سلسلة شرح كتاب الفوائد [١]
إن العبد هو الفقير إلى الله المحتاج إليه، فعليه أن ينصف ربه فيعترف بجهله وفقره وحاجته إلى ربه.
1 / 1
آثار التقصير في كتابة تاريخ أعلام المسلمين
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله ﷿ أن يجعل هذه الجلسة خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيها حظًا أو نصيبًا، وألا يدع لنا رب العباد ذنبًا إلا غفره، ولا مريضًا إلا شفاه، ولا عسيرًا إلا يسره، ولا كربًا إلا أذهبه، ولا همًا إلا فرجه، ولا ضالًا إلا هداه، ولا مظلومًا إلا نصره، ولا ظالمًا إلا قصمه، ولا عيبًا إلا ستره، ولا مدينًا إلا سدد عنه دينه، ولا ميتًا إلا رحمه، ولا مسافرًا إلا رده غانمًا سالمًا.
اللهم إنك تعلم أن في قلب كل واحد منا كربًا، فأذهب -اللهم- كروبنا، وفرج همومنا، وأذهب أحزاننا، وحقق آمالنا، وأذهب آلامنا، وثبت يقيننا، وقو حجتنا، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.
اللهم إنا نسألك أن تطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، وأن تطرد عن أبنائنا وبناتنا وأزواجنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، وأن تجعلنا -يا أرحم الراحمين- من عبادك المتقين؛ إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
لقد طلب إلي بعض الإخوة أن نقرأ بعض الموضوعات من كتاب عظيم للإمام ابن القيم، وهو كتاب الفوائد، وهو من أعظم الكتب التي يقتنيها المسلم.
والإمام ابن القيم رضوان الله عليه هو التلميذ النجيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية لم يأخذ حظه في التاريخ الإسلامي، فلم يكتب عنه في التاريخ الإسلامي، كما ظلم كثيرون في تاريخ الإسلام، فما كتب عنهم أحد.
يمتاز الغربيون بشيء معين، وهو أن عندهم أن الرجل قد يكون ربع عظيم، أو ثلث عظيم، فيجعلون منه عبقريًا من العباقرة، فلو أن في الغرب رجلًا كـ ابن تيمية أو كـ صلاح الدين أو كـ ابن القيم أو كـ الشافعي أو نحو هؤلاء العظماء الذين كانوا في حياتنا، وأثروا الفكر الإنساني والفكر الإسلامي، وحافظوا على الكتاب والسنة، لو كان هؤلاء عند الغربيين الأوربيين أو الأمريكان أو غيرهم لألفت فيهم الكتب، فـ نابليون ألف فيه باللغة الفرنسية ألف ومائة كتاب، تحدثت تلك الكتب عن نابليون وحياة نابليون، فصار نابليون أحد أعلام الثورة أو التاريخ أو الحضارة الفرنسية.
حتى إنه من كثرة ما كتبوا عن عظمائهم كتبنا نحن عنهم في كتب التاريخ لأبنائنا، ولقد عملت إحصائية منذ سنوات في مراحل التعليم المختلفة للكتب الدراسية التي تتحدث عن الشخصيات وعن الموضوعات التي تهم التلاميذ، فوجدت ما يقرب من ثلاث وسبعين صفحة في الكتب تدرس لأبنائنا في المرحلة الثانوية تتحدث عن أوربا وعن الحضارة الأوربية.
ووجدت قرابة تسع وستين صفحة تتحدث عن الحملة الفرنسية وآثارها السياسية والاقتصادية والعسكرية، والعلمية، ووجدت ما يتحدث عن النهضة الإيطالية في قرابة مائة وسبع صفحات.
وأما ما كتب عن عمر بن عبد العزيز في القصة التي كان تدرس في سنة من السنوات فثلاث صفحات، وما كتب عن الصحابة رضوان الله عليهم ثلاث وعشرون صفحة، وما كتب عن سيدنا رسول الله ﷺ لا يزيد على خمس وثلاثين صفحة.
فأولادنا يدرسون عظمة الأوروبيين، ولا يدرسون عظمة آبائهم وأجدادهم، فلو سألنا أحدهم عن صلاح الدين الأيوبي فإنه قد لا يعرفه، وكذلك لو سألناه عن سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة.
والأولى أن تدفع الجوائز المشجعة في حياة هؤلاء الرجال، فأبناؤنا قد لا يعرفون شيئًا عن أبي بكر الخوارزمي، أو عن الرازي، أو عن الشوكاني صاحب نيل الأوطار، أو عن الإمام محيي الدين النووي صاحب رياض الصالحين، أو عن الإمام الترمذي صاحب السنن، أو عن ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية، أو عن الحسن بن الهيثم، أو جابر بن حيان، وغير هؤلاء الذين أثروا العلم الإنساني، وأخذت عنهم أوروبا، واستيقظت بهم في الظلام.
فأين تاريخ هؤلاء العظماء من السلف الصالح الذين أثروا وحافظوا على الكتاب والسنة، وحافظوا لنا على هذا التاريخ العظيم.
وقد زارني أخ في الله، واطلع على المكتبة، فرأى كتبًا بلون واحد تقع في واحد وأربعين جزءًا، فقلت له: هذا كتاب يقع في واحد وأربعين جزءًا، وهو أحد كتب الإمام ابن تيمية.
وابن تيمية ألف ما يقرب من ثلاثمائة واثنين وأربعين كتابًا، وكان قوامًا بالليل صوامًا بالنهار، مجاهدًا في سبيل الله، وكان من أكبر المقاتلين، مع كل هذا لا ندري عن ابن تيمية إلا الشيء اليسير.
فنحن نجهل تاريخنا، ولا نعرف شيئًا عن نسيبة بنت كعب، أو عن السيدة زينب زوجة عبد الله بن مسعود، أو عن السيدة أم كلثوم بنت السيدة فاطمة الزهراء التي تزوجها عمر بن الخطاب، لا نعرف من تاريخها شيئًا، ولا نعرف تاريخ رقية أو أم كلثوم أو زينب بنات سيدنا الحبيب المصطفى ﷺ، وكذلك عاتكة بنت عبد المطلب وصفية بنت عبد المطلب وسائر عمات الرسول ﷺ، لا ندري عنهن شيئًا.
