قوله: "والفقه" نقل للمضاف تعريفين مقبولا ومزيفا وللمضاف إليه تعريفين صرح بتزييف أحدهما دون الآخر، ثم ذكر من عنده تعريفا ثالثا فالأول: معرفة النفس ما لها وما عليها يجوز أن يريد بالنفس العبد نفسه؛ لأن أكثر الأحكام متعلقة بأعمال البدن وأن يريد النفس الإنسانية، إذ بها الأفعال ومعها الخطاب، وإنما البدن آلة وفسر المعرفة بإدراك الجزئيات عن دليل والقيد الأخير مما لا دلالة عليه أصلا لا لغة ولا اصطلاحا وذهب في قوله ما لها وما عليها إلى ما يقال إن اللام للانتفاع وعلى للتضرر وقيدهما بالأخروي احترازا عما تنتفيه النفس أو تتضرر في الدنيا من اللذات والآلام والمشعر بهذا التقيد شهرة أن الفقه من العلوم الدينية فذكر على هذا التقدير ثلاثة معان، ثم ذكر معنيين آخرين فصارت المعاني المحتملة خمسة: ثلاثة منها تشمل جميع أقسام ما يأتي به المكلف واثنان لا تشملها كلها والأقسام اثنا عشر؛ لأن ما يأتي به المكلف إن تساوى فعله وتركه فمباح وإلا، فإن كان فعله أولى فمع المنع عن الترك واجب وبدونه مندوب، وإن كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام وبدليل ظني مكروه كراهة التحريم وبدون المنع عن الفعل مكروه كراهة التنزيه هذا على رأي محمد رحمه الله، وهو المناسب هاهنا؛ لأن المصنف جعل المكروه تنزيها مما يجوز فعله والمكروه تحريما مما لا يجوز فعله، بل يجب تركه كالحرام، وهذا لا يصح على رأيهما، وهو أن ما يكون تركه أولى من فعله فهو مع المنع عن الفعل حرام وبدونه مكروه كراهة التنزيه إن كان إلى الحل أقرب بمعنى أنه لا يعاقب فاعله لكن يثاب تاركه أدنى ثواب وكراهة التحريم إن كان إلى الحرام أقرب بمعنى أن فاعله مستحق محذورا دون العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة، ثم المراد بالواجب ما يشمل الفرض أيضا؛ لأن استعماله بهذا المعنى شائع عندهم كقولهم الزكاة واجبة والحج واجب بخلاف إطلاق الحرام على المكروه تحريما. والمراد بالمندوب ما يشمل السنة والنقل فصارت الأقسام ستة ولكل منها طرفا فعل أي إيقاع على ما هو المعنى المصدري وترك أي عدم فعل فتصير اثني عشر والمراد بما يأتي به المكلف الفعل بمعنى الحاصل من المصدر كالهيئة التي تسمى صلاة والحالة التي تسمى صوما ونحو ذلك مما هو أثر صادر عن المكلف وطرف فعله إيقاعا وطرف تركه عدم إيقاعه والأمور المذكورة من الواجب والحرام وغيرهما، وإن كانت في الحقيقة من صفات فعل المكلف خاصة إلا أنها قد تطلق على عدم الفعل أيضا فيقال عدم مباشرة الواجب حرام وعدم مباشرة الحرام واجب، وهو المراد هاهنا، وإنما فسر الترك بعدم الفعل ليصير قسما آخر، إذ لو أريد به كف النفس لكان ترك الحرام مثلا فعل الواجب بعينه، فإن قلت: أي حاجة إلى اعتبار الفعل والترك وجعل الأقسام اثني عشر وهلا اقتصر على الستة بأن يراد بالواجب مثلا أهم من الفعل والترك قلت؛ لأنه إذا قال الواجب يدخل فيما يثاب عليه لم يصح ذلك في الواجب بمعنى عدم فعل الحرام فلا بد من التفصيل المذكور، ثم لا يخفى أن المراد أن عدم الإتيان بالواجب يستحق العقاب إلا أنه قد لا يعاقب لعفو من الله تعالى أو سهو من العبد أو نحو ذلك وباقي كلامه واضح إلا أن فيه مباحث.
الأول: أنه جعل ترك الحرام مما لا يثاب عليه ولا يعاقب واعترض عليه بأنه واجب والواجب يثاب عليه، وفي التنزيل: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات:40-41] وجوابه أن المثاب عليه فعل الواجب لا عدم مباشرة الحرام وإلا لكان لكل أحد في كل لحظة مثوبات كثيرة بحسب كل حرام لا يصدر عنه ونهي النفس كفها عن الحرام، وهو من قبيل فعل الواجب ولا نزاع في أن ترك الحرام بمعنى كف النفس عنه عند تهيؤ الأسباب وميلان النفس إليه مما يثاب عليه. والثاني أن المراد بالجواز في الوجه الرابع عدم منع الفعل والترك على ما يناسب الإمكان الخاص ليقابل الوجوب، وفي الخامس عدم منع الفعل على ما يناسب الإمكان العام ليقابل الحرمة، فإن قلت: إن أريد بالجواز عدم منع الفعل والترك لم يصح قوله ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها؛ لأن ما سوى الحرام والمكروه تحريما يشمل الواجب مع أنه لا يجوز بهذا المعنى وكذا ترك ما سوى الواجب يشمل ترك الحرام والمكروه تحريما مع أنه لا يجوز قلت: هذا مخصوص بقرينة التصريح بدخوله فيما يجب عليها. والثالث أن ما يحرم عليها في الوجه الخامس بمعنى المنع عن الفعل يشمل الحرام والمكروه تحريما والرابع أن ليس المراد بمعرفة ما لها وما عليها تصورهما ولا التصديق بثبوتهما لظهور أن ليس الفقه عبارة عن تصور الصلاة وغيرها ولا عن التصديق بوجودها في نفس الأمر، بل المراد معرفة أحكامها من الوجوب وغيره كالتصديق بأن هذا واجب وذاك حرام وإليه أشار بقوله كوجوب الإيمان فأحكام الوجدانيات من الوجوب ونحوه تدرك بالدليل وثبوتها في نفس الأمر بالوجدان كما في العمليات بعرف وجوب الصلاة بالدليل ووجودها بالحس، ثم لا يخفى أن اعتراضه على التعريف الثاني بأنه لا يجوز أن يراد بالأحكام كلها ولا بعضها المعين ولا المبهم وارد هاهنا فيما لها وما عليها مع أن إطلاق اللفظ المحتمل للمعاني المتعددة مع عدم تعين المراد غير مستحسن في التعريفات.
قوله: "وقيل العلم" عرف أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى الفقه بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية", وبيان ذلك أن متعلق العلم إما حكم أو غيره والحكم إما مأخوذ من الشرع أو لا والمأخوذ من الشرع إما أن يتعلق بكيفية العمل أو لا والعمل إما أن يكون العلم به حاصلا من دليله التفصيلي الذي نيط به الحكم أو لا فالعلم المتعلق بجميع الأحكام الشرعية العملية الحاصل من أدلتها التفصيلية هو الفقه وخرج العلم بغير الأحكام من الذوات والصفات والعلم بالأحكام الغير المأخوذة من الشرع كالأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم
صفحة ٢١