إهداء الرسالة
المحادثة الأولى
المحادثة الثانية
المحادثة الثالثة
المحادثة الرابعة
المحادثة الخامسة
المحادثة السادسة
المحادثة السابعة
المحادثة الثامنة
المحادثة التاسعة
صفحة غير معروفة
المحادثة العاشرة
المحادثة الحادية عشرة
المحادثة الثانية عشرة
المحادثة الثالثة عشرة
المحادثة الرابعة عشرة
المحادثة الخامسة عشرة
إهداء الرسالة
المحادثة الأولى
المحادثة الثانية
المحادثة الثالثة
صفحة غير معروفة
المحادثة الرابعة
المحادثة الخامسة
المحادثة السادسة
المحادثة السابعة
المحادثة الثامنة
المحادثة التاسعة
المحادثة العاشرة
المحادثة الحادية عشرة
المحادثة الثانية عشرة
المحادثة الثالثة عشرة
صفحة غير معروفة
المحادثة الرابعة عشرة
المحادثة الخامسة عشرة
شيطان بنتاءور
شيطان بنتاءور
أو لبد لقمان وهدهد سليمان
تأليف
أحمد شوقي
تحقيق
محمد سعيد العريان
تمهيد
صفحة غير معروفة
بقلم محمد سعيد العريان
هذا كتاب لا يعرفه قراء هذا الجيل فيما يعرفون من آثار شوقي الشاعر الناثر القاص، وهو كتاب شعر ونثر وقصة؛ لا أعني الشعر المنظوم؛ فإن حظ هذا الكتاب من ذلك الفن قليل، ولكنه إلى ذلك فن من الشعر يروع بلفظه ومعناه، وبما تحس فيه من نبضات قلب شاعره.
هو كتاب شعر إذن، وإن لم يكن منظوما على ذلك النسق الذي ألفه الأدباء والمتأدبون؛ لأن مؤلفه قد آثر أن ينثر فيه خواطره غير مقيدة بميزان ولا قافية، وهو إلى ما فيه من صفتي الشعر والنثر أسلوب من القصص يسلكه في ذلك الباب الذي عرفه قراء العربية للمرحوم أحمد شوقي في آخر ما أنشأ من فنونه الأدبية، حين عرض «مجنون ليلى» و«كليوباترة» و«علي بك الكبير» و«عنترة» وغيرهم من أبطال الماضي القريب، أو الماضي البعيد، فردهم إلى الحياة، أو رد إليهم الأحياء.
ولكن القصص في «محاورات بنتاءور» هذا الذي نصفه، ليس جاريا على ذلك النمط الذي ألفه القراء فيما طالعوا من قصص شوقي؛ لأنه لم ينشئه ليكون قصة ذات بدء وخاتمة وعرض متسلسل، ينتهي بالمقدمات إلى نتائجها، حتى تنحل العقدة أو تزداد تعقيدا؛ كما يفعل كل قاص فيما ينشئ من ذلك الباب، وإنما أنشأه ليقص قصته هو نفسه مع «بنتاءور» شاعر رمسيس الأكبر؛ ذلك الشاعر الذي خلد في الأدب المصري القديم، أو خلد به الأدب المصري القديم حتى رواه لنا الحجر في هذا العصر الحديث بعد آلاف من السنين.
لقد عاش شوقي، شاعر مصر الحديثة، مع بنتاءور، شاعر مصر القديمة، حقبة من عمره في الخيال، وكان بينهما من الود ما يكون بين الأصدقاء؛ يلتقيان على ميعاد، أو على غير ميعاد، ويفترقان على ميعاد، أو على غير ميعاد كذلك؛ فيكون بينهما في كل لقاء وفي كل فراق ما يكون بين الصديقين حين يلتقيان وحين يفترقان، من أسباب البث والشكوى، أو من أسباب الشوق والحنين، ولكن بين زمان شوقي وزمان بنتاءور قرونا متطاولة، وبين مكانيهما بادية جرداء متباعدة الأطراف، قد انتثرت عليها أشلاء وجماجم وآثار أمم بائدة وعروش مثلولة وتيجان محطمة؛ فأين يلتقيان إلا أن يعبر أحدهما إلى صاحبه القرون ومن حواليه تلك الأشلاء والجماجم والآثار؟ ثم هل يكون حديثهما حين يلتقيان بعد ذلك الجهد - وإنهما لشاعران - إلا عن الأشلاء والجماجم، وعن تلك الأمم التي كانت ثم بادت؟
وكذلك كان، وجرت محاورات بنتاءور وشوقي عن الأحداث التي تعاقبت على ضفتي النيل منذ عهد رمسيس إلى عصر عباس.
محاورات فيها من بنتاءور حكمته وصوفيته، وما يحتقب من علم الماضي، وفيها من شوقي شعور مصري يقظ القلب والعقل والضمير، قد حصل من علم الحاضر وذاق لذات الحضارة، وتقلبت على عينيه صور من الحياة وصور من الأحياء، وألوان من الحوادث لم يتقلب مثلها على عيني شاعر رمسيس القديم.
وكان بنتاءور - فيما تصوره هذه المحاورات - نسرا معمرا، قد شهد الماضي كله منذ كان حتى يوم لقائه بصاحبه، ولكنه لم يزل يعيش في هذا الجيل بقلب بنتاءور شاعر رمسيس الذي كان يعيش على ضفة هذا الوادي منذ آلاف من السنين؛ أما شوقي فكان هدهدا حديد البصر قد أحاط بكل شيء مما حواليه علما، وأحس به إحساس الحي بالحياة، وصوره في نفسه تصوير العين لما ترى، والقلب لما يشعر، والعقل لما يدرك؛ لأنه ابن الجيل الذي لم يزل يحيا، فهو يحس ويشعر ويدرك ويشم ريح الغد قبل أن يكون الغد.