وقد يقول البعض: إن هذا تقصير العلماء؛ لأنهم لم ينظروا إلى عظمة هذا التراث وعظمة هذا التاريخ الذي يعتز الإنسان به.
وإني لأذكر رسالة الملك جورج الذي كان حاكم إنجلترا إلى هشام الثالث ملك المسلمين بالأندلس، حيث قال فيها: من الملك جورج الخامس ملك إنجلترا والدنمارك إلى أمير المؤمنين، أما بعد: فإنه قد بلغنا ما تقدمت فيه بلادكم في نواحي العلم المختلفة، ولقد أرسلنا إليكم بعثة علمية تتعلم في بلادكم لمدة عامين ترأسها الأميرة روبانت بنت أختنا، ولعل البعثة خليقة عندكم بالتكريم اللائق.
وفي آخر الرسالة كتب: خادمكم المطيع: جورج الخامس ملك إنجلترا.
فسبحان من يغير ولا يتغير، والله سبحانه أعطى الناس في الكون أسبابًا، فلو صار الإنسان وفق هذه الأسباب واتبع الخطوات التي أعطاها الله له لنجح؛ لأن الله ﷿ سوف يعطيه الثمرة، أما أن نكبر الأمر الصغير، ونصغر الأمر الكبير، ونهتم بأمور لا علاقة لها بالدين، فذلك هو التخلف بعينه، فإن الله -كما قال لنا الصادق الأمين ﷺ يحب من الأمور معاليها، ويكره سفسافها.
فربنا ﷾ لا يحب إلا معالي الأمور، ويكره الحق ﷿ سفساف الأمور.
1 / 2
آثار الذنوب والطاعات في نظر ابن القيم
إن الإمام ابن القيم رضوان الله عليه هو -كما قلنا- التلميذ النجيب للإمام ابن تيمية، وقد كان ابن القيم ﵀ يمشي مع تلميذ له على شاطئ في العراق، فسأله سؤالًا، فظل الإمام يتحدث، وتلميذه يبكي، ثم قال: ألقاك غدًا إن شاء الله.
وبعد ثلاثة أيام اكتشف التلميذ أن الإجابة هي عبارة عن كتاب سماه الإمام ابن القيم (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، والذي يقرأ كتاب (الجواب الكافي) للإمام ابن القيم يتوب عن الذنوب حقيقة، واقرءوا وجربوا؛ لأنه يبين ما تعمله الذنوب وما تعمله الحسنات، فالذنوب تجعل ظلمة في الوجه، وظلمة في القلب، وعدم قبول عند الناس، وعدم رضا من الله، وبها تدعو الملائكة على المذنب، ومن نتائج الذنوب الذنب بعد الذنب، فالذنب يجلب الذنب، إلى أن تخف وطأة الضمير أو يقظة الضمير، ويعتاد القلب على المعصية.
وأما الطاعة فنور في الوجه، وضياء في القلب، ومحبة في قلوب الناس، ودعاء الملائكة لك، وذكر الله ﷿ للطائع، ففي الحديث: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذرعًا، ومن تقرب إلي ذارعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
فالله ﷿ الغني ﷾ يتقرب إلى عبده الفقير، وإن تقرب الفقير إلى الغني أمر عادي، وتقرب الصغير إلى الكبير كذلك، أما أن الغني يتقرب ويتودد إلى الفقير، والقوي يتودد إلى الضعيف فتلك مسألة أخرى.
فالله -وهو الغني- يتودد إلينا نحن الفقراء، والله -وهو القادر- يتودد إلينا نحن الضعفاء، أليس في هذا عجب؟! يقول الله ﷻ: (إني والإنس والجن في نبإ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتودد إليهم بالمغفرة وأنا أغنى الأغنياء عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أشد ما يكونون حاجة لي، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل محبتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، من تاب إلي منهم فأنا حبيبه، ومن لم يتب فأنا طبيبه، الحسنة عندي بعشر أمثالها وقد أزيد، والسيئة عندي بواحدة وقد أعفو).
فالله ﷿ يخلق ويُعبَد غيره، يرزق ويُشْكَر غيره، مع أن الله ﷾ هو الرزاق ذو القوة المتين، وخيره إلى العباد نازل وشر العباد إليه صاعد.
إن ولدك إذا عصاك فإنك قد لا تقبله في بيتك، وأنت تعصي الله ليل نهار، ولا يطردك من ملكه، ولا يغضب على العبد أبدًا، فإذا كان العبد طائعًا وقال: (يا رب!) قال: لبيك يا عبدي.
وإن كان عاصيًا وقال: (يا رب!) قال: لبيك لبيك لبيك يا عبدي.
فسبحان الله، ولا إله إلا الله.
إنها رحمة عظيمة، فالناس يعصون ربهم وهو يرزقهم، وإذا عاد العبد إلى ربه لا يعاتبه على ما مضى، فكأن العبد يقول: يا رب! لقد أذنبت.
فيقول الله: عبدي وأنا قد علمت.
فيقول: يا رب! أنا قد تبت.
فيقول له: وأنا قد قبلت.
فيقول: يا رب! لن أعود، فيقول: وأنا سوف أشد عضدك في طاعتي لكي لا تعود.
ويروى أن رجلًا قال لموسى ﵇: يا موسى! عبدت الله عشرين سنة، وعصيته عشرين سنة، وأريد أرجع، فهل ينفع ذلك؟ فقال الله له: يا موسى! قل له: أطعتنا فأثبناك، وعصيتنا فأمهلناك، وتركتنا فما تركناك، ولو عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.
فالعبد إذا عاد إلى الله قبل الله توبته، اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، ويسر أمرنا، واغفر ذنبنا وزلتنا يا أرحم الراحمين.
1 / 3
بيان حقيقة إنصاف المرء ربه
1 / 4
الإقرار بالجهل في العلم
يقول الإمام ابن القيم في كتابه (الفوائد): (طوبى لمن أنصف ربه).
