بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين ................................................
قيوم السموات والأرضين. مدبر الخلائق أجمعين. باعث الرسل - صلواته وسلامه عليهم - إلى المكلفين لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية،............وواضحات البراهين. أحمده على جميع نعمه. وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار. الكريم الغفار............وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين..................صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين.
" أما بعد " ، فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وانس بن مالك وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم من طرق كثيرات بروايات متنوعات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء " . وفي رواية: " بعثه الله فقيها عالما " .
وفي رواية أبي الدرداء: " وكنت له يوم القيامة شافعا وشهيدا " .
وفي رواية ابن مسعود قيل له: " أدخل من أي أبواب الجنة شئت " وفي رواية ابن عمر " كتب في زمرة العلماء وحشر في زمرة الشهداء " .
واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف كثرت طرقه. وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات فأول من علمته صنف فيه هو عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسائي، وأبو بكر الآجري، وأبو محمد بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، الحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين، وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثا اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام.
وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: " ليبلغ الشاهد منكم الغائب " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها " .
ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة رضي الله عن قاصديها.
وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثا مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد، ليسهل حفظها، ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها.
وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث، لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات وذلك ظاهر لمن تدبره، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
شرح المقدمة لابن دقيق العيد أي باسم المعبود بحق، الواجب الوجود، المبدع من أثر الكرم والجود أؤلف مستعينا باسم الله إلخ. والرحمن العام الرحمة لجميع البرية، والرحيم الخاص الرحمة للمؤمنين، وأصل " الرحمة " انعطاف القلب والرقة، وهي في حقه سبحانه وتعالى إرادة الخير لمن يستحقها، أو ترك العقوبة لمن يستوجبها.
صفحة ١
وافتتح المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا بالتسمية والتحميد تأسيا بالكتاب المجيد، وعملا بالحديث الصحيح المفيد " كل أمر ذي بال - أي شأن وحال - لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالحمد لله، أو بحمد الله أو بذكر الله، فهو أجذم أو أقطع أو أبتر " روايات متعددة مؤداها أن متروك التسمية قليل البركة، أو مقطوع الزيادة، ورواية " بذكر الله " أعم. وأكثر العلماء أجمعوا على أن لفظ الجلالة اسم الله الأعظم، فهو علم على الذات الأقدس المستحق لجميع المحامد. ولذا قال: " الحمد لله " أي الثناء الجميل يستحق لله " رب " أي مالك، وخالق، ومدبر، وسيد " العالمين " جمع عالم - بفتح اللام - وفيه تغليب العاقل على غيره، إذ هو اسم لما سوى الله تعالى، غير أنه لا يطلق على المفرد، فلا يقال: زيد عالم إلا مجازا، " قيوم السموات " معناه القائم بالتدبير والحفظ قال الله تعالى: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) " والأرضين " بفتح الراء وقد تسكن - جمع أرض. " مدبر الخلائق " أي مصرف أمور الخلائق، جمع " خليقة " بمعنى مخلوقة. إذ هو العالم بعواقب أمورهم. " باعث " أي مرسل. وقوله: " إلى المكلفين " متعلق بباعث، وجملة الصلاة والسلام معترضة بينهما إنشائية المعنى. أي اللهم صل وسلم، وفي بعض النسخ " صلاته " بالإفراد، وهي من مادة الصلة. فهي من العبد: طلب الاتصال والقرب من الله، وصلاتنا على الرسول: طلب الصلة اللائقة والمنحة الإلهية العظيمة له من الله على النعمة التي أسبغها الله علينا بسببه صلى الله عليه وسلم ويقال: إنها من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم " وسلامه " أي تحيته التي تليق بجنابهم العظيم. وقوله: " لهدايتهم " أي دلالتهم الناس على سبيل الهدى متعلق أيضا بباعث. " شرائع " جمع شريعة، من شرع بمعنى: بين، وهي والدين والملة بمعنى واحد وتختص بالاعتبار؛ فالأحكام من حيث إننا ندين، أي ننقل لها، وندان: أي نجاز عليها، دين، ومن حيث أن الملك يمليها للرسول والرسول يميلها علينا: ملة؛ ومن حيث شرعها لنا، أي نصبها وبينها: شرع وشريعة. والدين: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات. " بالدلائل " متعلق ببيان،جمع دلالة - مثلث الدال بمعنى الدليل، و " القطعية " ما تقطع جدال الخصم، لكونها عن الله " وواضحات البراهين " من إضافة الصفة للموصوف، أي البراهين الواضحة، وهي الحجج وعطفه على الدلائل من عطف الخاص على العام؛ لأن البرهان لا يكون إلا مركبا