والعلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين إن كل مجتهد مصيب وهو المختار عند كثير من المحققين. وعلى المذهب الآخر أن المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم موضوع عنه لكن على جهة النصيحة للخروج من الخلاف، فهو حسن مندوب إلى فعله برفق. قال الشيخ محيي الدين رحمه الله: واعلم أن من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعذاب، قال الله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم) فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضى الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم. لا سيما وقد ذهب معظمه ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال: (ولينصرن الله من ينصره) واعلم أن الأجر على قدر النصب ولا يتركه أيضا لصداقته ومودته فإن الصديق للإنسان هو الذي يسعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب آخرته أو نقصها وإن حصل بسببه نفع في دنياه.
وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون من ذلك برفق ليكون أقرب إلى تحصيل المقصود فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: من وعظه أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وعابه.
ومما يتساهل الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأوا إنسانا يبيع متاعا أو حيوانا فيه عيب ولا يبينه فلا ينكرون ذلك ولا يعرفون المشتري بعيبه وهو مسؤولون عن ذلك فإن الدين النصيحة، ومن لم ينصح فقد غش.
قوله صلى الله عليه وسلم: " فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فأن لم يستطع فبقلبه " معناه فلينكره بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير لكنه هو الذي في وسعه.
وقوله: " وذلك أضعف الإيمان " معناه والله أعلم أقله ثمرة. وليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر البحث والتفتيش والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيره، وقال الماوردي ليس له أن يقتحم ويتجسس إلا أن يخبره من يثق بقوله إن رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزني بها. فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدركه.
وقوله: " وذلك أضعف الإيمان " قد ذكر أن معناه أقله ثمرة. وقد جاء في رواية أخرى: " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " أي لم يبق وراء ذلك مرتبة أخرى. والإيمان في هذا الحديث بمعنى الإسلام.
وفي هذا الحديث دليل أن من خاف القتل أو الضرب سقط عنه التغيير وهو مذهب المحققين سلفا وخلفا وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك.
أخوة الإسلام
35 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره. التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه " رواه مسلم " .
......................................................
قوله: " ولا تحاسدوا " الحسد تمني زوال النعمة وهو حرام وفي حديث آخر " إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو العشب " فأما الغبطة فهي تمني حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه. وقد يوضع الحسد موضع الغبطة لتقاربهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين " أي لا غبطة.
قوله: " ولا تناجشوا " أصل النجش الختل وهو الخداع ومنه قيل للصائد ناجش - لأنه يختل الصيد ويحتال له.
قوله: " ولا تباغضوا " أي لا تتعاطوا أسباب التباغض لأن الحب والبغض معان قلبية لا قدرة للإنسان على اكتسابها ولا يملك التصريف فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " يعني القلب.
والتدابر: المعاداة وقيل المقاطعة لأن كل واحد يؤتي صاحبه دبره.
صفحة ٣٠