82

شرح كتاب الفوائد

تصانيف

أهمية الإخلاص في العمل فلا بد في العمل من الإخلاص، والإخلاص يعني: أن يكون العمل لله ليس لأحد فيه شيئًا. وقلنا في دروس الفقه: أن الإمام لو ركع وتأخر ركوعه قليلًا من أجل أن يدرك الركوع رجل متأخر، قال الإمام أحمد في ذلك: بطلت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأنه لو أخر الإمام ركوعه من أجل هذا لخرج من الصلاة لله إلى الصلاة لغير الله، فتبطل، وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣]. ويعيش في الدنيا كأنه مسافر، أو راحل إلى الله، فعقله وقلبه في الآخرة، ولو كان من أصحاب الملايين، لكن المهم ألا تكون الدنيا في قلبه، مثلما قال أحمد بن حنبل: والله جعلتموها أنتم في قلوبكم وأخرجها الله من أيديكم، ونحن نزعناها من قلوبنا فوضعها الله في أيدينا فليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس. إذًا: فالعمل لا بد أن يكون خالصًا لله وحده، وأيضًا يكون باقتداء، وهناك صفات للعمل المخلص لله فيه: أولها: مهما عملت من عمل فلا تكلم عنه القريب ولا الغريب، لماذا؟ لأن النفس الإنسانية تريد أن تذكر بالخير، وأن يقول الناس عنها مثلًا: هذه امرأة صالحة، وهذا رجل صالح، وهذه البنت ما شاء الله عليها، والولد ما شاء الله عليه، ونحن لا نريد هذا، وإنما نريد أن يكون العمل لله، سواء قال الناس مدحًا أو ذمًا، وهذا على غرار الصدقة التي قال النبي ﷺ عن صاحبها: (تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، فهذا دليل استحباب عدم الإظهار لأعمال الخير إلا لمصلحة، والآن هناك من يكتب في الجرائد: فلان الفلاني! يتبرع بمبلغ كذا وكذا! وهناك من يقول: إن الله يقول: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ [البقرة:٢٧٤] فالسر هي الصدقة، والعلانية أجازها الفقهاء لمصلحة، كأن أنبه فلانًا وفلانًا أنه قد حال الحول على ما في أيديهم، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:٢٧١]. إذًا: فالخيرية هي في الإخفاء؛ لأن ربنا يحمينا من حظوظ أنفسنا، ولذلك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة العالم والشهيد والكريم المنفق، فهذه المسألة خطيرة جدًا؛ لأنه يريد أن يقال عنه كذا وكذا، ولا يقول أحد: أنا أشجع أخي المسلم أو أختي المسلمة، والأعمال بالنيات، لكن لو كشفنا عن النوايا فسنجدها مسوسة، وقد قلت: لو قمنا بامتحان لقلوبنا، وأخرجنا ما فيها، بكل صراحة ووضوح، فسنرى بالضبط من في قلبه دينارًا أو أكثر أو أقل، وكل ذلك قدر عملك، وتصور لو كانت هذه الأعمال تؤجر أموالًا، وكل إنسان يعطى على قدر عمله. يقول تعالى: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد:٣٧]، وكأن ربنا يقول: احمدوا ربكم أنه ما طلب منكم المال كله، ولكن قال: إذا كان معك ألف جنيه فنحن نريد منها خمسة وعشرين جنيهًا فالعبد حينها سيبخل، ولذا قال ربنا: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ [البقرة:١٥٥]، أي: لنمتحننكم ونختبرنكم، ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد:٣١]، يقرأ الحسن البصري هذه الآية ويبكي، ويقول: يا رب! إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. فالمسلم الواجب في حقه، أن يكون عمله خالصًا لله ﷿، يذكر أن عليًا كرم الله وجهه في الخندق لما أوقع عدوه على الأرض فبصق العدو في وجه علي، فغمد علي سيفه، فلما سألوه: لمَ لم تقتله؟ قال: رفعت سيفي لأقتله أول مرة انتصارًا لله ﷿، فلما بصق خفت أن أقتله انتقامًا لنفسي، فلا يكون القتل في سبيل الله إلا إن كانت النية مجردة عن الحظوظ النفسية. أتذكرون الرجل الذي لقي جماعة يعبدون شجرة كان أحد الصالحين يقعد عندها، فكان الناس يعبدونها ويتبركون بها ويطوفون حولها، فأراد هذا الرجل أن يقتلعها، فقابله إبليس في صورة رجل، وقال له: إلى أين؟ قال: أنا ذاهب أقطع الشجرة التي يشرك الناس عندها، فقال له: مالك ومال الناس؟ وهذا خطأ؛ لأن من رأى منكرًا فليغيره على قدر استطاعته، فلبس الشيطان على الرجل، وقال له: ارجع إلى بيتك، وسأعطيك كل يوم عشرة دنانير تجدها تحت مخدتك، فاهتز من تلبيس الشيطان وقال لنفسه: ما لي ولمن يعبد شجرة، ورجع إلى بيته ورفع المخدة أول يوم فما لقي شيئًا، وكذلك لم يجد تحتها شيئًا في اليوم الثاني والثالث، فقال: هذا الرجل يضحك علي، فأخذ الفأس وخرج، وفي الطريق لقيه فقال له: إلى أين؟ قال: أنت رجل كذاب، وأنا ذاهب لأقطع الشجرة، فقال له: لن تقدر عليها قال: لماذا؟ قال: خرجت أول مرة في سبيل الله مخلصًا، فما كانت قوة تستطيع أن تقف أمامك، أما اليوم فقد خرجت انتصارًا لنفسك فلا تستطيع، فلو مددت يدك لقطعتها لك. فلا بد أن يكون العمل خالصًا لله، حتى ينتفع به دنيا وأخرى. ولذلك أجمل الصلاة صلاة الليل؛ لأن أنظار الناس منصرفة عنها، لكن المصيبة أنه بعد ما تعب وصلى واستقام سمع صوتًا يثني عليه في ذلك، فاغتر بذلك، أما إن لم يتأثر وكانت نيته لوجه الله فلا يضر، أو يتكلم ليشجع غيره على الخير فلا حرج مع الحذر، ولذلك قال الحسن البصري لما سئل: يا بصري! علمناك آدم البشرة، أسمر اللون، يعني: فما لنا نرى عليك نورًا كل يوم يزداد؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا الله من جماله وجلاله. ولكن الحسن البصري لا يمكن أن يلعب عليه الشيطان ويفتنه إلا بقدر.

10 / 6