قال: ولم ذا؟
قلت: لأن في طباعي النفار من صحبة أهله؛ لا عن حقارة ولا كراهية، ولكن أربأ بنفسي أن أحتقر، وأن أصحب من لا يعدني من البشر.
قال: ومتى احترم القوي الضعيف؟! إنك يا بني تحاول من النفس غير شيمتها، وتكلفها ضد طباعها؛ وأنا ما اتخذت هذا الشعار إلا لعلمي أن فيه السلامة، ومعه الكرامة، في بلد ليس لي بدار إقامة. ثم التفت حوله وسألني: بأي مكان نحن؟
قلت: على الأزبكية يا مولاي، وهي قسم من القاهرة ليس كسائر الأقسام؛ كان وجه القرن الماضي مجر عوالي الحوادث، ومجرى سوابقها؛ أقام به نابليون ومن معه، ولا يزال منزله عليه قائم الجدار، معدودا في جملة الآثار؛ وفيه ألبس محمد علي ثياب الولاية، واتخذ عليه بعد ذلك مسكنا يتردد إليه في تراوحه بين شبرا إيوانه، والقلعة ديوانه، وما زال الأجانب يكثرون على الأزبكية في السكنى، وهي تأخذ من سعودهم وتشاطرهم دنياهم المقبلة، حتى أكرمها فيهم الخديو إسماعيل في زمن اهتمامه بهذه العاصمة واعتنائه بأمر إصلاحها وتحسينها، ففتح فيها الشوارع، وأنشأ فيها الميادين، وآثرها بالأوبرا الخديوية، دار التمثيل الكبرى في البلاد؛ ثم ما زالت حتى أصبحت كما تراها تضارع كثيرا من مشهورات النواحي في الغرب، حركة وتجارة، ورونقا ونضارة، وعمارة ويسارة.
قال: وما هذا السوق القائم، والدولاب الدائر؟ ولمن هذه التجارة الواسعة، وتلك الدور الرفيعة؟ ومن هؤلاء الشامخون بالأنوف فوق سلم النزل، كأنهم الفراعنة في بهو الإمارة وعند رفرف الملك؟
قلت: أبديت لك يا مولاي أن هذه الناحية من القاهرة تكاد تكون للأجانب بأرضها وسمائها؛ فهذا السوق القائم سوقهم، وهذا الدولاب إنما يدور بهم، وهذه التجارة الرابحة لهم، وتلك الدور الرفيعة مساكنهم وعقارهم، وهؤلاء المدلون المختالون هم السياح من الأوروبيين، يأتون مصر رحلة الشتاء في كل عام، فيقضون بها ما شاءوا من أيام، مثل الملوك في مشاتيهم من ممالكهم وبلادهم، بين إجلال الخاصة ومهابة العامة.
استأثر الأجانب بفوائد التجارة، واختصوا بمنافعها، وقبضوا على أزمتها، حتى أصبحت هذه الحوانيت الكبيرة وتلك المخازن المشحونة ولا منصرف عنها لمصري يحيا حياة سهلة، من أقصى الريف إلى أقصى الصعيد؛ فما من بيت في الأرياف أهله على شيء من الثروة إلا ومن الأزبكية زيتهم ودقيقهم، وكأسهم ورحيقهم، وطستهم وإبريقهم؛ وإذا بنى أحدهم بالغ في البنيان، ومثل في القرية الحقيرة الإيوان؛ لكي يقال أتى بما لم يستطعه فلان؛ ثم لا تسل عن الأثاث والرياش، وما يجلب منه من القاهرة لائقا لشاهقة القصور، ضافيا على وسيع الدور، صالحا لجلوس المدير والمأمور؛ حتى ليجد الإنسان في كثير من مدائن الأقاليم وقراها، من هذه المساكن من الطراز الأول، ما لا يجد له مثيلا في ضياع أصحاب الملايين من الفرنساويين، بالرغم مما عهدت القوم عليه في تلك البلاد، خصوصا كبار الزراع منهم من الميل إلى المعيشة السهلة في المكان الطيب، ولكنهم لا يسرفون في البناء إذا بنوا، ويختصرون من الأثاث والرياش إذا اقتنوا، ويعتمدون في تشييد الدور وتزيينها على سلامة الذوق وحسن الاختيار، بحيث ترى المغنى الصغير فتأخذه عيناك على قلة حجمه، كأنه بيت من الشعر أو بيت من الشعر؛ وليس ذلك إلا من حب الاقتصاد الذي لا تقوم حياة الزراع إلا عليه، وقد تدرج