شرح المقاصد في علم الكلام
الناشر
دار المعارف النعمانية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
1401هـ - 1981م
مكان النشر
باكستان
تصانيف
شرح المقاصد في علم الكلام | 1 |
صفحة ١
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٢
نحمدك يا من بيده ملكوت كل شيء وبه اعتضاده ومن عنده ابتداء كل حي وإليه معاده تتلى من أوراق الأطباق آيات توحيده وتحميده وتجلى في الآفاق والأنفس شواهد تقديسه وتمجيده ما تسقط في الأكوان من ورقة إلا تعلمها حكمته الباهرة ولا توجد في الأمكان من طبقة إلا تشملها قدرته القاهرة تقدس عن الأمثال والأكفاء ذاته الأحدية وتنزه عن الزوال والفناء صفاته الأزلية والأبدية سجدت لعزة جلاله جباه الأجرام العلوية ونطقت بشكر نواله شفاه الأنوار القدسية ونشكرك على ما علمتنا من قواعد العقائد الدينية وخولتنا من عوارف المعارف اليقينية وهديتنا إليه من طريق النجاة وسبيل الرشاد ودللتنا عليه من سنن الاستقامة ونهج السداد ونصلي على نبيك محمد المنعوت بأكرم الخلائق المبعوث رحمة للخلائق أرسلته حين درست أعلام الهدى وظهرت أعلام الردى وانطمس منهج الحق وعفا وأشرقت مصابيح الصدق على الانطفاء فأعلى من الدين معالمه ومن اليقين مراسمه وبين من البرهان سبيله ومن الإيمان دليله وأقام للحق حجته وأنار للشرع محجته حتى انشرح الصدور بنور البينات وانزاح عن القلوب صدأ الشبهات وأشرق وجه الأيام واتسق أمر الإسلام واعتصم الأنام بأوثق عصام ماله من انفصام وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وخلفاء اليقين مصابيح الأمم ومفاتيح الكرم وكنوز العلم ورموز الحكم رؤساء حظائر القدس وعظماه بقاع الأنس قد صعدوا ذرى الحقائق بإقدام الأفكار ونوروا سبع طرائق بأنوار الآثار وقارعوا على الدين فكشفوا عنه القوارع والكروب وسارعوا إلى اليقين فصرفوا عنه العوادي والخطوب فابتسم ثغر الإسلام وانتظم أمر المسلمين واتضح وعدا من الله وحقا عليه نصر المؤمنين وبعد فقد كنت في إبان الأمر وعنفوان العمر إذ العيش غض والشباب بمائه وغصن الحداثة على نمائه وبدور الآمال طالعة مسفرة ووجوه الأحوال ضاحكة مستبشرة ورباع الفضل معمورة الأكناف والعرصات ورياض العلم ممطورة الأكمام والزهرات أسرح النظر في العلوم طلبا لأزهارها وأنوارها وأشرح الكتب من الفنون كشفا لأستارها عن أسرارها يرد على حذاق الآفاق غوصا على فرائد فوائدها ويتردد إلى أكياس الناس روما لشوارد عوائدها علما منهم بأنا بذلنا قوانا لاكتساب الدقائق وقتلنا نهانا في طلاب الحقائق وحين رأوا علم الكلام الذي هو أساس الشرائع والأحكام ومقياس قواعد عقائد الإسلام أعز ما يرغب فيه ويعرج عليه وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه لكونه أوثق العلوم بنيانا وأصدقها تبيانا وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا وأصحها حجة ودليلا وأوضحها محجة وسبيلا حاموا جميعا حول طلابه وراموا طريقا إلى جنابه والتمسوا مصباحا على قبابه ومفتاحا إلى فتح بابه فافترصت لمعة من ظلم الدهر ونبوة من أنياب النوائب وانتهزت فرصة من عين الزمان وخفة من زحام الشوائب وأخذت في تصنيف مختصر موسوم بالمقاصد منظوم فيه غرر الفرائد ودرر الفوائد وشرح له يتضمن بسط موجزه وحل ملغزه وتفصيل مجمله وتبيين معضله مع تحقيق للمقاصد وفق ما يرتاد وتدقيق للمعاقد فوق ما يعتاد وتحرير للمسائل بحسب ما يراد ولا يزاد وتقرير للدلائل بحيث لا يضاد ولا يصاد بألفاظ تنفتح بها الآذان وتنشرح الصدور وتتفطر بالأنهار والأزهار جبال وصخور ومعان تتهلل بها وجوه الأوراق وتتبسم ثغور السطور وتتلألأ خلال الكلام كأنها نور على نور باذلا الجهد في إيراد مباحث قلت عناية المتأخرين بها من المتكلمين وقد بالغ في الاعتناء بها المحققون من المتقدمين لا سيما السمعيات التي هي المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في أصول الدين والعروة الوثقى والعمدة القصوى لأهل الحق واليقين وحين حررت بعضا من الكتاب ونبذا من الفصول والأبواب تسارع إليه الطلاب وتداولته أيدي أولي الألباب وأحاط به طلبته كل طالب وناط به رغبته كل راغب وعشا ضوء ناره كل وارد ووجه إليه الهمة كل رائد وطفقوا يمتدحون ويقترحون وزناد الإزدياد يقتدحون وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف والمقصود يتقاعس عن الحصول وينحرف والأيام تحول وتحجز وتعد ولا تنجز والدهر يشكى ويبتكى والعقل يضحك ويبكى العجب من تقاصر همم الرجال وفسادها وتراجع سوق الفضائل وكسادها وتضعضع بنيان الحق وتداعي أركانه وتزعزع شأن الباطل وتمادى طغيانه وتطاول أيام كلها غضب وعتب وعلى الألباب عول والب تجمع بين الجفون والسهاد وتفرق بين العيون والرقاد لا في القول إمكان وللتحصيل تأييد ولا في قوس الرماء منزع ولسهم النضال تسديد وهلم جرا إلى أن رماني زماني وبلاني من الحوادث بما بلاني وحالت الأحوال دون الأمان بل الأماني وأصبح شاني أن يفيض غروب شاني تناء بي الأوطان والأوطار وترامت بي الأقطار والأسفار قاسى أحوالا تشيب النواصي وأهوالا تذيب الرواسي أشاهد من أسباب انقراض العلوم وانتقاض مددها وانتقاض مددها ما تكادالأنفاس له تتقطع والجبال تتصدع وقد ملكتها وحشة المضياع وخبرة المزياع ووقفت على ثنية الوداع لا طلول ولا يفاع ولا رسوم ولا رباع كلما نويت نشر ما طويت وتصديت لإتمامه أو تمنيت عرض من الموانع والقواطع وحدث من النوائب والشوائب ما يحول أيسرها بين المرء وقلبه وتصدأ به مرآة فكره وعقله ويزول باد ولها ريق خاطره وناظره ويذهب رونق باطنه وظاهره إلى أن تداركني نعمة من ربي وتماسك بي عودة من فهمي ولبي فأقبلت على إتمام الكتاب وانتظام تلك الفصول والأبواب فجاء بحمد الله كنزا مدفونا من جواهر الفوائد وبحرا مشحونا بنفايس الفرائد في لطائف طالما كانت مخزونة وعن الإضاعة مصونة مع تنقيح للكلام وتوضيح للمرام بتقريرات ترتاح لها نفوس المحصلين وينزاح منها شبه المبطلين وتضحى أنوارها في قلوب الطالبين وتطلع نيرانها على أفئدة الحاسدين لا يعقل بيناتها إلا العالمون ولا يجحد بآياتها إلا القوم الظالمون يهتز لها علماء البلاد في كل ناد ولا يغض منها إلا كل هايم في واد من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلله فما له من هاد وإذا قرع سمعك ما لم تسمع به من ألأولين فلا تسرع وقف وقفة المتأملين لعلك تطلع بوميض برق إلهي وتألق نور رباني من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة على برهان له جلي أو بيان من آخرين واضح خفي والله سبحانه ولي الإعانة والتوفيق وبتحقيق آمال المؤمنين حقيق قال ورتبته على ستة مقاصد أقول اعلم أن للإنسان قوة نظرية كمالها معرفة الحقائق كما هي وعملية كمالها القيام بالأمور على ما ينبغي تحصيلا لسعادة الدارين وقد تطابقت الملة والفلسفة على الاعتناء بتكميل النفوس البشرية في القوتين وتسهيل طريق الوصول إلى الغايتين إلا أن نظر العقل يتبع في الملة هداه وفي الفلسفة هواه وكما دونت حكماء الفلسفة الحكمة النظرية والعملية إعانة للعامة على تحصيل الكمالات المتعلقة بالقوتين دونت عظماء الملة وعلماء الأمة علم الكلام وعلم الشرايع والأحكام فوقع الكلام للملة بإزاء الحكمة النظرية للفلسفة وهي عندهم تنقسم إلى العلم المتعلق بأمور تستغني عن المادة في الوجود والتصور جميعا وهو الإلهي أو في التصور فقط وهو الرياضي أولا تستغني أصلا وهو الطبيعي ولكل منها أقسام وفروع كثيرة إلا أن المقدم في الاعتبار بشهادة العقل والنقل هو معرفة المبدأ والمعاد المشار إليهما بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وطريق الوصول إليها هوالنظر في الممكنات من الجواهر والأعراض على ما يرشد إليه مواضع من كتاب الله تعالى وما أحسن ما أشار أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إلى أن المعتبر من كمال القوة العملية ما به نظام المعاش ونجاة المعاد ومن النظرية العلم بالمبدأ والمعاد وبما بينهما من جهة النظر والاعتبار حيث قال رحم الله أمرأ أخذ لنفسه واستعد لرمسه وعلم من اين وفى اين وإلى أين فاقتصر المليون على ما يتعلق بمعرفة الصانع وصفانه وأفعاله وما يتفرع على ذلك من النبوة والمعاد وسائر مالا سبيل للعقل باستقلاله وما يترتب عليه إثبات ذلك من الأحوال المختصة بالجواهر والأعراض أو الشاملة لأكثر الموجودات فجاءت أبواب الكلام خمسة هي الأمور العامة والأعراض والجواهر والإلهيات والسمعيات وقد جرت العادة بتصديرها بمباحث تجري مجرى السوابق لها تسمى بالمباديء فرتبنا الكتاب على ستة مقاصد ووجه الضبط أن المذكور فيه أن كان من مقاصد الكلام فإما سمعيات هو المقصد السادس أو عقليات مختص بالواجب وهو الخامس أو بالممكن الجوهر وهو الرابع أو العرض وهو الثالث أولا مختص بواحد وهو الثاني وإن لم يكن من مقاصد الفن فهو المقصد الأول من الكتاب ووجه الترتيب توقف اللاحق على السابق في بعض البينات وقد يقتضى الضبط والمناسبة إيراد شيء من مباحث تأتي في الآخر كمسئلة الرؤية في الإلهيات وإعادة المعدوم في السمعيات قال المقصد الأول أقول رتبه على ثلاثة فصول لأن المبادي منها ما رأوا تصدير كل علم بها كمعرفة حده وموضوعه وغايته ونحو ذلك فسماها بالمقدمات وجعلها في فصل ومنها ما صدروا بها علم الكلام خاصة كمباحث العلم والنظر لأن تحصيل العقائد بطريق النظر والاستدلال والرد على منكري حصول العلم أصلا واستفادته من النظر مطلقا أو في الإلهيات خاصة يتوقف على ذلك وليس في العلوم الإسلامية ما هو أليق ببيانه فجعلها في فصلين قال الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أقول حصول الكيفيات النفسانية في النفس قد يكون بأعيانها وهو اتصاف بها وقد يكون بصورها وهو تصور لها كالكريم يتصف بالكرم وإن لم يتصوره وغير الكريم يتصوره وإن لم يتصف به ولا خفاء في أن حقيقة كل علم من الكلام وغيره تصورات وتصديقات كثيرة يطلب حصولها بأعيانها بطريق النظر والاستدلال فاحتيج إلى ما يفيد تصورها بصورة إجمالية تساويها صونا للطلب والنظر عن إخلال بما هو منها واشتغال بما ليس منها وذلك هو المعنى بتعريف العلم فكان من مقدماته وإنما كثر تركه سيما في العلوم الشرعية والأدبية لما شاع من تدوين العلوم بمسائلها ودلائلها وتفسير ما يتعلق بها من التصورات ثم تحصيلها كذلك بطريق التعلم من المعلم أو التفهم من الكتاب إذا تقرر هذا فنقول الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ومشاهدة الآثار مع قلة الوقائع والاختلافات وسهولة المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا وتكثير المسائل فروعا وأصولا إلى أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرت الفتاوى والواقعات ومست الحاجة فيها إلى زيادة نظر والتفات فأخذ أرباب النظر والاستدلال في استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام وأقبلوا على تمهيد أصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينها وتدوين المسائل بأدلتها والشبه بأجوبتها وسموا العلم بها فقها وخصوا الاعتقاديات باسم الفقة الأكبر والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها وبعلم الكلام لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم الكلام في كذا وكذا ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسئلة كلام الله تعالى أنه قديم أو حادث ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم مالم يكثر في غيره ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات فظهر أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم سواء توقف على الشرع أم لا وسواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالفين وصار قولنا هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة أن الفقه معرفة النفس مالها وما عليها وأن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية وعلم الله تعالى وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالاعتقاديات وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن وسمي في ذلك الزمان بهذا الاسم كما أن علمهم بالعمليات فقه وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية أو كان ملكة يتعلق بها بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد على ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة وإلى المعنى الأخير يشير قول المواقف أنه علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ومعنى إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي من التقليد إلى التحقيق أو إثباتها على الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين أو اتقانها وإحكامها بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين وعدل عن يقتدر به إلى يقتدر معه مبالغة في نفي الأسباب واستناد الكل إلى خلق الله تعالى ابتداء على ما هو المذهب وأورد على طرد تعريفه جميع العلوم الحاصلة عند الاقتدار من النحو والمنطق وغيرهما وعلى عكسه علم الكلام بعد إثبات العقائد لانتفاء الاقتدار حينئذ والجواب أن المراد هو علم يحصل معه الاقتدار البتة بطريق جري العادة أي يلزمه حصول الاقتدار لزوما عاديا وإن لم يبق الاقتدار دائما ولا خفاء في أن الكلام كذلك بخلاف سائر العلوم وأما مجموع العلوم التي من جملتها الكلام فهو وإن كان كذلك فليس بعلم واحد بل علوم جمة وقد يجاب بأن المراد ماله مدخل في الاقتدار أو ما يلزم معه الاقتدار ولو على بعض التقادير والكلام بعد الإثبات بهذه الحيثية بخلاف سائر العلوم ويعترض بأن للمنطق مدخلا في الاقتدار وإن لم يستقل به والاقتدار لازم مع كل علم على تقدير مقارنته للكلام نعم لو أريد ما يلزم معه الاقتدار في الجملة بحيث يكون له مدخل في ذلك خرج غير المنطق وفيما ذكرنا غنية عن هذا مع أن في إثبات المدخل إشعارا بالسببية ولو قال يقتدر به وأراد الاستعقاب العادي كما في إثبات العقائد بإيراد الحجج على ما هو المذهب في حصول النتيجة عقيب النظر لم يحتج إلى شيء من ذلك قال وموضوعه المعلوم أقول اتفقت كلمة القوم على أن تمايز العلوم في أنفسها إنما هو بحسب تمايز الموضوعات فيناسب تصدير العلم ببيان الموضوع إفادة لما به يتميز بحسب الذات بعدما أفاد التعريف التمييز بحسب المفهوم وأيضا في معرفة جهة الوحدة للكثرة المطلوبة إحاطة بها إجمالا بحيث إذا قصد تحصيل تفاصيلها لم ينصرف الطلب عما هو منها إلى ما ليس منها ولا شك أن جهة وحدة مسائل العلم أولا وبالذات هو الموضوع إذ فيه اشتراكها وبه اتحادها على ما سنفصله وتحقيق المقام أنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأشياء بقدر الطاقة البشرية على ما هو المراد بالحكمة وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وغيرها كالإنسان والحيوان والموجود وبحثوا عن أحوالها المختصة وأثبتوها لها بالأدلة فحصلت لهم قضايا كسبية محمولاتها أغراض ذاتية لتلك الحقائق سموها بالمسائل وجعلوا كل طائفة منها يرجع إلى واحد من تلك الأشياء بأن تكون موضوعاتها نفسه أو جزأ له أو نوعا منه أو عرضا ذاتيا له علما خاصا يفرد بالتدوين والتسمية والتعليم نظرا إلى ما لتلك الطائفة على كثرتها واختلاف محمولاتها من الاتحاد من جهة الموضوع أي الاشتراك فيه على الوجه المذكور ثم قد يتحد من جهات أخر كالمنفعة والغاية ونحوهما ويؤخذ لها من بعض تلك الجهات ما يفيد تصورها إجمالا ومن حيث أن لها وحدة فيكون حدا للعلم إن دل على حقيقة مسماه أعني ذلك المركب الاعتباري كما يقال هو علم يبحث فيه عن كذا أو علم بقواعد كذا وإلا فرسما كما يقال هو علم يقتدر به على كذا أو يحترز عن كذا أو يكون آلة لكذا فظهر أن الموضوع هو جهة وحدة مسائل العلم الواحد نظرا إلى ذاتها وإن عرضت لها جهات أخر كالتعريف والغاية فإنه لا معنى لكون هذا علما وذاك علما آخر سوى أنه يبحث هذا عن أحوال شيء وذلك عن أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار فلا يكون تمايز العلوم في أنفسها وبالنظر إلى ذواتها إلا بحسب الموضوع وإن كانت تتمايز عند الطالب بما لها من التعريفات والغايات ونحوهما ولهذا جعلوا تباين العلوم وتناسبها وتداخلها أيضا بحسب الموضوع بمعنى أن موضوع أحد العلمين إن كان مباينا لموضوع الآخر من كل وجه فالعلمان متباينان على الإطلاق وإن كان أعم منه فالعلمان متداخلان وإن كان موضوعهما شيئا واحدا بالذات متغايرا بالاعتبار أو شيئين متشاركين في جنس أو غيره فالعلمان متناسبان على تفاصيل ذكرت في موضعها وبالجملة فقد أطبقوا على امتناع أن يكون شيء واحد موضوعا لعلمين من غير اعتبار تغاير بأن يؤخذ في أحدهما مطلقا وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر وامتناع أن يكون موضوع علم واحد شيئين من غير اعتبار اتحادهما في جنس أو غاية أو غيرهما إذ لا معنى لاتحاد العلم واختلافه بدون ذلك لا يقال العلم مختلف باختلاف المعلوم أعني المسائل وهي كما تختلف باختلاف الموضوع فكذا تختلف باختلاف المحمول فلم لم يجعل هذا وجه التمايز بأن يكون البحث عن بعض من الأعراض الذاتية علما ومن بعض آخر علما آخر مع اتحاد الموضوع على أن هذا أقرب بناء على كون الموضوع بمنزلة المادة وهي مأخذ للجنس والأعراض الذاتية بمنزلة الصورة وهي مأخذ للفصل الذي به كمال التميز لأنا نقول حينئذ لا ينضبط أمر الاتحاد والاختلاف ويكون كل علم علوما جمة ضرورة اشتماله على أنواع جمة من الأعراض الذاتية مثلا يكون الحساب علوما متعددة بتعدد محمولات المسائل من الزوج والفرد وزوج الزوج وزوج الفرد إلى غير ذلك وكذا سائر العلوم والغلط إنما نشأ من عدم التفرقة بين العلم بمعنى الصناعة أعني جميع المباحث المتعلقة لموضوع ما وبين العلم بمعنى حصول الصورة ولو أريد هذا لكان كل مسئلة علما على حدة وأيضا مبنى الاتحاد والاختلاف وما يتبعه من التباين والتناسب والتداخل يجب أن يكون أمرا معينا بينا أو مبينا وذلك هو الموضوع إذ لا ضبط للأعراض الذاتية ولا حصر بل لكل أحد أن يثبت ما استطاع وإنما يتبين بتحققها في العلم نفسه ولهذا كانت حدودها في صدر العلم حدودا اسمية ربما تصير بعد إثباتها حدودا حقيقية بخلاف حدود الموضوع وأجزائه فإنها حقيقية وأما حديث المادة والصورة فكاذب لأن كلا من الموضوع والمحمول جزء مادي من القضية وإنما الصوري هو الحكم على أن الكلام ليس في المسئلة بل في المركب الاعتباري الذي هو العلم ولإخفاء في أن المسائل مادة له ومرجع الصورة إلى جهة الاتحاد إذ بها تصير المسائل تلك الصناعة المخصوصة فإن قلت اشتراط تشارك موضوعات العلم الواحد في جنس أو غيره لا يدفع اختلال أمر اتحاد العلم واختلافه إذ قلما يخلو موضوعا العلمين عن تشارك في ذاتي أو عرضي أقله الوجود بل مثل الحساب والهندسة الباحثين عن العدد والمقدار الداخلين تحت جنس هو الكم لا يجعل علما واحدا بل علمين متساويين في الرتبة بخلاف علم النحو الباحث عن أنواع الكلمة قلت إذا كان البحث عن الأشياء من جهة اشتراكها في ذلك الأمر ومصداقه أن يقع البحث عن كل ما يشاركها في ذلك فالعلم واحد وإلا فمتعدد ألا ترى أن الحساب والهندسة لا ينظران في الزمان الذي هو من أنواع الكم وإلى هذا يشير كلام الشفاء أن كلا من الحساب والهندسة إنما يجعل علما على حدة لكونه ناظرا فيما يعرض لموضوعه من حيث هو وهو العدد للحساب والمقدار للهندسة ولو كانا ينظران فيهما من جهة ما هو كم لكان موضوع كل منهما الكم أو كان العلمان علما واحدا ولو نظر كل منهما في موضوعه من حيث هو موجود لما تميزا عن الفلسفة الأولى فإن قلت كما صرحوا بكون الموضوع من المقدمات فقد صرحوا بكونه جزأ من العلم على حدة وبكونه من مباديه التصورية فما وجه ذلك قلت أرادوا أن التصديق بهلية ذات الموضوع كالعدد في الحساب جزء منه بدليل تعليلهم ذلك بأن ما لا يعلم ثبوته كيف يطلب ثبوت شيء له وتصوره من المبادي التصورية والتصديق بموضوعيته من المقدمات وأما تصور مفهوم الموضوع أعني ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية ففي صناعة البرهان من المنطق فهذه أمور أربعة ربما يقع فيه الاشتباه وإنما لم يجعلوا التصديق بهلية الموضوع من المبادي التصديقية كما جعلوا تصوره من المبادي التصورية لأنهم أرادوا بها المقدمات التي منها تتألف قياسات العلم وإنما لم يجعل التصديق بالموضوعية من الأجزاء المادية لأنه إنما يتحقق بعد كمال العلم فهو بثمراته أشبه منه بأجزائه مثلا إذا قلنا العدد موضوع الحساب لأنه إنما ينظر في أعراضه الذاتية لم يتحقق ذلك إلا بعد الإحاطة بعلم الحساب فكان التصديق بالموضوعية إجمالا من سوابق العلم وتحقيقا من لواحقه وينبغي أن يعلم أن لزوم هذه الأمور إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه والأصول وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وتنبيهات متعلقة بأمر واحد من غير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع بأدلة مبينة على مقدمات وإنما أطنبنا بإيراد هذه المباحث مع أنها في نظر صناعة البرهان من قبيل الواضحات لما تطرقت إليها بعد انعدام قواعد الصناعات الخمس من الشبهات إذا تقرر هذا فنقول موضوع علم الكلام هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية لما أنه يبحث عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والقدرة والإرادة وغيرها وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركب من الأجزاء وقبول الفناء ونحو ذلك مما هو عقيدة إسلامية أو وسيلة إليها وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم وهو كالموجود بين الهلية والشمول لموضوعات سائر العلوم الإسلامية فيكون الكلام فوق الكل إلا أنه أوثر على الموجود ليصح على رأي من لا يقول بالموجود الذهني ولا يفسر العلم بحصول الصورة في العقل ويرى مباحث المعدوم