وطوبى درجة عليا في الجنة.
ومعنى (أنصف ربه): أقر له بالجهل في علمه، كما كان ابن عطاء الله يدعو دائمًا: يا ربي! أنا الجهول في علمي، فكيف لا أكون جهولًا في جهلي؟! وأنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرًا في فقري؟! ولذلك قال لنا أهل العلم: إن المسلم بطبيعته يتأدب مع الله ﷿، فعندما يشعر بالفقر يقول: يا غني أغنني، وعندما يشعر بضعفه يقول: يا قادر يا ناصر انصرني، ويا قوي قوني فإني ضعيف، فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي.
فمن أنصف ربه أقر له بالجهل في علمه؛ لأننا إن أقررنا بالجهل علمنا رب العباد، كما روي في الأثر: ما يزال الرجل يتعلم ويتعلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل.
1 / 5
الإقرار بالآفات في العمل
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه وبالآفات في عمله.
فحين أصلي لا أقول: أديت الذي علي، بل أصلي وأخاف أن ترد علي الصلاة فلا تقبل؛ لأن مالي حرام، أو لأن القميص حرام، أو لأن القلب مليء بالغل والحقد على الناس، أو لأن الزوجة تخون زوجها في إخراج أسرار بيته، أو أن الزوج يخون زوجته فينشر أسرارها، أو لأن المصلي يخون الأمانة، أو يخون الوظيفة فيأخذ ما ليس من حقه، ثم يقف بين يدي الله ويقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥].
فأنا أصلي وأنا خائف ألا تقبل الصلاة، وأقرأ القرآن وأخاف ألا يتقبل الله مني، وعندي رجاء في القبول، ولكن يجب علي أن أغلب الخوف على الرجاء، فنحن في زمن غلب فيه الناس جميعًا الرجاء على الخوف، لأن الواحد منهم ينظر إلى من هو أقل منه في الدين، وينظر إلى من هو أفضل منه في الدنيا.
فإذا صلى الجمعة، ثم خرج فرأى عظيمًا بماله كبر في نفسه، ولا ينظر إلى من يصوم الإثنين والخميس، ولا ينظر إلى من يقوم الليل، ولا ينظر إلى من يتقرب بالصدقة، ولا ينظر إلى من يصل الرحم، ولا ينظر إلى من يفعل الخير أو يتوارى بين الناس تواضعًا وخجلًا.
فالإنسان يجب عليه أن يقر لله بالجهل في علمه، وبالآفات في عمله.
وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أسألك من العمل أخلصه وأصوبه.
فيقولون: يا أمير المؤمنين! ما أخلصه وما أصوبه؟ فيقول: أخلصه ما كان لله ﷿، وأصوبه ما كان على الكتاب والسنة.
فلا يصح أن أخرج من البيت لأصلي ركعتين عند السيد البدوي، فالصلاة هي عبادة، ولكنها هنا ليست لله ﷿، فاللازم علي وأنا أصلي أو أؤدي العمل أن يكون العمل على منهج الكتاب والسنة، فلا يصح الطواف حول قبر الحسين كما يطاف حول الكعبة، وقد قال ﷺ: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إن صنعتم كما صنعوا لعنكم كما لعنهم).
وبعث علي بن أبي طالب على ألا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه، ولا صنمًا إلا كسره.
1 / 6
الإقرار بالعيوب في النفس
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه، وبالآفات في عمله، وبالعيوب في نفسه)، فيقول: سوف أفرغ وقتي لإصلاح عيوبي.
ليس هناك امرؤ يقول: فيَّ عيب.
فكل يرى العيب في غيره، ولا يراه في نفسه.
فيجب علي أن أقتنع بأنني ذو عيوب، وأتعهد بإصلاح عيوب نفسي، ولو فعل ذلك كل واحد لبلغنا مبلغًا عظيمًا، فمن منا لم تأت عليه أوقات لم يؤد فيها زكاة ماله، أو لم يصم رمضان، أو لم يقم بالنوافل، أو قطع رحمه؟! ومن منا يبيت مظلومًا تدعو له الملائكة، ولا يبيت ظالمًا تدعو عليه الملائكة؟!
1 / 7
دوران العبد بين رؤية عدل الله ورؤية فضله
إن كل واحد منا يرى أنه المظلوم، وأنه هو المسلم الوحيد، وأنه على الطريق الصحيح، ولكن لن يستطيع الإنسان أبدًا أن يضحك على نفسه دائمًا، كما قال أحد الحكماء: إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، ولكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت.
وكذلك لا تستطيع أن تخدع نفسك التي بين جنبيك في بعض الوقت؛ لأنك صادق مع نفسك، حتى وإن قبلت الكذبة ثم صدقتها، فإنك سوف تفيق يومًا، وتعود إلى نفسك يومًا فتوقن بأنك قد فرطت في جنب الله، فتقر لله ﷿ بأنك جاهل في علمك، وأنك مفرط، وأن عملك مليء بالآفات، وأن نفسك مليئة بالعيوب، وأنك ظالم في معاملة الله ﷿، فإن أخذك بالذنوب رأيت عدله، وإن لم يؤاخذك بها رأيت فضله، وهناك فرق بين عفو الله عن العبد وبين الاستدراج.
فالاستدراج معناه: أن عبدًا من العباد مقصر في جنب الله، ومع تقصيره ينصب عليه الخير ليل نهار، فهذا استدراج، فالله تعالى يقول: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم:٤٤ - ٤٥]، والعياذ بالله رب العالمين.
إذًا: إذا رأيت العبد مقيمًا على المعاصي والخير ينصب عليه فاعلم أنه مستدرج.
فالعبد الصالح إن آخذه الله بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فيقول: من فضل الله علي أنه وفقني لصلاة الجماعة، ومن فضل الله علي أنني تصدقت، ومن فضل الله علي أنني وصلت الرحم، ومن فضل الله علي أنني صمت الإثنين والخميس.
وهكذا يرى فضل الله ﷿ في كل طاعة من الطاعات، وهذه هي المنة الأولى.