صورتان من الماضي البعيد، البعيد إلى ما لا تدرك نهايته في القدم، ومن الحاضر الحي المتوثب إلى ما لا تدرك غايته من المستقبل، التقتا على صفحة مرآة، فاختلط شعاع منهما بشعاع؛ فكان من امتزاج الصورتين على صفحة تلك المرآة، ومن اختلاط الشعاع بالشعاع، صورة ثالثة تتملاها العين بإعجاب، وشعاع من حكمة يشرق على القلب بالهدوء والاطمئنان.
تلك قصة شوقي وبنتاءور، أو قصة هدهد سليمان ونسر لقمان كما تصورها تلك المحاورات؛ فيها من شوقي شعر الشاعر ونثر الناثر وفن القاص؛ فهو فيها الشاعر الناثر القاص الذي يعرفه قراء العربية فيما طالعوا من روائعه المنظومة والمنثورة والمقصوصة.
صفحة غير معروفة
على أن لهذه المحاورات دلالة أخرى على فن شوقي الشاعر الناثر القاص، فهو قد أنشأها - في سنة 1901م - وهو لم يزل بعد شابا في الثلاثين أو قريبا من ذلك، قبل أن يتم تمامه في الشعر والنثر والقصة، فهي من هذه الناحية أمارة واضحة على مدى التطور الذي نال فن شوقي فيما تلا ذلك من سنين تزيد على الثلاثين، وهي إلى ذلك أمارة على شيء آخر، يتصل برأي شوقي في أحداث السياسة المصرية لعصره، منذ كان له رأي يتحدث به في تلك الأحداث.
أما بعد؛ فهذا تعريف موجز لكتاب من كتب شوقي، إلا يكن أعلاها في فنه، فإنه أصدقها في التعبير عن نفسه.
وإني إلى ذلك لأرجو أن أكون بما حققت من لفظ الكتاب، وما صوبت من نصه، وما ضبطت من كلمه، قد أديت للعربية حقا، وأوفيت لشوقي بدين.
وما توفيقي إلا بالله.
يناير سنة 1952م
مقدمة
بقلم شاعر القطرين خليل مطران
هي شذرات حكم، ونثرات فكر، صدح بها طائر مصر المحكي «أحمد شوقي» من على قمة الهرم تارة، وبين طلول منف وعين شمس طورا، وذهب بها كل مذهب، في سلسلة فصول سماها محادثات، متناولا فيها كل عبرة جليلة، وكل معنى غريب، مؤاخذا بها غضاضة مصر الآن، برفعتها فيما تقدم من الزمان، معاقبا بالرفق، محاسبا بالصدق، جعلها على لسان طائرين، هما لبد لقمان، وهدهد سليمان، ونثرها نظما، أو نظمها نثرا، بحيث هي الشعر أو أنفس، وهي الكلام المرسل أو أسلس.
ولهذا الكاتب العظيم كلف شديد بمجد الفراعنة؛ فهو لا يفتأ يذكرهم ويملأ الصحف والآثار بما يرويه عنهم من عجيب الأخبار، وإنما يريد بذلك تحريك وتر جمد في فؤاد الأمة عن التأثر للحال، فضلا عن الحقب الأول، وإحياء عاطفة في النفوس جفت لعدم تعهدها من بدء الأزل، وهكذا الشأن في الجسم والروح، والحس والمعنى؛ لا يسلم منها ما يغفل، ولا يستقيم ما يهمل.
على أننا نرى الغربيين أكثر حنينا إلى قدماء المصريين من أبنائهم، وأشد ولوعا بتعرف أسرارهم وتنسم أخبارهم؛ وذلك لأن حب البعيد لما يعلمه، أصدق من حب القريب لما يجهله.
صفحة غير معروفة
على أن صاحب «عذراء الهند» بعد أن ذكر فيها خرافات جدات المصريين - وهي أشبه شيء بخرافات جداتنا إلى هذا اليوم؛ مما يدل على مجانسة الفكر واتصال النسب - كان جديرا بالانتقال إلى أسمى قمة يلقى منها النظر إلى ما يستفاد من قديم الخبر، وحديث العبر؛ ففعل موفقا، وفتح بابا مغلقا.