والحال من مسائل الكلام فإن قيل إن أريد بالمعلوم أو الموجود مفهومه فكثير من محمولات المسائل بل أكثرها أخص منه وهو ظاهر وإن أريد معروضه فأعم كرؤية الصانع وقدم كلامه وحدوث الجسم ونحو ذلك ولا خلاف في أن الأخص لا يكون عرضا ذاتيا والأعم لا يستعمل على عمومه كالمساواة العارضة للعدد بواسطة الكم لا يستعمل في الحساب إلا بعد التخصيص بالمساواة العددية وإنما الخلاف في أنه قبل التخصيص هل يسمى عرضا ذاتيا أم لا قلنا لزوم الاختصاص ليس بالنظر إلى موضوع المسئلة بل موضوع العلم أعم من أن يكون على الإطلاق أو التقابل كالعدد لا يخلو عن الزوجية والفردية ألا يرى أن الزوج يحمل على مضروب الفرد في الزوج مع كونه أعم منه قال في الشفاء العرض الذاتي قد يكون مساويا للموضوع كمساواة الزوايا الثلاث لقائمتين للمثلث وقد يكون أخص منه مطلقا كالزوج للعدد أو من وجه كالمساواة للعدد فإنها عرض ذاتي له لكون جنسه وهو الكم مأخوذا في حدها ثم أنهما قد يوجدان معا وقد يوجد العدد بدونها وهو ظاهر وبالعكس كما في المقادير وقد يكون أعم منه مطلقا كالزوج لمضروب الفرد في الزوج قال ومسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية أقول قد يجعل من مقدمات العلم تصور مسائله إجمالا لإفادته زيادة التميز وقيد القضايا بالنظرية لأنه لم يقع خلاف في أن البديهي لا يكون من المسائل والمطالب العملية بل لا معنى للمسئلة إلا ما يسأل عنه ويطلب بالدليل نعم قد يورد في المسائل الحكم البديهي ليبين لميته وهو من هذه الحيثية كسبي لا بديهي وقد تجعل الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وأحكام بينة تفتقر إلى تنبيه هي مسائلها وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في تجريد المنطق من أن المسائل ما يبرهن عليها في العلم إن لم تكن بينة قال وغايته ما يتأدى إليه الشيء ويترتب عليه يسمى من هذه الحيثية غاية ومن حيث يطلب بالفعل غرضا ثم إن كان مما يتشوقه الكل طبعا يسمى منفعة فيصدر العلم بذكر غايته ليعلم أنه هل يوافق غرضه أم لا ولئلا يكون نظره عبثا أو ضلالا ومنفعته ليزداد طالبه جدا ونشاطا وغاية الكلام أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنا محكما لا تزلزله شبه المبطلين ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الإعتقاد قال فهو أشرف العلوم أقول لما تبين أن موضوعه أعلى الموضوعات ومعلومه أجل المعلومات وغايته أشرف الغايات مع الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه وابتناء سائر العلوم الدينية عليه والإشعار بوثاقة براهينه لكونها يقينيات يتطابق عليها العقل والشرع تبين أنه أشرف العلوم لأن هذه جهات شرف العلم وما نقل عن السلف من الطعن فيه فمحمول على ما إذا قصد التعصب في الدين وإفساد عقايد المبتدين والتوريط في أودية الضلال بتزيين ما للفلسفة من المقال قال والمتقدمون أقول آخر هذه المباحث مع تعلقها بالموضوع محافظة على انتظام الكلام في بيان الموضوع والمسائل والغاية فالمتقدمون من علماء الكلام جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود لرجوع مباحثه إليه على ما قال الإمام حجة الإسلام أن المتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود فيقسمه إلى قديم ومحدث والمحدث إلى جوهر وعرض والعرض إلى ما يشترط فيه الحيوة كالعلم والقدرة وإلى ما لا يشترط كاللون والطعم ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض وينظر في القديم فيتبين أنه لا يتكثر ولا يتركب وأنه يتميز عن المحدث بصفات تجب له وأمور تمتنع عليه وأحكام تجوز في حقه من غير وجوب أو امتناع ويبين أن أصل الفعل جائز عليه وأن العالم فعله الجائز فيفتقر بجوازه إلى محدث وأنه قادر على بعث الرسل وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا واقع وحينئذ ينتهي تصرف العقل ويأخذ في التلقي من النبي عليه السلام الثابت عند صدقه ومقبول ما يقوله في الله تعالى وفي أمر المبدأ والمعاد ولما كان موضوع العلم الآلهي من الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وكان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات قيد الموجود ههنا بحيثية كونه متعلقا للمباحث الجارية على قانون الإسلام فتميز الكلام عن الإلهي بأن البحث فيه إنما يكون على قانون الإسلام أي الطريقة المعهودة المسماة بالدين والملة والقواعد المعلومة قطعا من الكتاب والسنة والإجماع مثل كون الواحد موجدا للكثير وكون الملك نازلا من السماء وكون العالم مسبوقا بالعدم وفانيا بعد الوجود إلى غير ذلك من القواعد التي يقطع بها في الإسلام دون الفلسفة وإلى هذا أشار من قال الأصل في هذا العلم التمسك بالكتاب والسنة أي التعلق بهما وكون مباحثه منتسبة إليهما جارية على قواعدهما على ما هو معنى انتساب العقائد إلى الدين وقيل المراد بقانون الإسلام أصوله من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها وبالجملة فحاصله أن يحافظ في جميع المباحث على القواعد الشرعية ولا يخالف القطعيات منها جريا على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة لا أن يكون جميع المباحث حقة في نفس الأمر منتسبة إلى الإسلام بالتحقيق وإلا لما صدق التعريف على كلام المجسمة والمعتزلة والخوارج ومن يجري مجراهم وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأن قانون الإسلام ما هو الحق من مسائل الكلام فإن أريد الحقية والانتساب إلى الإسلام بحسب الواقع لم يصلح هذا القيد لتميز الكلام عن غيره لأنه ليس لازما بينا إذ كل من المتكلم وغيره يدعي حقية مقاله ولم يصدق التعريف على كلام المخالف لبطلان كثير من قواعده مع أنه كلام وفاقا وإن أريد بحسب اعتقاد الباحث حقا كان أو باطلا لم يتميز الكلام بهذا القيد عن الإلهى لاشتراكهما في ذلك قال فإن قيل أقول أعترض في المواقف على كون موضوع الكلام هو الموجود من حيث هو بأنه قد يبحث عن أحوال مالا يعتبر وجوده وإن كان موجودا كالنظر والدليل وعن أحوال مالا وجود له أصلا كالمعدوم والحال ولا يجوز أن يؤخذ الموجود أعم من الذهني والخارجي ليعم الكل لأن المتكلمين لا يقولون بالوجود الذهني والجواب أنا لا نسلم كون هذه المباحث من مسائل الكلام بل مباحث النظر والدليل من مباديه على ما قررنا وبحث المعدوم والحال من لواحق مسئلة الوجود توضيحا للمقصود وتتميما له بالتعرض لما يقابله لا يقال بحث إعادة المعدوم واستحالة التسلسل ونفي الهيولي وأمثال ذلك من المسائل قطعا لأنا نقول هي راجعة إلى أحوال الموجود بأنه هل يعاد بعد العدم وهل يتسلسل إلى غير النهاية وهل يتركب الجسم من الهيولي والصورة ولو سلم أنها من المسائل فإنما يريد ما ذكرتم لو أريد بالموجود من حيث هو الموجود في الخارج بشرط اعتبار وجوده وليس كذلك بل الموجود على الإطلاق ذهنيا كان أو خارجيا واجبا أو ممكنا جوهرا أو عرضا إلى غير ذلك فباحث النظر والدليل من أحوال الوجود العيني وإن لم يعتبر والبواقي من أحوال الوجود الذهني وكثير من المتكلمين يقولون به على ما يصرح بذلك كلامهم ومن لم يقل فعليه العدول إلى المعلوم ( قال وقيل ) أقول ذهب القاضي الأرموي من المتأخرين إلى أن موضوع الكلام ذات الله تعالى لأنه يبحث عن صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا ككيفة صدور العالم عنه بالاختبار وحدوث العالم وخلق الأعمال وكيفية نظام العالم كالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة كبحث المعاد وسائر السمعيات فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة وتبعه صاحب الصحايف إلا أنه زاد فجعل الموضوع ذات الله تعالى من حيث هي وذات الممكنات من حيث استنادها إلى الله تعالى لما أنه يبحث عن أوصاف ذاتية لذات الله تعالى من حيث هي وأوصاف ذاتية لذات الممكنات من حيث أنها محتاجة إلى الله تعالى وجهة الوحدة هي الموجود وكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع وأحوال الممكنات من حيث احتياجها إليه على قانون الإسلام وينبغي أن يكون هذا معنى ما قال هو العلم الباحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام وإلا فلا معنى للبحث عن نفس الموضوع لكنه أجاب بأن المراد بذات الله تعالى في التعريف الذات من حيث الصفات كالذات من حيث عدم التركيب والجوهرية والعرضية والبحث عنها من قبيل المسائل كالبحث عن نفس الصفات والموضوع هو الذات من حيث هي ولا بحث عنها في العلم وهذا يشعر بأن المحمول في قولنا الواجب ليس بجوهر ولا عرض هو ذات الله تعالى من حيث عدم الجوهرية والمعرضية فإن قيل لو كان الموضوع ذات الله تعالى وحده أو مع ذات الممكنات من حيث الاستناد إليه لما وقع البحث في المسائل إلا عن أحوالها واللازم باطل لأن كثيرا من مباحث الأمور العامة والجواهر والأعراض بحث عن أحوال الممكنات لا من حيث استنادها إلى الواجب قلنا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستطراد قصدا إلى تكميل الصناعة بأن يذكر مع المطلوب ماله نوع تعلق به من اللواحق والفروع والمقابلات وما أشبه ذلك كمباحث المعدوم والحال وأقسام الماهية والحركات والأجسام أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف قصدا إلى تزييفه كبحث علة اليقين والآثار العلوية والجواهر المجردة أو على سبيل المبدائية بأن يتوقف عليه بعض المسائل فيذكر لتحقيق المقصود بأن لا يتوقف بيانه على ما ليس ببين كاشتراك الوجود واستحالة التسلسل وجواز كون الشيء قابلا وفاعلا وإمكان الخلاء وتناهي الأبعاد وأما ما سوى ذلك فيكون من فضول الكلام يقصد به تكثير المباحث كما اشتهر فيما بين المتأخرين من خلط كثير من مسائل الطبيعي والرياضي بالكلام فإن قيل لا يجوز أن يكون للكلام مبادي يفتقر إلى البيان ويثبت بالبرهان لأن مبادي العلم إنما تتبين في علم أعلى منه وليس في العلوم الشرعية ما هو أعلى من الكلام بل الكل جزئي بالنسبة إليه ومتوقف بالآخرة عليه فمباديه لا تكون إلا بينة بنفسها قلنا ما يبين فيه مبادي العلم الشرعي لا يجب أن يكون علما أعلى ولا أن يكون علما شرعيا للإطباق على أن علم الأصول يستمد من العربية ويبين فيها بعض مباديه وتفصيل ذلك على ما هو المذكور في الشفاء وغيره أن مبادي العلم قد تكون بينة بنفسها فلا تبين في علم أصلا وقد تكون غير بينة فتبين في علم أعلى بجلالة محله عن أن يبين في ذلك العلم كقولنا الجسم مؤلف من الهيولي والصورة فإنه من مبادي الطبيعي ومن مسائل الفلسفة الأولى أو في علم أدنى لدنو شأنه عن أن يبين في ذلك العلم كامتناع الجزء الذي لا يتجزأ فإنه من مسائل الطبيعي ومن مبادي الإلهى لإثبات الهيولي والصورة فيجب أن تبين بمقدمات لا تتوقف صحتها عليها لئلا يلزم الدور وقد يبين في ذلك العلم نفسه بشرط أن لا يكون مبدأ لجميع مسائله وأن لا يبين بمسئلة تتوقف عليه لئلا يدور فهذا يكون مبدأ باعتبار ومسئلة باعتبار كأكثر مسائل الهندسة وككون الأمر للوجوب فإنه مسئلة من الأصول ومبدأ المسئلة وجوب القياس تمسكا بقوله تعالى فاعتبروا ولا يخفى أنه يجب في هذا القسم أن يكون بحثا عن أحوال موضوع الصناعة ليصح كونه من مسائلها فما نحن فيه أعني البحث عن أحوال الممكنات لا على وجه الاستناد لا يكون من هذا القبيل فتعين البيان في علم أدنى أو أعلى فيثبت هذا المبدأ بدليل قطعي من غير مخالفة للقواعد الشرعية وإن لم يعد ذلك العلم من العلوم الإسلامية كالإلهي الباحث عن أحوال الموجود على الإطلاق وههنا شيء آخر وهو أن المفهوم من شرح الصحايف أن ليس معنى البحث عن أحوال الممكنات على وجه الاستناد أن يكون ذلك ملاحظا في جميع المسائل بل أن يكون البحث عن أحوال تعرض للممكنات من جهة استنادها إلى الله تعالى فإن أحوال الممكنات التي يبحث عنها في الكلام أحوال مخصوصة معلومة بحكم فيضانها عن تأثر قدرة الله تعالى وذلك إنما يكون لحاجتها إلى الله تعالى فيكون عروضها للممكنات ناشئا عن جهة حاجتها إليه ( قال واعترض ) أقول لما كان من المباحث الحكمية مالا يقدح في العقايد الدينية ولم يناسب غير الكلام من العلوم الإسلامية خلطها المتأخرون بمسائل الكلام إفاضة للحقايق وإفادة لما عسى أن يستعان به في التقصي عن المضايق وإلا فلا نزاع في أن أصل الكلام لا يتجاوز مباحث الذات والصفات والنبوة والإمامة والمعاد وما يتعلق بذلك من أحوال الممكنات فلذا اقتصر القوم في إبطال كون موضوع الكلام ذات الله وحده أو مع ذات الممكنات من جهة الاستناد على أنه لو كان كذلك لما كان إثباته من مطالب الكلام لأن موضوع العلم لا يبين فيه بل في علم أعلى إلى أن ينتهي إلى ما موضوعه بين الثبوت كالموجود وذلك لأن حقيقة العلم إثبات الأعراض الذاتية للشيء على ما هو معنى الهلية المركبة ولا خفاء في أنها بعد الهلية البسيطة لأن مالا يعلم ثبوته لا يطلب ثبوت شيء له لكن لا نزاع في أن إثبات الواجب بمعنى إقامة البرهان على وجوده من أعلى مطالب الكلام ثم كونه مبدأ الممكنات بالاختيار أو الإيجاب بلا وسط في الكل أو بوسط في البعض بحث آخر والقول بأن إثباته إنما هو من مسائل الإلهي دون الكلام ظاهر الفساد وإلا لكان هو أحد العلوم الإسلامية بل رئيسها ورأسها ومبنى القواعد الشرعية وأساسها وأجاب بعضهم بأنه جاز ههنا إثبات الموضوع في العلم لوجهين الأول أن الوجود من أعراضه الذاتية لكونه واجب الوجود بخلاف سائر العلوم فإن الوجود إنما يلحق موضوعاتها لأمر مباين وكان هذا مراد من قال موضوع العلم إنما لا يبين فيه إذا كان البحث فيه عن الأحوال التي هي غير الوجود وإلا فهذه التفرقة مما لا يشهد به عقل ولا نقل بل ليس لها كثير معنى فإن قيل هذا لا يصح على رأي من يجعل الوجود نفس الماهية وهو ظاهر ولا على رأي من يجعله زايدا مشتركا لأن العرض الذاتي يكون مختصا قلنا سواء كان ذاته نفس الوجود أو غيره فإما أن يكون هناك قضية كسبية محمولها الموجود في الخارج بطريق الوجوب فيتم الجواب أو لا فيسقط أصل الاعتراض الثاني لا علم شرعي فوقه يبين فيه موضوعه فلا بد من بيان فيه وفيه نظر
أما أولا فلأنه ليس من شرط العرض الذاتي أن لا يكون معلوما للغير بل أن لا يكون لحوقه للشيء بتوسط لحوقه لأمر خارج غير مساو للاتفاق على كون الصحة والمرض عرضا ذاتيا للإنسان والحركة والسكون للجسم والاستقامة والانحناء للخط إلى غير ذلك
وأما ثانيا فلأنه يلزم أن لا يكون بيان وجود شيء من الممكنات مسئلة في شيء من العلوم فلا يصح أن موضوع العلم إنما يبين وجوده في علم أعلى
وأما ثالثا فلأن قولهم موضوع العلم لا يبين فيه بعد تقدير أنه لا يثبت في العلم غير الأعراض الذاتية للموضوع يكون لغوا من الكلام لأن ما وجوده عرض ذاتي يبين فيه وما لا يبين ليس بعرض ذاتي
وأما رابعا فلأنه لا يبقى قولهم لكل علم موضوع ومباد ومسائل على عمومه لأن معناه التصديق بانية الموضوع وهلية البسيطة وقد صار في علم الكلام من جملة المسائل
صفحة ١٥
وأما خامسا فلأن تصاعد العلوم إنما هو بتصاعد الموضوعات فلا معنى لكون علم أعلى من آخر سوى أن موضوعه أعم فينبغي أن يؤخذ موضوع علم الكلام الموجود أو المعلوم وإلا فالإلهي أعلى منه رتبة وإن كان هو أشرف من جهة وقد عرفت أن ما يبين فيه موضوع علم شرعي أو مباديه لا يلزم أن يكون علما شرعيا بل يكفي كونه تعينيا وعلى وفق الشرع فإن قيل فقد آل الكلام إلى أن لوجود المخصص لموضوع الصناعة وإن كان من أعراضه الذاتية لا يبين فيها لكون نظرها مقصورا على بيان هليته المركبة بل يكون مسلما في نظرها لكونه بينا أو مبينا في صناعة أعلى وحينئذ يتوجه الإشكال بأن بيانه هناك لا يكون من الهلية المركبة وموضوع هذا العرض الذاتي لا يكون مما هو مسلم الوجود قلنا موضوع الصناعة الأعلى أعم ووجوده لا يستلزم وجود الأخص فيبين فيها وجود الأخص بأن يبين انقسام الأعم إليه وإلى غيره وأنه يوجد له هذا القسم ويكون ذلك عائدا إلى الهلية المركبة للأعم مثلا يبين في الإلهي أن بعض الموجود جسم فتبين وجود الجسم وفي الطبيعي أن بعض الجسم كرة فيبين وجود الكرة وعلى هذا القياس وربما يتنبه الفطن من هذا الكلام لنكتة قادحة في بعض ما سبق قال الفصل الثاني في العلم ذهب الإمام الرازي إلى أن تصور العلم بديهي لوجهين الأول أنه معلوم يمتنع اكتسابه أما المعلومية فبحكم الوجدان وأما امتناع الاكتساب فلأنه إنما يكون بغيره معلوما ضرورة امتناع اكتساب الشيء بنفسه أو بغيره مجهولا والغير إنما يعلم بالعلم فلو علم العلم بالغير لزم الدور فتعين طريق الضرورة وهو المط الثاني إن علم كل أحد بوجوده بديهي أي حاصل من غير نظر وكسب وهذا علم خاص مسبوق لمطلق العلم لتركبه منه ومن الخصوصية والسابق على البديهي بديهي بل أولى بالبداهة فمطلق العلم بديهي وهو المط وأجيب عن الوجهين بأن مبناهما على عدم التفرقة بين تصور العلم وحصوله
أما الأول فلأن تصور العلم على تقدير اكتسابه يتوقف على تصور غيره وتصور الغير لا يتوقف على تصوره ليلزم الدور بل على حصوله بناء على امتناع حصول المقيد بدون المطلق حتى لو لم يقل بوجود الكلي في ضمن الجزئيات لم يتوقف على حصوله أيضا وعبارة المواقف أن الذي نحاول أن نعلمه بغير العلم تصور حقيقة العلم وقد تسامح حيث حاول العلم بتصور الحقيقة والأحسن ما في شرح المختصر أن الذي يراد حصوله بالغير تصور حقيقة العلم إلا أنه تسامح فيه أيضا حيث قال أن توقف تصور غير العلم إنما هو على حصول العلم به أعني علما جزئيا متعلقا بذلك الغير إذ لا معنى لتوقف الشيء على حصوله
صفحة ١٦
وأما الثاني فلأن البديهي لكل أحد ليس هو تصور العلم بأنه موجود بل حصول العلم بذلك وهو لا يستدعي تصور العلم به فضلا عن بداهته كما أن كل أحد يعلم أن له نفسا ولا يعلم حقيقتها فإن قيل لا معنى للعلم إلا وصول النفس إلى المعنى وحصوله فيها والعلم من المعاني النفسية فحصوله في النفس علم به وتصور له فإذا كان حصول العلم لوجوده بديهيا كان تصور العلم به بديهيا ويلزم منه أن يكون تصور مطلق العلم بديهيا وهو المطلوب وكذا إذا كان تصور الغير الذي يكتسب به تصور العلم متوقفا على حصول مطلق العلم كان متوقفا على تصوره وهو الدور قلنا قد سبق أن حصول المعاني النفسية في النفس قد يكون بأعيانها وهو المراد بالوجود والمتأصل وذلك اتصاف بها لا تصور لها وقد يكون بصورها وهو المراد بالوجود الغير المتأصل بمنزلة الظل للشجر وذلك تصور لها لاتصاف بها ألا يرى أن الكافر يتصف بالكفر بحصول الإنكار في نفسه وإن لم يتصوره ويتصور الإيمان بحصول مفهومه في نفسه من غير إتصاف به فحصول عين العلم بالشيء في النفس لا يكون تصورا لذلك العلم كما أن حصول مفهوم العلم بالشيء في النفس لا يكون اتصافا بالعلم به بل ربما يستلزمه نعم يكون ذلك اتصافا بالعلم بمفهوم العلم بناء على أن المفهوم حاصل بعينه فإن قيل في تقرير الإمام ما يدفع الجواب المذكور لأنه قرر الأول بأن اكتساب العلم يتوقف على حصول العلم بالغير وهو يستلزم إمكان العلم بأنه عالم بذلك الغير وعلى تقدير وقوع ذلك الممكن يلزم حصول العلم بالعلم الخاص قبل حصول العلم بمطلق العلم وهو محال واكتساب العلم يكون ملزوما لتصور الغير الملزوم لإمكان المحال فيكون محالا والثاني بأن علم كل أحد بأنه عالم بوجوده بديهي وعلمه بوجوده علم خاص ومتى كان العلم بالعلم الخاص بديهيا كان العلم بمطلق العلم بديهيا ولما كان مظنة أن يقال العلم بأنه عالم تصديق وبداهته لا تستدعي بداهة تصوراته لأنه مفسر بما لا يتوقف بعد تصور طرفيه على نظر أشار إلى دفعه بأن هذا التصديق بديهي بمعنى أنه لا يتوقف على كسب ونظر أصلا لا في الحكم ولا في طرفيه سواء جعل تصور الطرفين شطرا له أو شرطا وذلك لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر والاكتساب كالبله والصبيان قلنا العلم بأنه عالم بالشيء تصديق وهو إنما يستدعي تصور الطرفين بوجه فلا يلزم تصور العلم بحقيقته مع أن الكلام فيه على أنه إن أراد أن العلم بالغير يستلزم إمكان العلم بأنه عالم به قبل اكتساب حقيقة العلم فغير مسلم أو في الجملة فغير مفيد لجواز أن يكون وقوع الممكن بعد الاكتساب قال ثم أكثر تعريفات العلم مدخوله كقولهم معرفة المعلوم على ما هو به إدراك المعلوم على ما هو به إثبات المعلوم على ما هو به اعتقاد الشيء على ما هو به ما يعلم به لاشيء ما يوجب كون من قام به عالما إلى غير ذلك ووجوه الخلل ظاهرة إلا أن ذلك عند الإمام حجة الإسلام لخفاء معنى العلم وعسر تحديده قال في المستصفى ربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية فكيف في الإدراكات وإنما يبين معناه بتقسيم ومثال أما التقسيم فهو أن تميزه عما يلتبس به وهي الاعتقادات ولا خفاء في غيره عن الشك والظن بالجزم وعن الجهل بالمطابقة فلم يبق إلا اعتقاد المقلد ويتميز عنه بأن الإعتقاد قد يبقى مع تغير متعلقه كما إذا اعتقد كون زيد في الدار ثم خرج زيد والاعتقاد بحاله بخلاف العلم فإنه يتغير بتغير المعلوم ولا يبقى عند اعتقاد انتفاء المتعلق لأنه كشف وانحلال في العقيدة والاعتقاد عقد على القلب ولهذا يزول بتشكيك المشكك بخلاف العلم وأما المثال فهو أن إدراك البصيرة شبيه بإدراك الباصرة فكما أنه لا معنى للإبصار إلا انطباع صورة المبصر أي مثاله المطابق في القوة الباصرة كانطباع الصورة في المرآة كذلك العقل بمنزلة مرآة تنطبع فيها صور المعقولات أي حقائقها وماهياتها على ما هي عليها والعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات في نفسه وانطباعها وحصولها فيه فالتقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم هذا كلامه فظهر انه يريد عسر تحديده بالحد الحقيقي لا ما يفيد امتيازه وتفهيم حقيقته وأن ذلك ليس ببعيد وأنه لا يريد بالمثال جزئيا من جزئياته كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين على ما فهمه البعض وقال الإمام الرازي تعريفات العلم لا تخلو عن خلل لأن ماهيته قد بلغت في الظهور إلى حيث لا يمكن تعريفه بشيء أجلى منه وإلى هذا ذهب كثير من المحققين حتى قال بعضهم أن ما وقع فيه من الاختلاف إنما هو لشدة وضوحه لا لخفائه قال ولا نزاع في اشتراك لفظه لفظ العلم يقال في الاصطلاح على معان منها إدراك العقل فيفسر بحصول صورة الشيء في العقل وسيجيء في بحث الكيفيات تحقيقه ودفع ما أورد عليه وبعضهم نظر إلى أن العلم صفة العالم والحصول صفة الصورة فعدل إلى وصول النفس إلى المعنى أخذا مما ذكره الإمام وغيره أن أول مراتب وصول النفس إلى المعنى شعور فإذا حصل وقوف النفس على تمام ذلك المعنى فتصور فإذا بقي بحيث لو أراد استرجاعه بعد ذهابه أمكنه يقال له حفظ ولذلك الطلب تذكر ولذلك الوجدان ذكر وأنت خبير بأن حصول الصورة في العقل أيضا صفة العالم ومنها أحد أقسام التصديق وهو ما يقارن الجزم والمطابقة والثبات فيخرج الظن والجهل المركب والتقليد وسيجيء بيان ذلك ومنها ما يشمل تصور المطابق والتصديق اليقيني على ما هو الموافق للعرف واللغة ولهم فيه عبارتان
