241

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

تصانيف

س2 : تمتزج في كتاباتك الفلسفة بالأدب والفن، فكيف تتصور علاقة الفلسفة بالأدب؟ وما هو مفهومك الخاص للفلسفة؟ وهل ترى إمكان قيام فلسفة عربية؟ وإذا كانت هناك معوقات تمنع وجودها في الوقت الحاضر، فما هي شروط تحققها وأهم معالمها في المستقبل؟ وإذا افترضنا أن ديوجينيس الكلبي - الذي كتبت عنه في مجموعتك القصصية الأخيرة - قد بعث في عالمنا العربي، فما تراه يفعل بمصباحه المشهور؟

س3 : ما عطاؤك الفكري والفني الذي قدمته حتى الآن؟ لقد كتبت القصة والشعر، فأيهما أقرب إلى نفسك؟ وهل يستطيع الفنان أن يبدع في أكثر من فن؟

س4 : رحل عنا منذ شهور الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور - رحل بجسده فقط؛ لأن الشاعر لا يموت شأن المهرجين والطغاة - وقد كانت تربطكم به صداقة عمر. فكيف تعرفت عليه في البداية، وكيف استمرت مسيرة التعارف، وما تقييمكم لإبداعاته في الشعر؟

س5 : كيف تنظر للحياة، وخاصة في ظل الأوضاع العربية المتردية؟

ج1 : أخشى أن تكون بسؤالك هذا كمن يدعو القراء إلى تكريم ضيف لا يعرفونه ولم يسمعوا به، أو كالمنادي في السوق يبح صوته ويدق أجراسه ليلفت أنظار عابري السبيل (المشغولين بهموم حياتهم ولقمة عيشهم) إلى بداية اللعب في سيرك نصبت خيامه منذ ثلاثين سنة، ولم يلتفت إليه أحد، لكن المهرج المسكين يقدم ألعابه كل ليلة، ويواصل تسلية الجمهور بضحكاته ودموعه. والجمهور يتغير مع كل عرض، والنمر والمشاهد تتغير أيضا، وهو يتمنى أن يدخل شعاع الفرحة إلى قلوبهم وشفاههم، عالما أنه يواجه مجهولا لن يذكره أبدا، وإن ذكره بعد موته فسيكون مجهولا يتحدث عن مجهول. ها أنت تطلب من المهرج أن يتوقف عن لعبه لحظات يراجع فيها حياته الماضية، فهل يملك - في هذه الاستراحة القصيرة - أن يقدم لك سيرة حياته وتجربة عمره؟ دعه إذا يروي لمحات منها، مواقف يظن أنها كانت حاسمة على طريقه، خيوطا قليلة من الشبكة التي نسجتها ربات القدر الأسطوريات دون علمه أو رأيه، ويعلم رب الغيب وحده متى ستقطعها، واستعد لكي يكون كلاكما ضحية، فالمهرج الفيلسوف - أو الفيلسوف المهرج - يبدأ حوارا مع نفسه ومعك وهو في الحقيقة مناجاة لن يسمعها أحد، ولا يعنيه أن يسمعها أحد. ما أصعب موقف الحكيم المحزون الذي عاش وسط عالم لا يشعر به، واكتشف - بعد جفاف الشجرة والضحكة والدمعة - أنه تحول دون أن يدري إلى مهرج وحيد بلا سيرك ولا جمهور.

ولدت في أحد بيوت الطبقة الوسطى في ريف مصر، ولا يزال تاريخ مولدي هو الشيء الوحيد المؤكد في حياة مضطربة لا شيء فيها أكيد. فيبدو أن ذلك اليوم قد أثار فضول البسطاء في بلدتي البسيطة في شمال الدلتا كما أثار دهشتهم التي انطفأت بعده مباشرة، فقد ولدت مثلثا، أقصد ثالث ثلاثة. ولم يلبث ضلع المثلث أن وجد نفسه وحيدا بعد أن اختفى الضلعان الآخران بعد شهرين! لا زلت حتى اليوم لا أفهم مبررا لبقائي دونهما. والشعور بالذنب يلاحقني منذ فتحت عيني وعرفت. لماذا قدر لأضعف الثلاثة أن يعيش، وما الذي يسوغ أن ينجو الطفل الرقيق النحيل الذي نذرته أمه للموت دون أخويه؟ وهل قدم شيئا في حياته العادية يضمن له أن يتخطى الخمسين؟ وإذا كان قد بدأ أول أنفاسه بظلم غيره، فهل يحق له أن يعجب من أن يعيش مظلوما؟ أليس من العدل أن يذوق طعم الجحود والمرارة مع كل كأس تقدمها كل لحظة من عمره؟ لك أن تضحك إذا تصورت الصبي الصغير يبحث وحده في المقبرة الريفية عن قبر شقيقيه. كم ضرب واكتوت قدماه بسوط حام لكي يقلع عن التجول عند الغروب بين أشباح الموتى، لكن الشعور بالذنب لاحقه كظله، وما يزال يلاحقه. فكرة ثابتة مجنونة لا تعقل من صاحب عقل أثقله العلم وقيدته الموضوعية، لكن من قال إن كل أفكارنا يمكن أن تفهم وتفسر؟ ربما كان الذنب القديم الذي لا ذنب لي فيه هو علة إحساسي الدائم بأنني غير مطلوب ولا مرغوب - حتى الهواء أحس أحيانا أنني لا أستحق أن أتنفسه - وربما كان وراء الحرص الدائم - أو الحصر الدائم - بأن أعطي وأعطي بغير حدود، وأحب وأسامح وأجود، وأغبط نفسي كل ليلة بأن أبيت مظلوما لا ظالما، كما كانت أمي تقول باستمرار ربما كان كذلك وراء الاكتئاب الذي أعرف أنه مرض رومانسي أحاربه بعقلي ومنطق عصري دون أن أفلح من ذلك في الخلاص منه، لكن النقمة في نهاية المطاف قد لا تخلو من نعمة. فقد أبقتني في الظل، وعلمتني أن ألازم الظل. أكدت لي أن كل ما أريد هو أن أعيش في هدوء، وأعمل في هدوء وأموت في هدوء. وفي النهاية أتسلل كالظل. ولهذا لا تفرغ دهشتي من الباحثين عن الشهرة، والساعين إلى الظهور في الصورة، والمتهالكين على الإعلان والإعلام وتسويق الإنتاج حتى قبل أن ينتجوا شيئا! يا حصان المجد البراق! هل استطاع أحد أن يمتطي صهوتك رغما عنك؟ ألم تكن تسعى بنفسك وتقدم سرجك الذهبي، وتحني رأسك الجميل لمن زهد فيك؟ ويبقى التعفف عن الشهرة وأضوائها مسألة مبدأ. ليس مكرا ولا طمعا في جائزة مؤجلة ولا أملا في إنصاف مفقود أو موعود، وإنما هو كما قلت مسألة مبدأ وطبع وأسلوب حياة. ولتسامحني السماء وتغفر ما يعلق بهذا التعفف من بقايا الطمع أو الأمل مهما تكن هزيلة. فتحت عيني - المدللتين بالطبع في بيئة لا تسمح بالتدليل - على أب صارم جاد، لا يخلو من قسوة تغلف الحنان المكتوم، يقرأ طوال حياته في كتاب واحد لم يقرأ غيره، وكان بغلافه الخشبي الساذج هو الشيء الوحيد الذي ورثته عنه، وهو القرآن الكريم. وأم مسكينة طيبة أتقنت فن العطاء، ولم تنتظر كلمة شكر أو جزاء، بل كانت دائما أسعد الناس بأن يغالبها النوم أثناء صلاة العشاء (بعد عناء يوم طويل بدأته قبل الفجر) على زمجرة الأب الذي لا يكف عن السخط والشكوى، كما كانت على الدوام مبتسمة وراضية بأن تبيت مظلومة لا ظالمة ... هل قلت مبتسمة وراضية؟ لقد كانت بضحكها ودعاباتها وسخريتها التي تحاكي بها الأب والأولاد والأقرباء هي الضد المقابل للأيام والأعمال الكالحة الضنينة التي لم ترحمها لحظة واحدة. من الجد الصارم من ناحية، والسخرية المرة المتسامحة من ناحية أخرى، غزلت خيوط وجودي. نشأت وتموت مثل آلاف الصغار في الريف المنكسر الطيب يرزح منذ القدم تحت قدر لا فكاك منه: الشعور بالظلم والشوق إلى الحرية، الأمراض التقليدية التي أصبحت علامات الوشم القومية على الجلد والدم والأعضاء، من الدوسنطاريا والملاريا إلى الرمد الربيعي وفقر الدم، الحنين الدائم إلى البعد والخروج وتجاوز الحدود (هذا الحنين الذي جعلني - ويا للأسف - أبعد في أسفاري وسياحاتي في حضارات وثقافات وبلاد بعيدة بعيدة، لا أكاد أنظر إلى الأرض التي أقف عليها، والتربة التي نمت بذرتي فيها إلا منذ سنوات قريبة!) لا جدوى من أن أحدثك عن تعليمي الابتدائي والثانوي في بلدتي، ثم مع شقيقي الأزهري في طنطا عاصمة الريف (كم أتلفت بالحمد والامتنان إلى الأيام الطويلة التي قضيتها في صحبة أزهريين طيبين يجيدون فن الحب والاحترام الذي أصبح نادرا في هذه الأيام، ويقولون الشعر ويروونه، فأصبح لبعضهم راوية، ويقرءون «الرسالة» فأدمن قراءتها حتى توقفها عن الصدور، وأعرف عن طريقهم على هامش السيرة وأحلام شهرزاد وقادة الفكر وأهل الكهف ورسائل الحب والجمال وأوراق الورد، وأسمع معهم آيات وحي الرسالة وعذاب «فرتر» وآلامه، وأستعذب دموع المنفلوطي في الفضيلة وسيرانودي برجراك) كم كانت تلك الأيام الشقية الجميلة زادا للعمر، وكم تمردت أيامها على فصولها وبصلها وكشريها المقررين على مائدة الغداء، دون أن أتنبأ بأني سأحن إليها بعد المشيب أكثر من حنيني إلى نزهات الغابة السوداء وشواطئ الراين! من الطبيعي أن أقول الشعر في صباي الذي لم يتجاوز الحادية عشرة، وأن أدون الديوان بعد الديوان، وأن أحاول بعد سنوات قليلة أن أعارض غير مجد في ملتي واعتقادي و«يا نائح الطلح أشباه عوادينا»، لكنها محاولات تقليد ساذج، أصداء ليس فيها صوت واحد أصيل ، انطفأت كلها - والحمد لله - في سن الواحدة والعشرين بعد حب فاشل أساء فهمها إساءة ما بعدها إساءة! ودخلت كلية الآداب التي كانت تموج بالفرسان والرجال، لم أدخل القسم الذي كان ينتظر مني دخوله لأواصل التعثر على درب الشعر المفقود، بل القسم المضاد الذي يجفف ينابيع الوجدان والإلهام تحت وهج العقلانية المحرقة. ولم تنجح الفلسفة ولا أساتذتها العظام (الذين أحبني بعضهم وقربني منه كزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وعثمان أمين عليه رحمة الله ورضوانه) لم تنجح في إسكات النبض الخافت أو تجفيف الجدول الصامت الذي ظل ينسكب بين أحراش المجردات والنظريات والمذاهب. ظلت العاطفة كالأم الحنون التي تحتضن أطياف أبنائها العصاة، وتبكيهم إن غابوا عنها. واستمرت قراءاتي في الشعر، ودراساتي له بعد أن تأكدت أنني حرمت صوته الأصيل وملكته المبدعة. واتصل الصراع بين الأخوين المتقاتلين في صدري حتى اليوم. ولما تخرجت في الكلية بعينين حائرتين ونفس لا تعرف نفسها أمعنت في الخروج والسفر إلى البعيد والبحث عن الخلاص من المنفى المقدور. عينت في دار الكتب المصرية، وألفيتني أعيش سنوات طويلة كالفأر المذعور في مصيدة الكتب، وزبانية البيروقراطية، ومرارة السكن الفقير مع الزملاء الفقراء. كان السبيل الوحيد لاقتناص أمل «الخروج» هو الاستمرار في القراءة المشتتة، والإصرار على تعلم لغات جديدة (في العشرين وما بعدها) بدأت تعلم الإيطالية التي لا زلت أقرؤها، وإن كنت قد فقدت ذلاقة اللسان التي اكتسبتها بعد زيارة لبلادها لمدة ثلاثة شهور هبطت علي كما يهبط عفو الله على شيطان مذنب صغير، كما بدأت أخرج كل شهر ثلاثة جنيهات من جيبي الخاوي لتعلم الألمانية التي واصلت دراستها بعد ذلك، حتى ارتبط اسمي - لشدة بلائي أو عزائي لا أدري - بأدبها