إهداء الرسالة
إلى حضرة الأستاذ الجليل العالم المفضال الشهير الشيخ عبد الكريم سلمان، أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا:
كلم عزين إلى كليم
ألبسته ثوب الحكيم
وجعلته يهدي ويه
ذي بالحقائق والرجوم
فوضى خواطره فإن
جمعت فكالعقد النظيم
فتراه في وادي النقا
صفحة غير معروفة
وتراه في وادي الصريم
وتراه في عهد العزي
ز وفي ولاية «مصرييم»
ومن السماء إلى الثرى
ومن الحضيض إلى النجوم
حتى إذا أتممتها
أهديتها «عبد الكريم»
وأنا المقر بفضله
الذاكر الحق القديم
المحادثة الأولى
صفحة غير معروفة
حكى الهدهد منبئ الأنباء، وشيطان بعض الشعراء، قال: أكثرت مخالطة الناس حتى ندمت، وأطلت النظر في الكتب حتى سئمت، واشتقت إلى عبرة مرموقة موموقة، وحكمة من نفسها مسوقة. آخذها ولو من سوقة، لا مطروقة ولا مسروقة؛ فخرجت إلى الأهرام في وقت من أوقاتنا الموصوفة، ويوم من أيامنا المختارة، ذهب نهاره إلا أواخره، وتناوب على الجو صاحيه وماطره:
تعرض الغيم فيه
للشمس في كل مسلك
تروغ منه فتبدو
وتختفي حين تدرك
والأفق منه ومنها
كالطفل يبكي ويضحك
فبلغت فضاءها، وإذا ذهب الأصيل عليه يزهو آونة، ويصدأ بالغيم آونة، والشمس صفراء في الأفق منكسرة الأشعة، قد كادت ولما تفعل، كأنها عين الأشقر الأحول، فوثبت إلى الهرم الأكبر، وحططت فوق حجر، ثم تقصيت النظر، فكانت فاتحة العبر، وباكورة العظات الكبر؛ إذ رأيت السياح حوالي الأثر، يرتعون في الأصل ويلعبون، وينزلون عن الإبل ويركبون، وقد ضفت عليهم ثياب الكبرياء، وجروا ذيول الزهو والخيلاء؛ فغضبت من رؤيتهم على هذه الصورة، وعيثهم في القبور بعد عبثهم بالجثث المقبورة، فقلت: «أيتها الحجارة الخالدة، اسخري من هؤلاء كما سخرت من قمبيز وخيله، واستهزئي بهم كما استهزأت بنابليون وجنوده!»
ثم خرجت من الغضب فأبصرت، وتألفت ما كنت أنكرت، وما زال الغضب يعمي صاحبه، ويضل راكبه، ويريه صدور الأمر ولا يريه عواقبه؛ أبصرت فرأيت الغادي والرائح، والترجمان بجانب السائح، ولم أر من باك ولا نائح، ولا مهيب بالجندل والصفائح، يجيبه صدى من جانب القبر صائح؛ فرجعت في أمر القوم إلى الرضى، وقلت إنما يزورون قبور الفراعنة في مصر كما تزار قصور الملوك في هذا العصر، وذكرت ساعة قضيتها في قصر «وندسور»
1
صفحة غير معروفة
منذ ثمان سنين، والملكة يومئذ في الحياة، لا تخرج الشمس عن طرفي ملكها كأنهما حاشيتا النهار، فدخلت المقاصير، وتنقلت في الحجر، ورأيت فراش الملكة وقد هجرته، كما ينظر هؤلاء إلى مراقد الفراعنة، وقد نقل ما فيها إلى دور التحف، وحيل بين ذلك اللؤلؤ وهذا الصدف؛ فرحم الله المصريين القدماء، لولاهم ما ذكر مصر الذاكرون، ولا ظلت كعبة يزورها الزائرون:
قضوا والدور باقية وأودوا
وليس شخوصهم بالموديات
فما ذهبوا ولكن في اغتراب
وما ماتوا ولكن في سبات
قال: ثم وقفت أتأمل قبور الملوك العظام، وأذكر عبث الأنام لا الأيام، وأعجب للأهرام - وهي من عمل الأسرة الرابعة، وبنيان المصري في أول عهده بالحياة وبداية دخوله في الحضارة - كيف رسخت في الأرض رسوخه في العلم، ووقفت للدهر وقوفه في الفن، وكلما تأملتها جزتني العبرة عن النظرة، والعظة عن اللحظة؛ فرأيت النعيم كيف يزول، والحال كيف يحول ، والدولة كيف تدول، والملك الكبير إلام يئول، وبعث الموقف مني فقلت:
لما رأيت قبورهم
كملت فما فيها لناقد
وكأنها نهد الثرى
وكأنه مذ كان ناهد
صفحة غير معروفة
بليت رواسيه ولم
تبل العظام ولا المراقد
وهوت حواليها الهيا
كل والكنائس والمساجد
وخلت ممالك وانطوت
دول زواهر كالفراقد
أيقنت أن المرء بع
د الموت بالآثار خالد
وأدمت النظر إلى الأهرام، لا لعظم في الجرم وفخامة في البنيان، ورسوخ في الأرض وطول زمان؛ فإن استعظام رؤية الأجرام من خلائق الصبيان، لكن كمرآة أرى فيها قدماء المصريين كما هم في الأعصر الأول، ولما يكتملوا دولا أربع، فلا أرى إلا صورا واضحة، وأشباحا لائحة؛ ثم أنظر فيها المصريين الأحياء وكأنما أتأملهم في مرآة محدبة مقعرة؛ صور ممسوخة، وأشباح معوجة، وأعضاء كمختلط الأشلاء من ضياع التناسب، وما اختلف الزجاج لكن هي الأخلاق تحسن وتقبح، وتعلي وتسفل، وتقوم وتعوج، وتريك من قوم ما لا تريك من آخرين؛ ما أبعد ما بين الأصل والفرع، وشتان ما بين الوالد والمولود؛ ذلك قبيل شاد وساد، وأجار من البلى الأجساد، ونشر سلطانه على البلاد والعباد، وأخذ لآثاره من بعده ميثاقا من الآباد، حياته للموت وموته للحياة، يعمل للذكر، ويهيئ للأحاديث، ويترك للأبناء، ويعلم أن السير حياة ثانية في هذه الدار الفانية، وأن ليس الموت إلا سفرا من الأسفار، ونقلة من دار إلى دار:
ولا يستوي ناء يعطل ذكره
صفحة غير معروفة
وآخر مذكور بكل لسان
ونحن معشر الأبناء فيما نزعم، وذراري المصريين القدماء فيما نتوهم، أمة نيام، لا نعرف الملك إلا في الأحلام، كأنا ولاة العهود شابوا وآباؤهم قيام؛ يومنا يوم العاجزين، وغدنا غد اليائسين، وأمسنا لا للدنيا ولا للدين؛ معنى الحياة عندنا شيء باطل، وطرفاها نعيم زائل، وماهيتها أيام قلائل، لا ندخر صالحات ولا باقيات، ولا نرجو علوا في حياة ولا ممات، يترك أحدنا لولده من وجده، ولا يترك لهم من مجده!