( 1 ) صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أي صفة ينكشف بها ما يذكر ويلتفت إليه انكشافا تاما لمن قامت به تلك الصفة إنسانا كان أو غيره وعدل عن الشيء إلى المذكور ليعم الموجود والمعدوم وقد يتوهم أن المراد به المعلوم لأن في ذكر العلم ذكر المعلوم وعدل إليه تفاديا عن الدور وبالجملة فقد خرج الظن والجهل إذ لا تجلي فيهما وكذا اعتقاد المقلد لأنه عقدة على القلب والتجلي انشراح وانحلال للعقدة
صفحة ١٨
( 2 ) صفة توجب تمييزا في المعاني لا يحتمل النقيض أي صفة تستعقب لخلق الله تعالى لمن قامت به تمييزا في الأمور العقلية كلية كانت أو جزئية فيخرج مثل القدرة والإرادة وهو ظاهر وإدراك الحواس لأن تمييزه في الأعيان ومن جعله علما بالمحسوسات لم يذكر هذا القيد وخرج سائر الإدراكات لأن احتمال النقيض في الظن والشك والوهم ظاهر وفي الجهل المركب أظهر وكذا اعتقاد المقلد لأنه يزول بتشكيك المشكك بل ربما يتعلق بالنقيض جزما وقد يقال إن الجهل المركب ليس بتمييز وكذا التصور الغير المطابق كما إذا ارتسم في النفس من الفرس صورة حيوان ناطق وأما المطابق فداخل لأنه لا نقيض له بناء على أن في أخذ النقيض شائبة الحكم والتركيب ولا يخفى ما فيه ومنهم من قيد المعاني بالكلية ميلا إلى تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات فلا يرد ما ذكر في المواقف أن هذه الزيادة مع الغنى عنها محل نظر بطرد التعريف أي جريانه في جميع أفراد المعرف على ما ذكر ابن الحاجب أن اسم الفاعل يورد على طرد تعريف الاسم والفعل المضارع على عكسه قالوا وهذا مصطلح النحاة ثم الظاهر من قولنا تمييزا لا يحتمل النقيض أن يراد نقيض التمييز ولما لم يكن له كثير معنى ذهب بعضهم إلى أن المراد أنه صفة توجب التمييز إيجابا لا يحتمل النقيض وليس بشيء والحق اعتبار ذلك في متعلق التمييز على ما قالوا أن اعتقاد الشيء كذا مع أنه لا يكون إلا كذا علم ومع احتمال أن لا يكون كذا احتمالا مرجوحا ظن فالمعنى أنه صفة توجب للنفس تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ويدل على ذلك تقرير للنفس تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ويدل على ذلك تقرير اعتراضهم بالعلوم العادية مثل العلم بكون الجبل حجرا فإنه يحتمل النقيض بأن لا يكون حجرا بل قد انقلب ذهبا بأن يخلق الله تعالى مكان الحجر الذهب على ما هو رأي المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء الحجر الوصف الذي به صارت حجرا ويخلق فيه الوصف الذي به يصير ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر في جميع الأجسام والجواب أن المراد بعدم احتمال النقيض في العلم هو عدم تجويز العالم إياه لا حقيقة ولا حكما أما في التصور فلعدم النقيض أو لأنه لا معنى لاحتمال النقيض بدون شائبة الحكم وأما في التصديق فلاستناد جزمه بالحكم إلى موجب بحيث لا يحتمل الزوال أصلا والعاديات كذلك لأن الجزم بها مستند إلى موجب هو العادة وإنما يحتمل النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه لم يلزمه منه محال لذاته لكونه في نفسه من الممكنات التي يجوز وقوعها أولا وقوعها وذلك كما يحكم ببياض الجسم المشاهد قطعا مع أنه في نفسه ممكن أن يكون وأن لا يكون والحاصل أن معنى احتمال النقيض تجويز الحاكم إياه حقيقة وحالا كما في الظن لعدم الجزم بمتعلقه أو حكما ومآلا كما في اعتقاد المقلد لعدم استناد الجزم به إلى موجب من حس أو عقل أو عادة فيجوز أن يزول بل يحصل اعتقاد النقيض جزما وبهذا يظهر الجواب عن بعض تفسير العلم باعتقاد المقلد سيما المطابق فإنه لا يحتمل النقيض في الواقع ولا عند الحاكم وهو ظاهر ولا عبرة بالإمكان العقلي كما في العاديات قال المبحث الثاني أقول قد اشتهر تقسيم العلم إلى التصور والتصديق واستبعده بعضهم لما بينهما من اللزوم إذ لا تصديق بدون التصور بل ذكروا أنه لا تصور بحسب الحقيقة بدون التصديق بالتحقيق وإنما الكلام في التصور بحسب الاسم فعدلوا إلى التقسيم إلى التصور الساذج أي المشروط بعدم الحكم وإلى التصديق وأجاب آخرون بأن اللزوم بحسب الوجود لا ينافي التقابل بحسب الصدق كما بين الزوج والفرد والحصر في التصور المقيد بعدم الحكم وفي التصديق ليس بتام لخروج تصور الطرفين وبالجملة فكلام القوم صريح في أن التصور المعتبر في التصديق هو التصور المقابل له وهو التصور لا بشرط الحكم أعني الذي لم يعتبر فيه الحكم لا الذي اعتبر فيه عدم الحكم وصرح الإمام والكاتبي بأن هذا هو المراد بالتصور الساذج والتصور فقط وحاصل التقسيم أن العلم إما أن يعتبر فيه الحكم وهو التصديق أولا وهوالتصور ومعناه أن التصديق هو الحكم مع ما يتعلق به من التصورات على ما هو صريح كلام الإمام لا الإدراك المقيد بالحكم على ما سبق إلى الفهم من عبارته حيث يقول أنه الإدراك المقارن للحكم أو الإدراك الذي يلحقه الحكم كيف وأنه يذكر ذلك في معرض الاستدلال على كون التصور جزأ منه ثم أنه كثيرا ما يصرح بأنه عبارة عن نفس الحكم ويجعل الحكم تارة من قبيل الأفعال وتارة ماهية مسماة بالكلام النفسي ليست من جنس الإعتقاد ولا الإرادة والجمهور على أنه نفس الحكم وأنه نوع من العلم متميز عن التصور بحقيقته لا يتعلق إلا بالنسبة بخلاف التصور حيث يتعلق بها وبغيرها ألا ترى أنك إذا شككت في حدوث العالم فقد تصورت العالم والحادث والنسبة بينهما من غير حكم وتصديق ثم إذا أقيم البرهان فقد علمت النسبة نوعا آخر من العلم وهو المسمى بالحكم والتصديق وحقيقته إذعان النفس وقبولها لوقوع النسبة أولا وقوعها ويعبر عنه بالفارسية بكر ويدن على ما صرح به ابن سينا وهذا ما قال في الشفاء التصور في قولك البياض عرض هو أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف وما يؤلف منه كالبياض والعرض والتصديق هو أن يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها والتكذيب يخالف ذلك وفي هذا الكلام إشارة إلى أن مدلول الخبر والقضية هو الصدق وإنما الكذب احتمال عقلي وليس فيه انحصار التصديق في المطابق كما توهم إذلا يلزم من حصول الشيء كالمطابقة مثلا في النفس تحققه في الواقع قوله والضرورة قاضية يعني أن كلا من التصور والتصديق ينقسم إلى النظري والضروري لأنا نجد في أنفسنا احتياج بعض التصورات والتصديقات إلى النظر كتصور الملك والجن والتصديق بحدوث العالم واستغناء بعضها عنه كتصور الوجود والعدم والتصديق بامتناع اجتماع النقيضين والمراد الاحتياج والاستغناء بالذات حتى يكون الحكم المستغنى في نفسه عن النظر ضروريا وإن كان طرفاه بالكسب على ما تقرر عند الجمهور من أن التصديق الضروري مالا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وكسب وعبارة المواقف وهو أن البعض ضروري بالوجدان والبعض نظري بالضرورة ربما يوهم أن الثاني ليس بالوجدان لكن المراد ما ذكرنا وفسر القاضي أبو بكر العلم الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى الانفكاك عنه سبيلا وقيد بالمخلوق لأن الضروري والنظري من أقسام العلم الحادث واعترض عليه بأن النفس قد تنفك عن العلم الضروري بأن يزول بعد الحصول لطريان شيء من أضداد العلم كالنوم والغفلة أو بأن لا يحصل أصلا لانتفاء شرط من شرائطه مثل التوجه وتصور الطرفين واستعداد النفس والإحساس والتجربة ونحو ذلك مما يتوقف عليه بعض الضروريات وأجيب بأن المراد أنه لا يقتدر على الانفكاك والانفكاك فيما ذكرتم من الصور ليس بقدرة المخلوق وهذا ما قال في المواقف أن عبارته مشعرة بالقدرة يعني يفهم من قولنا يجد فلان سبيلا إلى كذا أو لا يجد أنه يقتدر عليه أو لا يقتدر والحاصل إن إطلاق الضروري على العلم مأخوذ من الضرورة بمعنى عدم القدرة على الفعل والترك كحركة المرتعش ولذا قد يفسر بما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق إلا أن قيد الحصول مراد ههنا بقرينة جعل الضروري من أقسام العلم الحادث ومصرح في عبارة القاضي ليخرج العلم بمثل تفاصيل الأعداد والأشكال مما لا قدرة للعبد على تحصيله ولا على الانفكاك عنه فإن قيل يرد على طرد العبارتين العلم الحاصل بالنظر إذ لا قدرة حينئذ على تحصيله ولا على الانفكاك عنه أجيب عنه بأن المعتبر في الضروري نفي القدرة دائما وفي النظري إنما تنتفى القدرة بعد الحصول إذ قبله يقتدر على التحصيل بأن يكتسب وعلى الانفكاك بأن لا يكتسب فإن قيل سلمنا أن مراد القاضي نفي الاقتدار على الانفكاك إلا أن السؤال باق بعد لأن الانفكاك سواء كان مقدورا أو غير مقدور ينافي اللزوم قلنا أراد باللزوم الثبوت أو امتناع الانفكاك بالقدرة على أن يكون آخر الكلام تفسيرا لأوله وفسر النظري بما يتضمنه النظر الصحيح بمعنى أنه لا ينفك عنه بطريق جرى العادة عند حصول الشرائط ولم يقل ما يوجبه لما سيجيء من أن حصول النتيجة عقيب النظر ليس بطريق الوجوب ولم يقل ما يحصل عقيب النظر الصحيح لأن من الضروريات ما هو كذلك كالعلم بما يحدث حينئذ من اللذة أو الألم ولو قال ما يفيده النظر الصحيح وأراد الاستعقاب العادي لكان أظهر والكسبي يقابل الضروري ويرادف النظري فيمن يجعل طريق الاكتساب هو النظر لا غير وأما فيمن يجوز الكسب بمثل التصفية والإلهام ولا يجعله مشتملا على النظر فالكسبي أعم من النظري ولا تلازم بينهما عادة على ما في المواقف إلا أن يجعل مثل التصفية والإلهام من خوارق العادات وقد يقال الكسبي لما يحصل بمباشرة الأسباب اختيارا كصرف العقل أو الحس والضروري لما يقابله ويخص الكسبي النظري باسم الاستدلالي قال واختار الإمام أقول اختار الإمام الرازي أن كل ما يحصل من التصورات فهو ضروري لأن الاكتساب ممتنع من جهة المكتسب أعني المط والكاسب أعني طريق اكتسابه أما الأول فلان المط إما أن يكون معلوما فلا يمكن طلبه واكتسابه لامتناع تحصيل الحاصل أو يكون مجهولا فلا يمكن التوجه إليه ثم اعترض بوجهين أحدهما أنه لم لا يجوز أن يكون معلوما من وجه فيتوجه إليه مجهولا من وجه فيطلب وثانيهما النقض باكتساب التصديق مع جريان الدليل فيه فأجاب عن الأول بأنه إما أن يطلب من وجهه المعلوم وهو محال لامتناع تحصيله أو من وجهه المجهول وهو مح لامتناع التوجه إليه وعن الثاني بأن ما يتعلق به التصديق كالقضية أو النسبة معلوم بحسب التصور فلا يمتنع التوجه إليه ومجهول بحسب التصديق فلا يمتنع طلب حصوله وهذا بخلاف التصور فإن ما يكون مجهولا بحسب التصور يكون مجهولا مطلقا إذ لا علم قبل التصور وحاصله أن متعلق التصديق يجوز أن يتعلق به قبل التصديق علم هو التصور بخلاف متعلق التصور وأجيب بأنا نختار أنه معلوم من وجه ولا تم امتناع التوجه حينئذ إلى وجهه المجهول وإنما يمتنع لو لم يكن الوجه المعلوم من وجوهه واعتباراته بحيث يخرجه عن كونه مجهولا مطلقا وذلك كما إذا علمنا أن لنا شيئا به الحيوة والإدراكات فنطلبه بحقيقته أو بعوارضه المميزة عن جميع ما عداه على ما هو المستفاد من الحد أو الرسم فالمجهول المط لا ينحصر في الحقيقة ولا في العارض وما ذكر في المواقف من أن المجهول هو الذات والمعلوم بعض الاعتبارات تحقيق لما هو الأهم أعني إمكان اكتساب التصور بحسب الحقيقة وتنبيه على أن مجهولية الذات لازمة فيما يطلب تصوره حتى لو علم الشيء بحقيقته وقصد اكتساب بعض العوارض له كان ذلك بالدليل لا التعريف ولو قصد اكتساب العارض نفسه كان هو مجهولا بحقيقته وما ذكر في تلخيص المحصل من أن كلا من الوجه المجهول والمعلوم حاصل لأمر ثالث هو المط إلزام للإمام بما اعترف به من أن المعلوم إجمالا معلوم من وجه مجهول من وجه والوجهان متغايران أحدهما معلوم لا إجمال فيه والآخر ليس بمعلوم البتة لكن لما اجتمعا في شيء ظن أن هناك علما إجماليا وإلا فقد ذكر هو في نقد تنزيل الأفكار أن المط المجهول هو حقيقة الماهية المعلومة من جهة بعض عوارضها وأما الثاني فلأن الكاسب أعني المعرف للماهية يمتنع أن يكون نفسها لامتناع كون الشيء أجلى وأسبق معرفة من نفسه بل يكون إما جميع أجزائها وهو نفسها فيعود المحذور وإما بعضها أو خارجا عنها ويندرج فيه المركب من الداخل والخارج ومن أفرده بالذكر أراد بالداخل والخارج المحض من ذلك ثم البعض إنما يعرف الماهية إذا عرف شيئا من أجزائها إذ لو كانت الأجزاء بأسرها معلومة أو بقيت مجهولة لم يكن المعرف معرفا أي سببا لمعرفة الماهية وموصلا إلى تصورها فالجزء المعرف إن كان نفسه عاد المحذور وإن كان غيره لزم التعريف بالخارج ضرورة كون كل جزء خارجا عن الآخر ولو فرض تداخلها بنقل الكلام إلى تعريفه الجزء المركب منه ومن غيره فيعود المحذور أو التعريف بالخارج وهو أيضا بطلان الخارج إنما يفيد معرفة الماهية إذا علم اختصاصه بها بمعنى ثبوته لها ونفيه عن جميع ما عداها وهذا تصديق يتوقف على تصور الماهية وهو دور وتصور ما عداها من الأمور الغير المتناهية على التفصيل وهو محال وفي عبارة الموقف هنا تسامح حيث قال والبعض أن عرف الماهية عرف نفسه وقد أبطل والخارج وسنبطله لأن الذي سيبطل هو التعريف بالخارج لا للخارج وكأنه على حذف الباء أي عرف بالخارج أو عرف الأمر الذي شأنه أن يكون خارجا عن سائر الأجزاء فيكون البعض المعرف خارجا عنه ويلزم التعريف بالخارج لا للخارج وإنما ادعى لزوم المحالين على ما هو تقرير المحصل بناء على أن معرف الماهية معرف لكل جزء منها ولظهور المنع عليه اقتصرنا على أحدهما كما هو تقرير المطالب العالية ثم لا يخفى أن القدح في بعض مقدمات هذا الاستدلال كاف في دفعه إلا أنهم لما جوزوا التعريف بجميع الأجزاء وبالبعض وبالخارج احتجنا إلى التقصي عن الإشكالات الثلاث أما عن الأول فبان جميع الأجزاء وإن كانت نفس الماهية بالذات لكن إنما يمتنع التعريف بها لو لم تغايرها بالاعتبار وتحقيقه أن الأجزاء قد تتعلق بها تصورات متعددة بأن تلاحظ واحدا واحدا على التفصيل والترتيب فيكون كاسبا أي حدا وقد يتعلق بها تصور واحد بأن يلاحظ المجموع من حيث المجموع فيكون مكتسبا أي محدودا وهذا معنى قولهم في المحدود إجمال وفي الحد تفصيل ولا امتناع في أن يكون تصور المجموع مترتبا على مجموع التصورات ومسببا عنها فإن قيل إذا كان مجموع التصورات مفضيا إلى تصورات المجموع فإن كانت حاصلة كان هو أيضا حاصلا من غير أثر للنظر والاكتساب وإن لم تكن حاصلة لم يصلح معرفا بل تكون مطلوبة وينقل الكلام إلى ما يحصلها وكذا الكلام في التعريف ببعض الأجزاء أو بالخارج بل في اكتساب التصديقات قلنا يجوز أن تكون الأجزاء معلومة منتشرة في سائر المعلومات فيفتقر إلى النظر لاستحضارها مجموعة مترتبة بحيث تفضي إلى تصور الماهية وهذا معنى الاكتساب وحاصله عائد إلى تحصيل الجزء الصوري وعلى هذا فقس وقال في المواقف قدحا في قولهم لمجموع التصورات يحصل تصورالمجموع والحق ان الأجزاء إذا استحضرت مترتبة حتى حصلت فهي الماهية لا أن ثمة حصول مجموع يوجب حصول شيء آخر هو الماهية وهذا كالأجزاء الخارجية إذا حصلت كانت نفس المركب الخارجي لا أمرا يترتب عليه المركب وظاهره غير قادح لأنهم لا يدعون أن مجموع الأجزاء أمر يوجب حصوله حصول أمر آخر هو الماهية بل إنه يجوز أن يكون تصورات الأجزاء أمرا يوجب حصول أمر آخر هو تصور المجموع أعني تصور الماهية فإن أراد نفي ذلك فباطل لا يشهد له ضرورة ولا برهان بل يكذبه الوجدان ولا عبرة بالقياس على الوجود الخارجي لأنه لا حجر في تصرفات العقل فله أن يلاحظ الموجود الواحد تارة جملة وتارة شيئا فشيئا ولم يزد في حل الإشكال على أن قال الحد مجموع الأمور التي كل واحد منها مقدم ولا يجدي نفعا لأن المحدود أيضا كذلك فلا بد في بيان المغايرة والسببية من أن يقال تلك الأمور من حيث الملاحظة تفصيلا حد وإجمالا محدود وهو معنى كلامهم وأما عن الثاني فبإنا لا نسلم أن معرف الماهية يجب أن يعرف شيئا من أجزائها لجواز أن تكون الأجزاء معلومة وتفتقر إلى حضورها مجموعة مترتبة ممتازة عما عداها ويكون ذلك بالمعرف وحاصله أن الماهية وإن كانت نفس الأجزاء بحسب الذات لكن لا يلزم أن يكون العلم بها هو العلم بالأجزاء بمعنى التصورات المتعلقة بها بل لا بد من ملاحظتها مجتمعة متميزة عن الأغيار ويجوز أن تبقى الأجزاء مجهولة ويفيد المعرف تصورالماهية بوجه يمتاز عما عداها من غير إحاطة بحقيقة شيء من الأجزاء ولو سلم فيجوز أن يكون الجزء المعرف نفس المعرف بالذات ويعود التغاير إلى الإجمال والتفصيل كما في تعريف الماهية بأجزائها أو غيره ويصح التعريف بالخارج على ما سيجيء وبما ذكرنا يندفع ما يقال أن جميع أجزاء الماهية نفسها فكيف لا يكون العلم بها علما بها وأن معرف الشيء سبب لمعرفته أي حصوله في الذهن فكيف لا يحصل شيئامن أجزائه وإن علة حصول الشيء لو لم تكن علة لشيء من أجزائه لجاز حصول كل جزء بدونه فجاز حصول الكل بدونه فلم يكن علة ولنعتبر بالهيئة الاجتماعية فإنها علة لحصول المركب وليست علة لحصول شيء من أجزائه وأما عن الثالث فبأنا لا نسلم أن التعريف بالخارج يتوقف على العلم باختصاصه بل على الاختصاص نفسه فإن الذهن ينتقل من تصور الملزوم إلى تصور لازمه الذهني وإن لم يتقدم العلم باللزوم ولو سلم فيكفي في ذلك تصور الشيء بوجه ما وتصور ما عداه إجمالا كما في اختصاص الجسم بهذا الحيز وإن كان مبنيا على امتناع كونه في حيزين واشتغال حيز بمتحيزين وإلى هذا التسليم نظر من قال الوصف الصالح لتعريف الشيء يجب أن يكون لازما بين الثبوت لأفراده بين الانتفاء عن جميع ما عداه وينبغي أن يعلم أنه وإن كان لازما بحسب الصدق لكن لا بد أن يكون ملزوما بحسب التصور وأجاب بعض المحققين عن الأول بمنع كون جميع أجزاء الماهية نفسها بل جزم بأنه باطل تمسكا بأن الأشياء التي كل واحد منها متقدم على الشيء يمتنع أن يكون نفس المتأخر ثم قال ويجوز أن يصير عند الاجتماع ماهية هي المتأخرة فتحصل معرفتها بها كما أن العلم بالجنس والفصل وبالتركيب التقييدي متقدم على العلم بالجنس المقيد بالفصل وهي أجزاؤه وبها يحصل العلم به ورد المنع تارة بدعوى الضرورة وتارة بالاستدلال بأن جميع أجزاء الشيء إن لم تكن نفسه فإما أن تكون خارجة عنه وهو ظاهر البطلان أو داخلة فيه فتركب الشيء منها ومن غيرها فلا تكون هي جميع الأجزاء بل بعضها وأيضا لو كان الشيء غير جميع الأجزاء فتمام حقيقته أما ذلك الغير وحده فلا يكون المفروض أجزاء أو مع الأجزاء فلا يكون جميعا وأما التمسك فضعيف لأن تقدم كل جزء على الشيء لا يستلزم تقدم الكل عليه ليمتنع كونه نفس المتأخر ولو كان هذا لازما لكان الكل متقدما على نفسه ضرورة تقدم كل جزء عليه والذي يلوح من كلامه أنه يريد بجميع أجزاء الشيء جميع الأمور الداخلة فيه من غير اعتبار التأليف والاجتماع وبالمركب تلك الأمور مع الاجتماع على ما قال الكشي أن مجرد جميع أجزاء الشيء ليس نفسه وإنما نفسه تلك الأجزاء مع هيئة مخصوصة اجتماعية وحدانية بها هي هي لكن لا يخفى أن هذا رجع إلى ما ذكره البعض من أن الحد التام تعريف بجميع الأجزاء المادية إذ بحصولها في الذهن يحصل صورة مطابقة لما في الأعيان وقد رده هذا المحقق بأنه كما يعتبر في الحد التام الأجزاء المادية أعني الجنس والفصل يعتبر الجزء الصوري أعني الترتيب لأن التعريف بالجنس والفصل لا على الترتيب لا يكون حدا تاما ثم أصر على أن جميع الأجزاء المادية والصورية ليست نفس المركب لأنها علل وهو معلول لها ومن المعلوم بالبديهة أن محصل الاثنين بتحصيل واحد وبتحصيل واحد آخر وبضم أحدهما إلى الآخر ألا يكون محصلا للإثنين بنفسه بل يكون محصلا له بجميع أجزائه المادية والصورية قال المبحث الثالث أقول لما كانت العلوم النظرية تنتهي إلى الضروريات جعلوا إثباتها والرد على منكريها من مبادىء الكلام ليعلم أن ما يجعل منتهى مقدمات القياس ويدعي كونه ضروريا هل هو منها ولم يشتغلوا بضبط التصورات الضرورية وكأنها ترجع إلى البديهيات والمشاهدات وحصروا التصديقات الضرورية في ست البديهيات والمشاهدات والفطريات والمجريات والمتواترات والحدسيات لأن القضايا إما أن تكون تصور أطرافها بعد شرائط الإدراك من الالتفات وسلامة الآلات كافيا في حكم العقل أولا فإن كان كافيا فهي البديهيات وإن لم يكن كافيا فلا محالة يحتاج إلى أمر ينضم إلى العقل ويعينه على الحكم أو إلى القضية أو إليهما جميعا فالأول المشاهدات لاحتياجها إلى الإحساس والثاني لا يخلو من أن يكون ذلك الأمر لازما وهي الفطريات أو غير لازم وحينئذ إن كان حصوله بسهولة فهي الحدسيات وإلا فليست من الضروريات بل من النظريات والثالث إن كان حصوله بالأخبار فالمتواترات وإلا فالمجريات أما البديهيات وتسمى أوليات فهي قضايا بحكم العقل بها بمجرد تصور طرفيها كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين والجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين وقد يتوقف فيه العقل لعدم تصور الطرفين كما في قولنا الأشياء المتساوية لشيء واحد متساوية أو لنقصان الغريزة كما في الصبيان والبله أو