قال: إني واهبها للملك، ولا يوهب له إلا ما يليق به.
قال: إن الملك في غنوة عن مثلها، ولو كان ممن يطمحون إلى ما تملك أيدي الرعايا، أو يفرحون بما يزلف لهم من ثمين الهدايا، لما ساد الأمم، ولا اعتز ولا احتكم؛ إنه ليجيء إليه من أقاصي البلاد، ويدخل في خزائه من كرائم المال، ما لو جعل بعضه فوق بعض لطاول الجبال، وإنه لأحرى بك أيها السيد، أن تهدم هذا الصرح من أساسه، ثم تجود على كل فقير في وادي النيل يتضور جوعا بطوبة من أنقاضه، يشد بها على لحم بطنه لتخفف عنه من ألم الجوع.
ثم ودعه وسار، فما زلنا نذهب في المذاهب والنسر دليلنا، حتى انتهينا إلى دار حقيرة البنيان، عندها صبيان يلعبان، فقصد الأستاذ قصدهما، ودعاهما إليه، وقبلهما فوق جبينهما، ثم قال يخاطبهما وعيناه تفيضان من الدمع: كان أبوكما رجل صدق، وكان وفيا، فلتجزينه السماء فيكما، ولتباركن فيكما لأمكما. ثم التفت إلى صاحبيه وقال: ألا أنبئكما من مالك هذا البيت الزري؟
قالا: بلى.
قال: ذاك الذي يبني قصرا ليهديه إلى الملك، وهو لا يسامح تلك الأرملة ولا هذين اليتيمين في أجرة شهر واحد، فما أظلمه وما أظلم الملك يوم يقبل هديته، وما أظلم الحياة وما أظلم الناس!
ثم ودعهما الأستاذ وانطلق يمشي ونحن نتبعه، حتى دخل في طريق ضيقة، فاندفع فيها حتى أتى عليها، وكان في آخرها منزل، فوقف به ثم دق الباب، فخرج إليه رجل وقور، يدل تجعيد وجهه على تقدم ميلاده، فحياه النسر، فرد التحية، فسأله: ما صنع الملك باليتيمين وأمهما؟
قال: رأف بهم وأمر أن يجرى لهم رزق من الخزانة السلطانية.
قال: خيرا فعل، والخير سجية فيه؛ فعد إلى أهلك فقد اطمأن قلبي.
ثم تركه واستمر في مسيره، والفتيان يماشيانه، وقد سأله أحدهما: من الرجل يا مولاي؟
قال: للملك جواسيس يتخذهم، لا على رعيته، ولا على صحابته، لكن على المتعففين من الفقراء، وعلى الأرامل والأيتام، يدلونه عليهم لينظر في أمرهم، وهذا الرجل من أدلاء الملك على الخير، ولا أجر له على ذلك غير رضى نفسه، وطلب الهدوء لها في رمسه.
صفحة غير معروفة