لا شك أن هذه العبارة تبدو مخيبة للآمال، وربما تسببت للوهلة الأولى في قدر كبير من سوء الفهم. فكيف يمكن أن يتعامل الشعر مع الكليات، وهي كما نعلم تصورات عامة وتجريدات ذهنية من الجزئيات المحسوسة؟ هل يتوقع الناس من الشعر أن يقدم لهم أفكارا عامة ومعاني مجردة أم كلمات تنطق بالصور الحية وتنقل المواقف الشعورية والأشكال الجمالية الموقعة؟ لا بد إذا من أن نصحح فهمنا لهذه العبارة المظلومة بتصحيح فهمنا لنظرية المحاكاة المشهورة عند المعلم الأول. فلا شك أنه كان يرد على موقف الأفلاطونيين من الشعر والفن بوجه عام، وموقفهم من عالم الطبيعة والواقع الذي نحيا فيه. إن هذا العالم في رأيهم ظل أو نسخة ناقصة من عالم واقعي وحقيقي آخر هو عالم المثل أو الصور الثابتة والنماذج الخالدة، أي عالم المعاني الكلية والقيم المطلقة. فالموجودات الحسية في عالمنا تعبر تعبيرا ناقصا عن تلك المثل والمعاني الكاملة. وما دامت الفنون المختلفة - ومنها الشعر - تصور العناصر التي تلتقطها من العالم الطبيعي، وتعبر عنها بوسائطها العديدة، من كلمات وإيقاعات أو رسوم وأشكال، فهي تبتعد مرتين عن ضوء الحقيقة والواقع والحق، ولا تنتج إلا نسخة من النسخة.
غير أن أرسطو يرى رأيا آخر. فعالم الطبيعة ينطوي في اعتقاده على إمكانات جميع الأشياء، ويسعى - بدرجات متفاوتة - إلى تحقيقها ونقلها من القوة إلى الفعل. ولهذا يقول في كتاب «الطبيعة»، ويكرر قوله في نصوص أخرى من كتبه أن الفن يحاكي الطبيعة من جهة، ويكمل من جهة أخرى ما تركته ناقصا. وإكمال ما تركته الطبيعة ناقصا أو مشوها نتيجة لتدخل المصادفة التي تعوقها عن تحقيق إمكاناتها هو على التحديد ما يجعل من الفن عملية فلسفية؛ إذ لا بد للخلق أو الإبداع الفني - باعتباره محاكاة - من أن يرمز للطبيعة أثناء قيامها بفعل الخلق أو الإبداع. ولهذا ذهبت التفسيرات المتأخرة لعبارة أرسطو إلى أن الكليات التي يعبر عنها الشعر تمثل الطبيعة الطابعة - أي أفعالها الإبداعية الممكنة - ولا تمثل الطبيعة المطبوعة أو الأشياء المتحققة والموجودات الظاهرة المحسوسة. وهكذا تفيد العبارة أن الفن يعبر عن «روح» الطبيعة لا عن جسمها، ويمثل الكليات العينية لا الكليات المجردة، ويصور الدوافع الخلاقة لا المنتجات الجاهزة، كما تفيد أن الشعر يعكس فاعلية الخلق والإبداع وينميها، سواء تمثلت هذه الفاعلية المبدعة في عمل الطبيعة أو في عمل الفنان.
وجدير بالذكر أن شاعر الألمان الأكبر جوته (1749-1832م) قد أخذ برأي أرسطو وطبقه في كتاباته الشعرية والأدبية والنقدية. فهو يذهب إلى أن الغائية الكامنة واضحة في نشوء الكائنات العضوية الحية وتطورها وفي الأفعال الإنسانية المبدعة في الفن سواء بسواء. وليس على الذهن أو الفهم أن يفرض مبادئه وقوانينه على عالم الحس أو عالم الظواهر الغريب عنه (كما فعل كانط في كتابه نقد العقل الخالص)، وإنما يقوم دوره الحقيقي على التفكير من خلال الموضوعات واكتشاف ألوان التجانس والتناظر بين الإبداع في الطبيعة والإبداع في الفن، وبذلك يتوصل إلى المثل أو النماذج والظواهر الأولية الكامنة في كل منهما. هذه المثل أو النماذج والظواهر الأولية كما يسميها «جوته» ليست متميزة عن الموجودات الجزئية والفردية التي تجسدها، ولا هي منفصلة عنها كما يرى أفلاطون، وإنما توجد في الجزئيات وتحيا بداخلها، ولن يستطيع أن يعرفها أو يكشف عنها إلا من يفتح بصره وسمعه وقلبه على العالم الحسي الحي، ويلمس فعل الفعال الأبدي المبدع، ويستعيد تجربته الحية في كل ما يتجلى فيه «سره المكشوف» للعين القادرة على الرؤية. ولهذا ينطوي الشعر بطبيعته على الكشف؛ لأنه حين يتناول «الجزيء» المفرد في طابعه الحي إنما يستبصر في الوقت نفسه استبصارا ضمنيا بالكلي الفعال المبدع في كل شيء حي.