لتدنيس الفطرة بالعقائد المضادة كما في بعض الجهال أو لأن الله لا يخلقه على ما هو المذهب وأما المشاهدات فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحواس الظاهرة وتسمى حسيات كالحكم بأن الشمس نيرة والنار حارة أو الباطنة وتسمى وجدانيات كالحكم بأن لنا خوفا وغضبا ومنها ما نجده بنفوسنا لا بالآلات البدنية كشعورنا بذواتنا وأحوالها وجميع أحكام الحس جزئية لأنه لا يفيد إلا أن هذه النار حارة وأما الحكم بأن كل نار حارة فحكم عقلي حصل بمعونة الإحساس بجزئيات ذلك الحكم والوقوف على علله وأما الفطريات فقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عنه عند تصور الطرفين وهو المعنى بأمر لازم منضم إلى القضية ولهذا تسمى قضايا قياساتها معها كالحكم بأن الأربعة زوج لانقسامها بمتساويين وأما المجربات فهي قضايا يحكم بها العقل بانضمام تكرر المشاهدة إليه والقياس الخفي المنتج لليقين إليها وهوان الوقوع المتكرر على نهج واحد لا بدله من سبب وإن لم يعرف ماهيته فكلما علم وجود السبب علم وجود المسبب قطعا وذلك كالحكم بأن السقمونيا مسهل للصفراء وأما المتواترات فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة شهادة المخبرين بأمر ممكن مستند إلى المشاهدة كثرة يمتنع تواطؤهم على الكذب فينضم إلى العقل سماع الأخبار وإلى القضية قياس خفي هو أنه لو لم يكن هذا الحكم حقا لما أخبر به هذا الجمع وأما الحدسيات فهي قضايا يحكم بها العقل بحدس قوي من النفس يزول معه الشك ويحصل اليقين بمشاهدة القرائن كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس لما نرى من اختلاف تشكلات نوره بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس وذلك أنه يضيء دائما جانبه الذي يلي الشمس وينتقل ضوءه إلى مقابلة الشمس فيحدس العقل بأنه لو لم يكن نوره من الشمس لما كان كذلك فهي كالمجربات في تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي إلا أن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالوجهين إلا أن الوقوف عليه يكون بالحدس دون الفكر وإلا لكان من العلوم الكسبية وستعرف معنى الحدس في بحث النفس قال وقد تنحصر في البديهيات والمشاهدات ذكر في المحصل أن الضروريات هي الوجدانيات وأنها قليلة النفع في العلوم لكونها غير مشتركة والحسيات والبديهيات وتبعه صاحب المواقف إلا أنه ذكر في موضع آخر أن الضروريات هي الست المذكورة والوهميات في المحسوسات كالحكم بأن كل جسم في جهة واعتذر لما في المحصل بوجهين أحدهما أن البديهيات تشمل الفطريات نظرا إلى أن الوسط لما كان لازما لتصور الطرفين فكان العقل لم يفتقر إلا إلى تصورهما والحدسيات تشمل المجربات والمتواترات نظرا إلى استناد حكم العقل فيهما إلى الحس لكن مع التكرر وكذا الحدسيات وثانيهما أن كون المجربات والمتواترات والحدسيات من قبيل الضروريات موضع بحث على ما فصله الإمام في الملخص لاشتمال كل منها على ملاحظة قياس خفي وكذا القضايا التي قياساتها معها ونازع بعضهم في كون المجربات والحدسيات من قبيل اليقينيات فضلا عن كونها ضرورية بل جعل كثير من العلماء الحدسيات من قبيل الظنيات ثم المحققون من القائلين بأن هذه الأربعة ليست من الضروريات على أنها ليست من النظريات أيضا بل واسطة لعدم افتقارها إلى الاكتساب الفكري وبهذا يشعر كلام الإمام حجة الإسلام حيث قال العلم الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى الحاصل من غير واسطة كما في قولنا الموجود ليس بمعدوم فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية إنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين ولا إلى الشعور بتوسطهما وبإفضائهما إليه وبهذا يظهر أن النزاع لفظي مبني على تفسير الضروري أنه الذي لا يفتقر إلى واسطة أصلا أو الذي نجد أنفسنا مضطرين إليه فإن قيل المتواترات من قبيل المحسوسات بحس السمع فيجب أن يكون ضروريا بلا نزاع كالعلم بأن النار حارة قلنا الكلام في العلم بمضمون الخبر المسموع تواترا كوجود مكة مثلا وهو معقول آلته يتكرر السماع حتى إذا كان المسموع المتواتر خبرا عن نسبة خبر إلى صادق كان العلم بمضمون ذلك الخبر اكتسابيا وفاقا مثلا إذا توتر الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر فالعلم بأن هذا صوت المخبرين ضروري مأخوذ من الحس والعلم بأن الخبر المنقول كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو المستفاد من القضية التي من قبيل المتواترات المتنازع في أنه ضروري أو غير ضروري والعلم بأن البينة تجب على المدعي كسبي مستفاد من ترتيب المقدمتين أعني أن هذا خبر النبي عليه السلام وكل ما هو خبر النبي عليه السلام فمضمونه حق لما ثبت من صدقه بدلالة المعجزات وما يقال أن هذا الحديث متواتر فمعناه أن الخبر بكونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم متواتر سواء كان هو في نفسه خبرا أو إنشاء ( قال وأما المنكرون ) قد ثبت اتفاق أهل الحق على أن الحسيات والبديهيات مبادىء أول لما يقوم حجة على الغير وأنكر ذلك جماعة فمنهم من قدح ذلك في الحسيات وحصرالمبادىء الأول في البديهيات ومنهم من عكس ومنهم من قدح فيهما جميعا ولكل من الفرق شبه وقد أطنب الإمام فيها بتكثير الأمثلة ونسب القول بعدم كون الحسيات من اليقينيات إلى أكابر الفلاسفة ورد بأن أكثر علومهم اليقينية مبنية عليها والمبادىء أول الضرورية مستندة إليها على ما صرحوا بأن مبادىء المجربات والمتواترات والحدسيات هي الإحساس بالجزئيات وأن الأوليات يكتسبها الصبيان باستعداد يحصل لعقولهم من الإحساس بالجزئيات فكيف ينسب إليهم القول بأنها ليست يقينية واعتذر بأن المراد أن جزم العقل بالأحكام المأخوذة من الحس قد تتوقف على شرائط ربما لا يعلم ما هي ومتى حصلت وكيف حصلت فلذلك جعلوا لبيان مواضع الغلط في المحسوسات وإن أي أحكامها تكون يقينية وأيها تكون غير يقينية صناعة المناظر كما جعلوا لبيان ذلك في المعقولات صناعة سوفسطيقا وما ذكر في تلخيص المحصل من أنه لا حكم للحس لأنه ليس من شأنه التأليف الحكمي بل الإدراك فقط وإنما الحكم للعقل ليس رد الكلام الإمام بالمناقشة في أن الحاكم هو الحس أو العقل بواسطته بل لما رتب عليه من المقصود حيث قال فالمحسوس من حيث أنه محسوس لا يوصف بكونه يقينيا أو غير يقيني وإنما يوصف به من حيث مقارنته لحكم العقل وحينئذ يصير المعنى أن أحكام العقل في المحسوسات ليست بيقينية لما قد يقع فيها من الغلط وهذا لا يختص بالمحسوسات لأن المعقولات الصرفة أيضا قد يقع فيها الغلط ولا تصح نسبته إلى الحكماء لتصريحهم بخلاف ذلك نعم لما ذكر الإمام أنه ثبت بما ذكر من الشبه أن حكم الحس قد يكون غلطا فلا بد من حاكم آخر فوقه يميز صوابه عن خطأه فلا يكون الحس هو الحاكم الأول رده بأن الحس ليس بحاكم أصلا بل الحاكم في الكل هو العقل وأما اشتغاله ببيان أسباب الغلط فيما أورده الإمام من الصور فقد اعترف بأنه تنبيه لمن يثق أو يعترف بالوثوق على الأوليات والمحسوسات ببيان التقصي عن مضايق مواضع الغلط ثم إحالة تصويب الصواب وتخطئة الخطاء إلى صريح العقل من غير افتقار إلى دليل في الوثوق بالمحسوسات ولا جواب عن شيء من الشكوك ولا تأمل في الأسباب وحصرها وانتفائها ونحو ذلك وحاصل الشكوك أنه لا وثوق على حكم الحس أما في الكليات فلأنه لا يحيط بها كيف وهي لا تقتصر على الأفراد المحققة وأما في الجزئيات فلأنه كثيرا ما يكون حكمه فيها غلطا بأن يقع الحكم في المحسوسات على خلاف ما هو عليه فإنا نرى الصغير كبيرا وبالعكس والواحد كثيرا وبالعكس والساكن متحركا إلى غير ذلك كما نرى العنبة في الماء كالإجاصة والجرة من بعيد كالكوز والقمر في الماء قمرين والألوان المختلفة في الخطوط المخرجة من مركز الرحى إلى محيطها عند إدارتها لونا واحدا ممتزجا من الكل ويرى من في السفينة السفينة ساكنة وهي متحركة والشط متحركا وهو ساكن إلى غير ذلك والجواب أن غلطه في بعض الصور لا ينافي الجزم المطابق في كثير من الصور كما في الحكم بأن الشمس مضيئة والنار حارة إذا لعقل قاطع بأنه لا غلط هناك من غير افتقار إلى نظر وإن كان ذلك بمعونة أمور لا تعلم على التفصيل وهذا ما قال في المواقف إن مقتضى ما ذكر من الشبه أن لا يجزم العقل بأحكام المحسوسات لمجرد الحس إلا أن لا يوثق بجزمه بما جزم به وكونه محتملا أي ولا أن يكون كل ما جزم به العقل من أحكام المحسوسات محتملا أي بصدد الاحتمال بناء على عدم الوثوق بما وقع فيه من الجزم فقوله وكونه محتملا مرفوع معطوف على أن لا يوثق لا مجرور معطوف على جزمه كما يتوهم إذ ليس فيه كثير معنى قال ومنهم من قدح في البديهيات قالوا أنها فرع الحسيات لأن الإنسان إنما يتنبه للبديهيات بعد الإحساس بالجزئيات والتنبه لما بينهما من المشاركات والمباينات ولا يلزم من القدح في الفرع القدح في الأصل وإنما يلزم لو كان الفرع لازما له نظرا إلى ذاته ووجه القدح أن أجلى التصديقات البديهية وإعلاها قولنا النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان بمعنى أن الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون وهذا غير موثوق به أما كونه أجلى فجلي وأما كونه أعلى أي أسبق فلتوقف الكل عليه واستنادها إليه مثلا يلاحظ في قولنا الكل أعظم من الجزء أنه لو لم يكن كذلك لكان الجزء الآخر كائنا وليس بكائن وفي قولنا الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين أنه لو وجد فيها لكان الواحد اثنين فيكون أحد المثلين كأئنا وليس بكائن وعلى هذا القياس وأما عدم الوثوق فلأن العلم بحقيقة هذه القضية وقطعيتها يتوقف على تصور الوجود والعدم أعني الكون واللاكون وعلى تحقيق معنى كون الشيء موضوعا وكونه محمولا وعلى دفع الشبهات التي تورد على الأمرين وهذه الأمور الثلاثة إنما نتبين بأنظار دقيقة فإن تمت الأنظار وحصلت المطالب ويتوقف لا محالة على حقية هذه القضية لكونها أول الأوائل لزم الدور وكون الشيء نظريا على تقدير كونه ضروريا وهو محال وإن بقي شيء منها في حيز الإبهام لم يحصل الجزم بالقضية وهو المرام والجواب أن بديهة العقل جازمة بها وبحقيتها من غير نظر واستدلال في تحقيق النسبة ولا في دفع الشبهة وما يورد من الشكوك لا يورث قدحا في ذلك الجزم ولا يمكن دفعه بالنسبة إلى من لا يعترف بالبديهيات فإن شئنا أعرضنا عنه وإن شئنا نبهناه عسى أن يعترف أو يحصل له استعداد النظر واستحقاق المباحثة فمن الشبه أن هذا التصديق يتوقف على تصور الوجود والعدم وغيرهما وهذا يقتضي الثبوت ولو في الذهن وثبوت العدم المطلق مناقض ثم لا بد من إمكان سلب العدم المطلق ليتحقق الوجود في الجملة فيكون هذاالسلب قسما من العدم المطلق لكونه عدما مضافا وقسيما له لكونه رفعا له وسلبا والجواب أنه لااستحالة في كون المعنى لا ثابتا من حيث الذات والمفهوم وثابتا من حيث الحصول في العقل ولا في كونه قسما من العدم من حيث كونه عدما مضافا وقسيما له من حيث المفهوم وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في بحث العدم ومنها أن الوجود إن أخذ في هذه القضية المنفصلة محمولا بمعنى أن الجسم إما كائن أو ليس بكائن فإما أن يكون وجود الشيء نفس ماهيته فيلزم كون الجزء الإيجابي لغوا مع أنه مفيد قطعا وكون الجزء السلبي مناقضا لأن إطلاق السلب يناقض دوام الإيجاب وإما أن يكون غيرها فيلزم في الإيجاب قيام الوجود بما ليس بموجود إن أخذ الموضوع خاليا عن الوجود وتسلسل الموجودات إن أخذ موجودا وسيجيء بيانه وجوابه في بحث الوجود وأيضا يلزم كون الشيء غيره وفيه اتحاد الاثنين ويلزم في السلب تعقل النفي المستلزم لثبوته وخلو الماهية عن الوجود المستلزم لقيام الوجود بالمعدوم عند ثبوته لها والجواب أنه لا امتناع في كون الشيئين متغايرين باعتبار متحدين باعتبار على ما تقرر من أن بين الموضوع والمحمول تغايرا بحسب المفهوم واتحادا بحسب الهوية والمعنى أن ما يقال له الجسم هو بعينه يقال له الموجود وكذا لا امتناع في كون النفي المطلق ثابتا من حيث الحصول في العقل ولا في قيام الوجود بما لم يكن موجودا على ما سيجيء إن شاء الله تعالى هذا كله إذا أخذ الوجود محمولا وأما إذا أخذ رابطة بأن يقال الجسم إما أن يكون أسود أو لا يكون أسود فيلزم في الجزء الإيجابي اتحاد الاثنين وقد سبق بجوابه وأيضا لما كان المحمول هنا وصفا كان للموضوع موصوفية وهي وجودية لأن نقيضها اللاموصوفية وهي عدمية ويتصف بها الجسم ضرورة فيتسلسل الموصوفيات ولا تندفع بكونها من الاعتبارات العقلية لأن الموصوفية نسبة فتقوم بالمنتسبين لا بالعقل ولأن حكم العقل إن لم يطابق الخارج كان جهلا فإذا بطل الإيجاب تعين أن يكون الصادق دائما هو الجزء السلبي وأنتم لا تقولون بذلك بل تجوزون صدق الإيجاب في الجملة والجواب ما سيجيء من أن صورة السلب كاللا موصوفية لا يلزم أن تكون عدمية ولو سلم فنقيض العدمي لا يلزم أن يكون وجوديا وإن الأحكام الذهنية لا يكون صدقها باعتبار المطابقة لما في الخارج وحصول النسب والإضافات في العقل فقط لا ينافي انتسابها إلى الأمور الخارجية لأن معناه أن تلك الأمور بحيث إذا عقلها عاقل حصلت في عقله تلك النسب والإضافات ومنها أنا لا نسلم عدم الواسطة بين الوجود والعدم وسيجيء بجوابه على أنها لا تعقل بين الكون واللاكون وما ذكر في المواقف من أن القائلين بها بلغوا في الكثرة حدا يقوم الحجة بقولهم معناه أنه قد يكون حجة وذلك عند الإخبار عن محسوس ففي المعقول يكون شبهة لا أقل قال ومنهم من قدح فيهما أي في الحسيات والبديهيات جميعا وهم السوفسطائية قال في تلخيص المحصل أن قوما من الناس يظنون أن السوفسطائية قوم لهم نحلة ومذهب ويتشعبون إلى ثلث طوائف اللاأدرية وهم الذين قالوا نحن شاكون وشاكون في أنا شاكون وهلم جرا والعنادية وهم الذين يقولون ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة ومقاومة مثلها في القبول والعندية وهم الذين يقولون مذهب كل قوم حق بالقياس إليهم وباطل بالقياس إلى خصومهم وقد يكون طرفا النقيض حقا بالقياس إلى شخصين وليس في نفس الأمر شيء بحق والمحققون على أن السفسطة مشتقة من سوفا أسطا ومعناه علم الغلط والحكمة المموهة لأن سوفا اسم للعلم وأسطا للغلط ولا يمكن أن يكون في العالم قوم ينتحلون هذا المذهب بل كل غالط سوفسطائي في موضع غلطه ثم لا يخفى ما في كلام العنادية والعندية من التناقض حيث اعترفوا بحقية إثبات أو نفي سيما إذا تمسكوا فيما ادعوا بشبهة بخلاف اللاأدرية فإنهم أصروا على التردد والشك في كل ما يلتفت إليه حتى في كونهم شاكين وتمسكوا بأنه لا وثوق على حكم الحس والعقل لما مر من شبه الفريقين ولا على الاستدلال لكونه فرعهما فلم يبق إلا طريق التوقف وغرضهم من هذا التمسك حصول الشك والتهمة لا إثبات أمرا ونفيه فلهذا كانوا مثل طريقة من العنادية والعندية والمحققون على أنه لا سبيل إلى البحث والمناظرة معهم لأنها لإفادة المجهول بالمعلوم وهم لا يعترفون بمعلوم أصلا بل يصرون على إنكار الضروريات أيضا حتى الحسيات والبديهيات وفي الإشتغال بإثباتهما التزام لمذهبهم وتحصيل لغرضهم من كون الحسيات والبديهيات غير حاصلة بالضرورة بل مفتقرة إلى الاكتساب إذ عندنا لا يتصور كون الضروري مجهولا يستفاد بالمعلوم فالطريق معهم التعذيب ولو بالنار فإما أن يعترفوا بالألم وهو من الحسيات وبالفرق بينه وبين اللذة وهو من العقليات وفيه بطلان لمذهبهم وانتفاء لملتهم وإما أن يصروا على الإنكار فيحترقوا وفيه اضمحلال لثائرة فتنهم وانطفاء لنائر شعلتهم قال الفصل الثالث في النظر أورد فيه ستة مباحث أولها في بيان حقيقته ولا خفاء في أن كل مطلوب لا يحصل من أي مبدأ يتفق بل لا بد من مباد مناسبة له والمبادي لا توصل إليه كيف اتفقت بل لا بد من هيئة مخصوصة فإذا حاولنا تحصيل مطلوب تصوري أو تصديقي ولا محالة يكون مشعورا به من وجه تحركت الناس منه في الصور المخزونة عندها منتقلا من صورة إلى صورة إلى أن يظفر بمباديه من الذاتيات والعرضيات والحدود الوسطى فيستحضرها متعينة متميزة ثم يتحرك فيها لترتيبها ترتيبا خاصا يؤدي إلى تصور المطلوب بحقيقته أو بوجه يمتاز عما عداه أو إلى التصديق به يقينا أو غير يقين فههنا حركتان يحصل بأوليهما المادة وبالثانية الصورة والمبادي من حيث الوصول إليها منتهى الحركة الأولى ومن حيث الرجوع عنها مبدأ الحركة الثانية ومن حيث التصرف فيها لترتب الترتيب المخصوص مادة الثانية وحقيقة النظر مجموع الحركتين وهما من جنس الحركة في الكيف بتوارد الصور والكيفيات على النفس ولا محالة يكون هناك توجه نحو المطلوب وإزالة لما يمنعه من الغفلة والصور المضادة والمنافية وملاحظة للمعقولات ليؤخذ البعض ويحذف البعض وترتيب للمأخوذ وغاية يقصد حصولها وكثيرا ما يقتصر في تفسير النظر على بعض أجزائه أو لوازمه اكتفاء بما يفيد امتيازه أو اصطلاحا على ذلك فيقال هو حركة الذهن إلى مبادي المطلوب أو حركته عن المبادي إلى المطالب أو ترتيب المعلومات للتأدي إلى المجهول ويراد بالعلم الحضور عند العقل ليعم الظن والجهل المركب أيضا ويدخل التعريف بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها بناء على أنه يكون بالمشتق كالناطق والضاحك وفيه شائبة التركيب والترتيب بين الموصوف والصفة أو يخص التفسير بالنظر المشتمل على التأليف والترتيب لندرة التعريف بالمفرد فلا يضر خروجه وهذا ما قال ابن سينا أن التعريف بالمفرد . . . خداج والإمام ذكر مكان المعلومات التصديقات بناء على ما ذهب إليه من امتناع اكتساب التصورات وكثيرا ما يجعله عبارة عن نفس العلوم المرتبة ومن قال ترتيب أمور معلومة أو مظنونة للتأدي إلى مجهول أراد بالعلم التصور والتصديق الجازم المطابق الثابت على ما هو معنى اليقين وبالظن ما يقابل اليقين فيتناول الظن الصرف والجهل المركب والاعتقاد على ما صرح به في شرح الإشارات وحينئذ لا يرد ما ذكر في المواقف من أن هذا ليس تفسيرا للنظر الصحيح والألزم أن يقيد الظن بالمطابقة ليخرج الفاسد من جهة المادة المظنونة الكاذبة وأن يقال بدل للتأدي بحيث يؤدي ليخرج الفاسد من جهة الصورة بل لمطلق النظر ومقدماته قد لا تكون معلومة ولا مظنونة بل مجهولة جهلا مركبا ولا يتناوله التفسير فلا يكون جامعا وقد يفسر بملاحظة المعقول لتحصيل المجهول ويراد بالمعقول الحاصل عند العقل واحدا كان أو أكثر تصورا كان أو تصديقا علما كان أو ظنا أو جهلا مركبا فلا يفتقر إلى شيء من التكلفات السابقة وفي كلام الإمام أن نظر البصيرة أشبه شيء بنظر البصر فكما أن من يريد إدراك شيء ببصره يقطع نظره عن سائر الأشياء ويحرك حدقته من جانب إلى جانب إلى أن يقع في مقابلة ذلك الشيء فيبصره كذلك من يريد إدراك شيء ببصيرته يقطع نظره عن سائر الأشياء ويحرك حدقة عقله من شيء إلى شيء إلى أن يحصل له العلوم المرتبة المؤدية إلى ذلك المطلوب فمن ههنا يقال النظر تجريد الذهن عن الغفلات بمعنى إخلائه عن الصوارف والشواغل العائقة عن إشراق النور الإلهي الموجب لفيضان المطلوب أو تحديق العقل نحو المعقولات طلبا لما يعده لفيضان المطلوب عليه ولما كان امتياز النظر عن سائر حركات النفس بالغاية في غاية الظهور حتى إن شيئا من تفاسيره لا يخلو عن إشارة إليها ذهب المتكلمون إلى أنه الفكر الذي يطلب به علم أو ظن والمراد بالفكر حركة النفس في المعاني واحترز بقيد المعاني عن التخيل على ما قال في شرح الإشارات أن الفكر قد يطلق على حركة النفس بالقوة التي آلتها مقدم البطن الأوسط في الدماغ أي حركة كانت إذا كانت تلك الحركة في المعقولات وأما إذا كانت في المحسوسات فقد تسمى تخيلا فما وقع في المواقف أن المراد به الحركات التخييلية ليس كما ينبغي والصواب ما ذكر في شرح الأصول أنه انتقال النفس في المعاني انتقالا بالقصد وكأنه احترز بالقصد عن الحدس وعن سائر حركاتها لا عن قصد وبالجملة هو بمنزلة الجنس للنظر على ما قال إمام الحرمين أن الفكر قد يكون لطلب علم أو ظن فيسمى نظرا وقد لا يكون كأكثر حديث النفس فسقط اعتراض الآمدي بأن لفظ الفكر زائد لأن باقي الحد مغن عنه واعتذاره بأنه لم يجعله جزأ من الحد بل كأنه قال النظر الفكر وهو الذي يطلب به علم أو ظن وإن كان صحيحا من جهة أن الفكر في الاصطلاح المشهور كالمرادف للنظر لا أعم منه ليمتنع تفسيره بما يطلب به علم أو ظن لكنه بعيد من جهة أن العبارة لا تدل عليه أصلا ولم يعهد في التعريفات أن يقال الإنسان البشر الذي هو حيوان ناطق مثلا على أن مجرد قولنا الذي يطلب به علم أو ظن لا يصلح تفسيرا للنظر والفكر إلا بتكلف وأما اعتراضه بأن الظن قد لا يكون مطابقا وهو جهل يمتنع أن يكون مطلوبا فمدفوع بأن المطلوب هو الظن من حيث أنه ظن وهو لا يستلزم طلب الأخص أعني غير المطابق ليلزم طلب الجهل وفي عبارة القاضي أبي بكر علم أو غلبة ظن واعترض بأنه لا يتناول ما يطلب به أصل الظن وأجاب الآمدي بأن كلا من طلب العلم وطلب الظن وطلب غلبته خاصة للنظر ولا خلل في الاقتصار على بعض الخواص ورده في المواقف بأن هذا إنما يكون في الخاصة الشاملة وظاهر أن شيئا من الثلاثة ليست كذلك ولهذا لم يجز الاقتصار على قولنا يطلب به علم لخروج ما يطلب به ظن بل وجب في تعريف الشيء بالخواص التي لا يشمل كل منها إلا بعض اقسامه أن يذكر الجميع بطريق التقسيم تحصيلا لخاصة شاملة لكل فرد هي كونه على أحد الأوصاف وتقع كلمة أو لبيان أقسام المحدود لا للإبهام والترديد لينافي التحديد فأجاب بأن الظن هو المعبر عنه بغلبة الظن لأن الرجحان مأخوذ في حقيقته إذ هي الإعتقاد الراجح وهذا عذر غير واضح لأن اعتبار رجحان الحكم في حقيقته لا يصلح مصححا أو باعثا على التعبير عنه برجحان الظن اللهم إلا أن يريد أن إضافة الغلبة إليه للاختصاص أي الرجحان المعتبر في الظن وليست من إضافة المصدر إلى الفاعل بمعنى كون الظن غالبا راجحا وقد يقال أن كلا من الثلث خاصة شاملة إذ ليس المراد طلب