قال الهدهد: وما لبثت الشمس أن غربت عن بلاد وطلعت على بلاد، فآفاق في مهرجان وأخر في حداد، فحدثت نفسي بالانثناء، فرارا من وحشة الظلماء ، لكني ما هممت حتى شعرت بانتفاض طائر من الجوارح، وسمعت هاتفا يقول: يا منادي الحجر، ومناجي الأثر، أخطأتك مصدوقة الخبر، وغابت عنك أمهات العبر، هلا قلت في شكوى الحال ونجوى هذه الأطلال:
يا أيها الهرم المنحوت من زحل
صب النحوس علينا أنت والزمن
هوى حواليك ملك لا قيام له
وغيبت في ثراك الأربع المدن!
وأمسك الهاتف عن الكلام، فالتفت مذعورا لعلي أرى على المكان شبح إنسان، أو خيال شيطان، فلم أر غير نسر، مستجمع في وكر، نسج عليه الدهر، وهو يرنو بصفراوين كالتبر، في كلتيهما إنسان كنقطة من حبر، فدنوت منه وتأملت فيه، وإذا هو قد وهن منه العظم، وتناثر الريش من الكبر، وشد منسره إلى ساقيه بأسباب من الهرم، وأكل على جؤجئه الزمن وشرب القدم؛ فقلت: لعله نوح النسور، أو بعض ما حمل نوح معه من الطيور، وابتدرت خطابه فقلت: سلاما أيها الشيطان! إن كنت لبد لقمان، فإني هدهد سليمان.
قال النسر واستضحك: افتريت على النبيين والطير، وانتحلت لي ولك ما للغير، أنا آدم الشعراء ولا إطراء، وأول من نطق بالقافية الغراء فوق هذه الغبراء!
قال الهدهد: وكنت لم أفقه ما رمز إليه، ولم أعلم مراده من بيتيه، فبشرت نفسي وقلت: شيطان قديم، فلأعلمن منه ما لم أعلم، وفوق كل ذي علم عليم. ثم قلت أخاطبه: الأيام أيها النسر مدارس الأحلام، ولا يستوي في العلم كهل وغلام، فلا أستحيي أن أسألك من أنت؛ فقد استبهم علي ما بينت؟
صفحة غير معروفة
قال: أنا من سميت في قريضك، وكرمت في شعرك، وبعثت في قوافيك؛ فضل لك لا أنساه، وما كنت تراني لولاه.
قلت: لئن صدقت مزاعمي، فأنت الروح الأكبر، والشيطان الأشهر، والنسر المعمر، بنتاءور شاعر الملك رعمسيس، وحامل لواء البيان في طيبة ومنفيس.
قال: إنه أنا، وإني بك لقرير، كنت أراك تستمع لواعظ الدهر، فوق هذه المنابر، وتجمع الخبر والخبر عن ذلك الملك الغابر، والسلطان الغائب الحاضر، وجدير بأقدم المقابر أن تعظ الزائر والعابر؛ فهمست في أذنك بالبيتين، أريد أن أريك ما لم تر عين. انظر كيف تر منف؟
قلت: أطلال بالية، ورسوم عافية، عندها قرية كبعض القرى، لا تكاد تحسب من الثرى.
قال: فكيف عين شمس؟
قلت: مزارع ورمال، لا جلال عليها ولا جمال.
قال: فانظر الفسطاط كيف تراها؟
قلت: بييتات وأديرة، وديار مستنكرة.
قال: فما هذه البلدة الزاهرة، والروضة الناضرة، والذرية السافرة؟
قلت: مدينة القاهرة.
صفحة غير معروفة
قال: لمن هي؟
قلت: لغير أهلها.
قال: هي إذن في حكم المدن الغابرة، عواصم أربع، كن مقار دول، وكراسي ممالك، وقواعد حكومات، تغير إحداهن الشمس بأبهة الملك وعظمة السلطان، حضرت الأهرام يومها وأمسها، وشهدت مصرعها وكانت رمسها، فاسأل ربك لقومك أن يكفيهم نحسها!
قال الهدهد: فأطرقت أتأمل في معاني هذه الكلم الجوامع، وأتدبر مغازي هذه الحكم الروائع، وأنا أستعرض كرة الأرض في خاطري، وأقلب صفحات التاريخ في فكري، فلا أجد لفضاء الأهرام مثلا فيما وصفه النسر، إلى أن أخرجني من إطراقي بأن قال: أرى الهدهد بين عبرة جلت حين تجلت، وفكرة في المدائن الأربع كيف تولت، فهل لك في كلمات تمثلك وقوتك في الظلمات، وتريك الأمم في حال ذهابها، كيف ينقصها الآلهة من أخلاقها وآدابها.
قلت: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، إني أراك في ضلالك القديم!
قال: قطعت حديثي لأمر لا يعنيك، لك ما تعبد ولي ما أعبد، ولا يزر النسر وزر الهدهد؛ فإن كان لك في الصحبة فعلى ثلاث: ألا تجري الأمور على هواك، وألا تنظر فيها بمقتضى طباعك، وأن تأخذها ولا تسأل عن أسبابها؛ فهذه الثلاثة تخرج من العلم إلى الجهل، فكيف تخرج من الجهل إلى العلم.