من تصديقتين، متى سلما لزمهما لذاتهما قول ثالث، كقولك: العدل متغير، وكل متغير حادث، فإنه ينتج العالم حادث، وأما الدليل فهو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. سواء كان مركبا كهذا المثال . أو منفردا كقولك: هذه المخلوقات دليل على وجود الله تعالى " أحمده " أي أثني عليه ثانيا في مقابلة النعم. فأتى بالحمد أولا في مقابلة الذات الأقدس المتصف بجميل الصفات، وثانيا في مقابلة جميع النعم المتعاقبات، وخص الأول بالجملة الأسمية المفيدة للاستمرار والدوام، والثاني بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والتعاقب، لمناسبة ما يليق بكل مقام. " المزيد " أي مزيد النعم، فأل عوض عن المضاف إليه، و " من فضله " الفضل: هو العطاء عن اختيار. لا عن إيجاب، أي حصول بالطبع، بدون اختيار، كما تقول الحكماء، ولا عن وجوب كما تقول المعتزلة، والكرم إعطاء الكثير لغير علة. " وأشهد " أي أتحقق وأذعن " أن " أي أنه، فهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف " لا إله " أي لا معبود بجميع أنواع العبادة بحق " إلا الله " برفع لفظ الجلالة، على أنه بدل من الضمير المستتر في خبر " لا " المقدر بمستحق الإلهية، ويجوز نصبه على الاستثناء " الغفار " من الغفر، أي الستر للعيوب " محمدا " هو مشتق من الحمد، لكثرة خصاله المحمودة " عبده " قدمه لكونها أشرف المقامات، ولذلك ذكره الله بهذا اللقب في أسنى المقالات " فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " وقال: " وأنه لما قام عبد الله يدعوه " فإن العبد الحقيقي لربه من يكون حرا عن هوى قلبه، والذل والخضوع لغيره، ولذا قيل:
أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتأي طلعة حر
" وحبيبه " فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو المحب المحبوب " وخليله " من الخلة - بالضم - أي صفاء المودة وتخللها في القلب، كما قيل في ذلك:
صفحة ٢
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا " بالقرآن " مصدر قرأ بمعنى جمع، لجمعه السور، أو ما في الكتب المنزلة و " العزيز " من عز يعز - بكسر العين - إذا لم يكن له نظير؛ أو بضمها إذا غلب، فهو الغالب المعجز لفصحاء العرب بما فيه من البلاغة " وبالسنن " أي ما سنه النبي، أي شرعه من الأحكام، فرضا أو نفلا، إذ هو المشرع صلى الله عليه وسلم " للمسترشدين " أي الطالبين الرشاد، وهو ضد الغي. " بجوامع الكلم " أي بالكلم الجوامع ، بمعنى أنه يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل " وسماحة الدين " أي سهولته، قال الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) بخلاف الأمم السابقين، فإن بعضهم لم تكن تقبل توبته إلا بقتل النفس، كما قال الله تعالى عن قوم موسى: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) . " صلوات الله " إلخ أتى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم امتثالا لما في الكتاب العزيز " وعلى سائر " أي باقي أو جميع، الأول من السؤر بالهمزة، بمعنى البقية من الماء ونحوه. والثاني من سور المدينة المحيط بها، وفي مسند الإمام أحمد " أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر، وكل أسمائهم وذواتهم أعجمية، إلا محمدا، وهودا، وصالحا، وشعيبا، فأسماؤهم وذواتهم عربية،وأما إسماعيل فذاته عربية، واسمه أعجمي، ولا يجب الإيمان نفصيلا إلا بخمسة وعشرين من الأنبياء المرسلين، وهم المذكورون في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأيات، كما جمعهم بعضهم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في " تلك حجتنا " منهم ثمانية ... من بعد عشر؛ويبقى سبعة وهم:
إدريس هود شعيب صالح. وكذا: ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وأولوا العزم منهم مجموعون في قول بعضهم:
محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح أولوا العزم فاعلم
وهم في الفضل على هذا الترتيب " وآل كل " أي كل واحد من النبيين. والمرسلين. أي أقاربه المؤمنين به. والمراد هنا كل مؤمن. لأنه الأنسب بمقام الدعاء " وسائر الصالحين " أي القائمين بحقوق الله وحقوق عباده. فدخل الصحابة وغيرهم ممن اتصف بذلك. " روينا " بصيغة المعلوم. أي نقلنا عن غيرنا. وجملة - أن رسول الله - إلخ مفعولة. " وأبي هريرة " تصغير " هرة " كناه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حين رآه حاملا لها في كمه. " من طرق كثيرات " متعلق بروينا " بروايات متنوعات " أي مختلفة الألفاظ. " من حفظ " أي نقل. وإن لم يحفظ اللفظ، ولم يعرف المعنى، إذ به يحصل الانتفاع للمسلمين بخلاف حفظ ما لم ينقل إليهم، كذا نقل عن المصنف. " على أمتي " أي لأجلها، شفقة عليها، فعلى: بمعنى اللام؛ والأمة جمع ممن لهم جامع، من دين أو زمان أو مكان، والمراد هنا أمة الإجابة لا الدعوة. " من أمر دينها " أي مما يتعلق بأمر دينها أصولا وفروعا. " في زمرة " أي جماعة، و " العلماء " عطف عام، لتخصيص الفقهاء بالفروع الفقهية، و " شهيدا " أي شاهدا له بالكمال، و " الشهداء " جمع شهيد، أي قتيل المعركة، التي شهد الله وملائكته له بالجنة، ويجمع بين هذه الروايات بأن حفاظ الأربعين مختلفوا المراتب، فمنهم من يحشر في زمرة الشهداء، ومنهم من يحشر في زمرة العلماء، ومنهم من يبعث فقيها عالما، وإن لم يكن في الدنيا كذلك، ومنهم غير ذلك.