ونأتي إلى الحركة الرومانطيقية، فنجد عددا من أعلامها الأول - وبخاصة في ألمانيا وإنجلترا - يؤكد الطبيعة الفلسفية للشعر، أو يؤكد أن الشعر في جوهره فلسفي. فالأخوان شليجل (أوجست وفريدريش)، والشاعر توفاليس، والفيلسوف شيلنج يتوسعون في مفهوم الشعر، بحيث يشمل - بتعبير فريدريش شليجل - «الشعر الذي لم يتخذ شكلا معينا، والشعر اللاشعوري الذي ينبض في النجوم والكواكب، ويسطع في الضياء، ويتوهج في صدور النساء» (عن حديثه عن الشعر 1800م). ويدعم أوجست رأي شقيقه بالحجة المنطقية، فيقول إن كل الأشياء في الطبيعة مترابطة، بحيث يدل كل شيء على نحو من الأنحاء على كل شيء عداه، وبذلك يعكس الكل. ولما كان الوعي الشائع وسطا مضطربا يعتم رؤية الكل، فإن الخيال ينفذ خلال هذا الوسط، ويغوص بنا في العالم الحقيقي، حيث لا يوجد ثمة شيء ساكن أو منعزل، بل يشارك كل شيء في كل شيء في حالة تحول مستمر. ويتفق نوفاليس وشيلنج على أن قوة الخلق والإبداع في الطبيعة هي الحب الذي هو الشعر الطبيعي بأسمى معانيه - كما يقول نوفاليس - وهو روح الطبيعة التي لا تتكلم معنا إلا عن طريق الرموز، كما يعبر شيلنج.
ولا شك أن الرومانطيقية الجديدة كان لها تأثيرها على فيلسوفين ساهما في فلسفة الشعر بأوفى نصيب. هذان الفيلسوفان هما شوبنهور (1788-1860م) ونيتشه (1844-1900م). يذهب الأول إلى أن الإرادة، لا الحب، وراء كل أفعال الطبيعة، وأن تمثلات هذه الإرادة أو مستوياتها الطبيعية المختلفة من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان تميزها المثل أو الأفكار التي تعبر عن فعل الإرادة في مستوى معين. والفن، بما في ذلك فن الشعر، هو ذلك النوع من المعرفة المتعلق بالأفكار، وهدفه الوحيد هو توصيل المعرفة. والمهم في هذا كله أن الفن بأسمى صوره ومعانيه والشعر كذلك بأسمى صوره ومعانيه شيء واحد؛ لأنهما يبلغان بنا تلك الحال التي يختفي فيها الألم، وتتوقف عجلة الصيرورة، ونشعر بالتحرر والخلاص من الإرادة الشريرة، ولو في لحظات الإبداع أو لحظات التذوق والاستمتاع.
وتتخذ الإرادة صورة أخرى إيجابية عند نيتشه، فتصبح هي إرادة القوة أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة. إن عنف العاصفة، وانبثاق النبات، وبزوغ الجنين من الرحم، ونشوة المحارب البطل بالمعركة، وحساسية الفنان المبدع ونسك الناسك والقديس ... كلها مظاهر للإرادة الحية التي لا تتوقف عن الخلق. وإرادة الخلق والإبداع عند الفنان تعبر عن الصراع المزدوج بين المبدأين المصطرعين في الوجود، ألا وهما المبدأ الديونيزي نسبة لديونيزوس إله النشوة والخلق والتدمير المأسوي والبعث المتجدد. والمبدأ الأبوللوني نسبة لأبوللو إله الفن والتشكيل والوهم الجمالي، وكلاهما يفضي إلى عاطفة العلاء على الذات التي يتحد فيها الحكمة الفلسفية والإبداع الفني، وينصهران في كيان واحد.
هكذا يصبح الشعر والفلسفة شيئا واحدا بالذات، وتكون بروق الرؤية الشعرية - لا البراهين العقلية والحجج المنطقية - هي الطريق إلى الحقيقة.
أما في إنجلترا، فكان التوحيد بين الشعر والفلسفة في أثناء الحركة الرومانطيقية من الموضوعات الأثيرة والمألوفة. فالشاعر شيللي يعبر عن هذا بقوله: «إن الشعراء فلاسفة بلغوا أسمى درجة من القوة، وأن الشعر هو مركز كل معرفة ومحيطها.» ويضيق كولريدج أن الشاعر فيلسوف على نحو ضمني غير صريح. ولا عجب بعد ذلك أن يقيم هو والشاعر «ورد زوورث» رأيهما عن طبيعة الشعر الفلسفية على نظرية في الخيال مستمدة إلى حد ما من الفيلسوف كانط. ويفسر ورد زوورث الخيال تفسيرا يتأثر فيه بكانط، وبالكلمة الألمانية الأصلية التي تفيد الخيال (وهي كلمة
Einbildungskraft
أي قوة التشكيل أو ملكة التكوين) فيقول إنه - أي الخيال - هو الملكة التي يصور بها الشاعر، وينتج أشكالا مفردة تتجسد فيها أفكار كلية أو تجريدات. ويخطو كولريدج خطوة أبعد من زميله، فيميز بين خيال أولي أو ميتافيزيقي وهو القوة الحية الفعالة في كل إدراك بشري، وخيال ثانوي أو فني وهو انعكاس للخيال الأولي يوجهه الهدف الفني ويتحكم فيه. وكلاهما في نهاية الأمر يكرران في العقل المتناهي ذلك الفعل اللامتناهي الخلاق الذي يتم في الكينونة اللامتناهية، وبذلك تتأكد الصلة الوثيقة بين الرؤى الفلسفية عند الشاعر وبين إبداعاته الشعرية.
صفحة غير معروفة