شرح المقاصد في علم الكلام
الناشر
دار المعارف النعمانية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
1401هـ - 1981م
مكان النشر
باكستان
تصانيف
الثالث وعليه التعويل ما قال إمام الحرمين أن الإيمان ثابت في الحال قطعا من غير شك فيه لكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز ومعنى الموافاة الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة ولا خفاء في أن الإيمان المنجي والكفر المهلك ما يكون في تلك الحال وإن كان مسبوقا بالضد لا ما ثبت أولا وتغير إلى الضد فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة يبنون القول بأن العبرة بإيمان الموافاة وسعادتها بمعنى أن ذلك هو المنجي لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر وكذا السعادة والشقاوة والولاية والعداوة وعلى هذا يسقط عنهم ما يقال أنه إذا اتصف بالإيمان على الحقيقة كان مؤمنا حقا ولا يصح أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى كما لا يصح أن يقول أنا حي إن شاء الله تعالى وإذا كان مؤمنا حقا كان مؤمنا عند الله تعالى وفي علم الله وإن كان الله تعالى يعلم أنه يتغير عن تلك الحال وإذا كان مؤمنا في الحال كان وليا لله سعيدا وإن كان كافرا كان عدوا له شقيا وكما يصير المؤمن كافرا يصير الولي عدوا والسعيد شقيا وبالعكس وما يحكى عنهم من أن السعيد لا يشقى والشقي لا يسعد وأن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه فمعناه أن من علم الله منه السعادة المعتبرة التي هي سعادة الموافاة فهو لا يتغير إلى شقاوة الموافاة وبالعكس وكذا في الولاية والعداوة وأن السعيد الذي يعتد بسعادته من علم الله أنه يختم له بالسعادة وكذا الشقاوة وبالجملة لا يشك المؤمن في ثبوت الإيمان وتحققه في الحال ولا في الجزم بالثبات والبقاء عليه في المآل لكن يخاف سوء الخاتمة ويرجو حسن العاقبة فيربط إيمان الموافاة الذي هو آية الفوز والنجاة ووسيلة نيل الدرجات بمشيئة الله جريا على مقتضى قوله تعالى
﴿ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله﴾
جعل الله حياتنا إليه ومماتنا عليه وختم لنا بالحسنى ويسرنا للفوز بالذخر الأسنى بالنبي وآله قال المبحث الخامس ذهب كثير من العلماء وجميع الفقهاء إلى صحة إيمان المقلد وترتب الأحكام عليه في الدنيا والآخرة ومنعه الشيخ أبو الحسن والمعتزلة وكثير من المتكلمين حجة لقائلين بالصحة أن حقيقة الإيمان هو التصديق وقد وجدت من غير اقتران بموجب من موجبات الكفر فإن قيل لا يتصور التصديق بدون العلم لأنه إما ذاتي للتصديق أو شرط له على ما سبق ولا علم للمقلد لأنه اعتقاد جازم مطابق يستند إلى سبب من ضرورة أو استدلال قلنا المعتبر في التصديق هو اليقين أعني الإعتقاد الجازم المطابق بل ربما يكتفى بالمطابقة ويجعل الظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال في حكم اليقين وقد يقال أن التصديق قد يكون بدون العلم والمعرفة وبالعكس فإنا نؤمن بالأنبياء والملائكة ولا نعرفهم بأعيانهم ونؤمن بجميع أحوال القيمة من الحساب والميزان والصراط وغير ذلك ولا نعرف كيفياتها وأوصافها وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي عليه السلام كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين وفيه نظر لأن المراد العلم بما حصل التصديق به ونحن نعلم من الأنبياء والملائكة ما نصدق به فامتناع التصديق بدون العلم بمعنى الإعتقاد قطعي وإنما الكلام في العكس فإن قيل نحن لا ننفي كونه إيمانا وتصديقا لكنا ندعي أنه لا ينفع بمنزلة إيمان اليأس فإن عدم نفعه على ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي معلل بأن العبد لا يقدر حينئذ أن يستدل بالشاهد على الغائب ليكون مقاله عن معرفة وعلم استدلالي فإن الثواب على الإيمان إنما هو بمقابلة ما يتحمله من المشقة وهي في آداب الفكر وإدمان النظر في معجزات الأنبياء أو في محدثات العالم والتمييز بين الحجة والشبهة لا في تحصيل أصل الإيمان قلنا النص إنما قام على عدم نفع إيمان اليأس ومعاينة العذاب دون إيمان المقلد والإجماع أيضا إنما انعقد عليه والتمسك بالقياس لو سلم صحته في الأصول فلا نسلم أن لعلة ما ذكرتم بل ذهب الماتريدي وكثير من المحققين إلى أن إيمان اليأس إنما لم ينفع لأنه إيمان دفع عذاب لا إيمان حقيقة ولأنه لا يبقى للعبد حينئذ قدرة على التصرف في نفسه والاستمتاع بها لأن عذاب الدنيا مقدمة لعذاب الآخرة إذ ربما يموت العبد فيه فينتقل إلى عذاب الآخرة بخلاف إيمان المقلد فإنه تقرب إلى الله تعالى وابتغاء لمرضاته من غير إلجاء ولا قصد دفع العذاب ولا انتفاء قدرة على التصرف في النفس قال وأما المانعون يعني القائلين بأن إيمان المقلد ليس بصحيح أو ليس بنافع فمنهم من قال لا يشترط ابتناء الإعتقاد على استدلال عقلي في كل مسئلة بل يكفي ابتناؤه على قول من عرف رسالته بالمعجزة مشاهدة أو تواترا أو على الإجماع فيقبل قول النبي صلى الله عليه وسلم بحدوث العالم وثبوت الصانع ووحدانيته ومنهم من قال لا بد من ابتناء الإعتقاد في كل مسئلة من الأصول على دليل عقلي لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه وعلى مجادلة الخصوم ودفع الشبهة وهذا هو المشهور عن الشيخ أبي الحسن الأشعري حتى حكي عنه أنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا لكن ذكر عبدالقاهر البغدادي إن هذا وإن لم يكن عند الأشعري مؤمنا على الإطلاق فليس بكافر لوجود التصديق لكنه عاص بتركه النظر والاستدلال فيعفو الله عنه أو يعذبه بقدر ذنبه وعاقبته الجنة وهذا يشعر بأن مراد الأشعري أنه لا يكون مؤمنا على الكمال كما في ترك الأعمال وإلا فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين ولا بدخول غير المؤمن الجنة وعند هذا يظهر أنه لا خلاف معه على التحقيق ومنهم من قال لا بد مع ابتناء الإعتقاد على الدليل من الاقتدار على مجادلة الخصوم وحل ما يورد عليه من الإشكال وإليه ذهبت المعتزلة ولم يحكموا بإيمان من عجز عن شيء من ذلك بل حكم أبو هاشم بكفره فإن بنوا ذلك على أن ترك النظر كبيرة تخرج من الإيمان إذا طرأت وتمنع من الدخول فيه إذا قارنت فهي مسئلة صاحب الكبيرة وقد سبقت وإن أرادوا أن مثل هذا التصديق لا يكفي في الإيمان أو لا ينفع فمسئلة أخرى وبهذا يشعر تمسكاتهم وهي وجوه
صفحة ٢٦٥