وفكرها، حتى كان يوم نودي على اسمي لمراجعة الواجب في أحد فصول مدرسة الألسن التي كانت مسائية في ذلك الحين. أما المنادي فكان هو المستشرق الألماني الذي أهديته كتابي «النور والفراشة» الذي صدر بعد ذلك بحوالي العشرين سنة (فرتز شتيبات عميد معهد الدراسات الإسلامية اليوم في جامعة برلين الحرة الذي لم أعرف أحدا أقدر منه على الحب والحنو والعطاء)، أما المنادى عليه، فكان هو التلميذ الهزيل الخجول الذي كان قد شرع قبل سنوات قليلة في نشر قصصه ومقالاته في بعض المجالات الأدبية. وكان أن فتحت طاقة صغيرة في السجن الأزلي، نفذت منها إلى ألمانيا لأبقى هناك خمس سنوات، وأملأ رأسي حتى التخمة بزاد الجرمان. هل أصبحت بعد عودتي - قبل عشرين سنة بالتمام - مثل ساعي البريد الذي عفر قدميه، ونزف عرقه، وهو يوزع رسائل البريد المحمل بها، ونسي في زحام الجهد والتعب رسالته الشخصية أو رسائله الخاصة؟ ربما يكون الأمر كذلك، وربما أكون اكتشفت هذه الغلطة الكبرى قبل سنوات قليلة تحت سماء صنعاء الطيبة الهادئة، وفي ظل خيمتها العريقة التي أفاءت على السكون، الذي طال حرماني منه، وأتاحت لي فيما أتاحته الحرية الوحيدة الممكنة في عالمنا العربي الموبوء باللاحرية، ألا وهي حرية البكاء!

ج2 : من المستحيل أن نحصر تعريفات الفلسفة على مر العصور والأجيال، فهي تكاد تختلف باختلاف الفلاسفة والمدارس والتطور الحضاري والعلمي والاجتماعي. وقد قدمت في بداية كتابي الأخير «لم الفلسفة؟» مجموعة من هذه التعريفات القديمة والوسيطة والمحدثة والمعاصرة، وتكاد كلها تتأرجح بين قطبين للوعي الفلسفي بين مجاراة الواقع القائم وتحليله وبلورته في نسق فكري مجرد يعكسه ويستوعبه (مثل نسق أرسطو وكانط والوضعيين والبنيويين) وبين الجهد العقلي لفتح عيون الوعي على تناقضات هذا الواقع رغبة في نقده ومقاومته والثورة عليه وتغييره من جذوره (مثل أفلاطون والفارابي «وابن رشد وابن طفيل» وبيكون وديكارت وفلاسفة التنوير، وهيجل وماركس ونيتشه وبعض فلاسفة الوجود والظاهرياتية والنقدية الجدلية المعاصرين، مع العلم بأن التغيير يتراوح بين «تثوير» الباطن أو الخارج والبدء في الحالتين من جديد ومن الصفر!) لا تنس كذلك أن مفهوم الفلسفة يسير في خطين متلازمين منذ القدم: الأول هو المفهوم «العلمي» المحض الذي يتتبع مجموع النظريات والحقائق والصيغ المختلفة للأسئلة الفلسفية والإجابات عليها في «الأنظمة» الفلسفية المتطورة، منذ الحكمة الشرقية، والتأمل العقلي اليوناني حتى يومنا الحاضر في المعرفة والوجود والقيم الأخلاقية والجمالية، في الطبيعة وما بعد الطبيعة، في الإنسان والمجتمع والذات والآخرين وعلاقة الفلسفة بالعلم ... إلخ. دعني أروي لك قصة صغيرة، فقد سئل الفيلسوف الإنجليزي المعاصر جورج مور (من رواد الفلسفة التحليلية، مات سنة 1958م) سئل ذات مرة السؤال الخالد الذي توشك كل الفلسفات أن تكون محاولات للرد عليه: ما الفلسفة؟ نظر الرجل إلى الصحفي الحائر النظرة والابتسامة، ثم أشار بيده إلى رفوف مكتبته المكتظة بالمراجع قائلا: الفلسفة؟ هي كل هؤلاء! فكأنها بهذا التعريف هي مجموعة الجهود العقلية والتحليلية المتنوعة للإجابة على مشكلات وأسئلة لا يزال بعضها حيا، وبذلك لا تختلف عن أي علم من العلوم وإن طمحت دائما لأن تكون أم العلوم وملكتها ومشرعة أسسها ومناهجها وغاياتها. ودراستها من هذه الناحية دراسة علمية تشارك فيها البشرية العاقلة على اختلاف نظرتها وأهدافها من الحياة، ولا بد لنا أيضا من المشاركة فيها بنصيبنا وجهدنا لنعبر عن إنسانيتنا الباحثة عن الحقيقة العلمية الخالصة. أما الخط الآخر الملازم للأول، فهو ما يعبر عنه بالنظرة العالمية أو الكونية الشاملة. وهي تكاد تختلف بين كل الأفراد والمجتمعات كما تتفاوت في حظها من تأثير المزاج والذاتية والتجارب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية ... إلخ بهذا المعنى الأخير يكون «كل» إنسان فيلسوفا - من البدائي الذي يفسر الواقع بالحلم والرمز والأسطورة إلى الإنسان الحديث الذي تعكس نظرته للحياة تشاؤمه أو تفاؤله وسخطه ورضاه. يستوي في ذلك الفلاح والحداد والملاح والشحاذ والملك والصعلوك - وفي كل الأحوال تكون الفلسفة - كما تقول عبارة هيجل المشهورة - هي بنت زمانها أو هي عصرها مبلورا في الأفكار، كما تصبح تعبيرا عن عقل الإنسان القلق الذي لا يقف في بحثه عند حد، ولا يقنع بإجابة أخيرة، ولا يقبل الواقع على ما هو عليه، وإنما يمضي في التفكير النقدي إلى أقصى الحدود وما وراء الحدود، محاولا أن «يوطن» العقل والمعقول في العالم الذي يراه فاسدا وغير معقول، وأن يوحد أطراف الوجود الذي يبدو له ممزقا منهارا، ويؤكد حرية الإنسان المهددة على الدوام من محاكم التفتيش الظاهرة والخفية، ومن قوى التسلط والقهر التي تتعدد أسلحتها وأقنعتها على مر الأزمنة