قال أبقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والتجربة خطر، والقضاء عسر. وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على توخي فعل ما ينبغي، دون أن يكون ما يفعله المريض ومن يحضره كذلك والأشياء التي من خارج. الشرح: [1] معلوم أن القصير والطويل من مقولة الإضافة، فإن كان يريد بقوله: "العمر قصير" بإضافته إلى صناعة الطب، فقوله: "والصناعة طويلة" تكرار غير محتاج (124) إليه، ولا فرق بين هذا وبين قولك: زيد أقصر من عمرو، وعمرو [[3a]] أطول من زيد. وإن كان أراد أن عمر الشخص من الناس قصير بإضافته إلى استكمال أي علم كان من العلوم، A وصناعة الطب طويلة بإضافتها (125) إلى سائر الصنائع، فهذا (126) الترديد (127) مفيد، كأنه يقول: فما (128) أبعد كمال (129) الإنسان في هذه الصناعة؛ هذا كله ليحض على الدأب عليها. [2] وأما كون صناعة الطب أطول من سائر الصنائع النظرية والعملية، فذلك بين؛ لأنها لا تلتئم (130) وتحصل غايتها إلا بأجزاء كثيرة لا يفي عمر شخص إنسان بالإحاطة بتلك الأجزاء كلها على الكمال والتمام. وقد ذكر أبو نصر الفارابي أن الأجزاء التي تلتئم (131) بمعرفتها صناعة الطب سبعة أجزاء: [3] أولها: ما يتعلق بالطبيب من معرفة موضوع صناعته، وهو بدن الإنسان، وهذا هو (132) علم التشريح، ومعرفة مزاج كل عضو من الأعضاء على العموم، ومعرفة فعله ومنفعته، وحال جوهره في الصلابة واللين والكثافة والتخلخل، وصورة كل عضو منها، ومواضع الأعضاء الباطنة والظاهرة، واتصال الأعضاء بعضها ببعض. وهذا القدر لا يمكن أن يجهل الطبيب A شيئا منه، وفيه من الطول ما لا خفاء (133) به. [4] والجزء الثاني: معرفة ما يلحق الموضوع من حال الصحة، ومعرفة أنواع الصحة على العموم لجملة البدن، وأنواع صحة عضو عضو. [5] والجزء الثالث: معرفة أنواع الأمراض وأسبابها والأعراض التابعة لها في البدن كله على العموم، أو في عضو عضو من أعضاء البدن. [6] والجزء الرابع: معرفة قوانين الاستدلال، وهو كيف يتخذ من تلك الأعراض اللاحقة للموضوع دلائل يستدل بها على نوع نوع من أنواع الصحة، وعلى نوع نوع من أنواع المرض، كان ذلك في البدن كله أو في أي عضو كان (134) من أعضائه، وكيف يفرق بين مرض ومرض آخر إذ قد تتشابه أكثر الدلائل. [7] والخامس: قوانين تدبير صحة البدن على [[3b]] العموم، وصحة كل عضو من أعضائه، في كل سن من الأسنان وفي كل فصل من فصول السنة وبحسب بلد بلد، حتى يستدام كل بدن (135) وكل عضو على صحته (136) A التي تخصه. [8] والسادس: معرفة القوانين الكلية التي يدبر * بها كل مرض (137) حتى تسترد الصحة المفقودة إلى البدن كله، أو (138) إلى ذلك العضو الذي اعتل. [9] والسابع: معرفة الآلات التي بها يعمل الطبيب حتى يستديم الصحة الموجودة أو يسترد الصحة المفقودة، وهي معرفة أغذية الإنسان وأدويته على اختلاف أنواعها، بسائطها ومركباتها، والشد والتقميط والتنطيل من هذا القبيل؛ وكذلك الآلات التي يبط بها ويقطع اللحم، والصنارات التي يعلق بها، وسائر الآلات