بيده ومشيئته وإذنه إن شاء أعطاهموه وإن شاء منعهموه، والثاني: قولهم: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ وثبات الأقدام فعل اختياري ولكن التثبيت فعله والثبات فعلهم ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله، الثالث: قولهم: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فسألوه النصر وذلك بأن يقوي عزائمهم ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم ويلقي في قلوب أعداهم الخور والخوف والرعب فيحصل النصر وأيضا فإن كون الإنسان منصورا على غيره إما أن يكون بأفعال الجوارح وهو واقع بقدرة العبد واختياره وأما أن يكون بالحجة والبيان والعلم وذلك أيضا فعل العبد وقد أخبر سبحانه أن النصر بجملته من عنده وأثنى على من طلبه منه وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الرب، الرابع: قوله: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وإذنه هاهنا هو الإذن الكوني القدري أي بمشيئته وقضائه وقدره وليس هو الإذن الشرعي الذي بمعنى الأمر فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة بخلاف إذنه الكوني وأمره الكوني فإن المأمور المكون لا يتخلف عنه البتة.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ وفي الآية رد ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره فغفل هو فالإغفال فعل الله والغفلة فعل العبد ثم أخبر عن اتّباعه هواه وذلك فعل العبد حقيقة والقدرية تحرف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم فيقولون معنى أغفلنا قلبه سميناه غافلا أو وجدناه غافلا أي علمناه كذلك وهذا من تحريفهم بل أغفلته مثل أقمته وأقعدته وأغنيته وأفقرته أي جعلته كذلك وأما أفعلته أو أوجدته كذلك كأحمدته وأجنبته وأبخلته وأعجزته فلا يقع في أفعال الله البتة إنما يقع في أفعال العاجز أن يجعل جبانا وبخيلا وعاجزا فيكون معناه صادفته كذلك وهل يخطر بقلب الداعي اللهم أقدرني أو أوزعني وألهمني أي سمني وأعلمني كذلك وهل هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه والعقلاء يعلمون علما ضروريا أن الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك ويشاءه له ويقدره عليه حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه وبقي وفطرته لم يخطر بقلبه سوى ذلك وأيضا فلا يمكن أن يكون العبد هو المغفل لنفسه عن الشيء فإن إغفاله لنفسه عنه مشروط بشعوره به وذلك مضاد لغفلته عنه بخلاف إغفال الرب تعالى له فإنه لا يضاد علمه بما يغفل عنه العبد وبخلاف غفلة العبد فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه وهذا ظاهر جدا فثبت إن الإغفال فعل الله بعبده والغفلة فعل العبد.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ وهذا يبطل تأويل القدرية المشيئة في مثل ذلك بمعنى الأمر فقد علمت أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء ثم قال شعيب وسع ربنا كل شيء علما فرد الأمر إلى مشيئته وعلمه فإن له سبحانه في خلقه علم محيط ومشيئته نافذة وراء ما يعلمه الخلائق فامتناعنا من العود فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا فلذلك رد الأمر إليه ومثله قول إبراهيم: ﴿وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ فأعادت الرسل بكمال معرفتها بالله أمورها إلى مشيئة الرب وعلمه ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيء أنه فاعله حتى يستثني بمشيئة الله فإنه إن شاء فعله
1 / 64