المنة الثانية: أنه تقبلها منه، وفي الحديث: (إن الله ليقبل صدقة أحدكم بيمينه، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه).
فالله تعالى إذا قبل طاعتي كان ذلك منه منة علي، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يتقرب به إلى الله، وذلك أن على أبواب السماوات ملائكة، فعلى باب كل سماء ملك من الملائكة، فحين يصعد عمل العبد يقول الملك الأول: إن صاحب هذا العمل مغتاب، والله أمرني بألا يمر عمل من عندي صاحبه مغتاب، وعند باب السماء الثانية يقول الملك: أنا الملك الموكل بالنميمة، وصاحب هذا العمل نمام، وفي السماء الثالثة ملك، فيقول: أنا الملك الموكل بالحقد، وصاحب هذا العمل حقود، وفي السماء الرابعة يقول الملك: أنا الملك الموكل بالحسد، وصاحب هذا العمل حسود، وهكذا إلى السماء السابقة، فيقول حملة العرش: ردوا عليه عمله، فالله لا يقبل عمل مغتاب، ولا نمام، ولا حقود، ولا حسود، ولا آكل أموال اليتامى، ولا مقامر، ولا عاق والديه.
وقد يكون في عمله جزء ليس لله، والله سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن أشرك في عمل مع الله غيره تركه الله وشركه.
ولذا يرى العبد نفسه مقصرًا، فإن قبل الله عمله كان ذلك بمحض جوده وإحسانه، فلا يرى ربه إلا محسنًا، ولا يرى نفسه إلا مسيئًا.
نسأل الله سبحانه أن تكون جنة أبدًا إن ربنا على ما يشاء قدير، فاللهم تقبلنا في عبادك الصالحين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحًا، نقول جميعًا: تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، ورجعنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا عزمًا أكيدًا على أننا لا نعود لمثل هذا أبدًا، وبرئنا من كل دين مخالف لدين الإسلام، والله على ما نقول وكيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 8
سلسلة شرح كتاب الفوائد [٢]
العمر لا يقاس بطول السنين، بل العبرة أن توضع فيه البركة، وذلك بأن يستثمره العبد في الطاعة وما يبقى جاريًا على المسلمين بعد موته فيستمر ثوابه كذلك، ولا يتهاون المرء في معصية الله فتجتمع عليه الصغائر فتهلكه.
2 / 1
استثمار الحياة لما بعد الموت
أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمدًا يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد.
اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه هي الوقفة الثانية مع الإمام ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه، وسمي ابن قيم الجوزية؛ لأن الجوزية مدرسة كان والده قيمًا عليها، فهو ابن قيم الجوزية، وقد أجرى الله على يديه خيرًا كثيرًا.
وإن العمر لا يقاس بالسنوات، فقد دخل غلام على عمر بن عبد العزيز فقال له: يا غلام! ليتكلم من هو أكبر منك سنًا فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان هناك في المجلس من هو أحق منك بالخلافة.
فليست القضية قضية سن، ولكن القضية في الإسلام هي البركة في العمر، ونحن ندعو دائمًا فنقول: اللهم بارك لنا في أعمارنا.
فالبركة في العمر مهمة، فليس المطلوب أن يعيش الإنسان حياة طويلة، ولكن المطلوب أن يعيش حياة عريضة يترك فيها خيرًا، كما قال الصادق الأمين ﷺ: (عيشوا مع الناس بخير، حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم ترحموا عليكم).
فحين يغيب المسلم العامل يحن الناس إليه، وحين يموت يترحم الناس عليه، ولكن الفاجر -والعياذ بالله- حين يغيب يحمد الناس الله، وحين يموت يفرح الناس بموته، وهذا دليل على سلب الرحمة منه.
قال الله ﷿: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [الانفطار:٥]، فما أخره الإنسان هو الذي يستمر ثوابه بعد موته إلى يوم القيامة، حتى إن الإنسان ليجد في كتاب حسناته حسنات لم يعملها، فيقول: يا رب! هذه حسنات ما فعلتها في الدنيا! فيقول الله ﷿: هذه أعمال قد تركتها بعد موتك.
وقد جاء في الحديث أن الإنسان المسلم قد يترك خلفه عشرة أمور يستمر ثوابه فيها بعد موته، فمن بنى مسجدًا أو وضع فيه لبنة بقي له أجره إلى يوم القيامة، وكذلك إذا غرس نخلًا، أو شجرًا، فأكل منه طائر، أو حيوان، أو إنسان، أو استظل به مخلوق، فيكون له ثواب غرسها إلى يوم القيامة.
ثم إنه ما من شيء إلا يسبح بحمد الله، فالشجر وهو أخضر يسبح، فهذا التسبيح ثوابه لمن زرع.
فالثواب يعود إليه إذا اتقى الله ﷿، وإذا توكل على الله، وإذا رضي وقنع بما آتاه الله.
وقد صار الفلاحون اليوم -مع الأسف الشديد- هم البعيدين كل البعد عن الطريق وعن الالتزام، وكثير منهم حاقد وحاسد وناقم وغير راض، ولا يتقي الله، فبعد أن كان يستيقظ ويبدأ يومه بصلاة الفجر صار من الساهرين أمام التلفزيون والفيديو وغيرهما، فلا يستيقظ إلا متأخرًا، ولا يذهب إلى عمله إلا متأخرًا.
وقد كان الفلاح لا يرجع إلى البيت حتى يخرج حق الفقير قبل أن يعود إلى البيت، وهذا تفسير الحرفي لقول الله ﷿: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام:١٤١]، وربنا كان يبارك له في زرعه، فما كانت الأرض تصاب بالآفات، ولم نسمع عن الآفات إلا بعد انقلاب اثنين وخمسين، حيث انتشرت الآفات في مصر انتشارًا غريبًا، حتى كثر أساتذة المبيدات، وكثرت شركات المبيدات، وكثرت أمامها الحشرات والآفات الضارة، وصار كل ذلك نقمة على الفلاح ونقمة على الدولة ونقمة على المسئولين، ونقمة على العصاة؛ لقوله ﷺ: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
فربنا ﷾ جعل الزكاة تطهيرًا للمال، وجعلها تزكية للنفس، ووقاية من الشح، وليس المراد أن يقي الإنسان نفسه من الشح بالمال فقط، فهناك من له جاه يستطيع أن يخدم به غيره، وهناك من عنده صحة يستطيع أن يخدم بها الناس، وهناك من عنده علم يستطيع أن يعلمه الناس.