العلم أو الظن بالفعل بل أن يكون الفكر بهذه الحيثية وذلك بأن يكون حركة في المعقولات لتحصيل مبادي المطلوب فالفكر الذي يطلب به العلم هو الذي يطلب به الظن أو غلبته فلا يمتنع الاقتصار قوله المبحث الثاني النظر سواء جعلناه نفس الترتيب أو الحركة المفضية إليه يستدعي علوما مرتبة على هيئة مخصوصة يسمى الموصل منها إلى التصور معرفا وإلى التصديق دليلا وتكون العلوم أي الأمور الحاضرة مادة لذلك الموصل والهيئة المحصلة صورة له وقديضا فإن إلى النظر لهذه الملابسة أو إطلاقا للفكر والنظر على العلوم المرتبة كما في عبارة الإمام وهذا معنى كلام المواقف أن لكل ترتيب مادة وصورة ثم الشايع في عبارة البعض أن الصورة هي ذلك الترتيب إلا أن المحققين على أن الترتيب هو أن يكون لبعض أجزاء ذلك المجموع عند البعض وضع ما أو جعلها بهذه الحيثية والصورة هي الهيئة العارضة للأجزاء بعد الترتيب بسببها يقال لها أنها واحدة واتفقوا على أنه إن صحت المادة والصورة فالنظر صحيح يؤدي إلى المطلوب وإلا ففاسد لا يؤدي إليه وصحة المادة في المعرف أن يكون المذكور في معرض الجنس جنسا للماهية وفي معرض الفصل فصلا لها وفي معرض الخاصة خاصة شاملة لازمة وأن يكون المذكور في الحد التام الجنس والفصل القريبين إلى غير ذلك من الشرائط وفي الدليل أن تكون المقدمات مناسبة للمطلوب صادقة قطعا أو ظنا أو فرضا بحسب المطالب على ما بين في الصناعات الخمس وصحة الصورة في المعرف أن يقدم الأعم فيقيد بالفصل أو الخاصة بحيث تحصل صورة وحدانية موازية أو مميزة لصورة المطلوب وفي الدليل أن يكون على الشرائط المعتبرة في الإنتاج على ما فصل في أبواب القياس والاستقراء والتمثيل من المنطق فظهر أن في تقسيم النظر إلى الصحيح والفاسد باعتبار المادة والصورة تجوزا فلا يبعد تقسيمه إلى الجلي والخفي بهذا الاعتبار أيضا فإن أجزاء كل من المعرف والدليل قد تكون ضرورية تتفاوت في الجلاء والخفاء وقد تكون نظرية تنتهي إلى الضروري بوسايط أقل أو أكثر وكذا الصورة القياسية للأشكال وعبارة المواقف ربما توهم اختصاص التجوز بانقسام النظر إلى الجلي والخفي واختصاصه بالدليل دون المعرف وابتناء انقسام النظر إلى الصحيح والفاسد باعتبار المادة والصورة على تفسيره بالترتيب قال والصحيح المقرون بشرائطه قال الإمام لا نزاع في أن النظر يفيد الظن وإنما النزاع في إفادته اليقين فأنكره السمنية مطلقا وجمع من الفلاسفة في الآلهيات والطبيعيات حتى نقل عن أرسطو أنه قال لا يمكن تحصيل اليقين في المباحث الإلهية إنما الغاية القصوى فيها الأخذ بالأولى والأخلق وهذا أقرب بأن يكون محل النزاع إذ لا يتصور تردد في أن الحاصل من ضرب الاثنين في الاثنين أربعة وبالجملة لما كان مقصود الإمام الرد على المنكرين اقتصر على أن النظر المفيد للعلم مطلقا أو في الإلهيات موجود في الجملة ولما قصد الآمدي إثبات قاعدة تنطبق على الأنظار الجزئية الصحيحة الصادرة عنا في اكتساب العلوم افتقر إلى إثبات الموجبة الكلية فقيد النظر بكونه في القطعيات إذ النظر في الظني لا يفيد العلم وفاقا وبأن لا يعقبه شيء من أضداد الإدراك كالنوم والغفلة والموت فإنه لا علم ح بل لا ظن أيضا وجعل كلا من الأمور المذكورة ضد اللاإدراك على ما هو رأي المتكلمين وإن لم يوافق اصطلاح الفلاسفة وتركنا لتقييد بالقطعي استغناء عنه بذكر الصحيح إذ النظر في الظني لطلب العلم يكون فاسدا من جهة المادة حيث لم يناسب المط وليتناول النظر المط به التصور هذا وظاهر كلام المتكلمين أنهم يريدون بالعلم والنظر عند الإطلاق ما يخص التصديقات وأن ما ذكرنا في قولهم العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض والنظر فكر يطلب به علم أو ظن أنه يعم التصور والتصديق تكلف منا قال بمعنى حصوله عقيبه يشير إلى كيفية إفادة النظر للعلم فعندنا هي بخلق الله تعالى العلم عقيب تمام النظر بطريق إجراء العادة أي تكرر ذلك دائما من غير وجوب بل مع جواز أن لا يخلقه على طريق خرق العادة وذلك لما سيجيء من استناد جميع الممكنات إلى قدرة الله تعالى واختياره ابتداء وأثر المختار لا يكون واجبا ثم القائلون بهذا المذهب فرقتان منهم من جعله بمحض القدرة القديمة من غير أن يتعلق به قدرة العبد وإنما قدرته على إحضار المقدمتين وملاحظة وجود النتيجة فيهما بالقوة ومنهم من جعله كسبيا مقدورا وعند المعتزلة بطريق التوليد ومعناه أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر كحركة اليد لحركة المفتاح فالنظر على أي تفسير فسر فعل للناظر يوجب فعلا آخر له هو العلم إذ معنى الفعل ههنا الأثر الحاصل بالفاعل لا نفس التأثير ليرد الاعتراض بأن العلم ليس بفعل وكذا النظر على أكثر التفاسير ألا ترى أن الحركة أيضا ليست كذلك وقد اتفقوا على أن حركة اليد وحركة المفتاح فعلان لفاعل واحد واحتج بعض أصحابنا بعد إبطال التوليد مطلقا على بطلانه ههنا بأن تذكر النظر لا يولد العلم اتفاقا فكذا النظر ابتداء لاشتراكهما في النظرية واعترض بأن هذا لا يفيد اليقين لكونه عائدا إلى القياس الشرعي وإن أدى بصورة قياس منطقي بأن يقال لو كان النظر مولدا لكان تذكره مولدا لعدم الفرق واللازم باطل وفاقا ولا لإلزام لأنهم إنما قالوا بالحكم أعني عدم التوليد في الأصل أعني في التذكر لعلة لا توجد في الفرع أعني ابتداء النظر وهي كونه حاصلا بغير قدرة العبد واختياره حتى لو كان التذكر بقصد العبد لكان مولدا فيصير الحاصل أن هذا قياس مركب وهو أن يكون حكم الأصل متفقا عليه بين المستدل والخصم لكن يعلل عند كل منهما بعلة أخرى والخصم بين منع وجود الجامع بين الأصل والفرع إذ ابتداء النظر لا يشارك تذكره في عدم المقدورية وبين منع وجود الحكم في الأصل ساى لانم أن التذكر لا يولد العلم عند كونه بقدرة العبد وإنما ذلك عند كونه سانحا للذهن من غير قصد العبد فإنه يكون فعل الله تعالى فلو قلنا بتولد العلم عنه لكان أيضا فعل الله تعالى فلا يصح تكليف العبد به وفي نهاية العقول ما يشعر بأن علة عدم التوليد في التذكر هو لزوم اجتماع الموجبين على أثر واحد لأنه قال التذكر عبارة عن وجود علمين أحدهما العلم بالمقدمات التي سبقت والآخر العلم بأنه كان قد أتى بتلك العلوم ثم ليس أحد العلمين أولى بالتوليد من الآخر فيلزم أن يكون كل منهما مولدا للعلم بالنتيجة وهو محال ويجوز أن تكون العلة هو لزوم حصول الحاصل إذ التذكر إنما يكون بعد النظر وقد حصل به العلم وعلى هذا لا يكون التذكر مفيدا للعلم أصلا وعند الفلاسفة هي بطريق الوجوب لتمام القابل مع دوام الفاعل وذلك أن النظر يعد الذهن لفيضان العلم عليه من عند واهب الصور الذي هو عندهم العقل الفعال المنتقش بصورالكائنات المفيض على أنفسنا بقدر الاستعداد عند اتصالها به وزعموا أن اللوح المحفوظ والكتاب المبين في لسان الشرع عبارتان عنه وههنا مذهب آخر اختاره الإمام الرازي وذكر حجة الإسلام الغزالي أنه المذهب عند أكثر أصحابنا وهو أن النظر يستلزم العلم بالنتيجة بطريق الوجوب الذي لا بد منه لكن لا بطريق التوليد على ما هو رأي المعتزلة وهذا ما نقل عن القاضي أبي بكر وإمام الحرمين أن النظر يستلزم العلم بطريق الوجوب من غير أن يكون النظر علة أو مولدا أو صرح بذكر الوجوب لئلا يحمل الاستلزام على الاستعقاب العادي فيصير هذا هو المذهب الأول وقد صرح الإمام الغزالي بأن هذا مذهب أكثر أصحابنا والأول مذهب بعضهم واستدل الإمام الرازي على الوجوب بأن من علم أن العالم متغير وكل متغير ممكن فمع حضور هذين العلمين في الذهن يمتنع أن لا يعلم أن العالم ممكن والعلم بهذا الامتناع ضروري وكذا في جميع اللوازم مع الملزومات وعلى بطلان التوليد بأن العلم في نفسه ممكن فيكون مقدورا لله تعالى فيمتنع وقوعه بغير قدرته فتوجه اعتراض المواقف بأنه لما كان فعل القادر امتنع أن يكون واجبا فإنه الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك من غير وجوب عليه أو عنه لا يقال المراد الوجوب بالاختيار على ما سيجيء لأنا نقول فح يجوز أن لا يقع بأن لا تتعلق به القدرة والاختيار ويكون هذا هو المذهب الأول بعينه والجواب أن وجوب الأثر كالعلم مثلا بمعنى امتناع انفكاكه عن أثر آخر كالنظر لا ينافي كونه أثر المختار جائز الفعل والترك بأن لا يخلقه ولا ملزومه لا بأن يخلق الملزوم ولا يخلقه كسائر اللوازم الممكنة مثل وجود الجوهر لوجود العرض وتحقيقه أن جواز الترك أعم من أن يكون بوسط أو بلا وسط وأن جواز ترك المقدور لا يمتنع أن يكون مشروطا بارتفاع مانع هو أيضا مقدور وهذا كالمتولدات عند من يقول من المعتزلة بكونها بقدرة العبد وإنما المنافي له امتناع انفكاكه عن المؤثر بأن لا يتمكن من تركه أصلا ولو صح هذا الاعتراض لارتفع علاقة اللزوم بين الممكنات فلم يكن تصور الابن مستلزما لتصور الأب ووجود العرض مستلزما لوجود الجوهر إلى غير ذلك والحاصل أن لزوم العلم للنظر عقلي عندهم حتى يمتنع الانفكاك كتصور الأب لتصور الابن وعادي عند الأولين حتى لا يمتنع الانفكاك بطريق خرق العادة كالإحراق بالنار وإلى المذاهب الثلاثة لأصحابنا أشار في المتن بقوله عادة مع الكسب أو بدونه أو لزوما عقليا قال فإن قيل تقدير السؤال أن الحكم بأن النظر يفيد العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه لو كان ضروريا لما وقع فيه اختلاف العقلاء كسائر الضروريات ولكان مثل قولنا الواحد نصف الاثنين في الوضوح من غير تفاوت لأن التفاوت دليل الاحتمال والاشتباه وهو بنا في الضرورة وكلا اللازمين منتف لوقوع الاختلاف وظهور التفاوت وأما الثاني فلأنه لو كان نظريا لكان إثباته بالنظر وفيه دور من جهة توقفه على الدليل وعلى استلزامه المدلول وهو معنى الإفادة وتناقض من جهة كونه معلوما لكونه وسيلة وليس بمعلوم لكونه مطلوبا وهذا معنى قولهم إثبات النظر بالنظر تناقض فإن قيل معنى إثبات القضية النظرية أن العلم بها يستفاد من النظر بأن يعلم المقدمات مرتبة فيعلم النتيجة وهذا إنما يتوقف على كون النظر مفيدا للعلم لا على العلم بذلك فالموقوف هو التصديق والموقوف عليه هو الصدق وهذا كما أن تصور الماهية مستفاد من الخاصة اللازمة بمعنى أنها تتصور فيتصور وإن لم يعلم الاختصاص واللزوم قلنا مبنى الكلام على أن اللازم في القياس هو صدق النتيجة والملزوم صدق المقدمات المرتبة وأما التصديق بالنتيجة أعني العلم بحقيقتها فإنما يستلزمه التصديق بالمقدمات المرتبة وكونها مستلزمة للمطلوب بديهة أو اكتسابا على ما تقرر من أن العلم بتحقق اللازم يستفاد من العلم باللزوم وبتحقق الملزوم وهذا بخلاف التعريف بالخاصة فإن اللزوم متحقق بين التصورين حتى لو كان التصديق بالمقدمات مع التصديق بالنتيجة كذلك سقط السؤال وتقرير الجواب أنا نختار أنه ضروري ولا نسلم امتناع الاختلاف والتفاوت في الضروريات بل قد يختلف فيها جمع من العقلاء لخفاء في تصورات الأطراف وعسر في تجريدها عن اللواحق المانعة عن ظهور الحكم وقد يقع فيها التفاوت لتفاوتها في ذلك وفي كثرة التفات النفس إليها أو يختار أنه نظري يثبت بنظر مخصوص ضروري المقدمات ابتداء وانتهاء من غير لزوم دور أو تناقض بأن يقال في قولنا العالم متغير وكل متغير حادث أن هذا الترتيب المخصوص أو العلوم المرتبة نظر إذ لا معنى له سوى ذلك ثم أنه يفيد بالضرورة العلم بأن العالم حادث ينتج أن نظرا ما يفيد العلم على ما ادعاه الإمام وإن شئنا إثبات القاعدة الكلية على ما ادعاه الآمدي قلنا معلوم بالضرورة أن هذه الإفادة ليست لخصوصية هذه المادة بل لصحة النظر المخصوص مادة وصورة وكونه على شرائطه فكل نظر يكون كذلك يفيد العلم وهو المطلوب وهذا ما قال إمام الحرمين أنه لا يعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره إلا أنه لما اعترف بإثبات الشيء بنفسه اعترض الإمام الرازي بأن فيه تناقضا وتقدما للشيء على نفسه وجوابه أن نفس الشيء بحسب الذات قد تغايره بحسب الاعتبار فنخالفه في الأحكام كهذا الذي أثبتنا به كون كل نظر مفيدا للحكم فإنه من حيث ذاته وسيلة ومتقدم ومعلوم ومن حيث كونه من إفراد النظر مطلوب ومتأخر ومجهول وتفصيله أن الموقوف المجهول المطلوب بالنظر هو القضية الموجبة المهملة أو الموجبة الكلية التي عنوان موضوعها مفهوم النظر أعني قولنا النظر يفيد العلم أو كل نظر مقرون بشرائطه يفيد العلم والموقوف عليه المعلوم بديهة هو القضية الشخصية التي موضوعها ذات النظر المخصوص أعني قولنا العالم متغير وكل متغير حادث يفيد العلم بأن العالم حادث من غير اعتبار كون هذا الموضوع من إفراد النظر فلا يكون الشيء الواحد بالذات والاعتبار متقدما على نفسه ومعلوما حين ما ليس بمعلوم ليلزم الدور والتناقض وأصل الباب أن الحكم بالشيء على الشيء قد يختلف لوازمه من الاستغناء عن الدليل أو الافتقار إليه أو إلى التنبيه أو إلى الإحساس أو غير ذلك باختلاف التعبير عن المحكوم عليه مثلا إذا حاولنا الحكم على العالم بالحدوث فربما يقع التعبير عنه بما يجعل الحكم غير مفيد أصلا كقولنا كل موجود بعد العدم حادث أو مفيدا بديهيا كقولنا كل ما يقارن تعلق القدرة والإرادة الحادثة فهو حادث أو مفيدا كسبيا كقولنا كل متغير فهو حادث وبهذا ينحل ما يورد على الشكل الأول من أن العلم بالنتيجة لما توقف على العلم بالكبرى الكلية التي من جملة إفراد موضوعها موضوع النتيجة لزم توقف النتيجة على نفسها وكونها معلومة قبل أن تعلم وهو تناقض وذلك لأن معلومية الحكم كحدوث العالم من جهة كون المحكوم عليه من إفراد الأوسط كالمتغير لا يناقض مجهوليته من جهة كونه من إفراد الأصغر أعني العالم فإن قيل لا خفاء في أن كون النظر مفيدا للعلم ضروري في الشكل الأول نظري في باقي الأشكال فكيف يصح اختيار أنه ضروري مطلقا على ما ذهب إليه الإمام الرازي أو نظري مطلقا على ما ذهب إليه إمام الحرمين قلنا الكلام فيما إذا أخذ عنوان الموضوع هو النظر فيقال النظر أو كل نظر على شرائطه يفيد العلم وما ذكر من التفصيل قطعا إنما هو في الخصوصيات مثل قولنا العالم متغير مع قولنا وكل متغير حادث أو ولا شيء من القديم بمتغير فإن العلم بإفادة الأول ضروري والثاني نظري على أن هذا التفصيل إنما هو بالنظر إلى مجرد ترتيب المقدمتين ووضع الحد الأوسط عند الحدين الآخرين وأما بعد حصول جميع الشرائط فالحكم بإفادة كل من خصوصيات النظر العلم ضروري في جميع الأشكال على ما يراه بعض المحققين من أن من جملة الشرائط ملاحظة جهة دلالة المقدمتين على المطلوب وكيفية اندراجه فيهما بالقوة حتى قال الإمام حجة الإسلام أن هذا هو السبب الخاص لحصول النتيجة بالفعل وبدونه ربما يذهل عن النتيجة مع حضور المقدمتين كما إذا رأى بغلة منتفخة البطن فتوهم أنها حامل مع ملاحظة أنها بغلة عاقر وكل بغلة ولا خفاء في أن مع ملاحظة جهة الإنتاج والتفطن لكيفية الاندراج يتساوى الأشكال في الجلاء حتى ذهب بعض أهل التحقيق إلى أن الكل ح يرجع إلى الشكل الأول بحسب التعقل وإن لم يتمكن من تلخيص العبارة فيه وتمام تحقيقه في شرح الأصول لصاحب المواقف ثم كلام القوم هو أن العلم بكون التفطن للاندراج شرطا للإنتاج ضروري وحديث البغلة تنبيه عليه ومنع الإمام على ما قال أن ذلك إنما يكون عند حصول إحدى المقدمتين فقط وأما عند اجتماعهما فلا نسلم إن كان الشك في النتيجة مكابرة واستدلاله على بطلان ذلك بأن الاندراج لو كان معلوما مغايرا للمقدمتين لكانت مقدمة أخرى مشروطة في الإنتاج فينقل الكلام إلى كيفية التئامها مع الأوليين ويفضي إلى اعتبار ما لا نهاية لها من المقدمات ضعيف لأن ذلك ملاحظة لكيفية نسبة المقدمتين إلى النتيجة لا قضية هي جزء القياس ليكون مقدمة على أنه لو سمى مقدمة أو جعل عبارة عن التصديق يكون الأصغر بعض جزئيات الأوسط التي حكم على جميعها بالأكبر فليس بلازم أن يكون له مع المقدمتين هيئة واندراج شرط العلم بها لتحصل مقدمة رابعة وهلم جرا فإن قيل لا نزاع في أنه لا يكفي حضور المقدمتين كيف اتفق بل لا بد من ترتيبهما على هيئة مخصوصة هي الجزء الصوري بحيث يكون على ضرب من الضروب المنتجة وأنه لا بد مع ذلك في غير الشكل الأول من بيان اللزوم بالخلف أو بالعكس أو نحوهما حتى لو استحضرت المقدمتان في حديث البغلة على هيئة الشكل الرابع لم يمتنع الشك مالم يعكس الترتيب مثلا فما المتنازع في هذا المقام قلنا هو أن حصول العلم بالنتيجة بعد تمام القياس مادة وصورة بمعنى حضور المقدمتين على هيئة مخصوصة منتجة مشروطة بملاحظة تلك الهيئة فيما بين المقدمتين ونسبة النتيجة إليهما وكيفية اندراجها فيهما بالقوة ويكون ذلك في الشكل الأول بمجرد الالتفات وفي البواقي بالاكتساب ويرجع الكل إلى بيان إثبات أو نفي هو الواسطة ملزوم لإثبات أو نفي هو المطلوب على ما هو حقيقة الشكل الأول ويكون طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ومن ههنا استدل بعض المتأخرين على هذا الاشتراط بتفاوت الأشكال في الإنتاج وضوحا وخفاء إلا أنه لم يجزم بذلك لأن كون طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ليس بقطعي لجواز أن تكون هي نفسها شرائط العلم بلزوم النتائج التي هي لوازم الأشكال يعلم لزوم بعضها بلا واسطة وبعضها بوسط خفي أو أخفى وقد يقرر الاستدلال بأن المقدمتين المعينتين قد يتخذ منهما شكل بين الإنتاج كقولنا العالم متغير وكل متغير حادث وآخر غير بين كقولنا كل متغير حادث والعالم متغير فلو لم يكن للهيئة مدخل في لزوم النتيجة لما كان كذلك لاتحاد المادة ويجاب بأن اللازم متعدد وهو العالم حادث وبعض الحادث هو العالم فيجوز أن يكون لزوم أحدهما أوضح مع اتحاد الملزوم ولو أخذ اللازم واحدا وهو قولنا العالم حادث فاستنتاجه من شكل آخر لا يتصور إلا بتغيير إحدى المقدمتين أو كلتيهما كقولنا بعض المتغير هو العالم وكل متغير حادث من الثالث أو كل حادث متغير من الرابع إذا صدق العكس كليا وحيننئذ يتعدد المادة ولا يمتنع أن يكون اللزوم للبعض أوضح وأنت بعد تحرير محل النزاع خبير بحال هذا التقرير لا يقال الاستدلال بتفاوت الأشكال يفيد القطع بهذا الاشتراط لأن القياس المقرون بالشرائط ملزوم للنتيجة قطعا واللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم فلو لم يكن التفطن لكيفية الاندراج شرطا متفاوت الحصول بأن يحصل في البعض بمجرد الالتفات وفي البعض بوسط خفي أو أخفى لزم استواء جميع الضروب المنتجة في حصول النتيجة عند حصولها ضرورة امتناع انفكاك اللازم عن الملزوم المستجمع بشرائط اللزوم لأنا نقول فرق بين لزوم الشيء والعلم بلزومه فالضروب والأشكال متساوية في لزوم النتائج إياها بمعنى حقيتها في نفس الأمر على تقدير حقيتها وإنما التفاوت في العلم بذلك وشروطه متفاوتة الحصول كالالتفات أو الاكتساب بخفي أو أخفى وإن لم يكن التفطن لكيفية الاندراج من جملتها قال احتج المخالف بوجوه وإنما لم نورد الشبهة السابقة في ضمن الوجوه لأنها لنفي أن يكون التصديق الحاصل عقيب النظر علما مطلقا أو في الطبيعيات والإلهيات أو في الإلهيات خاصة على ما ذكره الإمام من أنه لا نزاع في إفادة النظر الظن وإنما النزاع في إفادته ليقين الكامل وينبغي أن لا تكون العدديات محل الخلاف والشبهة السابقة تنفي كون النظر مفيدا للتصديق مطلقا
صفحة ٣٩
الوجه الأول أن العلم بأن الإعتقاد الحاصل عقيب النظر علم إن كان ضروريا لم يظهر أي لم يقع عقيب النظر خلاف ذلك أو لم يظهر بعد هذا خلاف ذلك لامتناع أن يقع أو يظهر خلاف الضروري واللازم باطل لأن كثيرا من الناس لا يحصل عقيب نظرهم إلا الجهل وكثيرا ما ينكشف للناظر خلاف ما حصل من نظره ويظهر خطاؤه ولذلك ينقل المذاهب وإن كان نظريا افتقر إلى نظر آخر يفيد العلم بأنه علم ويتسلسل ورد بأنا نختار أنه ضروري ولانم ظهور الخلاف من هذا النظر أو بعده إذ الكلام في النظر الصحيح ولازم الحق حق قطعا أو نختار أنه نظري ولانم افتقاره إلى نظر آخر فإن النظر الصحيح كما أفاد العلم بالنتيجة أفاد العلم بأن ذلك علم لا جهل أو ظن وكذا حال العلم بعدم المعارض إذ لا يتصور المعارض للنظر الصحيح في القطعيات وبهذا تندفع شبهة أخرى وهي أن النظر لو أفاد العلم فلا بد أن يكون مع العلم بعدم المعارض إذ لا جزم مع المعارض ثم أنه ليس بضروري إذ كثيرا ما يظهر المعارض بل نظري فيفتقر إلى نظر آخر موقوف على عدم المعارض ويتسلسل فقوله كالعلم بأنه لا معارض معناه أنه يجوز أن يكون ضروريا ولانم ظهور المعارض بعد النظر الصحيح وأن يكون نظريا ولانم توقفه على نظر آخر وههنا بحث نطلعك عليه في آخر المقصد وفي تقرير الطوالع ههنا قصور حيث قال العلم الحاصل عقيب النظر إما أن يكون ضروريا أو نظريا وكلاهما محال كأنه على حذف المضاف أي علمية العلم الحاصل أعني كونه علما ولهذا صح منه اختيار أنه ضروري وإلا فالحاصل بالنظر لا يكون ضروريا إلا بمعنى أنا نضطر إلى الجزم به للجزم بالمقدمات لكنه بهذا المعنى لا يقابل النظري
الثاني أن النظر مشروط بعدم العلم بالمطلوب لئلا يلزم طلب الحاصل فلو كان مفيدا للعلم أي مستلزما له عقلا أو عادة لما كان مشروطا بعدمه ضرورة امتناع كون الملزوم مشروطا بعدم اللازم ورد بأن معنى الاستلزام ههنا الاستعقاب عقلا أو عادة بمعنى أنه يلزم حصول العلم بالمط عند تمام النظر فالملزوم للعلم انتهاؤه والمشروط بعدم العلم بقاؤه
الثالث لو أفاد النظر العلم بمعنى لزومه عقيبه عقلا أو عادة لقبح التكليف بالعلم لكونه بمنزلة الضروري في الخروج عن القدرة والاختيار وعن استحقاق الثواب والعقاب وأجيب بعد تسليم قاعدة القبح العقلي بأن التكليف إنما يكون بالأفعال دون الكيفيات والإضافات والانفعالات والعلم عند المحققين من الكيفيات دون الأفعال فالتكليف لا يكون إلا بتحصيله وذلك بمباشرة الأسباب كصرف القوة والنظر واستعمال الخواص فكان هذا مراد الآمدي بما قال أن التكليف لم يقع بالمنظور فيه ليصح بل بالنظر وهو مقدور وإلا فلا خفاء في وقوع التكليف بمعرفة الصانع ووحدانيته ونحو ذلك وبالجملة فالعلم النظري مقدور التحصيل والترك بخلاف الضروري ولزومه بعد تمام النظر لا ينافي ذلك ومن ههنا أمكن في القضية النظرية اعتقاد النقيض بخلاف القضية البديهية