صفحة ٣
والحكمة في تخصيص عدد الأربعين: أنه أول عدد له ربع عشر صحيح، فكما دل حديث الزكاة على تطهير ربع العشر للباقي، فكذلك العمل بربع عشر الأربعين، يخرج باقيها عن كونه غير معمول به، وقد كان بشر الحافي رضي الله عنه يقول: يا أهل الحديث، اعملوا من كل أربعين حديثا بحديث " واتفق الحفاظ " أي أكثرهم " على أنه ضعيف " هو ما يكون بعض رواته مردودا لعدم عدالته، أو لروايته عمن لم يره، أو سوء الحفظ، أو تهمة في العقيدة، أو عدم المعرفة بحال من يحدث عنه، أو غير ذلك مما هو مبين في كتب مصطلح الحديث. " وإن كثرت طرقه " جمع طريق. وهم الرواة عن الرواة عن الصحابي وإن سفلوا. يقال هذه رواية أبي هريرة من طريق البخاري مثلا، فالرواة طرق يتوصل بها إلى المتن، ولا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من أن يكون فيه مجهول أو مشهور بالضعف، فوصف الحديث بالضعف أو غيره عن الصحة والحسن إنما هو باعتبار سنده، أي رجاله الذين رووه، فالحديث الذي اتصل إسناده، وكان رواته عدولا: حديث صحيح، والحديث الضعيف ما عدا ذلك، وهو أقسام كثيرة، كما أشار إلى ذلك كله صاحب البيقونية في مصطلح الحديث بقوله:
أولها الصحيح وهو ما اتصل ... إسناده، ولم يشذ أو يعل
يرويه عدل ضابط عن مثله ... معتمد في ضبطه ونقله
والحسن المعروف طرقا وغدت ... رجاله لا كالصحيح اشتهرت
وكل ما عن رتبة الحسن قصر ... فهو الضعيف وهو أقساما كثر
" في هذا الباب " أي باب الأربعينات " ما لا يحصى " الإحصاء في الأصل: العد بالحصى، والمقصود بذلك المبالغة في الكثرة، أي فله بهم أسوة و " الطوسي " قرية من قرى بخارى " الرباني " أي الذي أفيضت عليه المعارف الربانية، وربي الناس بعلمه، " سفيان " مثلث السين " النسائي " وفي نسخة النسوي بالواو وفتح النون والسين، نسبة إلى " نسا " بلد بخراسان قلبت ألفه واوا، كما يقال في النسبة إلى فتى: فتوى، ولكن الهمز في استعمال المحدثين أكثر وأشهر. " الآجري " بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم وشد الراء، نسبة إلى الآجر، وهو الطوب المحروق لبيعه أو عمله، كان عالما ثقة. " الأصفهاني " بالفاء والباء مع كسر الهمزة وفتحها، والفتح أفصح، نسبة إلى أصفهان بلدة من بلاد فارس، " والدارقطني " بفتح الراء، نسبة إلى دار القطن، محلة كبيرة ببغداد. " السلمي " بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى سليم قبيلة مشهورة. " وأبو سعد " في نسخة: وأبو سعيد بالياء، وهو موافق لما في كتاب الأنساب للسمعاني، والذي في طبقات الحفاظ، وتاريخ الخطيب البغدادي، ومعجم البلدان: أبو سعد، بدون ياء، وهو الأصح: لأن الأنساب غير مصححة تصحيحا يعتمد عليه، " الماليني " نسبة إلى مالين، قرى مجتمعة من أعمال هراة، يقال لجميعها: مالين، كان ثقة متقنا، صنف وحدث ورحل إلى مصر فمات بها. " الصابوني " نسبة إلى عمل الصابون. " الأنصاري " وفي نسخة: زيادة الهروي، كان ثقة عارفا، توفي بهراة، " والبيهقي " نسبة إلى بيهق، قرية من ناحية نيسابور. " وقد استخرت الله " أي طلبت من الله أن يرشدني لما هو خير من الإقدام أو الإحجام، فإنه ربما كان مشغولا بما هو أهم من جمع الأربعين من العبادات، فإن الاستخارة كما تكون في الأمور المباحة تكون في الأمور المندوبة، لترجيح بعضها على بعض وكيفيتها أن تصلي ركعتين وتدعو بالدعاء المشهور الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا تتوقف هذه الاستخارة على نوم بل تتوجه إلى ما ينشرح له صدرك.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن أنس: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد، " والأعلام " جمع على بفتحتين، وهو ما يهتدي به إلى الطريق من جبل أو غيره على حد قول الخنساء في أخيها صخر:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
