شرح المقاصد في علم الكلام
الناشر
دار المعارف النعمانية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
1401هـ - 1981م
مكان النشر
باكستان
تصانيف
الثالث أنه لو وجب لكان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف ويدعو إلى الحق وعلى وجه الأرض خليفة ينصف للمظلوم وينتصف من الظالم إلى غير ذلك من الألطاف قال الثاني العوض وهو نفع حال عن التعظيم يستحق في مقابلة ما يفعل الله تعالى بالعبد من الأسقام والآلام وما يجري مجرى ذلك فيخرج الأجر والثواب لكونهما للتعظيم في مقابلة فعل العبد وكذا النفع المتفضل به لكونه غير مستحق ووجه وجوبه على الإطلاق أن تركه قبيح لكونه ظلما فيجب فعله قالوا ويستحق على الله تعالى بإنزاله الآلام على العبد وبتفويته المنافع عليه لمصلحة الغير عليه كالزكاة وبإنزاله الغموم التي لا تستند إلى فعل العبد كالغم المستند إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن بوصول مضرة أو فوات منفعة بخلاف المستند إلى جهل مركب لأنه من العبد وبأمره العباد بالمضار كالذبح لمثل الهدي والنذر أو إباحته إياها كالصيد أو تمكينه غير العاقل كالوحوش والسباع من غير إضرار العباد لا بمثل ألم الاحتراق حين ألقي صبي في النار وألم القتل بشهادة الزور لأن الأول مما وجب طبعا بخلق الله تعالى ذلك فيها بطريق جري العادة فالعوض على الملقي والثاني مما وجب شرعا بفعل الشهود فعليهم العوض وإما في تمكين الظالم من الظلم فالعوض على الله تعالى فإن الانتصاف واجب عليه قالوا فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى أعواضه الموازنة بظلم الظالم على الأوقات المتتالية على وجه لا يتبين انقطاعها كيلا يتألم أو يتفضل الله عليه بمثل تلك الأعواض عقيب انقطاعها فلا يتألم وإن كان من أهل النار أسقط الله تعالى بأعواضه جزء من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف وذلك بأن يفرق القدر المسقط على الأوقات المتتالية لئلا ينقطع ألمه وفسروا الظلم بضرر غير مستحق لا يشتمل على نفع أو دفع ضرر معلوم أو مظنون ولا يكون دفعا عن نفسه ولا مفعولا بطريق جري العادة فخرج العقاب ومشقة السفر والحجامة ودفع الصائل وإحراق الله تعالى الصبي الملقي في النار فإن الإيلام إذا كان مستحقا أو مشتملا على نفع أو دفع ضر أو عاديا لا يكون ظلما بل يكون حسنا يجوز صدوره عن الله تعالى من غير عوض عليه ثم للمعتزلة في بحث الآلام والأعواض فروع واختلافات لا بأس بذكر بعضها منها أن الألم إن وقع جزاء لسيئة فهي عقوبة لا عوض عليها وإن لم يقع فإن كان من الله تعالى وجب العوض عليه وإن كان من مكلف فإن كان له حسنات أخذ الله حسناته وأعطاها المؤلم عوضا لإيلامه وإن لم يكن حسنات فعلى الله العوض من عنده حيث مكن الظالم ولم يصرفه عن الإيلام فالواجب قبل الوقوع إما الصرف وإما التزام العوض وإن كان من غير عاقل كالأطفال والوحوش والسباع فإن كان ملجأ إليه بسبب من الله تعالى كجوع وخوف ونحوهما فالعوض على الله تعالى وإلا فعلى المؤلم عند القاضي وعلى الله تعالى عند أبي علي لأن التمكين وعدم المنع بعلم أو نهي إغراء على إيصال تلك المضار فأخذ العوض منها يكون ظلما بمنزلة من ألقى طعاما إلى كلب فأكله ثم أخذ يضربه وللقاضي ما ورد في الحديث من أنه يأخذ للجماء من القرناء وما ثبت في الشرع من وجوب منعها عن تلك المضار وأجيب بأن الحديث خبر واحد في مقابلة القطعي مع أنه لا يدل على كيفية الانتصاف فلعلها تكون بإيفاء العوض من عنده وأما التكليف فإنما هو لحفظ المواشي عن السباع والأموال عن الضياع حتى لا يجب منع الهرة عن أكل الحشرات والعصافير بل قد يحرم لكونه منعا للرزق عنها اللهم إلا إذا تألم قلب العاقل بالافتراس فيجب المنع دفعا لتضرره بتألم