الرابع إن أقرب الأشياء إلى الإنسان اتصالا ومناسبة هويته التي يشير إليها بقوله أنا وقد كثر فيها الخلاف ولم يحصل من النظر الجزم بأنها هذا الهيكل المحسوس أو أجزاء لطيفة سارية فيه أو جزء لا يتجزأ في القلب أو جوهر مجرد متعلق به أو غير ذلك فكيف فيما هو أبعد كالسماويات والعناصر وعجائب المركبات وأبعد كالمجردات والإلهيات من مباحث الذات والصفات وأجيب بأن ذلك إنما يدل على صعوبة تحصيل هذه العلوم بالنظر لا على امتناعه والمتنازع هو الامتناع لا الصعوبة
صفحة ٤٠
الخامس لو أفاد النظر العلم أي التصديق في الحقائق الإلهيات لكان شرطه وهو التصور متحققا لكنه منتف إما بالضرورة فقط وإما بالكسب فلأن الحد ممتنع لامتناع التركيب والرسم لا يفيد تصور الحقيقة وأجيب بأن الرسم قد يفيد تصور الحقيقة وإن لم يستلزمه ولو سلم فيكفي التصور بوجه ما
صفحة ٤١
السادس أن العلم بوجود الواجب هو الأساس في الإلهيات ولا يمكن اكتسابه بالنظر لأنه يستدعي دليلا يفيد أمرا ويدل عليه وذلك إما نفس ثبوت الصانع أو العلم به وإلا لما كان دليلا عليه فإن كان الأول لزم من انتفائه إنتاؤه ضرورة انتفاء المفاد بانتفاء المفيد وإن كان الثاني لزم من عدم النظر في الدليل أن لا يكون دليلا لأن هذا وصف إضافي لا يعرض إلا بالإضافة إلى المدلول الذي فرضناه العلم وهو منتف عند عدم النظر وأجيب بأنا لا نعني بكون الدليل مفيدا بشيء وموجبا له أنه يوجده ويحصله على ما هو شأن العلل بل بأنه بحيث متى وجد وجد ذلك الشيء ومتى نظر فيه علم ذلك الشيء وحاصله أن وجوده مستلزم لثبوته والنظر فيه مستلزم للعلم به ومعلوم أن انتفاء الملزوم لا يوجب انتفاء اللازم وأن عدم النظر فيه لا ينافي كونه بحيث متى نظر فيه علم المدلول وأورد على جميع الوجوه بل على كل ما يحتج به لإثبات أن النظر لا يفيد العلم أن العلم بكون النظر غير مفيد للعلم إن كان نظريا مستفادا من شيء من الاحتجاجات يلزم التناقض إذ النظر قد أفاد العلم في الجملة وإن كان ضروريا والوجوه المذكورة تنبيهات عليه لزم خلاف أكثر العقلاء في الحكم الضروري وهو باطل بالضرورة وإنما الجائز خلاف جمع من العقلاء وهو لا يستلزم جواز خلاف الأكثر فإن قيل نحن نعترف بأن الاحتجاج لا يفيد العلم لكن لما احتججتم على الإفادة احتججنا على نفي الإفادة معارضة للفاسد بالفاسد قلنا ما ذكرتم من الوجوه إن أفادت فساد كلامنا كان النظر مفيدا للعلم وهو المط وإن لم يفد كان لغوا وبقي ما ذكرنا سالما عن المعارض قال وأما النظر الفاسد القائلون بأن النظر الصحيح المقرون بشرائطه يستلزم العلم اختلفوا في أن النظر الفاسد هل يستلزم الجهل أي الإعتقاد الغير المطابق فقال الإمام يستلزمه لأن من اعتقد أن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر استحال أن لا يعتقد أن العالم غني عن المؤثر وقيل إن كان الفساد مقصورا على المادة يستلزمه وإلا فلا أما الأول فلأن لزوم النتيجة للقياس المشتمل على الشرائط ضروري ابتداء أو انتهاء سواء كانت المقدمات صادقة أو كاذبة كما في المثال المذكور وأما الثاني فلأن معنى فساد الصورة أنه ليس من الضروب التي يلزمها النتيجة والصحيح أنه لا يستلزم الجهل على التقديرين أما عند فساد الصورة فظاهر وأما عند فساد المادة فقط بأن تكون الصورة من الضروب المنتجة فلأن اللازم من الكاذب قد لا يكون كاذبا كما إذا اعتقد أن العالم أثر الموجب بالذات وكل ما هو أثر الموجب بالذات فهو حادث فإنه يستلزم أن العالم حادث وهو حق مع كذب القياس بمقدمتيه نعم قد يفيد الجهل كما إذا اعتقد أن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر والتحقيق أنه لا نزاع في أن الفاسد صورة لا يستلزم بالاتفاق والفاسد مادة فقط قد يستلزم وقد لا يستلزم فمراد الإمام الإيجاب الجزئي كما في المثال المذكور ومرادنا نفي الإيجاب الكلي لعدم اللزوم في بعض المواد والقائلون بأنه لا لزوم أصلا يريدون اللزوم الذي مناطه صفة في الشبهة بمعنى أن شبهة المنظور فيها ليس لها لذاتها صفة ولا وجه بكونها مناطا للملازمة بينها وبين المطلوب وإلا لما انتفت الدلالة بظهور الغلط ولكان المحققون بل المعصومون عن الخطأ أولى بأن يستلزم نظرهم في الشبهة الجهل بناء على أنهم أحق بالاطلاع على وجه الدلالة فيها وهذا بخلاف الدليل فإن له صفة ووجه دلالة في ذاته وهو مناط استلزامه المطلوب عند حصول الشرائط وأما اللزوم العائد إلى اعتقاد الناظر في بعض الصور كما إذا اعتقد حقية المقدمات في المثال المذكور فلا نزاع فيه واعترض الإمام بأن عدم حصول الجهل للمحق الناظر في شبهة المبطل يجوز أن يكون بناء على عدم اطلاعه على ما فيها من جهة الاستلزام أو عدم اعتقاده حقية المقدمات كما أن نظر المبطل في دليل المحق لا يستلزم العلم بذلك وما ذكر من كون المحق أولى بالاطلاع إنما هو فيما يفيد الحق والعلم لا الباطل والجهل ( قال المبحث الثالث يشترط ) للنظر صحيحا كان أو فاسدا بعد شرائط العلم من الحيوة والعقل وعدم النوم والغفلة ونحو ذلك أمران
أحدهما عدم العلم بالمطلوب إذ لا طلب مع الحصول وثانيهما عدم الجهل المركب به أعني عدم الجزم بنقيضه لأن ذلك يمنعه من الإقدام على الطلب إما لأن النظر يجب أن يكون مقارنا للشك على ما هو رأي أبي هاشم والجهل المركب مقارن للجزم فيتناقضان وإما لأن الجهل المركب صارف عنه كالأكل مع الامتلاء على ما هو رأي الحكماء من أن النظر لا يجب أن يكون مع الشك وإليه ذهب القاضي بل ذهب الأستاذ إلى أن الناظر يمتنع أن يكون شاكا وما ذكرنا مع وجازته أوضح مما قال في المواقف أن شرط النظر مطلقا بعد الحياة أمران الأول وجود العقل
صفحة ٤٢
والثاني عدم ضده أي ضد النظر فمنه أي من ضده ما هو عام أي ضد للنظر ولكل إدراك كالنوم والغفلة مثلا ومنه ما هو خاص أي ضد للنظر دون الإدراكات وهو العلم بالمطلوب والجهل المركب به فإن قيل الجهل المركب ضد للعلم فانتفاؤه مندرج في شرائط العلم فيكون في عباراتكم استدراك قلنا الجهل المركب بالمط يكون ضدا للعلم به لا للعلم على الإطلاق ليكون انتفاؤه من جملة شرائط العلم وبهذا يظهر أن تفسير الضد العام في عبارة المواقف بما يضاد العلم وجميع الإدراكات كالنوم والغفلة والخاص بما يضاد العلم خاصة كالعلم بالمطلوب والجهل المركب به كلام من قبيل الثاني فإن قيل لو كان النظر مشروطا بعدم العلم بالمطلوب لما جاز النظر في دليل ثان وثالث على مطلوب لحصول العلم به بالدليل الأول أجيب بأن ذلك إنما يشترط حيث يقصد بالنظر طلب العلم أو الظن لكن قد يورد صورة النظر والاستدلال لا لذلك بل لغرض آخر عائد إلى الناظر وهو زيادة الاطمئنان بتعاضد الأدلة أو إلى المتعلم بأن يكون ممن يحصل له استعداد القبول باجتماع الأدلة دون كل واحد أو بهذا الدليل دون ذاك فإن الأذهان مختلفة في قبول اليقين فربما يحصل للبعض من دليل ولبعض آخر من دليل آخر وربما يحصل من الاجتماع كما في الإقناعيات وقال الإمام النظر في الدليل الثاني نظر في وجه دلالته أي المط منه كونه دليلا على النتيجة وهو غير معلوم والحق أن هذا لازم لكن المطلوب والنتيجة اسم لما يلزم المقدمات بالذات وبالتعيين وهو القضية التي موضوعها موضوع الصغرى ومحمولها محمول الكبرى وأما النظر الصحيح فيشترط أن يكون نظرا في الدليل دون الشبهة وأن يكون النظر فيه من جهة دلالته وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول فإذا استدللنا بالعالم على الصانع بأن نظرنا فيه وحصلنا قضيتين
إحداهما أن العالم حادث
صفحة ٤٣
والأخرى أن كل حادث له صانع ليعلم من ترتيبهما أن العالم له صانع فالعالم هو الدليل عند المتكلمين لا نفس المقدمتين المرتبتين على ما هو اصطلاح المنطق وثبوت الصانع هو المدلول وكون العالم بحيث يفيد النظر فيه العلم بثبوت الصانع هو الدلالة وإمكان العالم وحدوثه الذي هو سبب الاحتياج إلى المؤثر هو جهة الدالة وهذه الأربعة أمور متغايرة بمعنى أن المفهوم من كل منها غير المفهوم من الآخر فتكون العلوم المتعلقة بها متغايرة بحسب الإضافة قال حجة الإسلام لما كان جهة الدلالة في القياس هو التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدلالة عين المدلول أو غيره والحق أن المطلوب هو المدلول المنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمة بالقوة وبالجملة فالمشهور من الاختلاف في هذا البحث هو الاختلاف في مغايرة جهة الدلالة للمدلول فيتفرع عليه الاختلاف في تغاير العلم بهما على ما قال الإمام الرازي وغيره أن العلم بوجه دلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول فيه خلاف والحق المغايرة لتغاير المدلول ووجه الدلالة وأما ما ذكر في المواقف من أن الخلاف في أن العلم بدلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول وفي أن وجه الدلالة هل يغاير الدليل فلم يوجد في الكتب المشهورة إلا أن الإمام ذكر في بيان مغايرة العلم بوجه الدلالة للعلم بالمدلول أن ههنا أمور الثلاثة هي العلم بذات الدليل كالعلم بإمكان العالم والعلم بذات المدلول كالعلم بأنه لا بدله من مؤثر والعلم بكون الدليل دليلا على المدلول ولا خفاء في تغاير الأولين وكذا في مغايرة الثالث لهما لكونه علما بإضافة بين الدليل والمدلول مغايرة لهما وهذا الكلام ربما يوهم خلافا في مغايرة العلم بدلالة الدليل للعلم بالمدلول حيث احتيج إلى البيان وجعل العلم بإمكان العالم مع أنه وجه الدلالة مثالا للعلم بذات الدليل يوهم القول بأن وجه الدلالة نفس الدليل وفي نقد المحصل ما يشعر بالخلاف في وجوب مغايرته للدليل والمدلول لأنه قال أن هذه المسألة إنما تجري بين المتكلمين عند استدلالهم بوجود ما سوى الله تعالى على وجوده تعالى فيقولون لا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سوى الله تعالى على وجوده مغايرا لهما لأن المغاير لوجوده تعالى داخل في وجود ما سواه والمغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط والجواب أن العلم بوجه دلالة الدليل على المدلول الذي هو مغاير لهما هو أمر اعتباري عقلي ليس بموجود في الخارج كما سيجيء في تحقيق التضايف هذا كلامه وأنت خبير بأن الأمر الاعتباري الإضافي هو دلالة الدليل على المدلول لا وجه الدلالة الذي هو صفة في الدليل كالإمكان والحدوث في العالم ثم ظاهر عبارته أن المحكوم عليه يكون أمرا اعتباريا هو العلم بوجه الدلالة وفساده بين ( قوله ولا يشترط للنظر في معرفة الله تعالى وجودالمعلم ) خلافا للملاحدة لنا وجوه
الأول أنه قد بينا إفادة النظر الصحيح المقرون بالشرائط العلم على الإطلاق سواء كان في المعارف الإلهية أو غيرها وسواء كان معه معلم أو لا وأما إمكان تحصيل المقدمات الضرورية وترتيبها على الوجه المنتج بمعونة صناعة المنطق فمعلوم بالضرورة
الثاني أن نظر المعلم أيضا لكونه نظرا في معرفة الله تعالى يحتاج إلى معرفة معلم آخر ويتسلسل إلا أن نخص الاحتياج إلى المعلم بغير المعلم ونجعل نظر المعلم كافيا لكونه مخصوصا بتأييد إلهي أو تنتهي سلسلة التعليم إلى المعلم المستند علمه إلى النبي عليه السلام المستند إلى الوحي
صفحة ٤٤
الثالث إن إرشاد المعلم لا يفيدنا إلا بعد العلم بصدقه وصدقه إما أن يعلم بالنظر فيكون النظر كافيا في المعرفة حيث أفاد صدق المعلم المفيد للمعرفة وإما أن يعلم بقول ذلك المعلم فيدور لأن قوله أي إخباره عن كونه صادقا لا يفيد كونه كذلك إلا بعد العلم بأنه صادق البتة وإما بقول معلم آخر وهكذا إلى أن يتسلسل وقد يجاب بأنا لا نجعل المعلم مستقلا بإفادة المعرفة ليلزمنا العلم بكونه صادقا لا يكذب البتة بل نجعل المقيد هو النظر المقرون بإرشاد منه إلى الأدلة ودفع الشبه لكون عقولنا قاصرة عن الاستدلال بذلك مفتقرة إلى إمام يعلمنا الأدلة ودفع الشبه ليحصل لنا بواسطة تعليمه وقوة عقولنا معرفة الحقائق الإلهية التي من جملتها كونه إماما يستحق الإرشاد والتعليم ثم لا يخفى أن ما ذكر من الوجوه بتقدير تمامها إنما يراد الاحتياج إلى المعلم في حصول المعرفة وأما لو أرادوا الاحتياج إليه في حصول النجاة بمعنى أن معرفة الثاني بالنظر لا تفيد النجاة مالم يتصل به تعليم ولم يكن مأخوذا من معلم وامتثالا لأمره على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي التنزيل فاعلم أنه لا إله إلا الله وقل هو الله أحد وكثير من المعترفين بالصانع ووحدانيته كانوا كافرين بناء على عدم أخذهم ذلك من النبي عليه السلام وعدم امتثالهم أمره فطريق الرد عليهم أن حاصل ما ذكرتم الاحتياج في النجاة إلى معلم علم صدقه بالمعجزات وذلك هو النبي عليه السلام وكفى به إماما ومرشدا إلى قيام الساعة من غير احتياج في كل عصر إلى معلم يجدد طريق الإرشاد والتعليم وتتوقف النجاة على متابعته والاعتراف بإمامته وأما احتجاج الملاحدة مع الجواب عنه فظاهر من المتن ( قال المبحث الرابع لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب النظر في معرفة الله تعالى ) أي لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا إن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأينا أو عقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال أما كون النظر مقدورا فظاهر وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به وأما وجوب المعرفة فعندنا بالشرع للنصوص الواردة فيه والإجماع المنعقد عليه واستناد جميع الواجبات إليه وعند المعتزلة بالعقل لأنها دافعة للضرر المظنون وهو خوف العقاب في الآخرة حيث أخبر جمع كثير بذلك وخوف ما يترتب في الدنيا على اختلاف الفرق في معرفة الصانع من المحاربات وهلاك النفوس وتلف الأموال وكل ما يدفع الضرر المظنون بل المشكوك واجب عقلا كما إذا أراد سلوك طريق فأخبر بأن فيه عدوا أو سبعا ورد بمنع ظن الخوف في الأعم الأغلب إذ لا يلزم الشعور بالاختلاف وبما يترتب عليه من الضرر ولا بالصانع وبما رتب في الآخرة من الثواب والعقاب والإخبار بذلك إنما يصل إلى البعض وعلى تقدير الوصول لا رجحان لجانب الصدق لأن التقدير عدم معرفة الصانع وبعثة الأنبياء ودلالة المعجزات ولو سلم ظن الخوف فلا نسلم أن تحصيل المعرفة يدفعه لأن احتمال الخطأ قائم فخوف العقاب أو الاختلاف بحاله والعناء زيادة فإن قيل لا شك أن من حصل المعرفة أحسن حالا ممن لم يحصل لاتصافه بالكمال وتحصيل الأحسن واجب في نظر العقل قلنا نعم إذا حصلت المعرفة على وجهها ولا قطع بذلك بل ربما يحصل ويقع في أودية الضلال فيهلك ولهذا قيل البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء هذا بعد تسليم وجوب الأحسن وتقرير السؤال على ما ذكرنا تتميم للدليل المذكور لبيان وجوب المعرفة وعلى ما في المواقف وهو أن الناظر أحسن حالا ابتداء دليل على وجوب النظر عقلا وأورد على هذا الاستدلال إشكالات بعضها غير مختص به ولا مفتقر إلى حله لكونه منعا على مقدمات مثبتة مقررة مثل إفادة النظر العلم مطلقا وفي الإلهيات وبلا معلم وإمكان تحقق الإجماع ونقله وكونه حجة وبعضها مختص به مفتقر إلى دفعه وهي خمسة
الأول أن وجوب المعرفة فرع إمكان إيجابها وهو ممنوع لأنه إن كان للعارف كان تكليفا بتحصيل الحاصل وهو محال وإن كان لغيره كان تكليفا للغافل وهو باطل والجواب أن إمكانه ضروري والسند مدفوع بأن الغافل من لم يبلغه الخطاب أو بلغه ولم يفهمه لا من لم يكن عارفا بما كلف بمعرفته وتحقيقه أن المكلف بمعرفة أن للعالم صانعا قديما متصفا بالعلم والقدرة مثلا يكون عارفا بمفهومات هذه الألفاظ مكلفا بتحصيل هذا التصديق وتصور تلك المفهومات بقدر الطاقة البشرية
صفحة ٤٥
الثاني أنا لا نسلم قيام الدليل على وجوب المعرفة أما النص مثل قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فلأنه ليس بقطعي الدلالة إذ الأمر قد يكون لا للوجوب وأما الإجماع فلأنه ليس قطعي السند إذ لم ينقل بطريق التواتر بل غايته الآحاد فللخصم أن يمنعه بل يدعي الإجماع على أنه يكفي التصديق علما كان أو ظنا أو تقليدا فإن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كانوا يكتفون من العوام بالتقليد والانقياد ولا يكلفونهم التحقيق والاستدلال والجواب أن الظن كاف في الوجوب الشرعي على أن الإجماع عليه متواتر إذ بلغ ناقلوه في الكثرة حدا يمتنع تواطؤهم به على الكذب فيفيد القطع وما ذكر من الإجماع على الاكتفاء بالتقليد فليس كذلك وإنما هو اكتفاء بالمعرفة الحاصلة من الأدلة الإجمالية على ما أشير إليه بقوله تعالى
﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾
من غير تلخيص العبارة في ترتيب المقدمات وتحقيق شرائط الإنتاج وتحرير المطالب بأدلتها وتقرير الشبه بأجوبتها على أنه لو ثبت جواز الاكتفاء بالتقليد في حق البعض فهو لا ينافي وجوب المعرفة بالنظر والاستدلال في الجملة هذا والحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر عن حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لا حد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض
الثالث أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة أو بالإلهام على ما يراه البراهمة أو بقول الإمام المعصوم على ما يراه الشيعة أو بتصفية الباطن بالرياضات والمجاهدات على ما يراه المتصوفة والجواب أنا نعلم بالضرورة أن تحصيل غير الضروري من العلوم يفتقر إلى نظر ما ظاهرا وخفي أما التعليم فظاهر لأنه ليس إلا إعانة للعقل بالإرشاد إلى المقدمات ودفع الشكوك والشبهات وقد شبهوا نظر البصيرة بنظر الباصرة وقول المعلم بالضوء الحسي وكما لا يتم الإبصار إلا بهما لا تتم المعرفة إلا بالنظر والتعليم وكذا الكلام في المعصوم إذ لا يكفي في صدقه إخبار معصوم آخر مالم ينته إلى نظر العقل وأما الإلهام فلأنه لا يثق به صاحبه مالم يعلم أنه من الله تعالى وذلك بالنظر وإن لم يقدر على العبارة عنه وأما تصفية الباطن فلأنه لا عبرة بها إلا بعد طمأنينة النفس في المعرفة وذلك بالنظر على أنه لو ثبت حصول المعرفة بدون النظر لم يضرنا لأنا إنما ندعي الاحتياج إليه في حق الأعم الأغلب وهذا لا يمنع لظهور كونه طريق العامة
صفحة ٤٦
الرابع أنا لا نسلم أن المعرفة واجب مطلق فإن معناه الوجوب على كل تقدير ووجوب المعرفة مقيد بحال الشك أي تردد الذهن في النسبة أو مجال عدم المعرفة للقطع بأنه لا وجوب حال حصول المعرفة بالفعل لامتناع تحصيل الحاصل والجواب أن ليس معنى الوجوب على كل تقدير عموم التقادير والأحوال وإلا لما كان شيء من الواجبات واجبا مطلقا إذ لا يجب على تقدير الإتيان به ولأن وجوب الصوم مثلا مطلق بالقياس إلى النية حتى يجب مقيد بالقياس إلى كون المكلف مقيما غير مسافر حتى لا تجب الإقامة وكذا وجوب الحج مقيد بالاستطاعة فلا يجب تحصيلها مطلقا بالنسبة إلى الإحرام ونحوه من الشرائط فيجب بل معناه الوجوب على تقدير وجود المقدمة وعدمها ووجوب المعرفة ليس مقيدا بالنظر بمعنى أنه لو نظر تجب المعرفة وإلا فلا يكون مطلقا وأما بالنسبة إلى الشك أو عدم المعرفة فقيد إذ لا وجوب على العارف فلا يكون تحصيل الشك أو عدم المعرفة واجبا ويندفع إشكال آخر هو نقض الدليل بهما وإنما لم يورد في المتن لما سيجيء من أن النزاع في مقدوريتهما وفي كون الشك غير واجب
صفحة ٤٧
الخامس أنا لا نسلم أن مقدمة الواجب المطلق يلزم أن تكون واجبة لجواز إيجاب الشيء مع الذهول عن مقدمته بل مع التصريح بعدم وجوبها فإن قيل إيجاب الشيء بدون مقدمته تكليف بالمحال ضرورة استحالة الشيء بدون ما يتوقف عليه قلنا المستحيل وجود الشيء بدون وجود المقدمة ولا تكليف به وإنما التكليف بوجود الشيء بدون وجوب المقدمة ولا استحالة فيه فإن قيل لو لم تجب مقدمة الواجب المطلق لجاز تركها شرعا مع بقاء التكليف بالأصل لكونه واجبا مطلقا أي على تقدير وجود المقدمة وعدمها ولا خفاء في أنه مع عدم المقدمة محال فيكون التكليف به ح تكليفا بالمحال قلنا عدم جواز ترك الشيء شرعا قد يكون لكونه لازما للواجب الشرعي فيكون واجبا بمعنى أنه لا بد منه وهذا لا يقتضي كونه مأمورا به متعلقا بخطاب الشارع على ما هو المتنازع والجواب تخصيص الدعوى وهو أن المأمور به إذا كان شيئا ليس في وسع العبد إلا مباشرة أسباب حصوله كان إيجابه إيجابا لمباشرة السبب قطعا كالأمر بالقتل فإنه أمر باستعمال الآلة وحز الرقبة مثلا وههنا العلم نفسه ليس فعلا مقدورا بل كيفية فلا معنى لإيجابه إلا إيجاب سببه الذي هو النظر وليس هذا مبنيا على امتناع تكليف المحال حتى يرد الاعتراض بأنه جايز عندكم واعلم أنه لما كان المقصود وجوب النظر شرعا وقد وقع الإجماع عليه كما صرحوا به فلا حاجة إلى ما ذكروا من المقدمات ودفع الاعتراضات بل لو قصد إثبات مجرد الوجوب دون أن يكون بدليل قطعي لكفى التمسك بظواهر النصوص كقوله تعالى
﴿فانظر إلى آثار رحمة الله﴾
﴿قل انظروا ماذا في السماوات﴾