والظروف والمجتمعات. لنخرج الآن من ضباب التعميم الذي يطول أمر شرحه وتخصيصه إلى سؤالك المحدد عن مفهومي الخاص للفلسفة، ورأيي في وجود فلسفة عربية أو إمكان وجودها وشروطه. أما الإجابة عن السؤال الأول فقد تنطوي على ادعاء النضج أو بلوغ المرفأ بما لا يستطيع أن يدعيه سائر على الطريق (والفلسفة كلها سير على الطريق كما أكد معلمنا الأكبر ونبعنا الأعظم أفلاطون) لا يملك في جراب حيرته وقلقه إلا كسرا متناثرة من فتات مأدبة الحكمة! ومع ذلك يمكنني أن أقول إن الفلسفة وعي كلي نقدي حر شامل بمختلف جوانب الواقع، وهي في نظر إنسان مثلي، مؤقت ومحدود ومرهون بلحظته التاريخية والاجتماعية ... إلخ، تحرر دائم ومحاولة لمساعدة غيري على التحرر (من طلابي وقرائي والمجهولين الذين أتعب من أجلهم، وإن كنت لا أعرف وجوههم) ولهذا فكل كلمة لا تصب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الحرية، لا تستحق في رأيي المداد الذي كتبت به، ولا الوقت الذي ضاع في كتابتها، أو سيضيع في قراءتها. يقول هذا ولا بد أن يقوله إنسان محدد ومؤقت ومحاصر بواقع أمته الكبيرة التي يحاصرها خطر أكبر هو خطر الوجود أو الانقراض الحضاري الذي لا بد أن تواجهه، إنسان لا يملك الحقيقة المطلقة ولا النظرية الشاملة الوحيدة، ولا يؤمن بإمكان وجودها (اللهم في مجال الدين والعقيدة). ولذلك فهو يتجه «باجتهاداته» إلى شركائه في الوطن والألم والأمل الذين يعيشون معه «هنا والآن»، ويؤمن بأن أي فلسفة (أو لنكن أكثر تواضعا فنقول أي تفلسف أو مشروع أو اجتهاد فلسفي) لا بد بالضرورة أن تتجه إلى هؤلاء المهددين - في لحظتنا التاريخية الراهنة - بالانهيار والانقراض والمسرعين إلى الانتحار بأيديهم وأعمالهم «وبداحس والغبراء» الخفية أو المعلنة بينهم، وهو يرى نفسه وقد أصبح جرس الخطر أو البومة الناعقة على الأطلال الموجودة والمقبلة حتما في رعب أكبر من هذا سوف يجيء (كما يعبر صديقي الحاضر الغائب صلاح عبد الصبور)، ويحاول في الوقت نفسه أن يتنبأ بالعنقاء التي يمكن أن تبعث من الرماد، وبالربيع الذي يتحتم أن نعجل بمولده من أحشاء الشتاء الجهم المتراكم بالظلمات ونذر الإبادة (وهل بعد هذا الغزو البربري المجنون للبنان من نذير؟!) بالطبع لا يمكن إلا أن أرحب بكل جهد أمين يشارك في الجهود العلمية الخالصة التي تسهم فيها كل الأمم الواعية المتقدمة، وهناك بعض الأسماء التي لها صوت مسموع في الجهود والمؤتمرات واللقاءات العالمية، سواء عن المشكلات التي تثيرها فروع البحث المتخصصة، أو مشكلات تراثنا الوسيط أو تقدم نصوص هذا التراث ومخطوطاته محققة ومدروسة. وهنا لا بد أن أتحسر على جمعية فلسفية عربية مفتقدة، ولا بد أن أنادي المخلصين بالبدء في تأسيس فروعها في أقطارنا العربية المختلفة إن كنا جادين وصادقين في تحقيق أملنا في وحدة عربية مأمولة، ومنكوبة حتى على يد الذين ينبغي أن تكون صناعتهم هي «التوحيد». ويطول الشرح ويمل لو حاولت أن أحصي الأسماء القليلة (المهاجرة في معظمها إلى أعشاش حضارات غربية توفر لها الدفء والأمان والاحترام المفتقد لدينا)، ومعظمها يضيف إلى التاريخ العقلي العربي والإسلامي أو إلى فلسفة العلم وتاريخه عند العرب، أو يساهم على تردد وحياء شديدين - في مجالات التفلسف المعاصرة - من المؤلم أن «تنشد» هذه الطيور المهاجرة بلغات البلاد التي لجأت إليها، ولكن السبب يسيطر، فهي لم تختنق كزملائها في الوطن بغصص القهر، ولم تحول مهنة البحث عن الحقيقة والحرية إلى صنعة وتجارة ورطانة محترفين لا يفهم بعضهم عن بعض، فكيف يفهم عنهم الناس؟ وأعود إلى سؤالك عن مفهومي الخاص، فأؤكد خشوعي للحقيقة التي أحاول منذ ثلاثين سنة على الأقل أن أعاين لمحة واحدة من لمحات وجهها النبيل البعيد، كما أكرر ما ذكرت من أن الفلسفة في نظري - بالإضافة إلى الجانب العلمي المتخصص الذي لا غنى عنه - قضية تحرر مستمر، تحرر الوعي الذي يمهد لتحرير الواقع وتغييره وتثويره، حتى تصبح مثل الجمال والحق والخير حقائق يحياها الناس ويعملون لها. ولهذا فهي كما قلت قضية تمتد إلى جذور شخصيتي، أجربها وأعانيها وتختلج بها كل رعشة في كياني - ومن هنا تقترب من تجربة الفن والشعر - كما هي قضية عقل يطمح إلى توطين العقل والوحدة في عالمنا العربي، الذي لا يزال أسير التمزق والتفتت والغيبوبة العقلية عن «هويته»، وغايته ومعنى وجوده الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يزال سجين الخرافة في صورها الحديثة من تسلط واستسلام لزعامة الحزب والمستبد العادل «المعصوم» والتقاليد والمسلمات التي يقدس جثثها بدل أن يواريها القبور ويهيل عليها التراب. ولهذا كله تجدني أهتم منذ سنوات ببلورة نظرة فلسفية (يمتزج فيها قلب الشعر وعقل الفكر) عن «اللحظة» بدأت منذ واجهنا العدو الأكبر والأوحد وصمدنا له (للأمانة صمدنا له ولم ننتصر عليه) في لحظة تاريخية حاسمة وخلاقة يوم العاشر من رمضان المشهود. وفي نفس الوقت أحاول أن أتصيد بلورات نظرة أخرى عن «الفعل» أو «العمل» سواء في ذلك الفعل الذي يغير الوعي أو يغير الواقع أو كليهما. وأنت تعلم أن فلسفة العمل هي التي تكمن وراء كل تطور وكل إنجاز، كما تعلم أن الدعوة للعمل هي دعوة معظم فلسفات العصر على اختلاف تصوراتها لطبيعة هذا العمل وقيمته ووسيلته وغايته: أليست التحليلية هي فاعلية تخليص اللغة (الفلسفية واللغة الجارية) من أمراض الفلسفة التقليدية المزمنة ومن كلمات بلا معنى، وما ورائيات بلا مدلول حسي أو واقعي أو عملي؟ أليست فلسفات الوجود دعوة للأفراد إلى عمل حرفي موقف يتحملون مسئوليته ومخاطرته ونتائج اختياره؟ والظاهريات؟ أليست دعوة «لعالم الحياة» عن طريق استحضار «الماهيات» الحية في الوعي المتعالي الفعال، هذا الوعي المؤسس لمناطق العالم والوجود والتاريخ والزمان والقيم، البادئ مرحلة حضارة ووعي جديد للإنسان الغربي بعد إفلاس الوضعيات، وانهيار القيم والغايات القديمة؟ أليست البرجماتية وأبناؤها الشرعيون كالأداتية والإجرائية تحديدا للحق بنتائجه العملية، وللعبارة بالعمل المترتب عليها، وللتفكير بالإنجاز والنجاح، نجاح الغزاة الأوروبيين (للأرض والمزرعة والسكة الحديد والمصنع، إذ ليس لديهم وقت يصرفونه في ترف التأمل في المطلق) في خلق المدنية الأمريكية التي لم يسبق للشر أن أوجدوا آلة أخطر منها ولا أضخم؟ ثم أليست الماركسية ثورة تغيير وتطبيق يلتحم فيها النظر والعمل ويتعاون الوعي والممارسة؟ وفي النهاية لا بد أن تكون هذه النظرة (ولا أقول الفلسفة) مؤقتة ونسبية وممكنة، أنقلها لمواطني المهددين المعرضين، عالما أنها لا تقدم دواء شافيا من كل الأمراض، ولا إجابة نهائية على كل الأسئلة، ولا حقيقة مطلقة أو شبه مطلقة، وإنما هي دعوة إلى وعي اللحظة الذي ننتبه فيه على الخطر، ونستوعب قيم تاريخنا والتاريخ الإنساني، ونتعرف على هويتنا الغامضة أو الضائعة، ونركز على المشكلات أو بالأحرى على المشكلة الأولى والأخيرة: هل نوجد؟ هل نحتقر ونباد إذا تحتم التضحية ببعض شعوب العالم أم نعمل لكي نثبت للمحنة ونؤكد أن لنا دورا نقوم به في هذا العالم، ورسالة نشارك بها في حضارته وعلمه ومستقبله؟ وأخيرا فهي نظرة إلى الناس الموجودين هنا والآن، فيها همومهم ومتاعبهم وآلامهم وآمالهم، لا تدعي الخلود، ولا تغازل المطلق؛ لأنها تعرف جيدا أنها مؤقتة ونسبية وزائلة، وإن نظرات أخرى أصلح لزمانها ستأتي بعدها، ومن يدري إن كان سيبقى شيء من طموحها (وطموح كل فلسفة) إلى تخطي عصرها ومكانها، ومن يدري إن كانت الأجيال القادمة ستذكرها أو تذكرني بكلمة واحدة طيبة أو ستنساهما وتنساني كل النسان؟ ليس هذا مهما. المهم أن يقول الإنسان كلمته ويتحطم. والمهم ألا تلعننا الأجيال التي لم تر النور بعد وتتهمنا - ونحن تراب - كما اتهمت سقراط ظلما بأنه عاش في السحب، بينما كان أهله يواجهون المحنة، ويدافعون عن أسوار المدينة، ويتخبطون في الظلام في عز الظهيرة، وتسألني عن الفلسفة والشعر، أو الفلسفة والفن، وكيف يمتزجان عندي. هذه مجاملة لا أستحقها، وهو امتزاج لا حيلة لي فيه. لم أتعمده علم الله ولم أحتل له. إنما هي طبيعتي العاطفية التي أدمنت قراءة الشعر والحياة به ومعه، تنعكس دون قصد على عبارتي، مع حرصي الدائم ألا تكون على حساب ما يسمى بالحقيقة أو الحقائق الموضوعية. لهذا أميل أحيانا إلى تشبيه نفسي بنيتشه، مع علمي بالفارق الشاسع بيني وبينه، وبأنني وبلا تواضع زائف لا أستحق أن أكون التراب الذي مشى عليه هذا العبقري المجنون المسكين. لقد أنذر هو أيضا وحذر، بلغة وحشية شاعرية غاضبة. تفلسف بالمطرقة وما أحوجنا إلى المطرقة لنهدم، ثم نبني على أنقاض الوعي المخرب الزائف، والواقع الممزق الآيل للسقوط على رءوسنا. ولهذا أيضا اهتممت به وكتبت وسأكتب وأترجم عنه (دون أن أغفل بطبيعة الحال عن عيوب فرديته وجموح طبيعته، وإسراف رومانسيته التي لم تعد تلائم العصر والظروف) إنه طائر العاصفة الذي أنذر وحذر من العدمية التي ستجتاح أوروبا. وأنا البومة الحكيمة التي تنذر بالانقراض، وتسألني عن ديوجينيس، عن هذا المجنون المسكين الذي ظل يمشي شبه عار وحاف وجائع كالكلب المسعور في شوارع أثينا، ربما ليثبت أن الفلاسفة الرسميين وأصحاب السلطة والناس العاديين هم الكلاب! لقد كتبت قصته منذ سنوات بعيدة. تركته يدق جرسه للأسماع اللاهية الصماء، ويحمل مصباحه في وضح النهار؛ ليكشف عن الظلام المنتشر، أو الظلام القادر الذي لا تراه إلا عين الحكمة المتنبئة الباحثة عن الإنسان. ما زلت أحمل في أحشاء ضميري الفني شخصيات أخرى عديدة مثله، عربية وغير عربية، في أيديها مصابيح وأجراس، أحملها أو أحمل بها منذ أكثر من عشر سنوات، وهي تتحرك جميعها ووراءها ستارة الانهيار القائمة التي