فمن علم علمًا من العلم المفيد فإن ثوابه يصل إليه بعد موته، ومن غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو كتب مصحفًا، أو تسبب في طباعة مصحف، أو علم القرآن كان له ثواب ما صنع يصل إليه بعد موته إلى يوم القيامة.
وكذلك من ترك صدقة جارية، فعمل مستشفى خيريًا، أو مستوصفًا، أو شارك في بناء مدرسة، أو شارك في بناء مسجد، أو وضع لمسجد مراوح أو ماء، أو أسدى مشغلًا لليتامى ثم ملكهم إياه، فكل هذه صدقات جارية يجري للعبد ثوابها بفضل الله ﷿.
فمن وفق لإيجاد مشغل لليتامى يعملون فيه، ثم ملكهم إياه؛ كان عمله خيرًا كبيرًا، فبدل أن كان يتصدق عليهم صاروا يتصدقون على غيرهم.
وكذلك لو أنشأ أحد معهدًا لتحفيظ القرآن الكريم، فحفظ فيه عدد كبير، فكل حافظ للقرآن يأخذ الثواب، والذي علمه يأخذ نفس الثواب، والذي بنى المعهد يأخذ نفس الثواب، والله ﷾ هو المتقبل.
ومن الأعمال التي يصل ثوابها دعاء الولد الصالح، ونحن بحاجة إلى أن نربي الولد الصالح، فلابد من أن يكون هذا الولد قد أخذ مجهودًا من أبيه، ومجهودًا من أمه، في تربيته؛ وما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدمهم؟! فكثير من عوامل الهدم تحيط بأبنائنا، فأنت تتحدث مع الولد عن الصدق وعن الأمانة، وعن القول الطيب، فيذهب إلى المدرسة ويسمع كلمة السوء، فيسمع السب واللعن من أساتذته، فلا يرى قدوة صالحة فيمن يدرسه وفيمن يعلمه، ويعود إلى بيته فيرى أمه تخرج بالحجاب الشرعي، وفي المدرسة يرى حال المدرسات، ويفتح التلفزيون فيجد المذيعة على حالة من التبرج عظيمة، فيحكم على أمه بالجنون، ويحكم على سائر المجتمع بالاستقامة.
فالذين تتصل أعمالهم بعد موتهم في قبورهم منهم من بنى مسجدًا، ومنهم من كتب مصحفًا، ومنهم من أنجب ولدًا صالحًا يدعو له، ومنهم من غرس نخلة أو شجر، ومنهم من حفر بئرًا، أو حفر نهرًا، فهذه الأمور تصل إلى العبد بعد موته، ولذا يترحم الناس عليه، ولذا لا يسمع مسلم ذكر الصحابة والتابعين إلا وقال: ﵃، كما يقال عن كل صالح: ﵀، فقد كان رجلًا صالحًا.
فالميت مستريح أو مستراح منه، فإذا مات الفاجر أو الكافر أو المنافق تقول الملائكة: الحمد لله الذي أراح منه البلاد والعباد، والعياذ بالله رب العالمين.
وأسوأ الناس عند الله يوم القيامة رجل يكرم اتقاء شره، لأنه ذو منصب، أو ذو لسان طويل، فيكرم لدفع شره، فهذا هو أسوأ العباد عند الله.
فيجب أن نعيش مع الناس كما قال ﷺ: (عيشوا مع الناس بخير حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم ترحموا عليكم)، فاللهم اجعلنا منهم يا أكرم الأكرمين.
2 / 2
التحذير من صغائر الذنوب
يقول ابن القيم: (إياك والمعاصي).
والمعاصي: جمع معصية، وتنقسم المعاصي إلى قسمين: كبائر وصغائر، والكبائر: ما ورد فيها نص بتحريمها، كأكل الحرام، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وعقوق الوالدين، والأدهى من هذا كله هو الشرك بالله ﷿، نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من كل شرك.
وتكون الكبائر أحيانًا بالإصرار على الصغائر، ولذا قيل في الصغائر ثلاث جمل، أولها: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه.
قال أهل العلم: إن المؤمن يرى نفسه مع ذنبه كرجل قاعد في ظل جبل ضخم جدًا يخاف أن يقع عليه، والمنافق والفاجر يرى ذنبه كذبابة وقعت على وجهه فهشها.
فالمؤمن يخاف من الذنب، وقد قال الحسن البصري: المؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، فالمؤمن يعمل الخير ويخاف ألا يتقبل رب العباد منه، فيصلي الصلاة ويحج ويخاف ألا يقبل ذلك منه؛ لأن الله لا يسأل عما يفعل.
ولذلك روي أن إبليس قال لسيدنا عيسى: يا ابن مريم! أأنت تتوكل على الله حق التوكل؟ فقال له: نعم.
فقال له: وعندما تنزل بك مصيبة ينجيك منها؟ قال له: نعم، فقال له: ارم نفسك من فوق هذا الجبل وانظر هل ينجيك الله أم لا! فقال سيدنا عيسى: يا لعين! إن الله هو الذي يمتحن عبده، وليس للعبد أن يمتحن ربه.
فليس للعبد أن يمتحن الرب، ولكن الله ﷾ هو الذي يمتحن عبده.
الجملة الثالثة: لا صغيرة مع إصرار؛ لأن الصغيرة مع الإصرار ستتحول إلى كبيرة، وتتمة هذه الجملة: ولا كبيرة مع استغفار.
الجملة الثالثة: لا صغيرة إن واجهك عدله، ولا كبيرة إن واجهك فضله.
فإياك والمعاصي؛ فإنها أذلت أعزة من الخلق، فربنا قال للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة:٣٤] فسجدوا إلا إبليس ما سجد، فخرج من العز إلى الذل؛ لأن للطاعة عزًا، وللمعصية ذلًا، ولذلك تجد المحتجبة بعد عشرين أو ثلاثين سنة فخورة أمام البنات، تقول: الحمد لله على أني بلغت الحلم وأنا محجبة.