إلى غير ذلك قال قالوا لو لم يجب إلا شرعا احتجت المعتزلة على أن وجوب النظر في المعجزة والمعرفة وسائر ما يؤدي إلى ثبوت الشرع عقلي بأنه لو لم يجب إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء فلم يكن للبعثة فائدة وبطلانه ظاهر ووجه اللزوم أن النبي عليه السلام إذا قال للمكلف انظر في معجزتي حتى يظهر لك صدق دعواي فله أن يقول لا أنظر مالم يجب علي لأن ترك غير الواجب جايز ولا يجب علي ما لم يثبت الشرع لأنه لا وجوب إلا بالشرع ولا يثبت الشرع مالم أنظر لأن ثبوته نظري لا ضروري فإن قيل قوله لا أنظر مالم يجب ليس بصحيح لأن النظر لا يتوقف على وجوبه قلنا نعم إلا أنه لا يكون للنبي ح إلزامه النظر لأنه لا إلزام على غير الواجب وهو المعنى بالإفحام وأجيب أولا بأنه مشترك الإلزام وحقيقته إلجاء الخصم إلى الاعتراف ينقض دليله إجمالا حيث دل على نفي ما هو الحق عنده في صورة النزاع وتقريره أن للمكلف أن يقول لا أنظر مالم يجب ولا يجب مالم أنظر لأن وجوبه نظري يفتقر إلى ترتيب المقدمات وتحقيق أن النظر يفيد العلم مطلقا وفي الإلهيات سيما إذا كان طريق الاستدلال ما سبق من أنه مقدمة للمعرفة الواجبة مطلقا فإن قيل بل هو من النظريات الجلية التي يتنبه لها العاقل بأدنى التفات أو إصغاء إلى ما يذكره الشارع من المقدمات قلنا لو سلم فله أن لا يلتفت ولا يصغي فيلزم الإفحام وثانيا بالحل وهو تعيين موضع الغلط وذلك أن صحة إلزامه النظر إنما تتوقف على وجوب النظر وثبوت الشرع في نفس الأمر لا على علمه بذلك والمتوقف على النظر هو علمه بذلك لا تحققهما في نفس الأمر فهو إن أراد نفس الوجوب والثبوت لم يصح قوله لا يثبت الشرع ما لم أنظر وإن أراد العلم بهما لم يصح قوله لا أنظر مالم يجب وإن أراد في الوجوب التحقق وفي الثبوت العلم به لم يصح قوله لا يجب علي ما لم يثبت الشرع لأن الوجوب عليه لا يتوقف على العلم بالوجوب ليلزم توقفه على العلم بثبوت الشرع بل العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب لئلا يكون جهلا وهذا ما قال في المواقف أن قولك لا يجب علي مالم يثبت الشرع قلنا أن هذا القول إنما يصح لو كان الوجوب عليه موقوفا على العلم بالوجوب فقوله قلنا الخ خبر أن والعائد اسم الإشارة وإن خص إرادة العلم بقوله لا يثبت الشرع مالم أنظر وإرادة التحقق بقوله لا أنظر مالم يجب صحت جميع المقدمات لكن تختل صورة القياس لعدم تكرر الوسط فهذا قياس صحة مادته في فساد صورته وبالعكس قال المبحث الخامس اختلفوافي أول ما يجب على المكلف فقال الشيخ هو معرفة الله تعالى لكونها مبنى الواجبات وقال الأستاذ وهو النظر في معرفة الله تعالى لما مر من كونه المقدمة وقال القاضي والإمام هو القصد إلى النظر لتوقف النظر عليه والحق أنه إن اريد أول الواجبات المقصودة بالذات فهو المعرفة وإن أريد الأعم فهو القصد إلى النظر لكن مبناه على وجوب مقدمة الواجب المطلق وقد عرفت ما فيه فلذا قال في المتن وإلا فالثاني أي النظر أو القصد إليه لا يقال النظر مشروط بعدم المعرفة بمعنى الجهل البسيط بالمط فينبغي أن يكون أول الواجبات لأنا نقول هو ليس بمقدور بل حاصل قبل القدرة والإرادة ولو سلم فوجوب النظر مقيد به لامتناع تحصيل الحاصل فلا يكون مقدمة للواجب المطلق واستدامته وإن كانت مقدورة بأن ترك مباشرة أسباب حصول المعرفة لكنها ليست بمقدمة وقال أبو هاشم أول الواجبات هو الشك لتوقف القصد إلى النظر عليه إذ لا بد من فهم الطرفين والنسبة مع عدم اعتقاد المط أو نقيضه على ما سبق ورد بوجهين
صفحة ٤٨
أحدهما أن الشك ليس بمقدور لكونه من الكيفيات كالعلم وإنما المقدور تحصيله أو استدامته بأن يحصل تصور الطرفين ويترك النظر في النسبة ولا شيء منهما بمقدمة واعتراض المواقف بأنه لو لم يكن مقدورا لم يكن العلم مقدورا لأنه ضده ونسبة القدرة إلى الضدين على السواء ساقط بما اعترف به من أن العلم ليس بمقدور وإنما المقدور تحصيله بمباشرة الأسباب
صفحة ٤٩
وثانيهما أن وجوب النظر والمعرفة مقيد بالشك لما سبق من أنه لا إمكان للنظر بدونه فضلا عن الوجوب فهو لا يكون مقدمة للواجب المطلق بل للمقيد به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج فلا يجب تحصيله ولما أن إيجاب المعرفة هو إيجاب النظر قال في المواقف أن وجوب المعرفة مقيد بالشك وإلا فالقول بوجوب الشك إنما يبنى على كونه مقدمة للنظر لا للمعرفة وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلأنهم لا يعنون بمقدورية مقدمة الواجب أن يكون من الأفعال الاختيارية بل أن يتمكن المكلف من تحصيله كالطهارة للصلاة وملك النصاب للزكاة ومعنى وجوبها وجوب تحصيلها وأما الثاني فلأنه يقتضي أن لا يجب النظر والمعرفة عند الوهم أو الظن أو التقليد أو الجهل المركب وفساده بين ويمكن دفع الوهم والظن بأن الشك يتناولهما لأن معناه التردد في النسبة إما على استواء وهو الشك المحض أو رجحان لأحد الجانبين وهو الظن والوهم ودفع التقليد والجهل المركب بأن الواجب معهما هو النظر في الدليل ومعرفة وجه دلالته ليؤولا إلى العلم وذلك لأن امتناع النظر والطلب عند الجزم بالمط أو نقيضه مما لم يقع فيه نزاع وقد يقال في رد الشك المحض أنه وإن كان مقدمة للنظر الواجب فليس من أسبابه ليكون إيجابه إيجابا له بمعنى تعلق خطاب الشارع به وفيه نظر لأن مراد أبي هاشم هو الوجوب العقلي كالنظر والمعرفة نعم لو قيل أنه ليس من المعاني التي يطلبها العاقل ويحكم باستحقاق تاركه الذم لكان سيئا وستعرف فساد النظر بمعرفة معنى الوجوب العقلي ( قال المبحث السادس ) قد سبقت إشارة إلى أن الحركة الأولى من النظر تحصل مادة مركب يوصل إلى المط والثانية صورته والمط إما تصورا وتصديق فالموصل إلى التصور ويسمى المعرف إما حدا ورسم وكل منهما إما تام أو ناقص لأن التمييز أمر لا بد منه في التعريف لامتناع المعرفة بدون التمييز عند العقل فالمميز إن كان ذاتيا للماهية يسمى المعرف حدا لأنه في اللغة المنع ولا بد في المعرف من منع خروج شيء من الإفراد ودخول شيء فيه مما سواها فما كان ذلك فيه باعتبار الذات والحقيقة كان أولى بهذا الاسم وإن كان عرضيا لها سمي المعرف رسما لكونه بمنزلة الأثر يستدل به على الطريق ثم المميز إن كان مع كمال الجزء المشترك أعني ما يقع جواب السؤال بما هو عن الماهية وعن كل ما يشاركها وهو المسمى بالجنس القريب فالمعرف تام أما الحد فلاشتماله على جميع الذاتيات وأما الرسم فلاشتماله على كمال الذاتي المشترك وكمال العرضي المميز وإلا فناقص فالحد التام واحد ليس إلا وهو الجنس القريب مع الفصل القريب ويشترط تقديم الجنس حتى لو أخر كان الحد ناقصا ومبنى هذا الكلام على أنه لا اعتبار بالعرض العام لأنه لا يفيد الامتياز ولا الاطلاع على أجزاء الماهية ولا بالخاصة مع الفصل القريب وإلا يلزم أن يكون المركب من الفصل القريب مع العرض العام أو مع الخاصة حدا ناقصا وليس كذلك في اصطلاح الجمهور حيث خصوا اسم الحد بما يكون من محض الذاتيات وقد يصطلح على تسمية كل معرف حدا حتى اللفظي منه أعني بيان مدلول اللفظ بلفظ آخر أوضح دلالة وكثير من المتقدمين على أن الرسم التام ما يفيد امتياز الماهية عن جميع ما عداها والناقص ما يفيد الامتياز عن البعض فقط إلا أنه استقر رأي المتأخرين على اشتراط كون المعرف مساويا أي مطردا ومنعكسا حتى لا يجوز التعريف بالأعم محافظة على الضبط والموصل إلى التصديق ويسمى الدليل لما فيه من الإرشاد إلى المطلوب والحجة لما في التمسك به من الغلبة على الخصم إما قياس وإما استقراء وإما تمثيل إذ لا بد من مناسبة بين الحجة والمط ليمكن استفادته منها وتلك المناسبة إما أن تكون باشتمال أحدهما على الآخر أو لا وعلى الأول فإن اشتمل الحجة على المط فهي القياس إذ النتيجة مندرجة في مقدمتيه وإن اشتمل المط على الحجة فهي الاستقراء إذ المط حكم كلي يثبت بتحقق الحكم على الجزئيات المندرجة تحته وعلى الثاني لا بد أن يكون هناك أمر ثالث يشتمل عليهما أو يندرجان فيه ليستفاد العلم بأحدهما من الآخر وهو التمثيل فإن حكم الفرع وهو المط يستفاد من حكم الأصل وهو الحجة لاندراجهما تحت الجامع الذي هو العلة وهذا ما قال الإمام أنا إذا استدللنا بشيء على شيء فإن لم يدخل أحدهما تحت الآخر فهو التمثيل وإن دخل فإما أن يستدل بالكلي على الجزئي وهو القياس أو بالعكس وهو الاستقراء وذكر في بعض كتبه بدل الكلي والجزئي الأعم والأخص تصريحا بأن المراد الجزئي الإضافي لا الحقيقي وتنبيها على أن تفسير الجزئي الإضافي بالمندرج تحت الغير مساو لتفسيره بالأخص تحت الأعم لا أعم منه على ما سبق إلى بعض الأوهام من أن معنى اندراجه تحت الغير مجرد صدق الغير عليه كليا وذلك لأن لفظ الاندراج منبئ عن كون الغير شاملا له ولغيره ولم يعرف من اصطلاح القوم أن كلا من المتساويين جزئي إضافي للآخر فلهذا قال صاحب الطوالع إن استدل بالكلي على الجزئي أو بأحد المتساويين على الآخر فهو القياس ليتناول ما إذا كان الأوسط مساويا للأصغر كقولنا كل إنسان ناطق وكل ناطق حيوان والجواب بأن الناطق معناه شيء ماله النطق وهو بحسب هذا المفهوم أعم من الإنسان لا يجدي نفعا إذ لا يتأتى في مثل قولنا كل ناطق إنسان وكل إنسان حيوان والأحسن أن يقال مرجع القياس إلى استفادة الحكم على ذات الأصغر من ملاحظة مفهوم الأوسط وهو أعم قطعا وإن كان مفهوم الأصغر مساويا له كما في المثالين المذكورين بل وإن كان أعم منه كما في قولنا بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق وقولنا بعض الحيوان إنسان ولا شيء من الفرس بإنسان وقولنا كل إنسان حيوان وكل إنسان ناطق وعلى هذا حال الاقترانيات الشرطية حيث يستدل بعموم الأوضاع والتقادير على بعضها وأما في القياس الاستثنائي فلا يتضح ذلك إلا أن يرجع إلى الشكل الأول فيقال مضمون التالي أمر تحقق ملزومه وكل ما تحقق ملزومه فهو متحقق أو مضمون المقدم أمر انتفى لازمه وكل ما انتفى لازمه فهو منتف والفقهاء يجعلون القياس اسما للتمثيل لما فيه من تسوية الجزئين في الحكم لتساويهما في العلة وأما على اصطلاح المنطق فوجهه أن فيه جعل النتيجة المجهولة مساوية للمقدمتين في المعلومية ثم القياس إن اشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل بأن يكون ذلك مذكورا فيه بمادته وصورته وإن لم تبق قضية بواسطة أداة الشرط على ما صرح به بعض أئمة العربية من أن الكلام قد يخرج عن التمام وعن احتمال الصدق والكذب بسبب زيادة فيه مثل طرفي الشرطية كما يخرج عن ذلك لنقصان فيه مثل قولنا زيد عالم بحذف الربط والإعراب سمي استثنائيا لما فيه من استثناء وضع أحد جزئي الشرطية أو رفعه وإلا سمي اقترانيا لما فيه من اقتران الحدود بعضها بالبعض أعني الأصغر والأكبر والأوسط والاستثنائي متصل إن كانت الشرطية المذكورة فيه متصلة ومنفصل إن كانت منفصلة والاقتراني حملي إن كان تألفه من الحمليات الصرفة وشرطي إن اشتمل على شرطية وأما الاستقراء وهو تصفح جزئيات كلي واحد ليثبت حكمها في ذلك الكلي على سبيل العموم فتام إن علم انحصار الجزئيات وثبوت الحكم في كل منها وهذا نوع من القياس الاقتراني الشرطي يسمى القياس المقسم وإلا فناقص وهو المفهوم من إطلاق الاسم وهو لا يفيد إلا الظن وأما التمثيل وهو بيان مساواة جزئي لآخر في علة حكمه لتثبت مساواتهما في الحكم فقطعي إن علم استقلال المشترك بالعلية وهذا نوع من القياس وذكر المثال حشو وإلا فظني ومطلق الاسم منصرف إليه وتفاصيل هذه المباحث في صناعة المنطق وأورد صاحب الطوالع تفاصيل الضروب المنتجة من القياس الاستثنائي المتصل والمنفصل ومن الأشكال الأربعة للقياس الاقتراني الحملي بعبارة في غاية الحسن ونهاية الإيجاز وأوردها الإمام على وجه أجمل إلا أنه أهمل الشكل الرابع لبعده عن الطبع وعبر عن الشكل الثالث بحصول وصفين في محل أي ثبوت أمرين إيجابا كان أو سلبا لأمر ثالث فيشمل صور سلب الكبرى كقولنا كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بصهال إذ قد حصل في الإنسان ثبوت الحيوانية ونفي الصهالية فعلم أن بعض الحيوان ليس بصهال وعبر عن الاستثنائي المنفصل بالتقسيم المنحصر في قسمين ثم رفع أيهما كان ليلزم ثبوت الآخر أو إثبات أيهما كان ليلزم ارتفاع الآخر ولما كان ظاهره مختصا بالمنفصل الحقيقي غيره صاحب المواقف إلى ما هو أوجز وأشمل وهو أن يثبت المنافاة بين الأمرين فيلزم من ثبوت أيهما كان عدم الآخر يعني إذا ثبت المنافاة بينهما في الصدق والكذب جميعا كما في الحقيقة يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر ومن ثبوت كذب كل عدم كذب الآخر وإذا كان في الصدق فقط يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر وإذا كان في الكذب فقط يلزم من ثبوت كذب كل عدم كذب الآخر ( قال وقد يقال الدليل ) في اصطلاح المنطق هو المقدمات المرتبة المنتجة للمطلوب وقد يقال للأمر الذي يمكن أن يتأمل فيه وتستنبط المقدمات المرتبة كالعالم للصانع فيفسر بما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم قطعيا كان أو ظنيا وذكر الإمكان لأن الدليل لا يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر فيه وقيد النظر بالصحيح لأنه لا توصل بالفاسد إليه وذلك بأن لا يكون النظر فيه من جهة دلالته وأطلق الحكم ليتناول التفسير الإمارة وكثيرا ما يخص الدليل بما يفيد العلم ويسمى ما يتوصل به إلى الظن إمارة والاستدلال هو التوصل المذكور وقد يخص بما يكون من الأثر إلى المؤثر كالتوصل بالنظر في العالم إلى الصانع ويسمى عكسه تعليلا كالتوصل بالنظر في النار إلى الإشراق أي إلى التصديق بذلك وما يقال أن الدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول فمعناه العلم بتحقق النسبة إيجابا كان أو سلبا من غير اعتبار وصف المدلولية حتى كأنه قيل بتحقق شيء آخر وهو المدلول وحتى لا يخرج مثل الاستدلال بنفي الحياة على نفي العلم ولا يلزم الدور بناء على تضايف الدليل والمدلول وذلك لأن الدليل عندهم اسم لما يفيد التصديق دون التصور والعلم قسم من التصديق يقابل الظن وعلى هذا فمعنى العلم بالدليل إذا حملناه على مثل العالم للصانع هو العلم بما يؤخذ من النظر في وجه دلالته من المقدمات المرتبة مع سائر الشرائط التي من جملتها التفطن لجهة الإنتاج وكيفية الاندراج إذ لا يلزم العلم بالمدلول إلا حينئذ لا يقال العلم بالنتيجة لازم للعلم بالمقدمات المرتبة إلا أنه قد يفتقر إلى وسط لكونه غير بين لأنا نقول لو كان كذلك لامتنع تحقق العلم الأول بدون الثاني كالمثلث لا يتحقق بدون تساوي زواياه القائمتين والموقوف على الوسط إنما هو العلم بذلك والحاصل أن اللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم بينا كان أو غير بين والتفرقة إنما تظهر في العلم باللزوم وبتحقق اللازم ( قال والدليل ) قد يقسم إلى العقلي والنقلي وقد يقسم إليهما وإلى المركب من العقلي والنقلي وهذا يوهم أن المراد بالنقلي ما لا يكون شيء من مقدماته عقليا وهو باطل إذ لو لم تنته سلسلة صدق المخبرين إلى من يعلم صدقه بالعقل لزم الدور أو التسلسل فدفع ذلك بأن من حصره فيهما أراد بالنقلي ما يتوقف شيء من مقدماته القريبة أو البعيدة على النقل والسماع من الصادق وبالعقلي مالا يكون كذلك ومن ثلث القسمة أراد بالنقلي ما يكون جميع مقدماته القريبة نقلية كقولنا الحج واجب وكل واجب فتاركه يستحق العقاب وبالمركب ما يكون بعض مقدماته القريبة عقليا وبعضها نقليا كقولنا الوضوء عمل وكل عمل فصحته الشرعية بالنية وكقولنا الحج واجب وكل واجب فتاركه عاص إذ لا معنى للعصيان إلا ترك امتثال الأوامر والنواهي وإنما قيد المقدمات بالقريبة لأن النقلي أيضا بعض مقدماته البعيدة عقلية كما مر فلا يقابل المركب بل يندرج فيه هذا إذا أريد بالدليل نفس المقدمات المرتبة وأما إذا أريد مأخذها كالعالم للصانع والكتاب والسنة والإجماع للأحكام فلا معنى للمركب وطريق القسمة أن استلزامه للمطلوب إن كان بحكم العقل فعقلي وإلا فنقلي ثم الحكم المطلوب إن استوى فيه عند العقل جانب الثبوت والانتفاء بحيث لا يجد من نفسه سبيلا إلى تعيين أحدهما فطريق إثباته النقل لا غير كالحكم بوجوب الحج وبكون زيد في الدار وإلا فإن توقف عليه ثبوت النقل كالعلم بصدق المخبر وما يبتنى عليه ذلك كثبوت الصانع وبعثة النبي ودلالة المعجزة ونحو ذلك فطريق إثباته العقل لا غير لئلا يلزم الدور وإلا فيمكن إثباته بكل من النقل والعقل كوحدة الصانع وحدوث العالم إذا صح الاستدلال على الصانع بإمكان العالم أو بحدوث الأعراض أو بعض الجواهر وإذا تعاضد العقل والنقل كان المثبت ما أفاد العلم أولا واعلم أن توقف النقل على ثبوت الصانع وبعثة الأنبياء إنماهو في الأحكام الشرعية وفيما يقصد به حصول القطع وصحة الاحتجاج على الغير وأما في مجرد إفادة الظن فيكفي خبر واحد أو جماعة يظن المستدل صدقة كالمنقولات عن بعض الأولياء والعلماء والشعراء ونحو ذلك حتى لو جعل العلم الحاصل بالتواتر استدلاليا لم يتوقف النقل القطعي أيضا على إثبات الصانع وبعثة الأنبياء ( قال ولا خفاء في إفادة النقلي الظن ) وإنماالكلام في إفادته العلم فإنها تتوقف على العلم بوضع الألفاظ الواردة في كلام المخبر الصادق للمعاني المفهومة وبإرادة المخبر تلك المعاني ليلزم ثبوت المدلول والعلم بالوضع يتوقف على العلم بعصمة رواة العربية لغة وصرفا ونحوا عن الغلط والكذب لأن مرجعه إلى روايتهم إذ لا طريق إلى معرفة الأوضاع سوى النقل أما الأصول أعني ما وقع التنصيص عليه فظاهر وأما الفروع فلأنها مبنية على الأصول بالقياس الذي هو في نفسه ظني والعلم بالإرادة يتوقف على عدم النقل إلى معنى آخر وعلى عدم اشتراكه بين هذا المعنى وبين معنى آخر وعلى عدم كونه مستعملا بطريق التجوز في معنى غير الموضوع له وعلى عدم إضمار شيء يتغير به المعنى وعلى عدم تخصيص ما ظاهره عموم الإفراد أو الأوقات بالبعض من ذلك بأن يراد من أول الأمر ذلك البعض أو يراد ما يفيد بيان انتهاء وقت الحكم ويسمى ناسخا وعلى عدم تقديم وتأخير يغير المعنى المطلوب عن ظاهره وفي بعض كتب الإمام وعلى عدم الحذف وفسرالحذف بأن يكون في الكلام زيادة يجب حذفها لتحصيل المعنى المقصود كقوله تعالى
﴿وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون﴾
وقوله تعالى
﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾
فإن كلمة لا في الموضعين محذوفة أي واجبة الحذف وكثير من الناس يفهمون منه أن يكون في الكلام محذوف يجب تقديره ليحصل المعنى ويفرقون بينه وبين الإضمار بأن المضمر ما يبقى له اثر في اللفظ كقولك خير مقدم بإضمار قدمت وبالجملة فلا سبيل إلى الجزم بوجود الشرائط وعدم الموانع بل غايته الظن وما يبتني على الظن لا يفيد إلا الظن ومن جملة مالا بد منه ولا سبيل إلى الجزم به انتفاء المعارض العقلي إذ مع وجوده يجب تأويل النقل وصرفه عن ظاهره لأنه لا يجوز تصديقهما لامتناع اعتقاد حقية النقيضين ولا تكذيبهما لامتناع اعتقاد بطلان النقيضين ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأنه أصل النقل لاحتياجه إليه وانتهائه بالآخرة إليه لما سبق من أنه لا بد من معرفة صدق النقل بدليل عقلي وفي تكذيب الأصل لتصديق الفرع تكذيب الأصل والفرع جميعا وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل قطعا واقتصر في المتن على هذا لكونه وافيا بتمام المقصود وذلك لأنه لما امتنع تصديق النقل لاستلزامه تكذيب العقل الذي هو الأصل ثبت أنه لا يفيد العلم إذ لا معنى لعدم تصديقه سوى هذا ولا حاجة إلى باقي المقدمات مع ما في الحصر من المناقشة إذ لا يلزم تصديقهما أو تكذيبهما أو تصديق أحدهما وتكذيب الآخر لجواز أن يحكم بتساقطهما وكونهما في حكم العدم من غير أن يعتقد معهما حقية شيء أو بطلانه ولو جعل التكذيب مساويا لعدم التصديق لم يلزم من تكذيب العقل والنقل اعتقاد ارتفاع النقيضين وبطلانهما لأن معنى عدم تصديق الدليل عدم اعتقاد صحته واستلزامه لحقية النتيجة وهذا لا يستلزم بطلانها أو اعتقاد بطلانها وارتفاعها فغاية الأمر التوقف في الإثبات والنفي على أن تكذيبهما أيضا يستلزم المطلوب أعني عدم إفادة النقل العلم فنفيه يكون مستدركا في البيان هذا والحق أن الدليل النقلي قد يفيد القطع إذ من الأوضاع ما هو معلوم بطريق التواتر كلفظ السماء والأرض وكأكثر قواعد الصرف والنحو في وضع هيئات المفردات وهيئات التراكيب والعلم بالإرادة يحصل بمعونة القرائن بحيث لا تبقى شبهة كما في النصوص الواردة في إيجاب الصلاة والزكاة ونحوهما وفي التوحيد والبعث إذا اكتفينا فيهما بمجرد السمع كقوله تعالى
﴿قل هو الله أحد﴾
فاعلم أنه لا إله إلا الله
﴿قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم﴾
