(اعلم) أن لأصول الفقه اعتبارين أحدهما علمي، والآخر إضافي وله بكل اعتبار تعريف، فأما تعريفه بالاعتبار الإضافي فسيأتي، وأما تعريفه بالاعتبار العلمي فهو ما ذكره المصنف بقوله: (حد أصول الفقه إلخ) وحاصله أن أصول الفقه في الاصطلاح: علم يقتدر به على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، فالمراد (بالعلم) هاهنا القواعد وهي أدلة الفقه الإجمالية كقولنا الخاص يفيد القطع في مدلوله، والعام يفيد الظن في مدلوله، والأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهكذا فخرج بذلك الأدلة التفصيلية نحو: أقيموا الصلاة، ولا تقروا الزنا، فإن هذه الأدلة أعني التفصيلية لا تسمى في الاصطلاح أصول الفقه، وإطلاق العلم على القواعد مجاز مشهور لا بأس بذكره في التعريف بل صرح بعضهم بأنه حقيقة شك البدر في كونه مجازا مشهورا، أو حقيقة عرفية، وعلى كل حال فلا بأس في أخذه في التعريف، ولما كان العلم بمعنى القواعد شاملا لكثير من الفنون احتيج إلى أن يميز العلم المطلوب بفصل لا يشاركه فيه غيره فقال: (يقتدر به على استنباط أحكام السور) إلخ، وهو معنى قولهم علم يقتدر به على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها فخرجت العلوم التي لا يقتدر بها على ذلك والمراد (بالأحكام الشرعية) هي الأحكام التكليفية، كالوجوب والندب والتحريم والكراهية والإباحة، وثمراتها كالصحة والفساد، والأحكام الوضعية كالرنية والعلية والشرطية، (والمراد) بأدلتها هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، فأما الكتاب والسنة والإجماع فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنها تفيد الأحكام الشرعية إما قطعا وإما ظنا، إلا من شد من بعض مخالفينا في إنكار الإجماع أو إنكار حجيته على سيأتي بيانه في محله، وأما القياس والاستدلال فقد اختلف في ثبوت الحكم الشرعي بهما، اعلم أن الناس اختلفوا في ثبوت التعبد بالقياس على مذاهب الأصح منها ما عليه الجمهور من العلماء أن القياس الصحيح مثبت للحكم الشرعي فيما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة، فالقياس على هذا أحد أدلة الشرع، والدليل على أنه أحد أدلة الشرع وأنه مثبت للحكم الشرعي ما ورد من النص عنه صلى الله عليه وسلم في الإشارة إلى قياس شيء مجهول الحكم على معلوم الحكم، وذلك كما في حديث الخثعمية وقد سألته صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أبيها فقال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ذلك مجزيا عنه فقد أشار صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى قياس دين الله تعالى على دين العباد، وذلك لما كان دين العباد عند المخاطب معلوم الحكم في هذه القضية، ودين الله غير معلوم الحكم في هذه القضية عند المخاطب، فأشار إليها بأن حكم الدينين واحد لاشتراكها في علة الحكم والله أعلم، ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن قبلة الصائم هل تفسد الصوم، أرأيت لو تمضمضت بالماء ثم مججته أكان ذلك مفسدا للصوم، فقد أشار صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى قياس قبلة الصائم لزوجته على تمضمضه بالماء، ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر، أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا، في هذا الحديث الإشارة إلى أن العلة المانعة من بيع الرطب بالتمر إنما هي نقصان الرطب إذا جف فتحصل الزيادة في التمر، فيحمل على الرطب كلما كان مثله قياسا أخذا من إشارة الحديث إلى ذلك، والظاهر من هذا الحديث أن الزيادة في أحد الجنسين المبيعين مطلقا من الربا وهو مذهب قومنا، أما أصحابنا فلا يرون ذلك من الربا، إذا كان ذلك يدا بيد، ولعلهم يقيدون إطلاق هذا الحديث بإشارة قوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم إلى قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ففي هذه الآية الإشارة إلى أن الربا في النسيئة وبيان ذلك أنه لو لم يكن الربا في النسيئة لما احتيج إلى بيان حكم المفسر ببيع الربا وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الربا في النسيئة) والمسألة اجتهادية أشار إلى ذلك صاحب الإيضاح رحمه الله تعالى، وإن شدد فيها الإمام الكدمي رضوان الله عليه حتى عدها من أصولهم الفاسدة والله أعلم، فهذه الأحاديث كلها دالة على ثبوت الحكم بالقياس فيكون القياس بها دليلا شرعيا على أن الإجماع من الصحابة ورد في ثبوت القياس، وذلك أن الصحابة ما بين قائس وساكت، والساكت لا يسكت في مثل هذا الموضع إلا عن رضى، لأن القياس إذا لم يكن ثابتا بالشرع فإحداثه بدعة بها زيادة حكم شرعي والسكوت عن تغيير مثلها من غير تقية حرام قطعا، وما هنالك تقية فقطعنا أن السكوت عن الإنكار رضى فثبت المدعي والله أعلم، ولما فرغ من بيان حد أصول الفقه بالاعتبار العلمي شرع في بيان تعريفه بالمعنى الإضافي فقال:
فالأصل ما عليه غيره ابتنى ... وأصل وضعه لحسي البنا.
ونقلوه للدليل الواضح ... واستعملوه في المقال الراجح.
والفقه وضعا فهم ما به خفا ... واستعملوه علما وعرفا.
فقيل علم النفس ما لها وما ... يلزمها فعلا وتركا فاعلما.
فالعلم بالأخلاق والتوحيد ... قد خرجا عنه بذا التقييد.
صفحة ٢١