تتراءى لعيني في السنوات الأخيرة، وأتمنى أن تظهر في كتاب أسميه «كلاب وفلاسفة». لا زلت أعمل في هذا الكتاب ولا أدري متى أنتهي منه. والمهم - كما قال جوته - هو النضوج، والأهم في رأيي - وقد يكون هذا حجة علي وعلامة على غلبة الفن وقصور أداتي التحليلية والفلسفية الدقيقة - الأهم أن يختارك الموضوع لا أن تختاره، أن تكون المكتوب لا الكاتب، أي أن يكتب من خلالك - فأنت الفرد المحدود الزائل - لا أن تكتبه. هذه ضرورة تحتمها مواجهة المحنة، تصغر أمامها أقدارنا الشخصية، وتتحد فيها ذاتنا المتناهية «بذاتنا» التاريخية التي تقاتل، أو ينبغي كل لحظة أن تقاتل دفاعا عن أسوار مدينتها المتداعية. يوم نفعل هذا - ولا نكتفي بقوله والصراخ به خطبا وشعارات وبيانات ومحادثات ومؤتمرات - سنحترم أنفسنا، ونجبر الآخرين على احترامنا واحترام حقنا في الحياة والمستقبل. هل يفهم من هذا كله أنني متشائم؟ لا أعفي نفسي من ظلام قدر علي وران على حياتي الشخصية. فأنا بالفعل متشائم فيما يتصل بحياتي الشخصية (التي لم ينفذ إليها النوران - نور ابنتي وزوجتي - إلا قبل سنتين)، أما فيما يتعلق بحياة أمتي الكبرى ومستقبلها، فإنني متفائل، وإن يكن التفاؤل العسير الذي يولد من مخاض الألم والموت والمعاناة. فالمحنة لن تدوم، والحيوانات نفسها تقاتل لتنفذ من المنفى والزنزانة (فكر في صورة الكلب المتوحش الذي كانوا يدخلونه إلى زنزانة التعذيب لينهش الضحية، فإذا به يتركها، ويدق على الباب، ويخمشه في جنون!) ولا بد أن تولد أجيال - إن لم تكن قد ولدت بالفعل - ترفض اللاحرية، وتتطلع للعدل، وتهدم قلاع التخلف والظلم والانتكاس إلى ماض «ذهبي» لن يعود لسبب بسيط هو أن الماضي لا يعود، وأقصى ما نملك هو استعادة قيمه الباقية، وغرسها في حاضرنا المتجدد ليزهر مستقبلنا الموعود. وأخيرا تسأل عن الفلسفة والشعر وعن الفلسفة والفن. إنهما بطبيعة الحال مختلفان في الرؤية والأداة وأسلوب التعبير والتأثير، لكنهما ليسا متضادين ولا متناقضين. إنهما - على حد تعبير الفيلسوف المعاصر هيدجر (مات سنة 1976م ووضعت عنه كتابا مرهقا سيئ الطبع والحظ) - يسكنان على قمتي جبلين متجاورين ومنفصلين في نفس الآن. فكر في العديد من الفلاسفة الشعراء الذين اتحد عندهم العقل والإلهام، والفكرة والصورة، والمنطق والأسطورة، فكر في معظم الفلاسفة قبل سقراط وفي أفلاطون - سيد الشعراء المفكرين أو المفكرين الشعراء - في المتصوفة من الشرق والغرب من أفلوطين إلى إيكهارت والحلاج وابن عربي ويعقوب بوهمه، في لاوتسي وكونفوشيوس وبوذا، في الفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجة، في شاعر النهضة وشهيدها جوردانو برونو، في باسكال ونيتشه وكيركجور وفلاسفة الوجود المعاصرين الذين كتب معظمهم الشعر والرواية والمسرحية (أونا مونو وسارتر وجابرييل مارسيل وألبير كامي وسيمون دوبوفوار) في ماركس نفسه الذي بدأ حياته شاعرا، وظلت لغته تحمل عبق الشعر ووهجه، في إرنست بلوخ الماركسي اليوطوبي (مات سنة 1977م) الذي تسير وأنت تقرؤه في أحراش وغابات عذرية وتشم زهور الأفكار والعبارات البرية! في البنيوي ليفي أشتراوس الذي يشي فكره العلمي الدقيق بنبض القلب الشاعر الرقيق، وأخيرا في كتاباتي الفلسفية التي أعرف قلة شأنها بالقياس لمن ذكرت، كما أعرف أنها استمالت قلوبا وعقولا مجهولة أعتز بوفائها ومحبتها، كما جعلت بعض النقاد المغرمين بالمفارقة وذلاقة اللسان يقولون عني: أديب بين الفلاسفة وفيلسوف بين الأدباء، أي في الواقع لا شيء على الإطلاق! ثم لا تنس النقاد المغرمين بالمفارقة وذلاقة اللسان يقولون عني: أديب بين الفلاسفة الحقيقية لا تخلو من أدب، والأدب الحقيقي لا يخلو من فلسفة - ومهما يكن نصيبي في حياتي أو بعد موتي من أحكام الناس، فإني في النهاية راض عن بعض ما كتبت؛ لأنه كما يقول نيتشه - قد كتب بالدم والعذاب، بعد التجربة والاختمار. ومع ذلك فلا أقول شيئا عن مدرسة الحكمة (التي كتبت مقالاتها قبل التورط في التدريس الجامعي) ولا عن «لم الفلسفة؟» والمنقذ قراءة لقلب أفلاطون، ولا عن بعض عيون التراث الفلسفي القديم والحديث والمعاصر التي قدمتها بأمانة وخشوع للحقيقة، ولقدر أصحابها في نظري وفي نظر التاريخ، ليبذر كل منا بذوره. أما أن تزدهر أشجارها في حياته أو بعد موته، فلا أهمية لذلك. المهم أن نزرع حديقتنا - كما نصحنا فولتير في ختام روايته الفلسفية كانديد - وأن نحرث حقل عمرنا المتاح، بل حقل كل لحظة ممكنة - ونملأه بعرقنا وإخلاصنا. وعزاؤنا أن مصفاة التاريخ تصغي وتنصف، سواء عشنا وتلقينا الجزاء، أو عشنا ومتنا ممرورين ومجحودين. إن عيونا طيبة تنظر إلينا على الدوام، وهي عيون مجهولة تمدنا بالثقة والبسمة المشجعة لمثل هذه العيون المجهولة ينبغي أن نعمل ونشقى، وبمثلها يجب أن نثق رغم كل الظلام والجحود والغدر والإحباط.