فإن قيل احتمال المعارض قائم إذ لا جزم بعدمه بمجرد الدليل النقلي أو بمعونة القراين قلنا أما في الشرعيات فلا خفاء إذ لا مجال للعقل فلا معارض من قبله ونفي المعارض من قبل الشرع معلوم بالضرورة من الدين في مثل ما ذكرنا من الصلاة والزكاة وأما في العقليات فلأن العلم بنفي المعارض العقلي لازم حاصل عند العلم بالوضع والإرادة وصدق المخبر على ما هو المفروض في نصوص التوحيد والبعث وذلك لأن العلم بتحقق أحد المتنافيين يفيد العلم بانتفاء المنافي الآخر كما سبق في إفادة النظر العلم بالمطلوب وبانتفاء المعارض فإن قيل إفادتها اليقين تتوقف على العلم بنفي المعارض فإثباته بها يكون دورا قلنا إنما يثبت بها التصديق بحصول هذا العلم بناء على حصول ملزومه على أن الحق أن إفادة اليقين إنما تتوقف على انتفاء المعارض وعدم اعتقاد ثبوته لا على العلم بانتفائه إذ كثيرا ما يحصل اليقين من الدليل ولا يخطر المعارض بالبال إثباتا أو نفيا فضلا عن العلم بذلك فما يقال أن إفادة اليقين تكون مع العلم بنفي المعارض وأنه يفيد ذلك ويستلزمه فمعناه أنه يكون بحيث إذا لاحظ العقل هذا المعارض جزم بانتفائه ويدل على ما ذكرنا قطعا ما ذكروا في بيان هذا الاشتراط من أنه لا جزم مع المعارض بل الحاصل معه التوقف فليتأمل والله الهادي ( قال المقصد الثاني ) قد سبقت الإشارة إلى أن وجه تقديم هذا المقصد على الأربعة الباقية توقف بعض بياناتها عليه ووجه إفراده عنها مع كونه عايدا إليها هو أنه لما كان البحث عن أحوال الموجود وقد انقسم إلى الواجب والجوهر والعرض واختص كل منها بأحوال تعرف في بابه احتيج إلى باب لمعرفة الأحوال المشتركة بين الثلاثة كالوجود والوحدة أو الاثنين فقط كالحدوث والكثرة وبهذا يظهر أن المراد بالموجودات في قولهم الأمور العامة ما يعم أكثر الموجودات هو أقسامه الثلاثة التي هي الواجب والجوهر والعرض لا أفراده التي لا سبيل للعقل إلى حصرها وتعيين الأكثر منها والحكم بأن مثل العلية والكثرة يعم أكثرها ولا خفاء في أن المقصود بالنظر ما يتعلق به غرض علمي ويترتب عليه مقصودا صلى من الفن ولا يكون له ذكر في أحد المقاصد بالأصالة وإلا فكثير من الأمور الشاملة مما لا يبحث عنه في الباب كالكمية والكيفية والإضافة والمعلومية والمقدورية وسائر مباحث الكليات الخمس والحد والرسم والوضع والحمل بل عامة المعقولات الثانية ولا يضر كون البعض اعتباريا محضا أو غير مختص بالموجود لأن بعض ما يبحث عنه أيضا كذلك كالإمكان فإن قيل قد يبحث عما لا يشمل الموجود أصلا كالامتناع والعدم وعما يخص الواجب قطعا كالوجوب والقدم قلنا لما كان البحث مقصورا على أحوال الموجود كان بحث العدم والامتناع بالعرض لكونهما في مقابلة الوجود والإمكان وبحث الوجوب والقدم من حهة كونهما من أقسام مطلق الوجوب والقدم أعني ضرورة الوجود بالذات أو بالغير وعدم االمسبوقية بالعدم وهما من الأمور الشاملة أما الوجوب فظاهر وأما القدم فعلى رأي الفلاسفة حيث يقولون بقدم المجردات والحركة والزمان وغيرهما من الجواهر والأعراض ونظر الكلام فيه من جهة النفي لا الإثبات يعني أنه ليس من الأمور العامة كبحث الحال عند من ينفيه وقد تفسر الأمور العامة بما يعم أكثر الموجودات أو المعدومات ليشمل العدم والامتناع وإلى هذا كان ينبغي أن يذهب صاحب المواقف حيث زعم أن ليس موضوع الكلام هو الموجود لما أنه يبحث عن المعدوم قال الفصل الأول رتب المقصد الثاني على ثلاثة فصول في الوجود والماهية ولواحقهما والفصل الأول يتضمن البحث عن العدم والحق أن تصور الوجود بديهي وأن هذا الحكم أيضا بديهي يقطع به كل عاقل يلتفت إليه وإن لم يمارس طرق الاكتساب حتى ذهب جمهور الحكماء إلى أنه لا شيء أعرف من الوجود وعولوا على الاستقراء إذ هو كاف في هذا المطلوب لأن العقل إذا لم يجد في معقولاته ما هو أعرف منه بل هو في مرتبته ثبت أنه أوضح الأشياء عند العقل والمعنى الواضح قد يعرف من حيث أنه مدلول لفظ دون لفظ فيعرف تعريفا لفظيا يفيد فهمه من ذلك اللفظ لا تصوره في نفسه ليكون دور أو تعريفا للشيء بنفسه وذلك كتعريفهم الوجود بالكون والثبوت والتحقق والشيئية والحصول ونحو ذلك بالنسبة إلى من يعرف معنى الوجود من حيث أنه مدلول هذه الألفاظ دون لفظ الوجود حتى لو انعكس انعكس وأما التعريف بالثابت العين أو بالذي يمكن أن يخبر عنه ويعلم أو بالذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل أو بالذي ينقسم إلى القديم والحادث فإن قصد كونه رسميا فلزوم الدور ظاهر إذ لا يعقل معنى الذي ثبت والذي أمكن ونحو ذلك إلا بعد تعقل معنى الحصول في الأعيان أو الأذهان ولو سلم فلا خفاء في أن معنى الوجود أوضح عند العقل من معاني هذه العبارات وقد يقرر الدور بأن الموصوف المقدر لهذه الصفات أعني الذي يثبت والذي يمكن والذي ينقسم هو الوجود لا غير لأن غيره إما الموجود أو العدم أو المعدوم ولا شيء منها يصدق على الوجود وهو ضعيف لأن المفهومات لا تنحصر فيما ذكر فيجوز أن يقدر مثل المعنى والأمر والشيء مما يصدق على الوجود وغيره وإن قصد كونه تعريفا اسميا فلا خفاء في أنه ليس أوضح دلالة على المقصود من لفظ الوجود بل أخفى فلا يصلح تعريفا اسميا كما لا يصلح رسميا على أن كلا منها صادق على الموجود وبعضها على أعيان الموجودات وقد يتكلف لعدم صدق الثابت العين على الموجود بأن معناه الثابت عينه أي نفسه من حيث هي هي لا باعتبار أمر آخر بخلاف الموجود فإنه ثابت من حيث اتصافه بالوجود فالثابت أعم من أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود أو بالوجود وهو الموجود وأنت خبير بأنه لا دلالة للفظ عينه على هذا المعنى ولا يعقل من الثابت إلا ما له الثبوت وهو معنى الموجود وكون هذه التعريفات للوجود هو ظاهر كلام التجريد والمباحث المشرقية وفي كلام المتقدمين أن الموجود هو الثابت العين والمعدوم هو المنفي العين وكأن زيادة لفظ العين لدفع توهم أن يراد الثابت لشيء والمنفي عن شيء فإن ذلك معنى المحمول لا الموجود وفي كلام الفارابي أن الوجود إمكان الفعل والانفعال والموجود ما أمكنه الفعل والانفعال قال واستدل كأن الإمام جعل التصديق ببداهة تصور الوجود كسبيا فاستدل عليه بوجوه الأول أن التصديق بأن الوجود والعدم متنافيان لا يصدقان معا على أمر أصلا بل كل أمر فإما موجود أو معدوم تصديق بديهي وهو مسبوق بتصور الوجود والعدم فهو أولى بالبداهة والجواب أنه إن أريد أن هذا الحكم بديهي بجميع متعلقاته على ما هو رأي الإمام في التصديق فممنوع بل مصادرة على المط حيث جعل المرعي وهو بداهة تصور الوجود جزء من الدليل وإن أريد أن نفس الحكم بديهي بمعنى أنه لا يتوقف بعد تصور المتعلقات على كسب فمسلم لكنه لا يثبت المدعى وهو بداهة تصور الوجود بحقيقته لجواز الحكم البديهي مع عدم تصور الطرفين بالحقيقة بل بوجه ما ومع كون تصورهما كسبيا لا بديهيا وإنما قلنا في الأول فممنوع بل مصادرة ولم نقتصر على أحدهما تنبيها على تمام الجواب بدون بيان المصادرة وتحقيقا للزوم المصادرة بأن بداهة كل جزء من أجزاء هذا التصديق جزء من بداهة هذا التصديق لأنه لا معنى لبداهة هذا التصديق سوى أن ما يتضمنه من الحكم والطرفين بديهي والعلم بالكل إما نفس العلم بالأجزاء أو حاصل به على ما مر في تصور الماهية وأجزائها فبالضرورة يكون العلم بكل جزء سابقا على العلم بالكل لا تابعا له ممكن الاستفادة منه ويبطل ما ذكر في المواقف من أنا نحتار أن هذا التصديق بديهي مطلقا أي بجميع أجزائه ولا مصادرة لأن بداهة هذا التصديق تتوقف على بداهة أجزائه لكن العلم ببداهته لا يتوقف على العلم ببداهة الأجزاء فالاستدلال إنما هو على العلم ببداهة الأجزاء فيجوز أن يستفاد من العلم ببداهة هذاالتصديق لأنه يستتبع العلم ببداهة أجزائه بمعنى أنه إذا علم بداهته فكل جزء يلاحظ من أجزائه يعلم أنه بديهي فإن قيل قد يعقل المركب من غير ملاحظة الأجزاء على التفصيل قلنا لو سلم ففي المركب الحقيقي إذ لا معنى لتعقل المركب الاعتباري سوى تعقل الأمور الاعتبارية المتعددة التي وضع الاسم بإزائها ولو سلم ففي التصور للقطع بأنه لا معنى للتصديق ببداهة هذا المركب بجميع أجزائه سوى التصديق بأن هذاالجزء بديهي وذاك وذاك ولو سلم فلا يلزم المصادرة في شيء من الصور لجواز أن يعلم الدليل مطلقا من غير توقف على العلم بجزئه الذي هو نفس المرعي الوجه الثاني أن الوجود معلوم بحقيقته وحصول العلم إما بالضرورة أو الاكتساب وطريق الاكتساب إما الحد أو الرسم وهذا احتجاج على من يعترف بهذه المقدمات فلهذا لم يتعرض لمنعها والوجود يمتنع اكتسابه إما بالحد فلأنه إنما يكون للمركب والوجود ليس بمركب وإلا فأجزاؤه إما وجودات أو غيرها فإن كانت وجودات لزم تقدم الشيء على نفسه ومساواة الجزء للكل في تمام ماهيته وكلاهما محال أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الجزء داخل في ماهية الكل وليس بداخل في ماهية نفسه ومبنى اللزوم على أن الوجود المطلق الذي فرض التركيب فيه ليس خارجا عن الوجودات الخاصة بل إما نفس ماهيتها ليلزم الثاني أو جزء مقوم لها ليلزم الأول وإلا فيجوز أن تكون الأجزاء وجودات خاصة هي نفس الماهيات أو زائدة عليها والمطلق خارج عنها فلا يلزم شيء من المحالين وإن لم تكن الأجزاء وجودات فإما أن يحصل عند اجتماعهما أمر زائد يكون هو الوجود أو لا يحصل فإن لم يحصل كان الوجود محض ما ليس بوجود وهو مح وإن حصل لم يكن التركيب في الوجود الذي هو نفس ذلك الزائد العارض بل في معروضه هذا خلف وتقرير الإمام في المباحث انه لو تركب الوجود فأجزاؤه إن كانت وجودية كان الوجود الواحد وجودات وإن لم تكن وجودية فإن لم يحدث لها عند اجتماعها صفة الوجود كان الوجود عبارة عن مجموع الأمور العدمية وإن حدثت يكون ذلك المجموع مؤثرا في ذلك الوجود أو قابلا له فلا يكون التركيب في نفس الوجود بل في قابله أو فاعله وإما بالرسم فلما سبق من أنه إنما يفيد بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم وهذا متوقف على العلم به وهو دور وبما عداه مفصلا وهو محال ولو سلم فلا يفيد معرفة الحقيقة والجواب عن التقرير الأول لدليل امتناع تركب الوجود النقض أي لو صح بجميع مقدماته لزم أن لا يكون شيء من الماهيات مركبا لجريانه فيها بأن يقال أجزاء البيت إما بيوت وهو مح وإما غير بيوت وح إما أن يحصل عند اجتماعهما أمر زائد هو البيت فلا يكون التركيب في البيت هذا خلف أولا يحصل فيكون البيت محض ما ليس ببيت والحل بأنا نختار أنه يحصل أمر زائد على كل جزء وهو المجموع الذي هو نفس الوجود فلا يكون التركيب إلا فيه ولا حاجة إلى حصول أمر زائد على المجموع فالوجود محض المجموع الذي ليس شيء من أجزائه بوجود كما أن البيت محض الأجسام التي ليس شيء منها ببيت والعشرة محض الآحاد التي ليس شيء منها بعشرة فإن قيل هذا إنما يستقيم في الأجزاء الخارجية وكلامنا في الأجزاء العقلية التي يقع بها التحديد إلزاما لمن اعترف بزيادة الوجود على الماهية إذ ليس على القول بالاشتراك اللفظي وجود مطلق يدعى بداهته أو اكتسابه بل له معان بعضها بديهي وبعضها كسبي وح لا يصح الحل بأن أجزاء الوجود أمور تتصف بالعدم أو بوجود هو عين الماهية أو لا تتصف بالوجود ولا بالعدم قلنا فالحل ما أشرنا إليه من أنها وجودات أي أمور يصدق عليها الوجود صدق العارض على المعروض وح لا يلزم شيء من المحالين ولا اتصاف الشيء بالوجود قبل تحقق الوجود لأنه لا تمايز بين الجنس والفصل والنوع إلا بحسب العقل دون الخارج فمعنى قولنا يكون الوجود محض ما ليس شيء من أجزائه بوجود أنه لا يكون شيء من الأجزاء نفس الوجود وإن كان يصدق عليه الوجود كسائر المركبات بالنسبة إلى الأجزاء العقلية فإنها لا تكون نفس ذلك المركب لكنه يصدق عليها صدق العارض والجواب عن التقرير الثاني أنا نختار أن أجزاء الوجود وجوديات ولا نسلم لزوم كون الوجود الواحد وجودات وإنما يلزم لو كان وجود الوجودي عينه ولو سلم فيكون الوجود الواحد في نفس الأمر وجودات بحسب العقل ولا استحالة فيه كما في سائر المركبات من الأجزاء العقلية والجواب عما ذكر في امتناع اكتسابه بالرسم ما سبق من أنه إنما يتوقف على الاختصاص لا على العلم بالاختصاص وأنه وإن لم يستلزم إفادة معرفة الحقيقة لكنه قد يفيدها وقد يستدل على امتناع اكتسابه بالرسم بوجهين
أحدهما أنه يتوقف على العلم بوجود اللازم وثبوته للمرسوم وهو أخص من مطلق الوجود فيدور
وثانيهما أن الرسم إنما يكون بالأعرف ولا أعرف من الوجود بحكم الاستقراء أو لأنه أعم الأشياء بحسب التحقق دون الصدق والأعم أعرف لكون شروطه ومعانداته أقل والجواب منع أكثر المقدمات على أنه لو ثبت كونه أعرف الأشياء لم يحتج إلى باقي المقدمات
الوجه الثالث أن الوجود المطلق جزء من وجودي لأن معناه الوجود مع الإضافة والعلم بوجودي بديهي بمعنى أنه لا يتوقف على كسب أصلا فيكون الوجود المطلق بديهيا لأن ما يتوقف عليه البديهي يكون بديهيا والجواب أنه إن أريد أن تصور وجودي بالحقيقة بديهي فممنوع ولو سلم فلان أن المطلق جزء منه أو تصوره جزء من تصوره لما سيجيء من أن الوجود المطلق يقع على الوجودات وقوع لازم خارجي غير مقوم وليس العارض جزأ للمعروض ولا تصوره لتصوره وإن أريد أن التصديق أي العلم بأني موجود ضروري فغير مفيد لأن كونه بديهيا لجميع الأجزاء غير مسلم وكون حكمه بديهيا غير مستلزم لتصور الطرفين بالحقيقة فضلا عن بداهته وظاهر تقرير الإمام بل صريحه أن المراد هو تصديق الإنسان بأنه موجود ثم أورد منع بداهته فأجاب بأنه على تقدير كونه كسبيا لا بد من الانتهاء إلى دليل يعلم وجوده بالضرورة قطعا للتسلسل والعلم بالوجود جزء من ذلك العلم فيكون ضروريا وصرح صاحب المواقف بأنه جزء وجودي وهو متصور بالبديهة ثم أورد جواب الإمام عن المنع المذكور وزاد عليه فقال وأيضا لا دليل عن سالبتين فلا بد من الانتهاء إلى موجبة يحكم فيها بوجود المحمول للموضوع ضرورة ثم دفعهما بأن الذي لا بد من الانتهاء إليه دليل هو ضروري لا وجوده فإنا نستدل بصدق المقدمتين لا بوجودهما في الخارج وبأن الموجبة ما حكم فيها بصدق المحمول على ما صدق عليه الموضوع لا بوجوده له وأنت خبير بأنه لا دخل للدليل وترتيب المقدمتين في الإيصال إلى التصور وإن كان كلامه صريح في أنه يريد بالدليل الموصل إلى التصديق لا الموصل في الجملة وأن مراد الإمام بالدليل الذي لا بد من العلم بوجوده هو الأمر الذي يستدل به كالعالم للصانع لا المقدمات المرتبة وأنه لا معنى لصدق المحمول على الموضوع سوى وجوده له وثبوته له نعم يتجه أن يقال الوجود هنا رابطة وليس الكلام فيه ( قال فإن قيل ) يريد أن يشير إلى تمسكات المنكرين ببداهة الوجود مع الجواب عنها وهي وجوه
صفحة ٥٩
الأول أن الوجود إما نفس الماهية أو زائد عليها فإن كان نفس الماهية والماهيات ليست ببديهية كان الوجود غير بديهي وإن كان زائدا عليها كان عارضا لها لأن ذلك معناه فيكون تابعا للمعروضات في المعقولية إذ لا استقلال للعارض بدون المعروض وهو غير بديهية فكذا الوجود العارض بل أولى لا يقال الكلام في الوجود المطلق لا في الوجودات الخاصة التي هي العوارض للماهيات ولو سلم فالوجود المطلق يكون عارضا لمطلق الماهية والكسبيات إنما هي الماهيات المخصوصة فعلى تقدير كون الوجود المطلق عارضا لا يلزم كونه تابعا للماهيات المكتسبة لأنا نقول الوجود المطلق عارض للوجودات الخاصة على ما سيجيء فيكون تابعا لها وهي تابعة للماهيات المكتسبة فيكون المطلق تابعا لها بالواسطة وهذا معنى زيادة التبعية وكذا مطلق الماهية عارض للماهيات المخصوصة لكونه صادقا عليها غير مقوم لها فيكون تابعا لها فيكون الوجود المطلق العارض لمطلق الماهية عارضا لها بالواسطة
الثاني أن الوجود لو كان بديهيا لم يشتغل العقلاء بتعريفه كما لم يشتغلوا بإقامة البرهان على القضايا البديهية لكنهم عرفوه بوجوه كما مر
الثالث أنه لو كان بديهيا لم يختلف العقلاء في بداهته ولم يفتقر المثبتون منهم إلى الاحتجاج عليها لكنهم اختلفوا واحتجوا فلم يكن بديهيا
والجواب عن الأول أنا لانم أن العارض يكون تابعا للمعروض في المعقولية بل ربما يعقل العارض دون المعروض وعدم استقلاله إنما هو في التحقق في الأعيان ولو سلم فلا نزاع في بداهة بعض الماهيات فيكفي في تعقل الوجود من غير اكتساب لا يقال العارض تابع للمعروض في التحقق حيث ما كان عارضا فإن كان في الخارج ففي الخارج وإن كان في العقل ففي العقل وسيجيء أن زيادة الوجود على الماهية إنما هي في العقل والمعقول بتبعية الماهية البديهية يكون وجودها الخاص وليس المطلق ذاتيا له حتى يلزم بداهته بل عارضا لأنا نقول ليس معنى العروض في العقل أن لا يتحقق العارض في العقل بدون المعروض وقائما به كما في العروض الخارجي بل أن العقل إذا لاحظهما ولاحظ النسبة بينهما لم يكن المعقول من أحدهما نفس المعقول من الآخر ولا جزأ له بل صادقا عليه والوجود المطلق وإن لم يكن ذاتيا للخاص لكنه لازم له بلا نزاع وليس إلا في العقل إذ لا تمايز في الخارج فتعقل الخاص لا يكون بدون تعقله فيكون بديهيا مثله
وعن الثاني أن البديهي لا يعرف تعريفا حديا أو رسميا لإفادة تصوره لكن قد يعرف تعريفا اسميا لإفادة المراد من اللفظ وتصور المعنى من حيث أنه مدلول لفظ وإن كان متصورا في نفسه ومن حيث أنه مدلول لفظ آخر وتعريفات الوجود من هذا القبيل
صفحة ٦٠
وعن الثالث أن الذي لا يقع فيه اختلاف العقلاء هو الحكم البديهي الواضح وبداهة تصور الوجود لا تستلزم بداهة الحكم بأنه بديهي فيجوز أن يكون هذا الحكم كسبيا أو بديهيا خفيا لا يكون في حكم قولنا الواحد نصف الاثنين فيقع فيه الاختلاف ويحتاج على الأول إلى الدليل وعلى الثاني إلى التنبيه ويكون ما ذكر في معرض الاستدلال تنبيهات وقد يقال الوجود لا يتصور أصلا وهو مكابرة في مقابلة القول بأنه أظهر الأشياء واخترع الإمام لذلك تنسكات منها أنه لو كان متصورا لكان الواجب متصورا إلزاما للقائلين بأن حقيقة الوجود المجرد ومعنى التجرد معلوم قطعا ومبناه على أن الوجود طبيعة نوعية لا تختلف إلا بالإضافات وليس كذلك على ما سيأتي ومنها أنه لو تصور لارتسم في النفس صورة مساوية له مع أن للنفس وجودا فيجتمع مثلان والجواب منع التمثيل بين وجود النفس والصورة الكلية للوجود على أن الممتنع من اجتماع المثلين هو قيامهما بمحل واحد كقيام العرض وههنا لو سلم قيام الصورة كذلك فظاهر أن ليس قيام الوجود كذلك لما سيجيء من أن زيادة الوجود على الماهية إنما هي في الذهن فقط وأما الجواب بأنه يكفي لتصور الوجود وجود النفس كما يكفي لتصور ذاتها نفس ذاتها فإنما يصح على رأي من يجعل الوجود حقيقة واحدة لا يختلف إلا بالإضافة وإلا فكيف يكفي لتصور الوجود المطلق حصول الوجود الخاص الذي هو معروض لها ومنها أن تصوره بالحقيقة لا يكون إلا إذا علم تميزه عما عداه بمعنى أنه ليس غيره وهذا سلب مخصوص لا يعقل إلا بعد تعقل السلب المطلق وهو نفي صرف لا يعقل إلا بالإضافة إلى وجود فيدور والجواب أن تصوره يتوقف على تميزه لا على العلم بتميزه ولو سلم فالسلب المخصوص إنما يتوقف تعقله على تعقل السلب المطلق لو كان ذاتيا له وهو ممنوع ولو سلم فلانم أن النفي الصرف لا يعقل ولو سلم فالسلب يضاف إلى الإيجاب وهو غير الوجود قال البحث الثاني المنقول عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن وجود كل شيء عين ذاته وليس للفظ الوجود مفهوم واحد مشترك بين الوجودات بل الاشتراك لفظي والجمهور على أن له مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات إلا أنه عند المتكلمين حقيقة واحدة تختلف بالقيود والإضافات حتى أن وجود الواجب هو كونه في الأعيان على ما يعقل من كون الإنسان وإنما الاختلاف في الماهية فالوجود معنى زائد على الماهية في الواجب والممكن جميعا وعند الفلاسفة وجود الواجب مخالف لوجود الممكن في الحقيقة واشتراكهما في مفهوم الكون اشتراك معروضين في لازم خارجي غير مقوم وهو في الممكن زائد على الماهية عقلا وفي الواجب نفس الماهية بمعنى أنه لا ماهية للواجب سوى الوجود الخاص المجرد عن مقارنة الماهية بخلاف الإنسان فإن له ماهية هو الحيوان الناطق ووجودا هو الكون في الأعيان فوقع البحث في ثلاث مقامات
( 1 ) أنه مشترك معنى
( 2 ) أنه زائد ذهنا
( 3 ) أنه في الواجب زائد أيضا والإنصاف أن الأولين بديهيان والمذكور في معرض الاستدلال تنبيهات فعلى الأول وجوه
الأول أنا إذا نظرنا في الحادث جزمنا بأن له مؤثرا مع التردد في كونه واجبا أو ممكنا عرضا أو جوهرا متحيزا وغير متحيز ومع تبدل اعتقاد كونه ممكنا إلى اعتقاد كونه واجبا إلى غير ذلك من الخصوصيات فبالضرورة يكون الأمر المقطوع به الباقي مع التردد في الخصوصيات وتبدل الاعتقادات مشتركا بين الكل
صفحة ٦١
الثاني أنا نقسم الموجود إلى الواجب والممكن ومورد القسمة مشترك بين أقسامه ضرورة أنه لا معنى لقسم الشيء إلى بعض ما يصدق هو عليه فقولنا الحيوان إما أبيض أو غير أبيض تقسيم له إلى الحيوان الأبيض وغيره لا إلى مطلق الأبيض الشامل للحيوان وغيره ولو سلم فلا يضرنا لأن المقصود مجرد اشتراكه بين الواجب والممكن ردا على من زعم عدم الاشتراك أصلا أو لأنه لا قائل بالاشتراك بينهما دون سائر الممكنات أو لأنه يرشد إلى البيان في الكل بأن يقال الموجود من الممكن إما جوهر أو عرض ومن الجوهر إما إنسان أو غيره فإن قيل على الوجهين الأولين لم لا يجوز أن يكون الأمر الباقي المقطوع به هو تحقق معنى من معاني لفظ الوجود لا مفهوم له كلي وأن يكون التقسيم لبيان مفهومات اللفظ المشترك كما يقال العين إما فوارة وإما باصرة لا لبيان أقسام مفهوم كلي قلنا لأنا نجد هذا الجزم وصحة التقسيم مع قطع النظر عن الوضع واللغة ولفظ الوجود فإن نوقض الوجهان بالماهية والتشخص حيث يبقى الجزم بأن لعلة الحادث ماهية وتشخصا مع التردد في كونها واجبا أو ممكنا وتقسيم كل منهما إلى الواجب والممكن مع أن شيئا من الماهيات والتشخصات ليس بمشترك بين الكل أجيب بأن مطلق الماهية والتشخص أيضا مفهوم كلي مشترك بين الماهيات والتشخصات المخصوصة فلا نقض وإنما يرد لو ادعينا أن الوجودات متماثلة حقيقتها مفهوم الوجود ولا خفاء في أن شيئا من الوجوه لا يدل على ذلك
الثالث أنه لو لم يكن للوجود مفهوم مشترك لم يتم الحصر في الموجود والمعدوم لأنا إذا قلنا الإنسان متصف بالوجود بأحد المعاني أو معدوم كان عند العقل تجويز أن يكون متصفا بالوجود بمعنى آخر ويفتقر إلى إبطاله وهذا لا يتوقف على اتحاد مفهوم العدم إذ على تقدير تعدده كان عدم الحصر أظهر لجواز أن يكون متصفا بالعدم بمعنى آخر فلذا عدلنا عما ذكره القوم من أن مفهوم العدم واحد فلو لم يتحد مفهوم مقابله لبطل الحصر العقلي وجعلنا اتحاد مفهوم العدم وجها رابعا تقريره أن مفهوم العدم واحد فلو لم يكن للوجود مفهوم واحد لما كان نقيضين ضرورة ارتفاعهما عن الوجود بمعنى آخر واللازم باطل قطعا فإن قيل لانم اتحاد مفهوم العدم بل الوجود نفس الحقيقة والعدم رفعها فلكل وجود رفع يقابله قلنا سواء جعل رفع الوجود بمعنى الكون المشترك أو بمعنى نفس الحقيقة فهو مفهوم واحد بالضرورة وإنما التعدد بالإضافة فإن قيل لا خفاء في أن اللاإنسان واللافرس واللاشجر وغير ذلك مفهومات مختلفة فإذا كان لفظ العدم موضوعا بإزاء كل منها لم يتحد مفهومه قلنا الكل مشترك في مفهوم لا وهو معنى العدم ولا نعني باتحاد المفهوم سوى هذا قال وعلى الثاني أي ينبه على زيادة الوجود على الماهية أمور تجامع الوجود وتنافي الماهية وذاتياتها
( 1 ) صحة السلب فإنه يصح سلب الوجود عن الماهية مثل العنقاء ليس بموجود ولا يصح سلب الماهية وذاتياتها عن نفسها
( 2 ) إفادة الحمل فإن حمل الوجود على ا لماهية المعلومة بالكنه يفيد فائدة غير حاصلة بخلاف حمل الماهية وذاتياتها
( 3 ) اكتساب الثبوت فإن التصديق بثبوت الوجود للماهية قد يفتقر إلى كسب ونظر كوجود الجن مثلا بخلاف ثبوت الماهية وذاتياتها لها
صفحة ٦٢