قلت: ذلك لك يا شاعر الآلهة فأنجز الآن ما وعدت.
قال: هلك الفراعنة وخلت الأسرة منهم، وذهبت دولهم، ونبشت قبورهم، وعرضت جثث عزت عليهم على الناس، ومأتمهم بينكم معاشر المصريين قائم لا ينفض، وما مقعدكم منه إلا كالمعددة: تبكي ولا دمع، وتندب ولا حزن، وتهتف بما لا تعرف من أخلاق الميت وصفاته، وسنة سارها في حياته، يفخر أحدكم بالعظم الرميم، ويتحلى في حديثه بالمجد القديم ، ويسر وهو عطل من الغنى عديم، بمبالغ غيره من اليسارة والنعيم، فإذا ذكر المصريون القدماء، رفعتم الأنوف للسماء، وزعمتم أنكم سلالة الفراعنة العظماء، لكم التاجان وعرشكم على الماء؛ وإذا جرت أحاديث العرب، قلتم بيننا أقرب النسب، ولنا ما تركوا من حسب، وما هو إلا سبب قطعتموه، ودين ضيعتموه، ولسان عربي بالعجمة بعتموه؛ وإذا سمي جد الأتقياء، وواسطة عقد الأنبياء، كنتم كلكم لآلئ الشرف، وما خرج قط خزف من ذلك الصدف، وإذا نصر الترك في حرب، وتركوا دويا في الشرق والغرب، كنتم السيوف والأكف والضرب، وما ذقتم لها من حرب ولا كرب؛ وإذا مات ملك ليس منكم ولستم منه، ولا يسأل عنكم ولا تسألون عنه، وخلف لقومه سيرة تسير كالأمثال، وخلى مفاخر لن تبيد ولن تنال، كنتم المؤبنين الشعراء، لغيركم الميراث وعليكم الرثاء!
قال الهدهد: وبينما أنا في الإصغاء، آخذ الحكمة الغراء عن آدم الشعراء، إذ قطع الحديث وتركني مفكرا في كل ما هاج بي ذكره من قديم وحديث، ثم صرفني على أن ألتقيه في منف أصيل الغد، وإن غدا لناظره لقريب.
المحادثة الثانية
صفحة غير معروفة
قال الهدهد: فأقلعت للطيران، أؤم عشي في حلوان، وأنا كمن مر به غرام على منازل الآرام، يتلفت قلبي إلى تلك الأجرام، ويعز على نفسي أن تفارق الأهرام، ثم جاشت في صدري هواجس، وامتلأ خطرات من الوساوس، فتمنيت على فئة غير هذه الفئة، وأملت من حكام مصر بعد مائة، أن يتخذوا من الأهرام مقابر، للنفر الأنفعين الأكابر، فيدفن فيها الجليل والعزيز، كالبنثيون في روما وباريز، أمنية إن شئت عدها سخافة، وإن شئت قل حديث خرافة:
من لي بأن تجعل الأهرام مقبرة
كالبنثيون لأهل الفضل والفطن
مفتوحة لوفود الأرض قاطبة
يزورها الناس من شام ومن يمن
مغيبين من الإجلال في جدث
مدرجين من الإعظام في كفن
مسطورة بمذاب التبر فوقهم
آثارهم والذي أسدوا من المنن!
تخيلت ثم خلت الأمر قد تم، وأعلنت الحكومة مشيئتها فيه، وصدر الأمر العالي به، ولم يبق إلا العمل بموجبه، فأنشئت الأضرحة الفخيمة في تلك الحجر القديمة، وأقيم الحراس على أبواب الأهرام، وكتب على مداخلها بماء الذهب: لعظماء الرجال شكر الأوطان، وقيل هذا القبر فأين الميت ...؟
صفحة غير معروفة
قال الهدهد: خطرات شاعر وأمنية شيطان، فمن حضر بعده تحقيقها فليذكره، ومن علم بها ولم يرها أبرزت من القول إلى العمل فليعذره. ثم بلغت عشي فنمت ناعم البال مغتبطا بما وعدت من لقيا النسر، كأنما وعدت ملكا كبيرا، فلما أصبح الصبح قطعت نهاري متململا حتى الأصيل، وأنا لا أدري ماذا عنى النسر بمنف، أهذه القرية أم تلك المدينة؟ وهل موعدنا منفيس أم ميت رهينة؟ حتى إذا ذهب معظم النهار طرت إلى النيل أريد أن أعبره فوق سارية من معدية، فلما شارفته رأيت ما ملئت منه تعجبا وتحيرا، رأيت شاطئين يتغايران، وضفتين تختلفان: هذه تلوح موحشة كأنها قبر بمكان قفر، أرض على الطبيعة، وفلاح على الفطرة، وجيئة لغير مطلب، وذهاب في غير مغنم، وزرع للفلاح إنباته، وللتاجر ثمراته، وهذه تموج بمعالم العمران، وتتجلى في زخارف الحضارة، وتتدفق حياة، وتتوثب وجدانا، فوقفت أتأمل هذا المرأى البهج، والمنظر العجب، والمشهد البديع وأنا أتهم الخيال ولا أتهم الحس، ولا أبرئ نفسي من سحر أو مس، وقد أنساني الذهول ذكر ما وعدني النسر أمس؛ أنظر إلى النيل فأرى المجاديف تنتهب مياهه من تكاثر السفن لديه، وتلاقي الزوارق عليه، مشحونة بالبضاعة، مملوءة من الجماعة، فكأنما أنظر إلى السين أو الرون أو الدانوب، فذكرت عندئذ ما قاله نابليون لجماعة من جنده في مصر، وقد مر بهم فرآهم ينظرون إلى النهر، وسمعهم يتساءلون: أهذا هو النيل الذي تشيد الكتب المقدسة بذكره، وتبالغ الأجيال في قدره؟ إن السماع به خير من رؤيته! فاقترب منهم وقال: إنه لا يعوز النيل إلا خمسون عاما، ثم يبدو لكم كما تصفه الكتب المقدسة أو أجل! فقلت في نفسي: لئن زعم نابليون أن مصر لا ينقصها إلا التمدين ولا بد أن تناله على يد الفرنساويين أو غيرهم من الأمم المتمدنة؛ فقد مر مائة عام لا خمسون؛
1
فما بالي أرى هذه الضفة بحالتها التي رآها جنود نابليون عليها، وأرى لدى هذه نعيما وملكا كبيرا؟ وبينما أنا في التخيل تارة والتأمل تارة، والتوهم مرة والتيقن كرة، بصرت بزورق يقترب مني، ويجريه عصبة من المجدفين في الزي المصري القديم، كما تمثلهم لنا الآثار، وقد نهض فيه رجل كأنه المثال المنصب رونقا واعتدالا، وسكينة ومهابة، وهو مكشوف الرأس، لابس ثياب المصريين القدماء كذلك، فأشفقت من رؤية الزورق ورجاله لأول وهلة، وتحفزت المطار؛ فصاح الرجل بي يقول: إلي يا هدهد، إني أنا النسر فلا تخف ولا تجزع!