وكذلك الرجل الذي يصلي منذ بلوغه، فالإنسان يفرح بالطاعة.
2 / 3
سلسلة شرح كتاب الفوائد [٣]
الدنيا سجن المؤمن، وهي حياة قصيرة لا تستحق أن يعيرها الإنسان اهتمامه، وطلابها كلاب تتهارش على جيفة سرعان ما تنفك عنها، ولذلك فالعاقل من التزم الكتاب والسنة وطرق أبواب الخير واستعان بالله على ذلك.
3 / 1
الدنيا سجن أهل الإيمان
أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمدًا يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله ﷿ أن يجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، وألا يجعل بيننا شقيًا ولا محرومًا، وأن يفك برحمته كرب المكروبين، وأن يقضي دين المدينين، وأن يشرح كل صدر ضيق، وأن يفرج هم كل مهموم، وأن يذهب كرب كل مكروب، وأن يتوب على كل ضال، ويهدي كل عاص، ويتولانا وإياكم برحمته، وأن يغفر لنا ويرحمنا.
كما نسأله ﷿ أن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا للمتقين إمامًا، وأن يجعل هذه الجلسات خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيها حظًا أو نصيبًا، ونسأله أن يبعد عن أبنائنا وبناتنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، وأن يكرمنا بكرمه؛ إنه أكرم الأكرمين.
كما نسأله ﷿ أن يعاملنا بما هو أهله، وألا يعاملنا بما نحن أهله، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة، وأن يغفر لنا وأن يسترنا في الدنيا والآخرة، وإذا سترنا في الدنيا فلا يفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة، آمين آمين.
إن الإنسان في هذا الزمن قد لا يسلك الطريق السوي الصحيح إلا إذا جلس مع أهل الصلاح وأهل التقوى، فاللهم اجعلنا من أهل الصلاح والتقوى، وأذهب غيظ قلوبنا، واشف صدور قوم مؤمنين، ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا.
وإن الدنيا ليست دار تكريم، فربنا ما جاء بنا إليها من أجل أن يكرمنا، بل الدنيا دار ابتلاء، فهي -كما روي في الحديث الصحيح-: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
فالمؤمن مسجون في الدنيا يشعر أن عليه قيودًا شتى تمنعه عن صنع أشياء معينة، فلا يستطيع أن يشفي غيظه بما يغضب الله ﷿، كمؤمن تشتمه امرأته، أو تتطاول عليه، فهو يستطيع أن يرد اللطمة لطمتين، وأن يرد الصاع صاعين، وأن يدس لها السم في الطعام، أو أن يذبحها بسكين، ولكنه لا يستطيع أن يشفي غيظه بإغضاب الله ﷿، بل يصبر على الأذى، وهي -كذلك- تصبر على الأذى، وفي هذا ثواب عظيم عند الله.
فالمهم ألا نشكو لكل صغير وكبير، وألا نشكو لكل من هب ودب، وألا تصير حياتنا عبارة عن شكوى دائمة، فالذي يشكو دائمًا إنما يشكو الذي يرحم إلى الذي لا يرحم، فلتكن شكوانا كلها لله رب العالمين، كما قال تعالى عن يعقوب ﵇: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف:٨٦].
فالدنيا دار ابتلاء، وليست دار تكريم؛ لأنها قنطرة ومعبر، وليست بدار إقامة.
فالمرء في الدنيا يعيش سبعين أو ثمانين أو مائة سنة ولا ينعم، فالدنيا ليست بدار نعيم، ولذلك لما أعطى الله فرعون كل شيء نسي الله رب العالمين، فأعطاه الصحة والجاه والمال والملك، فاستخف قومه فأطاعوه، ومكثوا سنوات طويلة يبنون له قبره الذي يسمى بالهرم، ومع ذلك ما شكر الله ﷿.
فالإنسان منا قد يتمرد على نعم الله، ويذكر النعمة وينسى المنعم، وهذا سبب شقائنا في الحياة، أي أننا نذكر النعمة وننسى المنعم سبحانه.
والله تعالى يجعل العبد الطيب أو الصالح كثير الابتلاءات، من أجل أن يرتبط بربه ﷾ دائمًا، فيرفع يديه إلى السماء وقلبه متوجه إلى السماء وجوارحه كلها متجهة إلى الله رب العالمين تدعو الله أن يخفف من وطأة البلاء، وأن يغفر الذنب، وأن ييسر الأمر، وأن يهب برحمته فضلًا كبيرًا.
3 / 2
قاعدة الحياة والرزق والموت والقضاء
هناك أربع ركائز هامة يجب أن تكون نصب عينيك، وهي: أنه لا راحة في الدنيا، ولا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا راد لقضاء الله.
فإذا عرفت هذه الأمور الأربعة وأيقنت بها استرحت، وإذا غبت عنها بقيت مريضًا تحب الدنيا، كشارب البحر لا يزيده الشرب إلا ظمأ وعطشًا، فالذي يحب الدنيا يبقى نهمًا مهمومًا، حتى يقعده المرض، فإن تولى منصبًا هابه الناس، لا لذاته، وإنما لأجل الكرسي الذي كان يجلس عليه، ولو اتقى الله ﷿ لأحبه الناس، سواء أكان فوق الكرسي أم تحته.
فإن نحي عن منصبه أصيب بالاكتئاب، لأنه صار فردًا عاديًا بعد أن كان هو الوكيل أو المدير، فإذا به يصير منزويًا في المجتمع؛ لأنه إنسان ما قدم لنفسه خيرًا.
فرب العباد ﷾ قال: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر:١٩] فهو لما نسي الله نسيه الله، ولذلك جاء أنه في آخر الزمن يغربل الله العباد غربلة، فلا يبقى منهم إلا حثالة كحثالة الشعير لا يبالي الله بهم، فإذا دعا صلحاؤهم لم يستجب لهم.
