شرح فصول أبقراط
تصانيف
في بيان الحاجة إلى الإسهال. وهو أنه لما كانت أبداننا دائمة التحلل والسيلان احتاجت الطبيعة إلى شيء يرد عوض المتحلل منها ويقوم مقامه. وذلك هو الغذاء. ثم هذا الغذاء ليس هو في جميع الوجود بل سببها بها، وإلا لما تولد منه غير الدم ولم يخرج من البدن فضلاته المعلومة. فلا بد وأن يفضل منه فضلة. فهو يغتذي بأجود ما يتولد منه. وما لأسبابه إن كان مقداره يسيرا وقوامه لطيفا وكانت القوة قوية وصاحبها كثير الرياضة تحللت تلك الفضلة وسلم البدن من نكايتها وإن تخلف بعضها أو أكثرها اجتمعت الفضلة على ممر الأيام شيئا فشيئا. فإن كفى في دفع هذا القدر وتنقيصه بقليل الغذاء أو تلطيفه مع إصلاحه فليستعمل. وإن لم يكف في ذلك احتاجت الطبيعة إلى ما يعينها على دفع تلك الفضلات وإخراجها عن البدن. وذلك هو الدواء المسهل والمقيئ (1496) .
البحث السابع
(1497) في كيفية إسهال المسهل. للأطباء في هذا الباب آراء. فمنهم من يقول إن الدواء عند * وروده (1498) المعدة * يخرج (1499) عنها ويصير إلى الفضلة المراد خروجها عن البدن ويجذبها إلى نفسه، ثم أن العضو يدفع الجميع عن نفسه إلى المعاء. ومنهم من يقول إن الدواء عند وروده إلى المعدة يفعل فيه ويخرج قوته إلى الفعل ثم أن قوته تفارقه وتصير إلى المادة المراد استفراغها ويبقى هو في المعدة ثم أن قوته تجذب تلك المادة وتخرجها إلى المعاء ثم إلى خارج PageVW5P102B . والقائل بهذا أبو سهل المسيحي. ومنهم من يقول إن بين الجاذب والمنجذب الذي هو خلط مناسبة. فيجذب الدواء الخلط بسبب المناسبة * التي (1500) بينهما. قال: ولذلك متى لم يسهل استمراؤه ولد الخلط الذي يستفرغه. وذكر الشيخ في الكتاب الأول من القانون حيث تكلم في قوانين الإسهال أن هذا مذهب الفاضل جالينوس. ووقفت أنا على مقالة لجالينوس في إسهال الأدوية المسهلة ورائيته ينقل هذا المذهب عن بعض أطباء اليونان يخطئه في ذلك. ومنهم من يقول إن الدواء من شأنه أن يجذب الخلط المراد استفراغه إلى المعدة كما يجذب حجر المغناطيس الحديد، ثم أن المعدة تدفع الجميع وتخرجه عن البدن. والقائل بهذا القاضي أبو الوليد بن رشد. ومنهم من يقول إن الدواء عند * وروده (1501) المعدة تفعل فيه وتخرج قوته إلى الفعل ثم أنه بعد ذلك تتكيف أرواحها بكيفيته ثم يسري هذا التكيف إلى جميع أرواح البدن من غير أن ينفصل من الدواء * شيء (1502) . فيخرج الخلط المراد استفراغه. والقائل بهذا القول ابن أبي صادق. فهذه المذاهب المذكورة في هذا * الباب (1503) * ولنتكلم (1504) في كل واحد * منها (1505) . فنقول: أما الأول فهو باطل من وجوه خمسة. أحدها أن العضو عندما كانت المادة فيه كان ضعيفا عن دفعها ثم لما ورد الدواء عليه وقهر قوته بما فيه من السمية لأجل جذب الخلط عنه كيف يتصور أنه يدفع الدواء والخلط عن نفسه؟ ولو كان قادرا على دفع الخلط * لاستغنى (1506) عن الدواء واستراح من أذينته. وثانيها لو كان الأمر على ما قيل وهو أنه الدواء يخرج عن المعدة لما أدركنا طعمه في الجشاء ونحن نجد من أنفسنا خلاف هذا. فإنا ندرك طعمه في الجشاء إلى آخر الإسهال. وثالثها لو كان إسهال الدواء على ما قيل للزم أن يبطل فعل الدواء في أول مرة من إسهاله. وذلك لأنه عندما يخرج * عن (1507) المعدة ويأتي إلى العضو الضعيف يجذب ما فيه من المادة ثم أن العضو