الأجانب يا مولاي من الاستئثار بتجارة القطر، ما جل منها وما قل، والانفراد بالصناعة فيه، ما علا منها وما سفل، إلى مزاحمة الوطنيين على تجارات وحرف لم يكن يخطر على بال أنها تخرج من أيديهم يوما؛ ولا أستحي أن أضرب لك مثلا هؤلاء الأطفال من اليونان والأرمن، منتشرين في الشوارع والأندية العمومية، يسابقون فقراء الغلمان من المصريين والبرابرة إلى النعال يمسحونها، والأحذية ينظفونها؛ ثم أرتقي عن هذا المثل الأدنى إلى آخر أعلى، فأبدي لك أنه لا يقام في مصر عظيم احتفال، ولا تحيا فيها بالأفراح ليال، إلا رأيت المحل الأول للأجانب، ووجدت الربح من وراء ذلك لهم؛ فالآنية من «جيس»، والطعام من «فلوران»، والشراب من «ووكر»، والحلوى من «ماتيو»، والغلمان من «الكونتيننتال»، والنور من معامل الكهرباء، والصدر في المهرجان لمن حضر من القوم ولو بغير دعوة، والقدم السابقة إلى المائدة قدمهم، والغناء مناوبة ومطارحة، تخت لهم وتخت لنا، ومغنية منهم ومغن منا، يزهقون صنعة الطاهي ، ويبيرون تجارة الفراش، ويرخصون أسعار المغني، وقد عاشت هذه الحرف الأهلية زمنا طويلا في مأمن من منافسة المنافسين، ومزاحمة المزاحمين، إلى أن قتلها سراة مصر في هذه الأيام، وأصبحنا نخشى أن يتكفل لنا القوم بالمآتم والأتراح، كما دخلوا علينا البيوت في الأعراس والأفراح، والقوم يا مولاي فوق هذه البقعة وغيرها من نواحي القطر، في شعب من حمى كليب عزا ومنعة، تسهر المحاكم المختلطة على حفظ حقوقهم، وتلاحظ عيون الامتيازات كرامتهم، ويشفق القناصل عليهم في المهمات، فكأنهم وراء هذه المعاقل والحصون أسود الغاب في الغاب، لم يكفها تلك القوة وذلك الإقدام، فاستعصمت بالآجام، وفوق هذا وذاك تراهم قد ألقي عليهم للخواص محبة، وملئ العوام منهم مهابة، وصح في الأذهان أن العقل لا يجوزهم، والذكاء لا يحل دونهم، والهمة لا تتعداهم؛ واستقر عند الذين يرجون للنهوض بهذه الأمة من عثرتها، ويطلب منهم أن ينفخوا فيها من كل روح جديد، من أهل الحل والعقد وناس الأحلام والأقلام، أن أوان العمل قد فات فلا يستدرك، وبرهة الأمل قد ولت فلا تعود، وأنه لم يبق للمصريين إلا أن يودعوا أيام الحياة وداعا.
ومن عجيب أمر هذا الفريق العالي في الأمة يا مولاي أنهم متحزبون متفرقون، يعتقدون ذلك في أنفسهم ويقولونه بألسنتهم، ثم ينتدبون لقيادة الأفكار متباغضين متحاسدين متخاذلين، كل له أمل يسعى ليدركه من وراء سكرة الخاصة، وغفلة العامة في هذا البلد الأسيف؛ أولئك هم القواد فيما زعموا، لكن لا تراهم إلا في ظل القصور الشاهقة، ولدى الأبواب العالية، ولا تلقي بهم إلا في مجالس اللغو والغرور والنفاق والرياء، لا يجولون في الصفوف جولة، ولا يعيرون الجنود نظرة؛ وإذا مر أحدهم على جيشه الموهوم، وفيلقه المزعوم، كان في خيلائه وكبريائه كالملك الصغير المتوج، ورث لقب القائد العام فيما ورث من ألقاب المملكة، فتكلف طلعة على جيوش لا تعرف له فضلا، ولا تذكر له بلاء، وإن هتفت بتحيته واصطفت بين المهابة فيه والإعظام.
قال الهدهد: كنت أتكلم والنسر مطرق يصغي لما أقول؛ فلما انتهيت رفع رأسه ثم قال: هذا يا بني هو الاحتلال.
ففهمت عندئذ معنى إشارته في سالف عبارته، وقلت: لكم معشر النسور كيد لا يبور، ونظر بعيد في الأمور.
صفحة غير معروفة