التي تستعمل في الجراحات وفي أمراض العين كلها من هذا القبيل. وفي ضمن هذا الجزء من الصناعة معرفة صورة كل نبات وكل معدن يستعمل في صناعة الطب، لأنك إن لم تعلم منه غير اسمه فما حصلت على غاية، وكذلك أيضا تحتاج * إلى معرفة (139) أسمائه المختلفة باختلاف المواضع، حتى تعلم في كل بلد أي اسم تطلب. [10] ومعلوم أن معرفة هذه الأجزاء B السبعة كلها وحفظها من الكتب الموضوعة لكل جزء منها لا تحصل به غاية فعل الطبيب، ولا يحصل لذلك العارف كمال الصناعة، حتى يباشر الأشخاص في حال صحتهم وحال مرضهم. وتحصل له ملكة في تمييز الدلائل التي يستدل بها، كيف يستدل ويعلم بسهولة حال مزاج هذا الشخص، وحال مزاج كل عضو من أعضائه في (140) أي نوع هو من أنواع الصحة أو (141) أنواع المرض، وكذلك (142) حال فعل كل عضو عضو (143) من أعضاء (144) هذا الشخص، وحال جوهر أعضائه، وكذلك يعلم بسهولة، بطول مباشرة الأشخاص وبتلك الصور المرتسمة في ذهنه، كيف يصرف تلك الآلات، أعني الأغذية والأدوية وسائر الآلات، وهذا يحتاج إلى [[4a]] زمان طويل جدا. [11] فقد بان لك أن معرفة تلك الأجزاء على العموم وحفظ تلك القوانين، حتى لا يشذ عنه منها شيء، يحتاج إلى زمان طويل جدا، وكذلك مباشرة الأشخاص، حتى يرتاض في تدبير صحة شخص بعد شخص، وفي تدبير شفاء مرض شخص بعد شخص، وفي تصريف تلك الآلات تصريفا A شخصيا، أعني إفرادها مرة وتركيب بعضها مع بعض مرة أخرى، وتخير شخص من (145) هذا الدواء أو الغذاء على شخص آخر من نوعه. كل هذا يحتاج إلى زمان (146) آخر طويل جدا، فبالحق قيل: إن هذه الصناعة أطول من كل صناعة لمن قصد الكمال فيها. وقال جالينوس في شرحه لكتاب طيماوس قال: لا يمكن الإنسان أن يكون عالما بصناعة الطب بأسرها. [12] قال المؤلف: وعند الإنصاف تعلم أن كل غير كامل فيها، فإنه يضر أكثر مما ينفع، لأن كون الشخص -صحيحا كان أو مريضا- لا يتدبر برأي طبيب أصلا أولى به من أن يتدبر برأي طبيب يغلط عليه، وعلى قدر (147) تقصير كل شخص يكون غلطه، وإن وقعت منه إصابة فبالعرض. فمن أجل هذا استفتح هذا الفاضل كتابه بالحض على الكمال في هذه الصناعة بقوله: "العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، التجربة خطر، والقضاء عسر". أما كون التجربة خطر، فذلك بين، لكني سأزيده بيانا. [13] وقوله: B "الوقت ضيق" يبدو لي أنه أراد به وقت المرض يضيق جدا عن التجربة. فإنك إذا لم تعلم الأمور كلها التي قد صحت بالتجربة، بل تستأنف الآن أن تجرب أمورا في هذا المريض، فالوقت يضيق عن ذلك مع ما (148) في استئناف التجربة في هذا المريض من الخطر. ويكون الكلام كله في الحض على الكمال في الصناعة، حتى يكون كل ما (149) جرب على مرور السنين حاضرا في ذكرك. [14] أما قوله: "والقضاء [[4b]] عسر" فيبدو لي أنه يريد به القضاء على مآل المرض للخلاص أو للعطب أو لحدوث تغير من التغيرات، وبالجملة تقدمة المعرفة بما (150) سيكون، فإن ذلك عسر في صناعة الطب جدا، لسيلان (151) العنصر وقلة (152) ثباته (153) على حالة