قوله: " في فضائل الأعمال " أي لأنه إن كان صحيحا في نفس الأمر، فقد أعطى حقه من العمل به. وإلا فلم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم؛ وشرط جواز العمل به: أن لا يشتد ضعفه، بأن لا يخلو طريق من طرقه من كذاب أو متهم بالكذب، وأن يكون داخلا تحت: أصل كلي، كما إذا ورد حديث ضعيف بصلاة ركعتين بعد الزوال مثلا، فإنه يعمل به لدخوله تحت أصلي كلي؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر " . رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، أي خير شيء وضعه الله تعالى " ومع هذا " أي ما ذكر من جواز العمل به " الشاهد " أي السامع لما أقول، والخطاب للصحابة، ثم لمن بعدهم، وهلم جرا، فيجب التبليغ وجوب كفاية على أهل العلم، وكل من تعلم مسألة فهو من أهل العلم بها، فيجب عليه تعليمها لغيره. وإلا وقع في الإثم، إن لم يقم بها غيره، و " نضر " بفتح الضاد المعجمة، روى مخففا ومشددا، وهو الأكثر من النضارة، وهي حسن الوجه وبريقه، كما قال بعضهم: من كان من أهل الحديث فإنه ... ذو نضرة في وجهه نور سطع
صفحة ٤
أن النبي دعا بنضرة وجه من ... أدى الحديث كما تحمل واستمع
" امرءا " : أي رجلا، وليس بقيد، وإنما خصه نظرا للشأن والغالب؛ وإلا فالمرأة كذلك. " فأداها " أي باللفظ أبو المعنى، لجواز رواية الحديث بالمعنى بشروطه " ثم من " وفي نسخة - إن من العلماء - " أصول الدين " جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره، والمراد هنا الإلهيات والنبوات، والحشر والنشر. " في الفروع " أي المسائل الفقهية. " في الجهاد " أي في فضل قتال الكفار. " في الزهد " أي في فضل ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا. " في الآداب " بالمد جمع أدب، أي الخصال المحمودة، فتشمل مكارم الأخلاق الموصلة إلى الكريم الخلاق. " في الخطب " أي التي كان يخطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في نحو جمعة وعيد، وعند نزول الأمور المهمة، فهي مشتقة من الخطب - بفتح الخاء المعجمة - لأن العرب كانوا إذا نزل بهم خطب، أي أمر صعب، خطبوا له ليجتمعوا ويحتالوا في دفعه. " جمع أربعين " مفهوم العدد لا يفيد حصرا، فلا يردانه زاد حديثين؛ ومن زاد زاد الله في حسناته. " قاعدة " أي أصل من أصول الدين. " مدار الإسلام " أي غالب أحكامه يدور عليه كحديث - إن الحلال بين - " أو هو نصف الإسلام أو ثلثه " كحديث - إنما الأعمال بالنيات - فإن أبا داود قال: إنه ضعيف الإسلام، كما سيأتي، أي لأن الدين: إما ظاهر، وهو العمل، أو باطن، وهو النية، والشافعي رضي الله عنه قال إنه ثلثه، أي لأن كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه، والنية أحدها. ومما نسبه السعد للإمام الشافعي رضي الله عنه قوله.
عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ليس بعينك واعملن بنية
" أو نحو ذلك " بالرفع كالربع، كحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " فإن قيل فيه، إنه ربع الإسلام. " صحيحه " أي غير ضعيفة، فتشمل الحسن " وأذكرها " بالرفع عطفا على " ألتزم " وبالنصب على تكون " الأسانيد " ، جمع إسناد، وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق، فقولك: أخبرنا فلان عن فلان، إسناد، ونفس الرجال سند، والمتن: ألفاظ الحديث، " ليسهل حفظها " أي الأحاديث، فإن الأسانيد لا فائدة في ذكرها لكثير من الناس بعد أن علمت صحتها. " ثم أتبعها " بالرفع من الإتباع. " خفي ألفاظها " من إضافة الصفة للموصوف. أي ألفاظها الخفية. وقد أتينا على جميعها بالتوضيح الكافي، فلله الحمد. وحينئذ فلا حاجة لإتباعها في هذا الباب، فإنه نزر يسير بالنسبة لما ذكرناه، والله أعلم بالصواب. " من المهمات " وهي بيان العقائد الدينية، وأصول الشرائع الإلهية . " وعلى الله " في نسخ زيادة - الكريم - " تفويضي " هو رد الأمر إلى الفاعل المختار سبحانه. " وبه " في بعض النسخ، وبيده التوفيق، وهو خلق القدر في العبد على الطاعة، " والعصمة " هي فيض إلهي يقوي به العبد على تحري الخير وتجنب الشر، وطلبها جائز لجوازها، إذ المختص بالأنبياء وقوعها لهم ووجوبها في حقهم.
إنما الأعمال بالنيات
1 - " عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري وأبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة " .
......................................................
صفحة ٥
هذا حديث صحيح متفق على صحته وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده رواه الإمام أبو عبد الله البخاري، في غير موضع من كتابه، ورواه أبو الحسين مسلم بن الحجاج في آخر كتاب الجهاد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال الإمام أحمد، والشافعي، رحمهما الله " يدخل في حديث الأعمال بالنيات ثلث العلم " قاله البيهقي، وغيره. وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه والنية أحد الأقسام الثلاثة. وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه، وقال جماعة من العلماء هذا الحديث ثلث الإسلام.
واستحب العلماء أن تستفتح المصنفات بهذا الحديث، ومن ابتدأ به في أول كتابه الإمام أبو عبد الله البخاري، وقال عبد الرحمن بن مهدي، ينبغي لكل من صنف كتابا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية.
وهذا حديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله لأنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولك يروه عن عمر، إلا علقمة بن أبي وقاص ولم يروه عن علقمة إلا مجمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر بعد ذلك فرواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة.
ولفظة " إنما " للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه وهي تارة تقتضي الحصر وتارة تقتضي حصرا مخصوصا يفهم ذلك بالقرائن كقوله تعالى: (إنما أنت منذر) فظاهر الحصر في النذارة والرسول لا ينحصر في ذلك بل له أوصاف كثيرة جميلة كالبشارة وغيرها وكذلك قوله تعالى: ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) فظاهره والله أعلم الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سببا إلى الخيرات ويكون ذلك من باب التغليب فإذا وردت هذه اللفظة فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص فقل به وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " والمراد بالأعمال الأعمال الشرعية ومعناه لا يعتد بالأعمال دون النية مثل الوضوء وا؟لغسل والتيمم وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية لأنها من باب التروك والترك لا يحتاج إلى نية، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية.
وفي قوله: " إنما الأعمال بالنيات " محذوف واختلف العلماء في تقديره فالذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال بالنيات، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال بالنيات.
وقوله: " وإنما لكل امرئ ما نوى " قال الخطابي يفيد معنى خاصا غير الأول وهو تعيين العمل بالنية، وقال الشيخ محيي الدين النووي: فائة ذكره أن تعيين المنوي شرط فلو كان على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا أو غيرهما ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك والله أعلم.
وقوله: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " المتقرر عند أهل العربية أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد أن يتغايرا وههنا قد وقع الاتحاد وجوابه " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " نية وقصدا " فهجرته إلى الله ورسوله " حكما وشرعا.
وهذا لحديث ورد على سبب لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس لا يريد بذلك فضيلة الهجرة فكان يقال له مهاجر أم قيس والله أعلم.
بيان الإسلام والإيمان والإحسان
2 - " عن عمر رضي الله عنه أيضا قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا له أن يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الساعة.قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " رواه مسلم " .
صفحة ٦
...................................................... هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه لما تضمنه من جمعه علم السنة فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن.
وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك فإن جبريل أتى معلما للناس بحاله ومقاله.
قوله: " لا يرى عليه أثر السفر " المشهور ضم الياء من يرى مبنيا لما لم يسم فاعله ورواه بعضهم بالنون المفتوحة وكلاهما صحيح.
قوله: " ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد " هكذا هو المشهور الصحيح ورواه النسائي بمعناه وقال: " فوضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فارتفع الاحتمال الذي في لفظ كتاب مسلم فإنه قال فيه: " فوضع كفيه على فخذيه " وهو محتمل.
وقد استفيد من هذا الحديث أن الإسلام والإيمان حقيقتان متباينتان لغة وشرعا وهذا هو الأصل في الأسماء المختلفة وقد يتوسع فيهما الشرع فيطلق أحدهما على الآخر على سبيل التجوز.
قوله: " فعجبنا له يسأله ويصدقه " إنما تعجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلا من جهته وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك.
قوله: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه " الإيمان بالله هو التصديق بأنه سبحانه موجود موصوف بصفات الجلال والكمال منزه عن صفات النقص وأنه واحد حق صمد فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيما يشاء ويفعل في ملكه ما يريد.
والإيمان بالملائكة هو التصديق بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهو بأمره يعملون.
والإيمان برسل الله هو التصديق أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلغوا عن الله رسالاته وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به وأنه يجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.
والإيمان باليوم الآخر هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين إلى غير ذلك مما صح من النقل.
والإيمان بالقدر هو التصديق بما تقدم ذكره وحاصله ما دل عليه قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) (إنا على كل شيء خلقناه بقدر) ونحو ذلك. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " .
ومذهب السلف وأئمة الخلف أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جازما لا ريب فيه ولا تردد كان مؤمنا حقا سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو عن اعتقادات جازمة.
وقوله في الإحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه " الخ حاصله راجع إلى إتقان العبادات ومراعاة حقوق الله تعالى ومراقبته واستحضار عظمته وجلالته حال العبادات .