3 / 3
صبر السلف وأثره على الخلف
إن من الجدير بنا أن نصلي على سيدنا رسول الله ﷺ الذي علم الأجيال، وهو الذي علمه ربه ﷾، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيًا عن أمته.
وأن نترضى عن صحابته، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان الذين نشروا العلم، وحافظوا عليه مع ما لاقوا في سبيله، فلو أنهم حين حوربوا سكنوا واستكانوا وخافوا ما وصل العلم إلينا، وما انتشر العلم أبدًا.
الإمام مالك رضوان الله عليه من شدة تعذيبه خلعت ذراعه، فكان رضوان الله عليه لا يستطيع أن يضع في الصلاة يدًا على يد، فكان يرسل يديه، حتى ظن أتباعه أن إرسال اليدين سنة من السنن في الصلاة.
وأحمد بن حنبل رضوان الله عليه سجن ثلاثة عشر عامًا ليقول كلمة، وربنا ﷾ يقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:٢ - ٣].
لقد حوربوا في أقواتهم وفي أرزاقهم، وما زال أهل الحق يحاربون إلى يومنا وإلى أن تقوم الساعة، ولكن ستظل طائفة من الأمة قائمة على الحق لا يضرها من ضل إذا اهتدت.
فـ أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رضوان الله عليه كان يضرب فيغشى عليه، فيفيق فيجد تلاميذه من حوله يبكون بكاءً مرًا، ويتعجبون فيقولون له: يا إمام! كنت تضرب وتضحك، ونحن كنا نراك ونبكي! فكان يقول لهم: أنتم كنتم ترون هذا الجلاد، أما أنا فكنت أرى يد رب العباد.
فهذا هو الفرق بين المؤمن ومدعي الإيمان، وهو الفرق بين الإنسان الذي لا ينحني أبدًا إلا لله ﷿ وبين غيره؛ لأن الأعمار مكتوبة، ولذلك يقول ﷺ: (خير الشهداء حمزة -عمه- ورجل دخل على حاكم ظالم فوعظه، فإن قتله فبأجل الله ﷿، وإن لم يقتله عاش على الأرض مكتوبًا عند الله شهيدًا).
وهكذا كان أبو حنيفة ﵁ عندما أراد أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور أن يوليه أمر القضاء، فدخل على أمير المؤمنين فقال له: والله إني لا أحسن القضاء.
فقال: عجبًا يا أبا حنيفة! أتكذب؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت كاذبًا فكيف تولي قضاء المسلمين كاذبًا؟! وإن كنت صادقًا في أني لا أحسن القضاء فصدقني.
وقد كان لي أستاذ يقول: كنت أدرس في الأزهر، فكان شيخ الأزهر يسأل: لِمَ لَمْ يعين فلان؟ فيقول: لأنه مخلص.
فكأن الإخلاص ليس من مسوغات التعيين في زماننا.
فـ أبو حنيفة رضوان الله عليه عذب وسجن، وهكذا الإمام الشافعي، وهكذا ابن تيمية، وهكذا ابن قيم الجوزية.
وقد نقلت لنا كتب التاريخ أن أبا حازم دخل على هشام بن عبد الملك فخلع حذاءه ببابه وقال: السلام عليك، كيف أنت يا هشام؟ فقال: يا أبا حازم! أغضبتنا في أمور ثلاثة: خلعت حذاءك ببابنا، ولم تسلم علينا بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، فلم تقل: يا أبا فلان ولكن ناديتني باسمي.
فقال له: يا هذا! إني أخلع حذائي أمام ربي خمس مرات في اليوم والليلة فلا يغضب، فلم تغضب أنت؟! ولم أنادك بإمرة المؤمنين لأنه ليس كل المؤمنين قد وافقوا على أنك أمير لهم، أأحشر أمام الله منافقًا يوم القيامة؟! فلو كان ابن القيم وغيره على مثل حالنا ما انتشر العلم، ولكنهم تعبوا في تحصيل العلم، فهذا عبد الله بن مسعود جلس في الكعبة يقرأ سورة الرحمن، فضربه كفار قريش، حتى كان أبو جهل يحرف كعب حذائه على أنفه حتى استوى أنف عبد الله مع وجهه.
فلو كانت أم عبد الله بن مسعود أو امرأته مثل أمهاتنا وزوجاتنا لضاع الدين، ومع ذلك لا تزال طائفة قائمة تقول الحق لا تخشى في الله لومة لائم مع ما يحدث لها من مآس.
3 / 4
أحوال المرء في الأنس بالله تعالى
يقول ابن القيم: (من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق).
وصاحب هذه الحال أحد السبعة الذي يظلهم الله في ظلة يوم لا ظل إلا ظله ففي الحديث: (ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه).
فهذا الرجل قعد وحده فبكى، فذلك دليل على أن قلبه معمر بذكر الله، اللهم عمر قلوبنا بذكرك يا رب.
قال: (ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول) أي: مريض.
يقول: إن وجدت أنسك بالله مع الناس وفقدته وأنت منفرد فأنت مريض؛ لأنك في المسجد تصلي بهدوء، وفي البيت تنقر الصلاة، وأمام الناس أنت رجل طيب وصالح، ومع أهل البيت رجل آخر، إذًا: فهذا شخص نستطيع أن نقول عنه: منافق؛ لأنه يظهر للناس بوجه ويكون مع الله بوجه آخر.
قال: (ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق).
فالمحب الصادق هو الذي يجد الأنس مع الله، سواء أكان في جماعة أم كان وحده في الليل والنهار، فالله ﷿ جعل هذا الإنسان محبًا صادقًا، كما قالت رابعة: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني بين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
3 / 5
أشرف أحوال الاختيار
أشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك الله، فإذا كنت تريد أن تدخل في المكان الفلاني، أو تتزوج ابنتك فلانًا، أو يتزوج ابنك بنت فلان، أو تحصل على المسألة الفلانية؛ فدع ذلك كله لله ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص:٦٨].
فإن قلت: ماذا أختار؟ قال لك الإمام ابن القيم: اختر ألا تختار، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانيًا، ولو كان له اثنان لتمنى ثالثًا، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
فكن مع الله في حالة من الرضا، فاللهم اجعلنا من الراضين يا رب.