يدفع الجميع عن نفسه إلى المعاء ثم إلى خارج. وحينئذ يلزم من هذا بطلان فعله في أول مرة من إسهاله. والاستقراء يشهد بفساد هذ،ا فإنا نرى فعله يبقى بعد مدة من إسهاله. ورابعها أن الدواء عندما يرد على * المعدة (1508) ثم يخرج عنها يحتاج أن ينقسم إلى أجزاء ثم يتوزع في عروق * البدن (1509) PageVW1P059A ومجاريه فإن الخلط المراد استفراغه ليس هو في موضع واحد في أكثر الأمر بل هو في أكثرها أو في كلها فعند انقسامه على هذه الصورة لا * يخلو (1510) إما أن تستولي الطبيعة عليه وتقهره أو لا تستولي عليه ولا تقهره. فإن كان الأول بطل فعله ولم يبق إسهالا. وإن كان الثاني ضعف فعله وانقهرت قوته في أول الأمر. والوجود بخلاف هذا فإنا * نرى (1511) فعله يستمر على حالة واحدة ساعات زمانية ويستقصي في جذب الخلط. * وخامسها (1512) أن الجاذب لا يصير إلى المجذوب فإن حجر المغناطيس لا يصير إلى الحديد بل هو إليه. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتصور خروج الدواء عن المعدة إلى حيث الخلط المراد استفراغه وفيه قوة * جاذبة (1513) له. وأما PageVW5P103A المذهب الثاني فنقول لقائله: القوة المسهلة الموجودة في الدواء لا * يخلو (1514) إما أن تكون جوهرا وإما أن تكون عرضا. فإن كانت جوهرا وهي صورته فالانتقال عليها محال لأنها إما إن تكون علة أو جزء علة. وعلى كلي التقديرين يستحيل بقاء الدواء مع مفارقتها لاستحالة بقاء المعلول مع عدم علته أو جزء علته. ويلزم من ذلك بطلان فعله في أول مرة من إسهاله لأنه لن يفعل ذلك إلا وقد فعلت فيه الطبيعة وأخرجت قوته ثم أنه أرسلها. وإن كانت عرضا فالانتقال عليها محال لاستحالة ذلك على الأعراض بدون محالها. وأما المذهب الثالث فقد أبطله الفاضل جالينوس في المقالة المذكورة. وهو أنه كان يلزم من هذا أنا متى استعملنا دواء يجذب خلطا من الأخلاط أن يستفرغ جميع ما في البدن من المواد. وذلك لأنا متى استعملنا دواء يسهل الصفراء * ولم (1515) يسهلها فإنه يستحيل إليها على ما فرض. ويلزم هذا أن يكثر مقدارها، وإذا توفر مقدارها خالطت غليظ المواد ورققته وهيأته إلى للاندفاع ثم أن القوة عند ذلك تدفعه. وكذلك إذا استعملنا دواء يسهل البلغم أو السوداء ولم يسهلهما فإنه يستحيل إليهما. وعند ذلك يخالطان ما * رق (1516) من المواد ويعتدل قوام الجميع ويسهل خروجه. * وكيف (1517) يتصور أن المستفرغ للبلغم إذا لم يسهله أن يستحيله إليه وهو حار يابس والبلغم بارد رطب؟ قال الشيخ في الكتاب الأول من القانون: ولو كان الجذب بالمناسبة للزم أن يجذب الحديد والذهب للذهب وذلك محال. وأما المذهب الرابع فنقول لقائله: هل ذلك من الدواء بإرسال قوته أو بخروجه عن المعدة؟ فإن قال بالأول فنقول: قد أبطلناه. وإن قال بالثاني فنقول: قد أبطلناه أيضا. وأما المذهب الخامس فإنه وإن كان قريبا * من (1518) الحق غير أن التكيف المذكور لا يقدر على جذب المادة وإخراجها عن البدن. والذي أقوله في هذا الباب أن الدواء فيه جزء لطيف وجزء كثيف، فالطيف منه ينقذ إلى جميع البدن ويخرج الخلط المراد استفراغه والكثيف يبقى في المعدة وهو الذي ندركه بالجشاء، ثم أن فعله يضعف بفعل المعدة فيه. وربما ينفصل من جرمه فتقهره الطبيعة وتخرجه مع المواد المستفرغة ويبطل فعله. فهذا ما أردنا أن نذكره في هذا * الباب (1519) .