قلبه ومنها أن الإيلام بأمر الله كما في استعمال البهائم أو بإباحته كما في ذبحها أو بتمكينه مع تأخير الانتصاف إلى دار الجزاء كما في المظلوم عوضه على الله تعالى لتعاليه عن الظلم ومنها أنه إذا استوى لذة وألم في كونهما لطفا فالجمهور على أنه تتعين اللذة ويقبح الألم لأنه إنما يحسن إذا تعين طريقا للعوض واللطف وقال أبو هاشم بل يتخير بينهما كما بين المنفعتين لأن الإيلام بكونه عوضا ولطفا قد خرج عن كونه عبثا وظلما ومنها أن العوض يستحق دائما عند أبي علي كالثواب إذ لو انقطع لاغتم بانقطاعه فثبت عوض آخر وهلم جرا ومنقطعا عند أبي هاشم إذ لو شرط الدوام لما حسن بدونه واللازم باطل لأن العقلاء قد يستحسنون الآلام لمنافع منقطعة ومنها أنهم اختلفوا في أنه هل يشترط عند إيفاء العوض علم المعوض بأنه حقه كالثواب أم لا بناء على أن العوض منه مجرد اللذة والمنفعة وفي الثواب يعتبر التعظيم به فلا يثبت بدون علمه بذاك ومنها أنه هل يجوز التفضل بقضاء عوض المظلوم عن الظالم بناء على أن حقه في الأعواض المقابلة بالمضار وقد وصلت أم لا بناء على أن حقه في الأعواض الواجبة ولم تصل وأنه لو جاز التفضل لعوضه لجاز ترك الانتصاف من الظالم وهو باطل ومنها أن العوض الواجب على الله لا يصح إسقاطه إذ لا نفع فيه لأحد لكن يصح نقله إلى الغير نفعا له بخلاف الثواب فإن جهة التعظيم لا تقبل ذلك وأما الواجب على العبد فعند القاضي لا يصح كهبة المجهول وقيل يصح لما فيه من نفع الجاني والجهالة لا تمنع صحة الإسقاط كما في الإعتاق والإبراء وكذا يصح نقله إلى الغير بأن يهب عوضه من غيره لكن شبهة الجهالة في ذلك متأكدة ومنها اختلافهم في أن العوض هل يجب أن يكون في الآخرة وهل يحبط بالذنوب اعتبارا بالثواب أم يجوز في الدنيا ولا يحبط أصلا لعدم الدليل على النقيض وفي أنه هل يجوز التفضل بمثل الأعواض ابتداء من غير سبق ألم أم لا وعلى تقدير الجواز هل يجوز الآلام وتحسن المحن لمجرد العوض له هو رأي أبي علي بناء على أن للعوض اللازم المستتحق مزية على المتفضل به من غير لزوم واستحقاق أم لا بد مع ذلك من أن يكون إلطافا للمؤلم في الزجر عن القبيح ولغيره بحسب الاتعاظ والاعتبار كما هو رأي الضميري أم لا بد من كلا الأمرين كما هو رأي أبي هاشم بناء على أنه لما جاز مثل العوض ابتداء كان الإيلام لمجرد العوض عبثا خارجا عن الحكمة وما يقال من أن للمستحق اللازم مزية على المتفضل به الغير اللازم فإنما هو في حق من يوقف من تفضله فإن قيل وهل يجوز إيلام الغير لمنفعته بدون رضاه قلنا نعم إذا كانت منفعة عظيمة موقتة تتفق العقلاء على إيثار ذلك الألم لأجلها فإن قيل فيلزم جواز ذلك للعبد أيضا أجيب بالتزامه أو بالفرق فإن الله عالم بالتمكن من التعويض بخلاف العبد وأما الإيلام بدون الرضى لمنفعة الغير على ما يراه الضميري في إيلام زيد لاعتبار عمرو وجمهور المعتزلة في ذبح الحيوانات واستعمالها لمنافع العباد فلا يعقل حسنه ومنها أنهم ذهبوا إلى أن آلام غير العاقل نفى الصبيان والمجانين والبهائم حسنة لالتزام أعواض يزيد عليها ثم اضطربوا في أنها تكون في الدنيا أم في الآخرة وفي أن البهائم هل تدخل الجنة ويخلق فيها العقل والعلم وأن ذلك عوض أم لا وفي أن عاقبة أمرها ماذا وفي بعض التفاسير أن قول الكافر يا ليتني كنت ترابا يكون حين يوصل الله تعالى إلى البهائم أعواضها ثم يجعلها ترابا وأما أعواض الكفار والفساق فقيل في الدنيا وقيل في النار بتخفيف العذاب قال الثالث الجزاء وسيأتي وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسيأتي في مقصد السمعيات على التفصيل قال الرابع الاخترام ذهب بعض المعتزلة إلى أن الباري تعالى إذا علم من المؤمن المعصوم أو التائب أنه إن ابقاه حيا يكفر أو يفسق يجب اخترامه لأن في تركه تفويتا للغرض بعد حصوله وهو قبيح والأكثرون على أنه لا يجب لأن تفويت الغرض إنما هو بفعل العبد وهو المعصية لا بالتبقية ولأنه لم يخترم من كفر بعد الإيمان وعصى بعد الطاعة ولم يخترم إبليس مع ما روي أنه عبد الله تعالى عشرين ألف سنة ثم كفر والقول بأن ذلك كان مع النفاق بعيد جدا والاستدلال بقوله تعالى