قوله: " فأخبرني عن أماراتها " بفتح الهمزة، والأمارة العلامة، والأمة ههنا الجارية المستولدة، وربتها سيدتها وجاء في رواية بعلها، وقد روي أن أعرابيا سئل عن هذه الناقة قال: أنا بعلها ويسمى الزوج بعلا، وهو في الحديث ربتها بالتأنيث، واختلف في قوله: " أن تلد الأمة ربتها " فقيل المراد به أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه بأبيه وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين على المشركين وكثرة الفتوح والتسري، وقيل معناه أن تفسد أحوال الناس حتى يبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر تردادهن في أيدي المشترين فربما اشتراها ولدها ولا يشعر بذلك فعلى هذا الذي يكون من أشراط الساعة غلبة الجهل بتحريم بيعهن، وقيل معناه أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب.
صفحة ٧
" والعالة " بتخفيف اللام جمع عائل وهو الفقير. وفي الحديث كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما وضعه في هذا التراب " ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة أي لم يشيد بناءه ولا طوله ولا تأنق فيه.
قوله: " رعاء الشاء " إنما خص رعاء الشاء بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية معناه أنهم مع ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك بخلاف أهل الإبل فإنهم في الغالب ليسوا عالة ولا فقراء.
وقوله: " فلبثت مليا " قد روي بالتاء يعني لبث عمر رضي الله عنه وروي فلبث بغير تاء يعني أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه وكلاهما صحيح المعنى، وقوله: " مليا " هو بتشديد الياء أي زمانا كثيرا وكان ذلك ثلاثا هكذا جاء مبينا في رواية أبي داود وغيره.
وقوله: " أتاكم يعلمكم دينكم " أي قواعد دينكم أو كليات دينكم قاله الشيخ محيي الدين في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم.
أهم ما يذكر في هذا الحديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدرة الله تعالى وذكر بيان الإسلام والإيمان كلاما طويلا وحكى فيه أقوال جماعة من العلماء، منها ما حكاه عن الإمام أبي الحسين المعروف بابن بطال المالكي، أنه قال: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص بدليل قوله تعالى: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) ونحوها من الآيات، قال بعض العلماء نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وبين أصل وضعه في اللغة وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر بظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان المصدقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا يغريهم السفه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة منيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال فأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك وهذا لا يمكن إنكاره ولا يشك في نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: " قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام " وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ودلائله أكثر من أن تحصر قال الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم وحكي عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة إلى آخره " ثم فسر الإيمان بقوله أن تؤمن بالله تعالى وملائكته إلى آخره، وقال رحمه الله هذا بيان أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويبان أصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر وحكم الإسلام في الظاهر ثبت في الشهادتين، وإنما أضاف إليها الصلاة والزكاة والصوم الحج، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها. وبقيامه بها يصح إسلامه.
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية وكذلك جاز اطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " .
واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام قال فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وقال هذا التحقيق واف بالتوفيق ونصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم.
صفحة ٨
أركان الإسلام 3 - " عن أبي عبد الرحمن - عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده التي عليها بني وبها يقوم وإنما خص هذه بالذكر ولم يذكر معها الجهاد مع أنه يظهر الدين ويقمع عناد الكافرين لأن هذه الخمس فرض دائم والجهاد من فروض الكفايات وقد يسقط في بعض الأوقات.
وقد وقع في بعض الروايات في هذا الحديث تقديم الحج على الصوم وهو وهم، والله أعلم لأن ابن عمر لما سمع المستعيد يقدم الحج على الصوم زجره ونهاه عن ذلك وقدم الصوم على الحج وقال: " هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وفي رواية لابن عمر: " بني الإسلام على أن تعبد الله وتكفر بما سواه وإقام الصلاة " إلى آخره، وفي رواية أخرى " أن رجلا قال لعبد الله بن عمر ألا تغزو فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الإسلام بني على خمس " وقع في بعض الطرق على خمسة بالهاء وفي بعضها بلا هاء وكلاهما صحيح.
وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده فإنه قد جمع أركانه.
الأعمال بخواتيمها
4 - " عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
قوله: " وهو الصادق المصدوق " أي الصادق في قوله المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم.
قال بعض العلماء معنى قوله: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه " إن المني يقع في الرحم متفرقا فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة، وقد جاء عن أبن مسعود في تفسير ذلك " أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دما في الرحم فذلك جمعها وهو وقت كونها علقة " .
قوله: " ثم يرسل إليه لملك " يعني الملك الموكل بالرحم.
قوله: " وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة " إلى آخر ظاهر الحديث أن هذا العامل كان عمله صحيحا وأنه قرب من الجنة بسبب عمله، حتى بقي له على دخولها ذراع، وإنما منعه من ذلك سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة فإذا الأعمال بالسوابق لكن لما كانت السابقة مستورة عنا والخاتمة ظاهرة جاء في الحديث: " إنما الأعمال بالخواتيم " يعني عندنا بالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص وفي بعض الأحوال، وأما الحديث الذي ذكره مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة " فيما يبدو للناس وهو من أهل النار فإنه لم يكن عمله صحيحا في نفسه وإنما كان رياء وسمعة فيستفاد من ذلك الحديث ترك الالتفات إلى الأعمال والركون إليها والتعويل على كرم الله ورحمته.