قلت: وما بدلك يا مولاي؟ وما هذه الحال؟ وهبني جئت إليك، فأين تريد أن تجعلني؟
قال: تقدم ثم تكلم.
فطرت من فوري إليه، فتلقاني بكلتا يديه، ثم رفعني فوق كتفه، وقال: هذا مكانك فاستقم فيه، ولا تكثر من التلفت والانتفاض فتؤذيني.
قلت: سمعا وطاعة يا مولاي.
وعندئذ أشار إلى الملاحين أن ينثنوا بنا راجعين، فسالت أيديهم بالزورق في نهر سرى به الجلال، وخط عليه الجمال، تتلاقى السفن فيه كالجبال، تنوء بالبضائع والغلال، وتفيض من الرجال والأموال، فسألت النسر: لمن هذه الأرباح يا مولاي؟ لقد أذكرتني كنوز سليمان عليه السلام، وجواريه المنشآت في البحر كالأعلام.
قال: هذه رعية مولانا الملك رمسيس، تروح وتغدو بين طيبة ومنفيس، ناهضين بالمتاجر الجسيمة، قائمين بالأعمال العظيمة، تجري السفن بهم ليل نهار، بين شاطئين كلاهما محط لرحال التجار.
قلت: وإلى أين تمضي بي الآن يا مولاي؟
صفحة غير معروفة
قال: ألم أقل لك موعدنا منف؟ وها نحن قادمون، وهذه معالمها تبدو وتظهر، وتلك مجاليها تضيء وتزهر.
فأخذني الدهش، وصحت: الله أكبر!
فأنكر النسر علي صيحتي، وقال: ألم أؤدبك بالأمس؟ فهلا داريتنا في دارنا، وأرضيتنا في أرضنا؟
قلت: وما عساي كنت أقول يا مولاي؟
قال: كان أولى بك أن تسكت، أو أن تقول: الشمس كبيرة وحفيدها رمسيس كبير!
قلت: لا أعود لمثلها يا مولاي، فهل لي أن أرى حفيد الشمس ذاك؟
قال: ستراه وتسمعه، فلا تعجل ولا تؤذني بأسئلتك!
ثم استقر بنا الزورق ونالت أقدامنا منفيس، فإذا بها تحلت من الزخارف بكل نفيس، وتجلت تختال في حلل البهاء وتميس، حيث التفت رأيت حولي عزازة وعمارة، وثروة ويسارة، وصناعة وتجارة، وجاها وإمارة، وجنود البر والبحارة، من كل زي وشارة؛ فلم أتمالك أن اغرورقت عيناي بالدمع، فالتفت النسر إلي وقال: أدمعة سرور وفرح، أم عبرة أسى وترح؟
قلت: بل كلتاهما يا مولاي، فلئن سرني أن أرى هذا المجد لمصر أولا، لقد ساءني أني لا أراه لها أخيرا.
قال: لو أن فوق كل شبر من أرض مصر هدهدا يملؤه دمعا لما أغنى ذلك عنها شيئا، فعليك بالتأمل والاستقراء، قبل البكاء والاشتكاء، والتبصر والاعتبار، قبل النحيب والاستعبار!
صفحة غير معروفة
فكفكفت دمعي وقلت: لا يكونن إلا ما أمرت يا مولاي.