واحدة. وقد علمت أن الأمور الطبيعية كلها أكثرية (154) لا دائمة، وكم مرة تكون الدلائل في غاية الرداءة وينجو المريض، وكم مرة يستبشر بجودة الدلائل ولا يصح ما دلت عليه. فلذلك يحتاج إلى رياضة طويلة في مباشرة الدلائل الشخصية، وحينئذ تقدر أن تقضي على ما يحدث بحدس جيد يقرب A من الحق. فيكون هذا القول أيضا في الحض على الدؤوب في ملازمة هذا الصناعة . [15] وأما وجه الخطر في التجربة فعلى ما أصف: إعلم أن كل جسم طبيعي فيوجد فيه نوعان (155) من الأعراض: أعراض تلحقه من جهة مادته، وأعراض تلحقه من جهة صورته. مثال ذلك: الإنسان؛ فإنه تلحقه الصحة والمرض والنوم واليقظة من جهة مادته، أعني من جهة ما هو حيوان. ويلحقه أن يفكر ويروي ويتعجب ويضحك من جهة صورته. وهذه الأعراض التي تلحق الجسم من جهة صورته هي التي تسمى الخواص، لأنها خاصة بذلك النوع وحده. كذلك كل نبات وكل معدن وكل عضو من أعضاء الحيوان يوجد له هذين النوعين من الأعراض، ويتبع لكل عرض منها فعل ما في أبداننا، فالأفعال التي يفعلها الدواء في أبداننا من جهة مادته هو أن يستحر (156)، أو يبرد، أو يرطب، أو يجفف؛ وهذه هي التي يسميها الأطباء القوى الأول، ويقولون: إن هذا الدواء يستحر (157) بطبيعته أو يبرد. وكذلك يقولون أيضا يفعل (158) B بكيفيته. وكذلك الأفعال التابعة لهذه القوى الأول، وهي التي تسميها الأطباء القوى الثواني، مثل أن يكون [[5a]] الدواء يصلب أو يلين أو يخلخل أو (159) يكثف، وسائر ما عدوا (160) كلها يفعلها الدواء من جهة مادته. [16] والأفعال التي يفعلها الدواء في أبداننا من جهة صورته النوعية هي التي يسميها الأطباء: الخاصة (161). وجالينوس يعبر (162) عن هذا النوع من الأفعال بأن يقول: يفعل بجملة جوهره. المعنى * أنه فعل فعله (163) من جهة صورته النوعية التي بها تجوهر ذلك الجسم وصار هذا، لا أنه فعل تابع لكيفيته. ويسمونها أيضا القوى الثوالث، وهي مثل إسهال الأدوية المسهلة أو تقييئها، أو كونها سم قاتل أو (164) مخلصة من شرب السم أو من نهش أحد ذوات السموم؛ كل هذه الأفعال تابعة للصورة لا للمادة. [17] والأغذية أيضا هي من هذا النوع، أعني كون هذا النوع من النبات يغذو (165) النوع الفلاني من الحيوان، وليس هذا راجع لمجرد الكيفيات الأول، ولا أيضا لما يلزم عنها من الصلابة واللين * أو الكثافة والتخلخل، بل ذلك فعل بجملة الجوهر كما يقول جالينوس. تأمل كيف نغتذي بأشياء هي قريبة من طبيعة الخشب وتفعل فيها معدنا وتحولها (166)، كالقسطل اليابس، والبلوط اليابس، والخروب اليابس؛ ولا تحول (167) معدنا بوجه قشر (168) حب العنب ولا قشر التفاح ونحوها، إلا كما ترد الجسم، كما تخرج؛ لأن ليس في جوهرها أن تقتبل من معدن أثرا (169) بوجه. [18] وقد بين جالينوس كيف يستدل على طبائع الأدوية والأفعال التابعة لكيفياتها من طعومها في كتابه المشهور في الأدوية المفردة. أما معرفة ما يفعله الدواء من جهة صورته النوعية، وهي التي يقال إنه يفعلها بجملة جوهره، فليس عندنا دليل بوجه يستدل به