البحث الثامن
(1520) :الإسهال على نوعين ضروري واختياري. * فالضروري (1521) تراعى فيه * شروط (1522) خمسة. أحدها وقت استعماله وثانيها مقدار المادة وثالثها احتمال القوة ورابعها نوع المادة وخامسها جهة ميلها. أما وقت استعماله فهو عند ظهور النضج وقد تكلمنا فيه. وأما مقدار المادة * فإنها (1523) متى كانت * متوفرة (1524) قوينا الدواء ليتمكن من جذبها ودفعها عن البدن. ومتى * كانت (1525) * قليلة (1526) نقصنا منه لئلا تنهك البدن وتؤذي القوة. وأما أمر القوة فإن عليها العمدة ومدار الأمر من المداواة. فمتى كانت قوية استفراغنا ما يحتاج * إليه (1527) مرة واحدة. ومتى كانت ضعيفة PageVW5P103B استفرغنا ما يحتاج إليه في مرات مع استعمال ما ينعش القوة وينهضها في أثناء الراحة. وأما نوع المادة فلا بد منه لأنه هو المقصود بالاستفراغ فإنه متى استفرغ غيره لم يحصل به راحة. وأما ميل المادة فإنه من الواجب ان يكون استفراغها من الجهة التي هي اليها أميل. فإن اختطافنا المادة * الطافية (1528) إلى فم المعدة بالقيء أسهل منه بالإسهال وبالعكس. وأما الاختياري فتراعى * فيه (1529) مع الشروط المذكورة تسعة شروط أخر. أحدها الوقت الحاضر وثانيها كيفية المادة وثالثها العادة ورابعها الصناعة وخامسها هيئة بدن مستعمله وسادسها مزاجه وسابعها سنه وثامنها عضو مخرج المادة وتاسعها ما يعقبه من الأعراض. أما الوقت الحاضر فالواجب أن لا يقدم على * استعمال (1530) المسهل في الحار منه ولا في * البارد (1531) . أما الأول فلوجوه أربعة أحدها لكثرة التحلل فتكون القوة * ضعيفة (1532) . وثانيها لاتحاه المواد إلى ظاهر البدن والدواء يجذبها إلى الباطن فيتحير الجذب ويتعذر الإسهال. * وربما أعقبه (1533) حالة رديئة. وثالثها أن المسهلات في الحقيقة حارة المزاج والهواء في هذا الوقت حار فإذا استعمل ربما أعقبه سوء مزاج حار. والرابع أن الأخلاط في الأوقات الحارة طالبة إلى الأعالي والداء يجذبها إلى الانتقال فيتحير الجذب ويعقب ذلك حالة * ردئية (1534) . وأما * الشتاء (1535) الثاتي فإن الأخلاط فيه جامدة راسبة فلا يتمكن الدواء المسهل من جذبها وإخراجه. وربما جذب لطيف المادة وتأخر كثيفها. * وأما (1536) * المعتدل (1537) بين ذلك * وهو الربيع (1538) والخريف فالواجب أن يستعمل * فيهما (1539) متى دعت * الضرورة (1540) إليه، غير أن الأطباء اختلفوا في * أيهما (1541) أجود. فقال جمهور الأطباء أنه في الربيع * أجود (1542) لأنه فصل معتدل والمعتدل مناسب للطبيعة والمناسب للشيء يقويه ويعضده. والقوة في الربيع قوية فهي قادرة على دفع المادة وإخراجها عن البدن. وذهب الشيخ الرئيس إلى أنه في الخريف أجود. قال: لأن الربيع يعقبه حر الصيف وذلك محلل للقوة مضعف لها. وأما الخريف فإنه يعقبه برد الهواء وذلك مما يجمع الحرارة في الباطن ويقويها ويشد القوى PageVW1P059B ويعضدها. والحق عندي أن الاستفراغ فيهما * متساو (1543) في الجودة. أما الربيع فلأن مواده * ثأثيره (1544) فيه بسبب حرارة الهواء. فإذا بودر إلى إخراجها عن البدن سلم من نكايتها يضررها. وأما الخريف فإن مواده مترمدة بسبب حرارة الصيف وإحراقها لها ثم أنه * يحبسه (1545) ببرده ثم يأتي برد الشتاء ويزيد في حبسها وفي هذا خطر عظيم. فإذا تقدم واستفرغ البدن سلم من نكايتها وشرها. وأما كيفية المادة فتارة ينظر في قوامها وتارة ينظر في مزاجها. أما قوامها فإنه متى كان * لطيفا (1546) فالواجب تنقيص * قوة (1547) الدواء. ومتى كان غليظا * قويناه (1548) . وأما مزاجها * فإنه (1549) متى كان حارا أضعفنا قوته ومتى كان باردا قوينا قوته. وأما العادة فإنها متى لم تجر باستعمال المسهل ثم دعت الحاجة إليه فالواجب أن لا يقدم على استعمال القوي منه بل * الضعيف (1550) أولا ثم يتدرج PageVW5P104A إلى القوي منه إن