وأخيرا تسألني عن الفلسفة العربية. أوجز فأسألك بدوري: وهل لدينا حياة عربية؟ أعني الحياة السوية التي يزدهر فيها الإنسان، ويجرب الحرية والكرامة ويغامر بالفعل والإبداع والخلق؟ الحياة التي تنمو فيها أشجار العلوم المختلفة من طبيعية وتطبيقية وإنسانية، فتحتاج في النهاية للفيلسوف (أو لنقل للمتفلسف العربي الذي يعد لفيلسوف لم يولد بعد!) لكي يبلورها في جهد أو اجتهاد فلسفي نظري، وينفدها ويقومها ويربط جذور ماضيها بأغصان حاضرها وثمار مستقبلها ؟ الحياة التي توفر الحوار الحي القائم على التقدير المتبادل، وتبتعد عن التعصب للرأي الواحد، وفر هذه الحياة الديمقراطية الحرة أولا، ثم اسأل عن فلسفة أو فلسفات، عن اجتهاد أو اجتهادات نظرية. هناك بالطبع جهود طيبة مشكورة لأسماء نعتز بها جميعا على الساحة العربية، قد تكون لي بعض الملاحظات النقدية عليها أو على بعضها (وهذا في حد ذاته تفلسف أو اجتهاد نقدي) وقد أذكر لك عددا منها (مثل زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا والحبابي وعبد الله العروي والجابري وصادق العظم وأبو بكر السقاف وغيرهم وغيرهم)، لكننا لا نزال نفتقد الأرض الطيبة التي نقف عليها ونتحاور، فتنشأ المدارس والاتجاهات المتعارضة في ظل وحدة الهدف والمصير. ولا يزال إسهامنا في الحقيقة الفلسفية المتخصصة ضئيلا يقتصر على التمثل والاستيعاب (وهما مشرفان ومشكوران لو تما بالأمانة الكافية وعن علم كاف) ولا تزال حياتنا الفكرية تعاني من الأصوات العالية والكتابات «المعقربة» والتعصب لموجات تذهب وتجيء، ولا نخضعها للنقد الواجب، وتصل لشواطئنا متأخرة في العادة عشرين سنة عن أوانها، وبعد أن تكون قد ذابت في رمال الأرض التي نشأت فيها، (كما حدث مع الوجودية والبنيوية مثلا في السنين الأخيرة) علينا أن نتعلم ونتفتح لكل جديد. هذه ضريبة المعاصرة التي لا بد من دفعها، ولكن علينا أيضا ألا ننسى هويتنا (إن كنا قد اكتشفناها أو حاولنا اكتشافها) وأن نسلط ضوء عقولنا وقيمنا المميزة لنختار ونواجه مواجهة الأحرار. إن هذا في حد ذاته تفلسف، ولعل التفلسف العربي لن يبدأ إلا بنقد العقل العربي لنفسه، واقتلاع جذوره البدوية ورواسبه القبلية والخرافية وتحريره من معوقات التفكير النقدي التي نصطدم بها كل لحظة في مجتمعاتنا المصرة حتى الآن على التخلف، وإطلاق الصوت الواحد وخنق الحوار الحر ... فهل تمتد أيدينا إلى هذا العمل المشترك (بجانب معرفة تراثنا الذي لا يزال مجهولا، والعلم بالتراث الحديث والمعاصر الذي لا نزال نحبو ونتعثر على أرضه، ونرتدي أزياءه، ونتحمس لأقنعته دون أن نغزل خيطا واحدا في نسيجه؟!) ما أحوجنا إلى البدء من الصفر. في زمن المحنة لا بد من بداية جديدة. هكذا فعل كبار الفلاسفة، فبدءوا التفلسف، وكأن لم تكن قبلهم فلسفة، والمتفلسف العربي يتحمل القدر الثقيل عليه أن يجمع في إهابه المصلح، والثائر الغاضب، والكاتب الذي يجذب الجماهير المشغولة عنه. عليه أن يكون المرضع والمربي والسياسي والفلاح والثائر وعامل رصف الطرق والبناء والهدم في وقت واحد، فكر معي أيضا في المجتمعات والحضارات التي نشأ فيها التأمل العقلي والتفكير النظري الحر في أثينا بركليس في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، وفي روما أوغسطس وبغداد الرشيد والمأمون وبندقية آل المديتشي في القرن السادس عشر وإنجلترا وفرنسا وألمانيا في القرون الثلاثة الأخيرة، وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل فكر في بلادنا العربية في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن عندما تفتحت زهرات الإصلاح والتجديد في الدين والحكم والعلم والأدب والفن والغناء. إن قدرا معقولا من الحرية ولكرامة الإنسانية لا بد أن يتوفر للناس قبل أن ننتظر منهم شعاعا واحدا من قبس السر الأكبر الذي نسميه الإبداع. والإنسان العربي الذي شوه وفقد إنسانيته طوال قرون ستة من الانحطاط الحضاري - منذ إحراق التتار لبغداد إلى حملة الفرنسيين على مصر، هذا الإنسان الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر في إقامة الجسور بين دينه ودنياه، بين طبيعته الشرقية والإسلامية المتمسكة بقيم الماضي ونموذج العلم والتحضر الغربي الذي زحف عليه بشره وخيره، وهدد بسيادة العالم وغزوه - هذا الإنسان الذي سجلت «نهضته» قصة كفاح طويل لاكتشاف ذاتيته والدفاع عن عقيدته ووطنه ووحدته العربية، كفاح طويلة مضن تعثر كثيرا في حفر التردد والتوفيق والازدواجية، ولم يبلغ شيئا مما بلغته النهضة الأوروبية - هذا الإنسان الذي كان بغير شك على الطريق - لماذا نكب وانتكس وشوه وخصيت رجولته في السنوات الأخيرة؟ لماذا تتردى أحواله من سيئ إلى أسوأ؟ ولماذا يعجز عن مواجهة الحقيقة مهما كانت مرة (ما دامت الحقيقة هي الطريق والغاية)؟ ولماذا يهزم من الداخل قبل الخارج - إن إنقاذه من الذئاب التي تحاصره في ظلام النفس والعقل والمجتمع والنظم والقيم الفاسدة قد يكون أو خطوة نحو التفلسف العربي، أي نحو الحرية والتكامل والوحدة. وإذا لم نؤمن بالعلم منهجا والحرية طريقا وأسلوب حياة، والديمقراطية وسيلة وغاية وشرط وجود - إذا لم نحققها ونتحقق بها، فكيف يمكن أن نسأل عن إمكان قيام فلسفة أو فلسفات عربية أو عدم قيامها؟ ألن يكون السؤال لونا من الهذر الذي يحتل مساحات شاسعة من صحفنا وأجهزة إعلامنا ووقتنا المضيع منذ سنين عن «عالمية» فننا وأدبنا وغنائنا ... إلخ لنبدأ بإنقاذ هذا الإنسان العربي المشوه من الأغلال المفروضة عليه، ثم نسأل بعد ذلك عن العلم والفن والفلسفة. ليكن سبيل الإنقاذ الوحيد هو العلم والحرية . ولنثق بأن هذا الإنسان لا يزال بخير رغم كل شيء (ولا ضرورة للتصريح بأكثر مما صرحت!) إنه بحاجة ماسة إلى فصد دمه الفاسد على حد تعبير الكاتب المسرحي الكبير سعد الله ونوس.

ج3 : تسألني عن عطائي الفكري والفني. لست متأكدا إن كانت الإجابة على هذا السؤال من حقي أم من حق القراء، بل لست أدري إن كنت قد أعطيت شيئا على الإطلاق. اسمح لي أن أسألك: هل تحب النور؟ سؤال ساذج بطبيعة الحال. فمن منا لا يحب النور ويفضل الحياة فيه؟ لكني أقصد أن نكون نورا ونورانيين، لا بالمعنى الأعمق الذي يحترق فيه الصوفي كما تحترق الفراشة العابدة، فهذا مطمح بعيد عن آمالنا، بل بالمعنى البسيط الذي أردته أن نكون نورا في كل لحظة، أن نشيع النور حولنا ونتركه إذا استطعنا وراءنا. هذا هو الذي حاولته ولا زلت أحاول أن أكونه، أقولها بحق النور ويسر صفاته ونقائه وبساطته. لست شمعة تحترق لتضيء لغيرها، هذا غرور بشع لا أتورط فيه. إن ما أريد أن أقوله أبسط من هذا بكثير. فقد أحبت عيناي النور منذ البداية وفتحت عيني - كما أكد لي أهلي - عند الفجر. ولا زلت بعد ضعف البصر المحتوم لا أحب شيئا كما أحب تأمل النور ولو احترقت الجفون. أتراه غرورا أو افتخارا إذا قلت لك إنني حافظت بهذا على طفولتي على الرغم من شيبي؟ هل ستصدقني إذا أقسمت لك بسر النور أنني لا زلت أفرح به كما يفرح الوليد والرضيع؟ أتراني مبالغا أو مدعيا إذا قلت إنني أحمله في كياني، وأتركه يشع براءة وطيبة لا يعرفهما إلا السذج والمجانين والأطفال؟ لا أدري كيف أشرح الأمر، لا أعرف كيف أبوح بالسر، فما زلت أتهم نفسي في كل كلمة أقولها بالحمق أو الغرور! وما زلت لا أستطيع أن أعفي نفسي من ظلمات تراكمت مع التجارب والأيام، من وصمات لطخت ثوب النفس الذي جاهدت أن أبقيه نقيا نورانيا، لأخرج من هذا المأزق الذي وضعتني فيه سذاجتي أو غروري ولأقل لك: المهم أن نكون نورا ، ولن يكون أديبا أو كاتب كلمة من لا يدين بدين النور، ويعطي النور، ويتشجع بالنور، ويدافع عن النور. إذا لم تأت أعماله قطرات من هذا الفيض وأشعة من هذا القبس الباطن، فلا كانت هذه الأعمال. وإذا لم تبل عطش القارئ أو تنفذ في وعيه، فلا استحققت أن تقرأ، لكن هل يمكن أن يعطي النور من لا يكومه ويتحقق به؟ صدقني أني لا أغرق في تصوف أوغسطين والسهروردي وابن عربي وأصحاب الإشراق. إنما هي حقيقة بسيطة لا أملك الكلمة التي تكشف النقاب عن وجهها. عشت أحب الناس الأهل والأصدقاء والتلاميذ والزملاء الطيبين والفقراء. حاولت وكنت بحمد الله شعاعا يسري بالطيبة والخير ما استطعت. قلوب كثيرة مظلمة لم أستطع أن أنفذ في سدودها المظلمة - ربما صرت في تلك الأحوال أسود كالفحم، ربما تكسرت وانكسرت وعدت أفتش عن نبعي، لكن هذا هو سر حياتي، سر العفوية والبراءة التي لاحظها أكثر من قارئ وصديق ومحب، وهو كذلك سر الحزن الجارف والجارح الذي يغشى على الدوام عيني وصوتي وملامح وجهي ومشيتي وإيقاع كلماتي. أيجرح النور صاحبه إلى هذا الحد؟ يكفي ما قلت (ربما لا أفهمه أنا نفسي، وإن كنت أحسه من بعيد) وحسبي أن أقول الآن إن خير ما أعطيت للحياة (أو بالأحرى ما أعطاها الله عن طريق شخصي الزائل) هو ابنتي الوحيدة نوران.

2

صفحة غير معروفة