﴿وكان من الكافرين﴾
ضعيف لقول المفسرين أنه بمعنى صار أو كان من جنس كفرة الجن وشياطينهم أو كان في علم الله تعالى ممن يكفر وأما إذا علم من المؤمن أنه يكفر أو يفسق ثم يتوب أو من الكافر والفاسق إنه يزداد كفرا وعصيانا ولا يتوب فلا يجب الاخترام كما لا يجب تبقية المؤمن إذا علم منه زيادة الطاعة ولا تبقية الطفل إذا علم منه أنه لو كلفه آمن وأما تبقية إبليس وتمكينه فقال أبو علي إنما يحسن إذا كان المعلوم أن من يعصي بوسوسته يعصي لولا وسوسته قال الخامس الأصلح ذهب البغداديون من المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى ما هو أصلح لعباده في الدين والدنيا وقال البصريون بل في الدين فقط فيعنون بالأصلح الأنفع والبغداديون الأصلح في الحكمة والتدبير واتفق الفريقان على وجوب الأقدار والتمكين وأقصى ما يمكن في معلوم الله تعالى مما يؤمن عنده المكلف ويطيع وأنه فعل لكل أحد غاية مقدوره من الأصلح وليس في مقدروه لطف لو فعل بالكفار لآمنوا جميعا وإلا لكان تركه بخلا وسفها وعمدتهم القصوى قياس الغائب على الشاهد لقصور نظرهم في المعارف الإلهية واللطايف الخفية الربانية ووفور غلطهم في صفات الواجب الحق وأفعال الغنى المطلق قالوا نحن نقطع بأن الحكيم إذا أمر بطاعته وقدر على أن يعطى المأمور ما يصل به إلى الطاعة من غير تضرر بذلك ثم لم يفعل كان مذموما عند العقلاء معدودا في زمرة البخلاء ولذلك من دعا عدوه إلى الموالاة والرجوع إلى الطاعة لا يجوز أن يعامله من الغلظ واللين إلا بما هو أنجع في حصول المراد وادعى إلى ترك العناد وأيضا من اتخذ ضيافة لرجل واستدعى حضوره وعلم أنه لو تلقاه ببشر وطلاقة وجه دخل وأكل وإلا فلا فالواجب عليه البشر والطلاقة والملاطفة لا أضدادها قلنا ذاك بعد تسليم استلزام الأمر الإرادة إنما هو في حكيم محتاج إلى طاعة الأولياء أو رجوع الأعداء ويتعزز بكثرة ا لأعوان والأنصار ويعظم لديه الأقدار ويكون للشيء بالنسبة إليه مقدار وقد يتمسك بأن عند وجود الداعي والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ورد بأن ذلك بعد التسليم وجوب عنه بمعنى اللزوم عند تمام العلة والكلام في الوجوب عليه بمعنى استحقاق الذم على الترك فأين هذا من ذاك لنا بعد التنزل إلى القول لوجوب شيء على الله وأن ليس الصلاح والفساد بخلق الله تعالى وجوه
الأول لو وجب عليه الأصلح لعباده لما خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة سيما المبتلى بالأسقام والآلام والمحن والآفات
الثاني يلزم على ما ذكرتم من الأمثلة أن يجب على كل أحد ما هو أصلح لعبيده ولنفسه فإن دفع بأن المكلف يتضرر بذلك ويلحقه الكد والتعب أجيب بأنه يلزم حينئذ أن لا يجب عليه شيء مما هو كذلك فإن قيل يترتب عليه ثواب يربى عليه فيحسن لذلك قلنا فليكن الأصلح كذلك
الثالث يلزم أن يكون الأصلح للكفار الخلود في النار إذ لو كان الخروج أو عدم الدخول أصلح لفعل فإن قيل نعم يلزم أن الأصلح لهم الخلود لعلمه بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه قلنا لا خفاء في أن الإماتة أو قطع العذاب ثم سلب العقول الصلح وأيضا فإذا كان تكليف من علم أنه يكفر أصلح مع أنه تنجيز مشقة فلم لا يكون إنقاذا من علم أنه يعود أصلح مع أنه تنجيز راحة
الرابع يلزم أن لا يستوجب الله على فعل شكرا لكونه مؤديا للواجب كمن يرد وديعة ودينا لازما
صفحة ١٦٧