وقوله قبل ذلك: " ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله " هو بالباء الموحدة في أوله على البدل من أربع كلمات.
صفحة ٩
وقوله: " شقي أو سعيد " مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو شقي أو سعيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: " فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة " إلى قوله: " فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " المراد أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم وذلك من لطف الله سبحانه وسعة رحمته فإن انقلاب الناس من الشر إلى الخير كثير وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ولله الحمد والمنة على ذلك، وهو تجوز، وقوله: " إن رحمتي سيقت غضبي " وفي رواية: " تغلب غضبي " .
وفي هذا الحديث إثبات القدر كما هو مذهب أهل السنة وأن جميع، الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها. قال الله تعالى: (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) ولا اعتراض عليه في ملكه يفعل في ملكه ما يشاء. قال الإمام السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوفيق من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول فمن عدل عن التوفيق منه ضل وتاه في مجال الحيرة ولم يبلغ شفاء النفس ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ضربت دونه الأستار اختص سبحانه به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، وقد حجب الله تعالى علم القدر عن العالم فلا يعلمه ملك ولا نبي مرسل، وقيل إن سر القدرة ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل ذلك.
وقد ثبتت الأحاديث بالنهي عن ترك العمل اتكالا على ما سبق من القدر بل تجب الأعمال والتكاليف متى ورد بها الشرع وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله تعالى لعمل أهل الشقاوة، كما في الحديث، وقال الله تعالى: (فسنيسره لليسرى... فسنيسره للعسرى) قال العلماء: وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه كل ذلك مما يجب الإيمان به، أما كيفية ذلك وصفته فعلمه إلى الله تعالى لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والله أعلم.
إبطال المنكرات والبدع
5 - " عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم: وفي رواية لمسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
......................................................
قال أهل اللغة الرد هنا بمعنى المردود أي فهو باطل غير معتد به وقوله: " ليس عليه أمرنا " يعني حكمنا.
هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين وهو من جوامع الكلم التي أوتيها المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل بدعة وكل مخترع ويستدل به على إبطال جميع العقود الممنوعة وعدم وجود ثمراتها، واستدل به على الأصوليين على أن النهي يقتضي الفساد.
وفي الرواية الأخرى وهي قوله: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " صريح في ترك كل محدثة سواء أحدثها فاعلها أو سبق إليها فإنه قد يحتج به بعض المعاندين، إذا فعل البدعة فيقول ما أحدثت شيئا فيحتج عليه بهذه الرواية، وهذا الحديث مما ينبغي العناية بحفظه وإشاعته واستعماله في إحداث المنكرات فإنه يتناول ذلك كله. فأما تفريع الأصول التي لا تخرج عن السنة فلا يتناولها هذا الرد ككتابة القرآن العزيز في المصاحف وكالمذاهب التي عن حسن نظر الفقهاء المجتهدين الذين يردون الفروع إلى الأصول التي هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكالكتب الموضوعة في النحو والحساب والفرائض وغير ذلك من العلوم مما مرجعه ومبناه على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوامره فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث.
الحلال بين والحرام بين
6 - " عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب " رواه البخاري ومسلم " .
صفحة ١٠
...................................................... هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده.
قوله: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " يعني أن الأشياء ثلاثة أقسام فما نص الله على تحليله فهو الحلال كقوله تعالى: (أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وقوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ونحو ذلك، وما نص الله على تحريمه فهو الحرام البين مثل قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الآية: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وكل ما جعل الله فيه حدا أو عقوبة أو وعيدا فهو حرام، وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني فالإمساك عنه ورع.
وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقالت طائفة: هي حرام لقوله استبرأ لدينه وعرضه قالوا ومن لم يستبرء لدينه وعرضه فقد وقع في الحرام، وقال الآخرون هي حلال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " كالراعي يرعى حول الحمى " فيدل على أن ذلك حلال وأن تركه ورع، وقالت طائفة أخرى المشتبهات المذكورة في هذا الحديث لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البين والحرام البين فينبغي أن نتوقف عنها وهذا من باب الورع أيضا.
وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله فرأى شبها بينا بعتبة، فقال: " هو لك يا عبد زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة " فلم ترد سودة قط. فقد حمك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأنه لزمعة على الظاهر وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبه الداخلة عليه فاحتاط لنفسه وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر اخوتها عبد وغيره.
وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي عليه فأجد معه على الصيد كلبا آخر قال: " لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضا خوفا من أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه فكأنه أهل لغير الله به وقد قال الله تعالى في ذلك: (وإنه لفسق) فكان في فتياه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم لاشتباه أسبابها وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . وقال بعض العلماء: المشتبهات ثلاثة أقسام: منها ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاة إذا شك في ذكاته لك يزل التحريم إلا بيقين الذكاة والأصل في ذلك حديث عدي المتقدم ذكره.
