235

شرح المقاصد في علم الكلام

الناشر

دار المعارف النعمانية

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

1401هـ - 1981م

مكان النشر

باكستان

تصانيف

Creeds and Sects

وفي التنزيل ويقولون في أنفسهم وإذا ثبت أن الباري تعالى متكلم وأنه يمتنع قيام الكلام الحسي بذاته تعين أن يكون هو النفسي فيكون قديما لما مر قال تمسكوا بوجوه الأول أنه علم بالضرورة من دين النبي صلى الله عليه وسلم حتى للعوام والصبيان أن القرآن هو هذا الكلام المؤلف المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختتم بالاستعاذة وعليه انعقد إجماع السلف وأكثر الخلف الثاني أن ما اشتهر وثبت بالنص والإجماع من خواص القرآن إنما يصدق على هذا المؤلف الحادث لا المعنى القديم وجوابهما أنه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام الله تعالى بطريق الاشتراك أو المجاز المشهور شهرة الحقائق على هذا المؤلف الحادث وهو المتعارف عند العامة والقراء والأصوليين والفقهاء وإليه يرجع الخواص التي هي من صفات الحروف وسماة الحدوث قال وذلك إشارة إلى ما اشتهر من الخواص فالقرآن ذكر لقوله تعالى

﴿وهذا ذكر مبارك

وقوله

﴿وإنه لذكر لك ولقومك

والذكر محدث لقوله تعالى

﴿وما يأتيهم من ذكر من الرحمن

محدث ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وعربي لقوله تعالى

﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا

والعربي هو اللفظ لاشتراك اللغات في المعنى ومنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة النص والإجماع ولا خفاء في امتناع نزول المعنى القديم القائم بذات الله تعالى بخلاف اللفظ فإنه وإن كان عرضا لا يزول عن محله لكن قد ينزل بنزول الجسم الحامل له وقد روى أن الله تعالى أنزل القرآن دفعة إلى سماء الدنيا فحفظته الحفظة أو كتبته الكتبة ثم نزله منها بلسان جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا بحسب المصالح فإن قيل المكتوب في المصحف هو الصور والأشكال لا اللفظ ولا المعنى قلنا بل اللفظ لأن الكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائه نعم المثبت في المصحف هو الصور والأشكال فإن قيل القديم دائم فيكون مقارنا للتحدي ضرورة فلا يكون ذلك من خواص الحادث قلنا معناه أن يدعو العرب إلى المعارضة والإتيان بالمثل وذلك لا يتصور في الصفة القديمة فإن قيل النسخ كما يكون للفظ يكون للمعنى قلنا نعم لكن يخص الحادث لأن القديم لا يرتفع ولا ينتهي فإن قبل وقوع كلمة كن عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما تعطيه كلمة الجزاء وإن دل على حدوثها لكن عموم لفظ شيء من حيث وقوعه في سياق النفي معنى أي ليس قولنا لشيء مما نقصد إيجاده وإحداثه كما في قوله عليه السلام وإنما لكل امرىء ما نوى يقتضي قدمها إذ لو كانت حادثة لكانت واقعة بكلمة كن أخرى سابقة وبتسلسل وإن جعلتم هذا الكلام لا على حقيقته بل مجازا عن سرعة الإيجاد فلا دلالة فيه على حدوث كن قلنا حقيقته إن ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلا هذا القول وهو لا يقتضي ثبوت هذا القول لكل شيء ألا ترى أنك إذا قلت ما قولي لأحد من الناس عند إرشاده إلا أن أقول له تعلم لم يدل على أنك تقول تعلم لكل أحد بل على أنك لو قلت في حقه شيئا لم يكن إلا هذا القول قال لا لمجرد أنه دال المشهور في كلام الأصحاب أن ليس أطلاق كلام الله تعالى على هذا المنتظم من الحروف المسموعة إلا بمعنى أنه دال على كلامه القديم حتى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله تعالى لكان هذا الإطلاق بحاله لكن المرضي عندنا أن له اختصاصا آخر بالله وهو أنه أخبر عنه بأنه أوجد أولا الأشكال في اللوح المحفوظ لقوله تعالى

﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ

أو الأصوات في لسان الملك لقوله تعالى

﴿إنه لقول رسول كريم

الآية أو لسان النبي لقوله تعالى

﴿نزل به الروح الأمين على قلبك

والمنزل على القلب هو المعنى دون اللفظ ثم اختلفوا فقيل هو اسم لهذا المؤلف المخصوص القائم بأول لسان اخترعه الله تعالى فيه حتى إن ما يقرأه كل أحد بكسبه يكون مثله لا عينه والأصح أنه اسم له لا من حيث تعين المحل فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القاري نفسه لا مثله وهكذا الحكم في كل شعر أو كتاب ينسب إلى مؤلفه وعلى التقديرين فقد يجعل اسما للمجموع بحيث لا يصدق على البعض وقد يجعل اسما لمعنى كلي صادق على المجموع وعلى كل بعض من أبعاضه ولهذا المقام زيادة توضيح في شرح التنقيح وبالجملة ما يقال أن المكتوب في كل مصحف والمقروء بكل لسان كلام الله تعالى فباعتبار الوحدة النوعية ومايقال أنه حكاية عن كلام الله ومماثل له وإنما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية وما يقال أن كلام الله تعالى ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالا في مصحف أو لوح فيراد به الكلام الحقيقي الذي هو الصفة الأزلية ومنعوا من القول بحلول كلامه في لسان أو قلب أو مصحف وأن كان المراد هو اللفظي رعاية للتأدب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي قال وإجراء هذا جواب آخر لأصحابنا تقريره أن المراد بالمذكور العربي المنزل المقروء المسموع المكتوب إلى آخر الخواص هو المعنى القديم إلا أنه وصف بما هو من صفات الأصوات والحروف الدالة عليه مجازا ووصفا للمدلول بصفة الدال عليه كما يقال سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي وهذا ما قال أصحابنا أن القراءة حادثة أعني أصوات القاري التي هي من اكتسابه ويؤمر بها تارة إيجابا أو ندبا وينهى عنها حينا وكذا الكتابة أعني حركات الكاتب والأحرف المرسومة وإما المقروء بالقراءة المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور المسموع بالآذان فقديم ليس حالا في لسان ولا في قلب ولا في مصحف لأن المراد به المعلوم بالقراءة المفهوم من الخطوط ومن الأصوات المسموعة وكذا المنزل إذ معنى الإنزال أن جبرائيل عليه السلام أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه ثم نزل إلى الأرض وأفهم النبي صلى الله عليه وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام فإن قيل إذا أريد بكلام الله تعالى المنتظم من الحروف المسموعة من غير اعتبار تعين المحل فكل أحد منا يسمع كلام الله تعالى وكذا إذا أريد به المعنى الأزلي وأريد بسماعه فهمه من الأصوات المسموعة فما وجه اختصاص موسى عليه السلام بأنه كليم الله تعالى قلنا فيه أوجه

أحدها وهو اختيار الإمام حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى في الآخرة ذاته بلا كم وكيف وهذا على مذهب من يجوز تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات لكن سماع غير الصوت والحرف لا يكون إلا بطريق خرق العادة

وثانيها إنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة

وثالثها أنه سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شان سماعنا وحاصلة أنه أكرم موسى عليه السلام ما فهمه كلامه بصوت تولى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه وإلى هذا ذهب الشيخ أبو منصور الماتريدي والأستاذ أبو إسحق الإسفرائني قال الأستاذ اتفقوا على أنه لا يمكن سماع غير الصوت إلا أن منهم من بت القول بذلك ومنهم من قال لما كان المعنى القائم بالنفس معلوما بواسطة سماع الصوت كان مسموعا فالاختلاف لفظي لا معنوي قال الثالث

الوجه الثالث أن كلامه لو كان أزليا لزم الكذب في إخباره لأن الإخبار بطريق المضي كثير في كلام الله تعالى مثل أنا أرسلنا وقال موسى وعصى فرعون إلى غير ذلك وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل فتعين الكذب وهو محال

أما أولا فبإجماع العلماء

وإما ثانيا فبما تواتر من أخبار الأنبياء عليهم السلام الثابت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقف على ثبوت كلام الله تعالى فضلا عن صدقه

وأما ثالثا فلأن الكذب نقص باتفاق العقلاء وهو على الله محال لما فيه من إمارة العجز أو الجهل أو العبث

صفحة ١٠٤