قال الهدهد: ثم مررنا بهيكل يأخذ العين ويتملك النفس ويأسر الخاطر، ويستوقف اللب قبل الناظر، فتوجه النسر وجهته، ثم دخل بين حراس ينحنون له تعظيما وإجلالا، وكهان يوفونه تحية واستقبالا، وهنالك جعل يطوف بي حول القواعد والأركان، ويرفع بصره إلى دعائم البنيان، ويتنقل بي من مكان إلى مكان، ويذهب بي صعدا وصببا، في حجر عالية غالية، ومقاصير خالية من عيب حالية، منها الداجي المظلم الحالك، وبعضها منور للشمس إليه مسالك، وهو يقول: هذا يا بني الهيكل الأشهر، بيت «فتاح» الإله الأكبر، حامي حمى هذه المدينة، وملبسها الأمن والنعمة والزينة، تنقل معي من حجر إلى حجر، ومل معي عن أثر إلى أثر، وأنعم النظر في هذه النقوش والصور، ترها في ضمائر الجفن أدق من الخواطر والفكر، وما صنعت في نور الشمس ولا في ضياء القمر، لكن في ضوء سراج ضئيل غير وهاج، ثم تأمل في الحجر بجانب الحجر، كأنهما واحد انقسم على نفسه شطرين. انظر إلى هذه الجبال كيف قطعت، وإلى الآساس كيف وضعت، وإلى العمد كيف رفعت، وإلى الزخارف كيف جمعت! هل ترى في جميع ذلك إلا معرفة في العلم، ودراية في الفن، ومهارة في الصناعة؟ وغير إحكام في الصنع، وإتقان في العمل، ورغبة في الثناء، وهمة عالية في الأمر، وذكاء فائق في الأمور، وطاعة واجبة للملك على الرعايا، وعدالة مفروضة للرعايا على الملك؛ وهذه يا بني أسس الآداب، ورءوس الأخلاق، وقوى الحياة في الأمم، وسر نجاح الشعوب.
قال الهدهد: وكنت أراعي النسر وفكرتي في الملك، أتمنى أن أراه مرة واحدة، فناجيته بذلك، فغضب من هذه المفاجأة، وقال: الملوك أيها الهدهد في كل مكان من ممالكهم، إذا تغيبوا حضرت مآثرهم، وإذا احتجبوا سفرت مفاخرهم، فحيث نقلت القدم في هذه العاصمة، حدثك عز الملك عن الملك ووصفته لك هذه الدولة الكبرى كأنك تراه؛ على أني سأنيلك سؤلك، وأجعلك من رمسيس بحيث تسمع وترى، فلا تعجل علي، ولا تكن كمن يزورون الآستانة ولا أرب لهم إلا «حفلة السلاملك»، وإذا قضوا أربهم من حضورها رجعوا إلى أوطانهم متبجحين بما لم يعلموا من أبهة ذلك الملك، وعظمة ذلك السلطان!
قلت: أفيرضيك أن أكف عن السؤال يا مولاي؟
قال: اسأل ما شئت إلا الصغائر، فإنها تقتل النفوس، وتطفئ نور العقول، وما اشتغل بها شعب إلا هلك حيا. إن لرمسيس وجها كبعض الوجوه، وجسما كسائر الأجسام، لكن إذا وقفت على شيء من بسطة ملكه، وامتلأت نفسك مهابة من سعة دولته، ورأيت آثار نعمته على رعيته، ثم لقيته بالذات لقيت إلها في زي إنسان، تنحسر في جلالته العينان، ويخفق لأدنى لحظة منه الجنان.
قلت: مررنا في مجيئنا إلى الهيكل بعمائر شتى، وأبنية تشيد، وهياكل تعمر، فكنت أرى العمال صنفين، والصناع فريقين مختلفين، فما شرف من الأعمال وكان للعقل والرأي معظم الأثر فيه، تولاه المصريون بأنفسهم، وما خس منها وكان شاقا يشترك فيه الساعد والجسم، كعمل الطوب، وجر الأثقال، قام به طوائف من الناس زرية أزياؤهم، مختلفة صورهم، مسودة وجوههم، فمن هؤلاء يا مولاي؟
قال: غرباء أسروا في الحروب وجيء بهم إلى مصر، فأرواحهم مباحة للملك، ينهب منها ما يشاء، ويسخر من استبقى فيما يشاء، ويجود ببعضها على قواد جيوشه الذين جنوا معه ثمر الوقائع، وشهدوا بجانبيه المعارك والمعامع.
قلت: عجبا لكم معشر الآباء، تبلغون هذه المبالغ من المدنية، وتأخذون هذا النصيب من الحضارة ، ثم تقسوا قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ فلو اطلع الإفرنج - خلفاؤكم في الأرض - اليوم على سيرتكم هذه في معاملة الغريب والأسير؛ لأنكروها عليكم إنكارا، ثم لولوا منكم فرارا.
قال: يبقى الحيف ما بقي السيف، وليس ما نسبت إلى أصحابك من الرحمة المتناهية، وعزوت إليهم من الفلسفة العالية إلا ضلة من حلمك، وقلة في علمك؛ ينكرون على ملوكنا أن يلعنوا من ليس من دينهم من الأمم، وما أشبههم في ذلك بإدوارد السابع، يوم ذم المذهب الكاثوليكي بمسمع من الأشراف تباع هذا المذهب؛ ويرموننا بفرط الكراهية للغريب واقتناء الحقد له، ولنا في ذلك أعذار مقبولة، فما بششنا في وجهه قط، ولا استنمنا إليه مرة، إلا طمع في ملكنا وأفسد علينا أمرنا؛ على أننا علمنا الأمم من بعدنا شرع الوطنية، وعرفناهم كيف يطول عمر الدولة عند قوم، وتمد برهة الحكم بينهم، إذا هم اعتمدوا في جميع أمرهم على أنفسهم، وضربوا على يد الأجنبي أن تعبث في شئونهم، ولئن بالغنا للغرباء في سوء المعاملة، فلنا من موقع بلادنا الطبيعي عذر واضح؛ فما مصر إلا سهل سهل غزوه والإغارة عليه، وواد مكشوف للأبصار الطامحة إليه؛ فلو لم يسهر عليه منا الساهرون لما لبث في قبضتنا طوال تلك القرون؛ أما أسير الحرب عندنا فأشقى منه أسير الاستعمار عندهم، يزرع لهم ويحصدون، ويبني لهم ويسكنون، ويسهر عليهم وينامون، ويفتح لهم البلاد ويمتلكون، وإلى بعض هذا ينتهي الشقاء والصغار والهون.
