غير أن «المغني» في قصيدتنا السابقة لا يقطع الحديث، بل يواصل الكشف عن سر لا يحب مع ذلك أن ينكشف لغير الحكماء. ومهما عذبه هذا السر، وأوشك أن يخرس لسانه، فهو المغني الذي لا بد أن ينشد، وهو الشاعر الذي لا يملك إلا أن يعبر عن سره المكنون.
لكن ما هو هذا السر؟
وإذا كان هو الحب الذي يسري عبيره في كل قصائد الديوان، فأي نوع من الحب هو؟ أهو الحب الإلهي الذي يرتفع بالإنسان إلى أعتاب الألوهية؟ أم هو العشق البشري الذي يشده إلى مباهج الحس ولذات الجسد؟ أم هو في النهاية حب يتشابك فيه الحنين الورع المبارك إلى الألوهية والشوق الملتهب الجارف للمحبوب البشري؟
يصعب الجواب على هذه الأسئلة. فالقصيدة من أصعب قصائد «جوته»، بل لعلها أن تكون في رأي نقاده (مثل بورداخ) أصعب شعره على الإطلاق. إن أبياتها الأولى تدل كما سبق القول على أن الشاعر يريد أن يطلعنا على سر يضن به على الجهلاء، ولا نكاد نمضي في قراءة الأبيات التالية، حتى نحس أنه سر صوفي نلمس فيه روح التصوف الشرقي:
وأنا أثني على الحي الذي
حن للموت بأحضان اللهيب.
هذا الحي الذي يحن للموت في أحضان اللهيب، من عساه يكون غير الفراشة التي تجذبها النار، فتحترق فيها؟ ومن عساها تكون هذه الفراشة إن لم تكن هي النفس التي تحترق بالحب، ولا بد أن تحترق إذا كان حبها عميقا وصادقا؟
لقد أخذ «جوته» هذه الصورة المعروفة عن التصوف الشرقي. فالحب من ناحية هو اللهب الذي يحرق شمعة وجودنا الأرضي والجسدي ويصهرها ويطهرها. والنفس أو الروح من ناحية أخرى هي التي تندفع إلى هذا الحريق وتفنى فيه. والقصيدة تعبر عن جانبي الصورة، وإن كان تعبيرها عن الجانب الأخير أقوى وأوضح. وليس يكفي أن نقول إنه استوحاها من التصوف الشرقي؛ إذ أثبت الباحثون أنه استقاها من إحدى قصائد ديوان حافظ الشيرازي التي قرأها في ترجمة المستشرق النمسوي «فون هامر - بورجشتال». يؤكد هذا أن «جوته» نفسه قد دون بخط يده هذه الكلمات فوق أبيات قصيدته «كتاب الصاد، الغزلية الأولى» مشيرا بذلك إلى إحدى قصائد الشاعر الفارسي التي وردت في ديوانه في كتاب الصاد. كما يؤكده أيضا أنه كتب لها بخط يده هذا العنوان الذي لا يخلو من دلالة دينية عميقة: «تضحية الذات، اكتمال»، وذلك على أثر انتهائه من تدوينها في اليوم الأخير من شهر يوليو سنة 1814م، وكأنما كان يريد معارضة قصيدة حافظ توأم روحه الشرقي، أو يثبت على الأقل تأثره البالغ بها.
بيد أن الفكرة التي تعبر عنها صورة الفراشة التي تحن للاحتراق في اللهب ليست صورة شرقية فحسب، ولا ترجع للشاعر الفارسي وحده. فهي صورة غربية أيضا، تعبر بالقدر نفسه عن شاعر غربي يؤكد ارتباطه العميق بتوأم روحه الشرقي. والأهم من هذا كله أنها تعبر عن جوهر الحب الحقيقي الذي يعلو بالإنسان فوق ذاته. فنحن لا نحب إلا من يرتفع فوقنا، ويسمو وجوده على وجودنا، ولهذا نضحي بأنفسنا في الحب، ونسعى إلى الفناء في المحبوب. وسواء أكان هذا الحب تعبيرا عن شوقنا للاتحاد بمن نحب، أو بالأحرى للعودة للاتحاد بالنصف الآخر من نفسنا الذي انفصل عنا بعد أن كان في الأصل وقبل المولد متحدا بنا، كما قال أفلاطون قديما، أو كان الحب كما يقول فيلسوف حديث مثل اسبينوزا في كتابه الأخلاق هو الفرح الذي ينفعل به المحب نحو علة خارجية هي المحبوب، بحيث يزيد هذا الفرح من فاعليته ونشاطه وقوة استمراره في الوجود، فهو في كل الأحوال ارتفاع فوق الذات وفناء في ذات المحبوب، وتضحية بالنفس، وتخل عنها من أجل الاتحاد بمن نحب. والعجيب في أمر الحب أننا نقوم بهذه التضحية عن رضا وطيب خاطر، بل نشعر معها بالفرح واللذة التي يصعب التعبير عنها. وربما كان السبب في هذا أن الحب الصادق مثالي بطبيعته، وأنه أبعد ما يكون عن الرغبة في الاستمرار في الوجود وغريزة المحافظة على الحياة التي تميز كل الكائنات. ولهذا كان الحب الحقيقي ارتفاعا فوق النفس، ونحو المحبوب الذي يسمو علينا، وكانت أسمى صوره هي الارتفاع نحو أسمى الموجودات ومحاولة الاتحاد به. من هنا نشعر بأن «الموت بأحضان اللهيب» الذي يذكره البيت الرابع من المقطوعة الأولى للقصيدة هو في الحقيقة موت روحي، وهو اتحاد باطني بالموجود الأسمى الذي نشتاق إلى الاتحاد به، ونحس معه، أو تجاهه أن وجودنا الأرضي والجسد وجود زائل.
ولهذا كان الاحتراق في هذا اللهيب مختلفا كل الاختلاف عن نوع آخر من الاحتراق يدمر عشاق الجسد الذي يتلظون بنيران الشهوات والأهواء، ويسقطون في أتون الحس ليفنوا فيه. ففراشة الروح تحن إلى اللهيب أو النور الأعلى وتفنى فيه، ولكنه فناء آخر ينطوي على ميلادها، ويؤدي إلى بعثها من جديد. ومن هنا نفهم الأبيات الأخيرة كما نفهم العنوان الذي وضعه «جوته» للقصيدة كلها وهو «الحنين المبارك». والمعنى الديني العميق في هذه الكلمة الأخيرة غير خاف، فهو يدل على الحنين الفطري الكامن في كل كائن روحي إلى كيان أسمى منه. وهو حنين يصعد به على درجات الحب، ويمر به على درجة الحب الأرضي أو البشري بين الرجل والمرأة، ولكنه يمر بها ولا يتوقف عندها؛ إذ يواصل ارتفاعه إلى أسمى ذروة يستشعر عندها حضور الألوهية.
صفحة غير معروفة