وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق ومن زعم أن ما مفعول يختار فقد غلط إذ لو كان هذا هو المراد لكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان ولا يصح المعنى ما كان لهم الخيرة فيه وحذف العائد فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله فلو حذف مع الحرف لم يكن عليه دليل فلا يجوز حذفه وكذلك لم يفهم معنى الآية من قال أن الاختيار ههنا هو الإرادة كما يقوله المتكلمون أنه سبحانه فاعل بالاختيار فإن هذا الاصطلاح حادث منهم لا يحمل عليه كلام الله بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة وهو اختيار الشيء على غيره وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة قال في الصحاح الخيرة الاسم من قولك خار الله لك في هذا الأمر والخيرة أيضا يقول محمد خيرة الله من خلقه وخيرة الله أيضا بالتسكين والاختيار الاصطفاء وكذلك التخيير والاستخارة طلب الخيرة يقال استخر الله يخر لك وخيرته بين الشيئين فوضت إليه الاختيار انتهى فهذا هو الاختيار في اللغة وهو أخص مما اصطلح عليه أهل الكلام ومن هذا قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾ أي اختار منهم وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية يقولون في الكفر والمعاصي هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره فإن قلتم باختياره فكل مختار مرضى مصطفى محبوب فتكون مرضية محبوبة له وإن قلتم بغير اختياره لم يكن بمشيئته واختياره وجوابه أن يقال ما تعنون بالاختيار العام في اصطلاح المتكلمين وهو المشيئة والإرادة أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب وإن أردتم بالاختيار الأول فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة بل يقال واقعة بمشيئته وقدرته وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى وإن كانت واقعة بمشيئته فإن قيل فهل تقولون أنها واقعة بإرادته أم لا تطلقون ذلك قيل لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ وقوله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً﴾ وقوله: ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ونظائر ذلك وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها كقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ وقوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ فهي مرادة بالمعنى الأول غير مرادة بالمعنى الثاني وكذلك إن قيل هل هي واقعة بإذنه أم لا والإذن أيضا نوعان كوني كقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وديني أمري كقوله: ﴿آللَّهُ أَذِنَ لَكُم﴾ وقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه وما هو خير سميت الإرادة اختيارا وهذا يتضمن أن الإرادة اختيارا لا ترجح نوعا على نوع إلا لمرجح رجح ذلك النوع عند الفاعل والمقصود أنه يذكر العلم عند التخصيصات كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ لا خلاف بين الناس أن المعنى على علم منا بأنهم أهل الاختيار فالجملة في موضع نصب على الحال أي اخترناهم عالمين بهم وبأحوالهم وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم ذكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم وذكر علمه الدال على مواضع حكمته واختياره ومن هذا قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ وأصح الأقوال في الآية أن المعنى من قبل نزول التوراة فإنه سبحانه قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ
1 / 32