قلت: يكاد علمك يسع الأشياء كلها يا مولاي، فلو علمت ما مراد الملك رمسيس من مواصلة الغزو ومتابعة الغارة، والخروج من حرب والدخول في حرب، ومنزلته بين الملوك الغابرين منهم والحاضرين ما لا ترى أبصارهم خلفها مطرحا، فهلا أقر السيف وحقن الدماء؛ فقد ملك الأرض فهل يريد أن يملك السماء!
صفحة غير معروفة
قال: السيف يا بني يعلي السيف، والدول إذا كبرت وعز مقامها وتغلبت وعرفت الجاه والنفوذ، جد بها الحرص على البقاء، وطمعت في المزيد من الارتقاء، مخافة أن تقف فيدركها اللاحقون، أو تتمهل فيفوتها السابقون. وقد جرت العادة بين الناس أن الضعيف لا يزال يرمي القوي بالبغي حتى يصير ذا قوة مثله فيطغى مثل طغيانه، والفقير لا يزال يتهم الغني بالجشع حتى يثرى فيصبح هو الأجشع. وليس ما ترى من رحمة الناس البوير وما تسمع من ذمهم الإنكليز المعملين السيف في جنوب أفريقيا منذ عامين،
2
إلا حسدا لا ينفع البوير ولا يصغر الإنكليز؛ ولو أن إحدى الدول مكانهم ما كان شأنها إلا شأنهم؛ على أن الفتح إذا نفع القاهر مرة، نفع المقهور ألف مرة، فرمسيس إنما يخرج الأمم من الظلمات إلى النور، فيفك عقولهم من عقالها، ويشفي نفوسهم من ضلالها، ولولا فضل المصريين على أهل الأعصر الأول، ما قامت للأحباش دولة، ولا اجتمع للعبرانيين أمر، ولا انعقد للأشوريين لواء؛ سرى نورهم في الأمم المجاورة، وامتدت حياتهم إلى الشعوب المعاصرة، وهكذا سنة الدهر في الناس: أواخر يرثون الأول، ودول تبني أنقاض دول.
قال الهدهد: فعذبت مقالة النسر في نفسي، كأنها لفظ الشفاء على لسان طبيب، وقلت: لقد أخرجتني من يأسي يا مولاي، وعلمتني من مستقبل مصر ما لم أكن أعلم!
فتنهد بنتاءور وقال: تجمع كل أمة جوامع شتى من لغة ودين وجنس، وأمل ويأس، وسراء وضراء، وأنتم لا تعرفون غير جامعة الموت تجمع الأعداء.
ثم قطع الحديث وقال: هذا شيء نتحادث فيه بعد، فلنبق فيما نحن فيه من اجتلاء المناظر والمشاهد، ومناجاة المعالم والمعاهد.
قلت: ذلك أنفع لي يا مولاي، فما هذا التمثال القائم بين مقاصير الآلهة من الهيكل، وبين مجلس الملك ومنصب عرشه منه، إني أراه كعون بن عنق في ضخامته التي يزعمون!
فمشى النسر إلى التمثال وجثا لديه، ثم نهض وقال: فرغ الملك من حروبه التي تسير كالأمثال، وأمن تخوم ممالكه، وأخذ بالثقة من المستعمرات الواسعة، وفرق جيوشه في البسيطة يعززون فيها آية الملك ويحمون أطرافها، وأصبح من ثبوت الدنيا له، واستقامة الأمر في يده، بحيث قلت في وصفه ومدحه:
رمسيس يا ملك الدنيا وواحدها
وبضعة النور وابن الكوكب الأحد
صفحة غير معروفة
الشمس مثلك بعد اليوم لا ولدت
والشمس مثلك قبل اليوم لم تلد
فإن تكن في سرير المجد خالدة
فإن عرشك مرفوع إلى الأبد ... حتى إذا فرغ من تشييد مملكته والاحتياط لحفظها، وجعلها بمأمن من الحساد والأعداء، فكر فيما يخلد اسمه، ويؤبد ذكره، ويكفل لتاريخه الدوام، فبنى المدائن، وأنشأ في كل واحدة منها هيكلا خاصا بإله أهلها الذي يعبدون، وسور هذا الهيكل القديم بالأعمدة التي تراها محيطة به، وليس أفخم ولا أضخم ولا أجل في الأعين منها؛ أمر أن تصنع صورته معظمة وتجعل في الهيكل، فعمل له هذا التمثال وطوله ثلاثون ذراعا، وهو من عمل الأسرى وحدهم، وقد عني الملك بأمر ذلك، فرغب أن يكتب أنه «لم يعمل مصري في هذا التمثال.»
قلت: وفيم هذا التبرؤ يا مولاي، ولو أنه من صنع المصريين لكان بالملك أليق، ولكانوا به أحق؟
قال: إن رجلا يرفع أكبر دولة في الأرض، ويقهر أربعين أمة، ويضع حدود مملكته أنى شاء، لا يؤخذ بكبيرة، فكيف ينتقد في صغيرة!
قلت: لأنك في دفاعك هذا عن الملك أشعر منك في مدحه!
قال: إنما أديت بعض حقه.
وهنا غلب النعاس على النسر، فجعل موعد الهدهد ميدان الملك في أصيل الغد.
المحادثة الثالثة
صفحة غير معروفة