليهم، ولم يجعل له فضلا على أحد منهم إلا بالتقوى، وهو لم يكن يرى لنفسه حقا في حكم المسلمين إلا في حدود كتاب الله وسنة رسوله، وذلك قوله (رضي الله عنه) حين خطب الناس يوم بيعته: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.»

ولقد خلف عمر بن الخطاب أبا بكر، فلم يتخذ لنفسه لقب خليفة رسول الله، بل طلب إلى الناس فلقبوه: أمير المؤمنين، ذلك أنه أراد اتقاء التكرار في تلقيبه خليفة رسول الله، وهو تكرار يطول إلى غير حد بتعاقب الخلفاء ، فلو أنه لقب خليفة خليفة رسول الله للقب عثمان من بعده خليفة خليفة خليفة رسول الله، ولكان علي بن أبي طالب خليفة خليفة خليفة خليفة رسول الله.

واتخاذ عمر لقب أمير المؤمنين اتقاء لهذا التكرار يجعل عبارة أبي بكر: لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله، أكثر قوة في دلالتها وإبانة عن المعنى الذي قصده الصديق منها، ويشهد بأنه قصد معناها اللغوي من حيث تعاقب الزمن، فهو الرجل الذي خلف رسول الله على سياسة المسلمين بعد وفاته، ولو أن لقب الخليفة أريد به يومئذ غير هذا المعنى اللغوي للقب عمر كما لقب أبو بكر خليفة رسول الله، ولما اقتضى الأمر تغيير هذا اللقب بلقب أمير المؤمنين.

ولعل سببا آخر دعا عمر ليتخذ إمارة المؤمنين لقبا له، ذلك أنه رأى نظام الحكم تطور في بلاد العرب وفي البلاد التي تم فتحها في عهد أبي بكر، مع بقاء هذا الحكم في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، وكان هذا التطور سريعا في شبه الجزيرة وفيما وراءها سرعة أذهلت العالم وأدهشت المؤرخين، ولم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسوله تفصيل لنظام الحكم كيف يكون، وإن جعل الكتاب الشورى أساس الحكم، فقال تعالى مخاطبا نبيه:

وشاورهم في الأمر

وقال:

وأمرهم شورى بينهم ، فلم يكن لعمر بد من أن ينظر في تفصيل هذا النظام بما يتفق واتساع رقعة الفتح، وما يكفل طمأنينة المحكومين، شأنه في ذلك شأن أمير الجيوش إذ يصفها وينظم تعبئتها بما يقضي به تطور المعارك وما يقتضيه موقف جنوده وموقف خصومه، غير مقيد برأي سلف ما دام في طاعة الله متأسيا برسوله.

وأنت إذا رجعت البصر إلى هذا التطور السريع ازددت إعجابا بأبي بكر وبمقدرته على مواجهته في لين ومرونة كانا مصدر قوته والسبب في نجاح سياسته، كانت بلاد العرب إلى عهد الرسول موزعة بين حياة الحضر وحياة البادية، مقسمة بين شتى الأديان، يكاد شمالها وجنوبها لا يتعارفان، كانت اليمن خاضعة لسلطان فارس، تتجاور فيها المسيحية واليهودية وعبادة الأصنام، وتتكلم لغة حمير التي تختلف في لهجتها عن لغة قريش كافة، وعن لغة مضر خاصة، ثم إن اليمن كانت مستقر حضارة تعاقبت على الأجيال، أما الحجاز فكان أدنى إلى البداوة، وكانت مدنه، مكة ويثرب والطائف، تستقل كل واحدة بنفسها وبنظامها، كاستقلال كل قبيلة بنفسها وبنظامها، ولا يحول هذا الاستقلال دون تجاور اليهودية والوثنية بيثرب، ولا دون تجاور النصرانية والوثنية بمكة، فلما انتشرت دعوة النبي العربي إلى التوحيد في أرجاء شبه الجزيرة، وأذن الله لدينه القيم أن يعم ربوعها، خلعت اليمن نير الفرس، وبقيت مستقلة بنفسها وبنظامها كما كانت من قبل؛ وكذلك بقيت سائر مدن الحجاز وقبائله مع إسلامها لله وللدين الذي أوحاه إلى رسوله، بذلك أصبحت بلاد العرب أشبه بعصبة أمم عربية تجمع بينها عقيدة واحدة، تدين كلها برسالة محمد وتؤمن بتعاليمه، ثم لا تنزل من استقلالها عن شيء إلا إيتاء الزكاة أداء لفرض الله وقياما بركن من أركان دينه الذي آمنت به.

على أن هذه الوحدة الدينية كانت بدء تطور في نظام البلاد السياسي لم يلق العرب بالهم إليه، لقد تحالفت القبائل والمدن على أن تدفع عن حرية العقيدة وتقاتل المشركين الذين يصدون عن سبيل الله، فلما سار جيش المدينة تحت راية الرسول ليغزو مكة بعثت القبائل من سليم ومزينة وغطفان وغيرها من انضم إلى المهاجرين والأنصار لفتح البلد الحرام، وفتحت مكة أبوابها وأسلم أهلها، فسار أبناؤها مع جيش الرسول إلى حنين والطائف. ثم إن رسول الله كان يبعث عماله إلى البلاد التي تدين بالإسلام ليعلموا الناس القرآن ويفقهوهم في الدين، وهؤلاء العمال هم الذين كانوا ينظمون الزكاة وتحصيلها فيرسلونها إلى المدينة أو يوزعونها بين الفقراء من أهل البلاد التي دخلت في دين الله، طبيعي أن يحدث ما صحب الانقلاب الديني من هذه الأحداث تطورا في النظام السياسي يميل ببلاد العرب إلى وحدة لم تألفها من قبل، لكن أهل هذه البلاد في اليمن وفي غير اليمن لم يقدروا لهذا التطور، ولم يدر بخلد أحد منهم أن يكون له بعد رسول الله أثر، بل كان ظنهم أن هذه التعاليم التي يذيعها رسول الله بينهم ستصبح أصيلة فيهم، ثم يعودون إلى حالهم السياسية الأولى، وتظل كل أمة وكل قبيلة منهم مستقلة بنفسها وبنظامها كما كانت من قبل.

صفحة غير معروفة