3 / 6
لا تغتر بمجالسة الصالحين
إن مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة فالقلوب التي لا تعرف غشًا ولا نفاقًا ولا حسدًا ولا بغضاء، فأصل الفطرة منيرة قبل الشرائع، ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور:٣٥].
يقال: إن قس بن ساعدة بليغ العرب كان من الموحدين، ولكنه لم ير الرسول ﷺ.
وكذلك النجاشي، فقد كان موحدًا ولم ير رسول الله ﷺ، وصلى عليه رسول الله صلاة الغائب، وترحم عليه.
وكفر ابن أبي وقد صلى خلف رسول الله ﷺ، فهو في النار يوم القيامة، وهو القائل: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾ [المنافقون:٨].
يعني بالذليل رسول الله ﷺ، وحاشاه ﷺ، وفي غزوة أحد خذل المسلمين حين أخذ الرسول ﷺ برأي الشباب، وهو الذي تولى كبر الفرية في قضية اتهام السيدة عائشة أم المؤمنين ورميها بالزنا لما رجعت مع صفوان بن المعطل عقب غزوة بني المصطلق، فقال: هذه أمكم قد زنت مع فلان.
وقد جاء ابنه إلى رسول الله ﷺ يستأذنه في قتله، فقال: لا، لكي لا يقال: إن محمدًا يقتل أصحابه.
فلما مات وبلغ الرسول ﷺ موته قام ليصلي عليه، فوقف عمر فأخذ بثوبه وقال: أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فقال له: (إن ربي قد خيرني، وإني لو أعلم أنني لو استغفرت له أكثر من السبعين غفر له لاستغفرت).
ولما صلى رسول الله ﷺ عليه نزل جبريل وهو عند المقبرة بقوله تعالى: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة:٨٤].
فأعلم النبي ﷺ حذيفة بن اليمان أمين سر رسول ﷺ بأسماء سبعة عشر منافقًا في المدينة، فلو أن واحدًا منهم مات بعد رسول الله ﷺ فإن حذيفة يقول للمتولي مكان الرسول: لا تصل عليه؛ لأن هذا من السبعة عشر، ولم يكن أحد يعرف أحدًا من السبعة عشر أبدًا إلا حين يموت فيترك حذيفة الصلاة عليه.
ولما تولى عمر بن الخطاب إمارة المؤمنين قال لـ حذيفة: أستحلفك بالله، أسماني لك رسول الله ﷺ؟! فـ عمر بن الخطاب يخاف أن يكون من المنافقين، فهو يتهم نفسه بالنفاق، ونحن نسأل الله السلامة.
فهذا عمر الذي قال فيه رسول الله ﷺ: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)، وقال: (لولا أنت لهلكنا يا ابن الخطاب)، وقال: (كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فهو عمر).
وأخبر ﷺ بأنه دخل الجنة فرأى قصرًا وجارية تتوضأ على نهر، فقال: لمن القصر؟ فقيل: لـ عمر، فأراد دخول القصر فتذكر غيرة عمر فلم يدخل.
فمصاحبة عبد الله بن أبي لرسول الله ﷺ يؤخذ منها ألا تغتر بصحبة الصالحين، فلقد صحب عبد الله بن أبي ابن سلول رسول الله ﷺ وما انتفع بصحبته.
ولا تغتر بكثرة العبادة، فما كان امرؤ أعبد من إبليس، ولا تغتر بالعلم، فما كان امرؤ أعلم من بلعام بن باعوراء الذي ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦].
فقد كان يعبد ربنا بصدق، فلما عصى الله ﷿ وأخلد إلى الأرض كان من الغاوين، فكن مع الله يخف الله المخلوقات منك.
3 / 7
العظة والعبرة في رعاية الله لموسى وغيرها من القواعد العظيمة
كم في قصص القرآن من عظات وعبر، ومن تلك القصص قصة موسى ﵇ حين التقطه آل فرعون وهو رضيع، حيث جاء طفلًا خاليًا عن أم إلى امرأة خالية عن ولد، ثم أتي بأمه لترضعه ولتأخذ على إرضاعه أجرًا، وذلك لأنهم لما أخذوا موسى وعرضوا عليه المراضع، لم يقبل واحدة منهن، قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [القصص:١٢ - ١٣] لأن الله أوحى إليها: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص:٧]، فقال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص:١٣].
فلما التقم ثدي أمه عرض عليها أن تقيم في بيت فرعون؛ فقالت: عندي أولاد.
فانظر إلى التوكل على الله كيف يعمل! فكم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد؟! وذلك لأجل رؤيا فسرت بأن من بني إسرائيل من سيأخذ ملكه، فأمر بقتل كل مولود من بني إسرائيل، ولسان القدر يقول: لن نربيه إلا في حجرك.
فكن متوكلًا على الله كما كانت أم موسى ﵇؛ إذ المراد من القصة أخذ العبرة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف:١١١] أي: أصحاب العقول الناضجة المفكرة.
3 / 8
حقيقة الدنيا
إن الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج، فلا ترض بالدياثة.
والدنيا كجيفة، وطلابها كلاب، فمن أحب الدنيا فليجعل من نفسه كلبًا، وكل رجل إما أن يكون من أهل الجنة أو من أهل النار، فإن كان من أهل الجنة فكيف تحسده على الدنيا؟! إذ كم تساوي الدنيا عند الله بالنسبة إلى الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف تحسده على هذا المآل الذي سوف ينزع منه مهما كانت دنياه؟! فالسير في طلب الدنيا سير في أرض مسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، فالمفروح به منها هو عين المحزون عليه، فآلامها متوالية من لذاتها وأحزانها.
إن طائر الطبع يرى الحبة، وعين العقل ترى الشَّرَك، غير أن عين الهوى عمياء لا ترى.
والذين يؤمنون بالغيب هم الذين غضوا أعينهم عن الشهوات: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:٥] وهؤلاء يقال لهم: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ [المرسلات:٤٦].
3 / 9