احتجنا إليه. وإن كانت العادة جارية باستعماله فالواجب أن يستعمل عندما * تدعو (1551) الحاجة إليه * وأيضا (1552) فإن من الناس من اعتاد الحب دون المطبوخ ومنهم من اعتاد المطبوخ دون الحب. وأما أمر الصناعة فإن كانت * مما (1553) يحتاج إلى مباشرة النار كالصباغة والحدادة والسباكة فلا ينبغي أن يقدم على استعمال الدواء القوي معها خوفا من ضعف القوة. فإن دعت الحاجة إليه فليستعمل الضعيف أولا ثم القوي. * وأما متى (1554) كانت صناعته لا يقتضي التحليل كصناعة القصارة والملاحة فلا يخاف من استعمال المسهل معها متى دعت الحاجة إليه. وأما هيئة البدن فإن من * كان (1555) نحيف البدن أو متخلخل السحنة أو سمنه شحمى فالواجب أن لا يقدم على إسهاله. فإن دعت الحاجة إليه فليكن ضعيفا ثم يتدرج إلى القوي، * ومتى (1556) كان بالعكس * فالبعكس (1557) . وأما المزاج فمن كان * حار المزاج (1558) * فالواجب (1559) أن يكون إسهاله بدواء ضعيف. ومن كان بارد المزاج فبالعكس، ومن كان معتدلا فمعتدل. وأما * أمر (1560) السن فالصبي والشيخ لا تقدم على إسهالهما. أما الأول فإن رطوباته غريزية * يحتاج (1561) إليها. وأما الثاني * فإن (1562) قواه ضعيفة خائرة. وأما * الشباب (1563) والكهل في أول سنه فالواجب أن يستعمل ذلك فيهما متى دعت الحاجة إليه. وأما عضو مخرجها فالواجب أن يكون خسيسا وهو مثلا متى كانت من الدماغ * فالواجب (1564) استفراغها من المنخرين لا من * أعلى (1565) الحنك والحلق خوفا من نزولها إلى قصبة الرئة. ومتى * كانت (1566) في الجانب المقعر من الكبد * فالواجب (1567) أن * يستفرغ (1568) من المعاء لا من الجانب المحدب * خوفا من مرورها بالكبد. وكذلك متى كانت في الجانب المحدب فالواجب أن تستفرغ (1569) من مجاري البول لا من المعاء خوفا من ذلك. وأما ما يعقبه * من (1570) الأعراض فإنها متى كانت أعراضها جيدة * ساكنة (1571) فالواجب أن يبالغ في الإسهال، ومتى كان بالعكس فبالعكس. فهذا ما ينبغي أن يراعى في الإسهال الضروري والاختياري.
البحث التاسع
(1572) : قال الأطباء الدواء المسهل للصفراء إذا أسهل الصفراء وبقي منه بقية أسهل البلغم ثم السوداء ثم الدم. والمسهل للبلغم يسهل البلغم أولا فإن بقي منه بقية أسهل الصفراء ثم السوداء ثم الدم. والمسهل للسوداء يسهل السوداء أولا فإن بقي منه بقية أسهل الصفراء ثم البلغم ثم الدم. فآخر ما يخرج بالإسهال الدم لأنه أشرف الأخلاط وصار كذلك لأنه الغاذي على المذهب الحق فيكون هو المخلف على البدن عوض المتحلل منه والزائد في النمو. ولما كان * حاله كذلك (1573) صارت الطبيعة تشح به وتمسكه مسكا قويا فلا يخرج إلا * لحافر (1574) قوي وقاهر عظيم. وأما بيان أنه الغاذي بالحقيقة * وهو (1575) ما ذهبنا إليه في كتابنا المسمى بالشافي وفي شرح الكليات * فقد أوضحناه في كتبنا المبسوطة (1576) .
البحث العاشر
(1577) : قال الأطباء ومما ينبغي أن يراعى في حال استعمال المسهل أمر المصلح وهو أنه لا بد من استعماله ليدفع نكاية المسهل، غير أنه لا ينبغي أن يكثر مقداره * خوفا (1578) من أن تضعف قوة الدواء * وتقوي (1579) قوة العضو فلا يقدر الدواء على إخراج المادة وانتزاعها من البدن. وهذا القول * منهم (1580) فيه نظر وهو أن المصلح PageVW5P104B على نوعين: مصلح بمعنى أنه يدفع نكاية الدواء * بالعضو (1581) ومصلح بمعنى أنه يزيد في * قوة (1582) فعل الدواء. والأول مثل الكثيراء والأنيسون للمحمودة والثاني مثل الزنجبيل للتزيد. فما كان من المصلح من القبيل الأول فإنه متى كثر مقداره أضعف قوة الدواء المسهل. وما كان من * المصلح من (1583) القبيل الثاني فإنه متى كثر مقداره زاد في فعل الدواء وقوى قوته. وإذا كان كذلك فلا يصح قولهم إن المصلح يجب أن يكون مقداره أقل من مقدار المسهل مطلقا.
البحث الحادي عشر
صفحة غير معروفة