على ذلك الفعل، ولا لمعرفة ذلك طريق آخر بوجه غير التجربة. وكم دواء مر منتن غاية النتن وهو دواء نافع، وقد يوجد النبات الذي يكون طعمه ورائحته كسائر طعوم [[5b]] الأغذية وروائحها وهو سم قاتل، بل قد يوجد نبات يظن أنه من أنواع الأغذية إلا أنه بري فقط لا بستاني وهو سم قاتل. فقد تبين لك خطر التجربة ما أعظمه، وشدة الحاجة إليها مع ذلك؛ لأن كل الأغذية ما علمت قواها من حيث هي غذاء إلا بالتجربة، وكذلك معظم الأدوية ما علمت أفعالها إلا بالتجربة، فينبغي لك أن لا تقدم بالتجربة، وأن تستظهر بحفظ كل ما جربه الغير. [19] واعلم أن ثم أدوية يكون فعلها في أبداننا التابع لمادتها هو الظاهر البين، وفعلها التابع لصورتها خفي جدا حتى لا يشعر به، كأكثر الأدوية التي لا توصف لها خاصية ولا تخصص بفعل. [20] وثم أدوية يكون فعلها في أبداننا التابع لصورتها ظاهر عظيم، كالأدوية المسهلة والسموم والمخلصات، ولا تؤثر في أبداننا من جهة التسخين والتبريد إلا أثر يسير جدا، إما من قبل نزارة ما يتناول منها وإن كانت حارة أو باردة، أو من قبل أن ليس لها كيفية غالبة ظاهرة. ولا بد من وجود الفعلين ضرورة، أعني التابع للمادة، والتابع للصورة. ومن أجل الفعل التابع للصورة صارت أدوية (170) A مخصوصة بالمعدة، وأدوية (171) مخصوصة بالكبد، وأدوية مخصوصة بالطحال، وأدوية مخصوصة بالقلب، وأدوية مخصوصة بالدماغ. ومن أجل الصورة النوعية أيضا تختلف أفعال (172) الأدوية، وإن كانت طبيعتها واحدة. أنت تتأمل، فتجد أدوية عدة في درجة واحدة بعينها من الحرارة واليبس مثلا، ولكل دواء منها أفعال غير أفعال الدواء الآخر؛ وهذا كله إنما أخرجته التجربة على مرور الأزمنة (173). [21] ولعظيم (174) فضيلة أخلاق أبقراط، أمر في هذا الفصل الذي افتتح (175) به (176) أن لا يقتصر الطبيب على أن يفعل ما ينبغي فقط ويكف؛ لأن ذلك غير [[6a]] كاف في حصول الصحة للمريض، وإنما تتمم الغاية ويبرئ بأن يكون * المريض أيضا (177) وكل من حوله (178) يفعل بالمريض ما ينبغي فعله، ويرفع العوائق (179) كلها التي من خارج، المانعة من (180) شفاء المرض، وكأنه (181) يأمر في هذا الفصل أن يكون (182) للطبيب قدرة على سياسة المرضى وتسهيل أعمال الطب B عليهم، كشرب الأدوية المرة والحقن والبط والكي ونحوها، وأن يخطر (183) المريض ومن حوله ويحذره من أن يخطئ على نفسه، ويجعل من حوله يقومون (184) بتدبيره كما ينبغي في حال غيبة الطبيب، وكذلك يزيل العوائق التي من خارج ما أمكنه بحسب شخص شخص. [22] مثاله: إن يكون المريض فقيرا (185)، وهو في موضع يزيد في مرضه، ولا قدرة له على موضع آخر، فينقله هو من موضع إلى موضع، وكذلك يهيئ (186) له الغذاء والدواء إذا لم يكن ذلك عنده. فهذه وأشباهها هي (187) الأشياء الخارجة عما يلزم الطبيب من حيث صناعته، لكنها ضرورية في حصول الغاية التي يروم الطبيب حصولها لهذا المريض، أما أن يصف فقط ما ينبغي أن يفعل ويروح فلا يفعل ذلك، لأنه قد لا تحصل من ذلك الغاية المقصودة.
(٢)
[aphorism]
صفحة ١٨