ما ذهبوا إليه" وقال أبو إسحاق "والمختار أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ وقال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وإنما معنى الإرسال التسليط" قلت وهذا هو المفهوم من معنى الإرسال كما في الحديث: "إذا أرسلت كلبك المعلم أي سلطته ولو خلى بينه وبين الصيد من غير إرسال منه لم يبح صيده" وكذلك قوله: ﴿وفي وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ أي سلطناها وسخرناها عليهم وكذلك قوله: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ وكذلك قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ والتخلية بين المرسل وبين ما أرسل عليه من لوازم هذا المعنى ولا يتم التسليط إلا به فإذا أرسل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن تفعل فعلا ولم تمنعه من فعله فهذا هو التسليط ثم أن القدرية تناقضوا في هذا القول فإنهم إن جوزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعادتهم فقد نقضوا أصلهم فإن منع المختار من فعله الاختياري مع سلامة النية وصحة بنيته تدل على أن فعله وتركه مقدور للرب وهذا عين قول أهل السنة وإن قالوا لا يقدر على منعهم وعصمهم منهم وإعادتهم فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه وهذا أبطل الباطل ثم قالت القدرية تؤزهم أزا تأمرهم بالمعاصي أمرا وحكوا ذلك عن الضحاك وهذا لا يلتفت إليه إذ لا يقال لمن أمر غيره بشيء قد أزه ولا تساعد اللغة على ذلك ولو كان ذلك صحيحا لكان يؤز المؤمنين أيضا فإنه يأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان فلا يحتاج من أمره ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين بل يأمر الكافر مرة ويأمر المؤمن مرات فلو كان الأز الأمر لم يكن له اختصاص بالكافرين.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ وقوله: ﴿أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ وقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ ومن المعلوم أن الإعاذة من الشيطان الرجيم ليست بإماتته ولا تعطيل آلات كيده وإنما هي بأن يعصم المستعيذ من أذاه له ويحول بينه وبين فعله الاختياري له فدل على أن فعله مقدور له سبحانه إن شاء سلطه على العبد وإن شاء حال بينه وبينه وهذا على أصول القدرية باطل فلا يثبتون حقيقة الإعاذة وإن أثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد وجعلوا الآية ردا على الجبرية والجبرية أثبتوا حقيقة الإعاذة ولم يثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد بل الاستعاذة فعل الرب حقيقة كما أن الإعاذة فعله وقد ضل الطائفتان عن الصراط المستقيم وأصابت كل طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ وقول هود وما توفيقي إلا بالله ومعلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد وقد أخبر أنه به لا بالعبد وهذا لا ينبغي أن يكون فعلا للعبد حقيقة ولهذا أمر به وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه وإنما يؤمر العبد بفعله هو ومع هذا فليس فعله واقعا به وإنما هو بالخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالتصبير منه سبحانه وهو فعله والصبر هو القائم بالعبد وهو فعل العبد ولهذا أثنى على من يسأله أن يصبره فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ففي الآية أربعة أدلة أحدها: قولهم: ﴿أفرغ علينا صبرا﴾ والصبر فعلهم الاختياري فسألوه ممن هو
1 / 63