وعكس ذلك أن يكون الشيء حلالا فيشك في تحريمه كرجل له زوجة فشك في طلاقها أو أمة فيشك في عتقها، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه والأصل في هذا الحديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقن الطهارة.
القسم الثالث أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام ويحتمل الأمرين جميعا ولا دلالة على أحدهما فالأحسن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التمرة الساقطة حين وجدها في بيته فقال: " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " .
صفحة ١١
وأما إن جوز نقيض ما ترجح عنده بأمر مرهوم لا أصل له كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها ونحو ذلك فهذا يجب أن لا يلتفت إليه فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس والورع منه وسوسة شيطان إذ ليس فيه من معنى الشبه شيء والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يعلمهن كثير من الناس " أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث أنها مشكلة لترددها بين أمور محتملة فإذا علم بأي أصل تلتحق زال كونها شبهة وكانت إما من الحلال أو من الحرام وفيخ دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس.
وقوله: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " مما يشتبه.
وأما قوله: " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " فذلك يكون بوجهين أحدهما: أن من لم يتق الله وتجرأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات ويحمله التساهل في أمرها على الجرأة على الحرام كما قال بعضهم الصغيرة تجر الكبيرة والكبيرة تجر الكفر وكما روي " المعاصي بريد الكفر " .
الوجه الثاني أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه لفقدان نور العلم ونور الورع فيقع في الحرام وهو لا يشعر وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير. وقوله صلى الله عليه وسلم: " كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه " هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل وأصله أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ الشاذة ولا ينضبط فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك وهكذا محارم الله عز وجل من القتل والربا والسرقة وشرب الخمر والقذاف والغيبة والنميمة ونحو ذلك لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.
" ويوشك " بكسر الشين مضارع أوشك بفتحها وهي من أفعال المقاربة، و " يرتع " بفتح التاء معناه أكل الماشية من المرعى وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث.
المضغة: القطعة من اللحم وهي قدر ما يمضغه الماضغ يعني بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها، وصلحت رويناه بفتح اللام والقلب في الأصل مصدر وسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه وأنشد بعضهم في هذا المعنى.
ما سمى القلب إلا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وخص اله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة فتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها وتميز به مضارها من منافعها ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وإضافة إلى القلب فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) وقد جعل الله الجوارح مسخرة له ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها وعملت على معناه إن خيرا فخير وإن شرا فشر فإذا فهمت هذا ظهر قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " نسأل الله العظيم أن يصلح فساد قلوبنا، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
الدين النصيحة
7 - " عن أبي رقية تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " رواه مسلم " .
......................................................
ليس لتميم الداري رضي الله عنه غير هذا الحديث. والنصيحة كلمة جامعة معناها إرادة جملة خير حيازة لحظ المنصوح له. وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة معا.
ومعنى قوله " الدين النصيحة " أي عماد الدين وقوامه النصيحة كقوله: " الحج عرفة " أي عماده ومعظمه.
صفحة ١٢
وأما تفسير النصيحة وأنواعها فقال الخطابي، وغيره من العلماء: النصيحة لله تعالى معناها منصرف إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه وترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه عن جميع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته والشكر عليها والإخلاص في جميع الأمور والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف بالناس. قال الخطابي: وحقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فإن الله سبحانه غني عن نصح الناصح، وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فبالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الناس، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروف في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين، والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواضعه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته.
وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وإجابة دعوته، ونشر سنته ونفي التهمة عنها، واستئثار علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها؛ والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته، وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه، وتبليغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم بالسيف، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأن يدعوا لهم بالصلاح.
وأما نصيحة عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة الأمر، فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم عليها، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، والله أعلم.
والنصيحة فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن غير وهي لازمة على قدر الطاقة.
والنصيحة في اللغة الإخلاص يقال نصحت العسل إذا صفيته وقيل غير ذلك والله أعلم.
حرمة المسلم
8 - " عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
صفحة ١٣
هذا حديث عظيم وقاعدة من قواعد الدين وقد روى هذا الحديث أنس وقال: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " . وجاء في حديث مسلم من رواية أبي هريرة: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " وذلك موافقة لرواية ابن عمر في المعنى. وأما معاني هذا الحديث فقال العلماء بالسير: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده، وكفرمن كفر من العرب عزم أبو بكر على قتالهم، وكان منهم من منع الزكاة ولم يكفر وتأول في ذلك، فقال له عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا لا إله إلا الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " إلى آخر الحديث فقال الصديق إن الزكاة حق المال، وقال: والله لو منعوني عناقا وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم على منعه فتابعه عمر على قتال القوم.
قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " . قال الخطابي وغيره: المراد بهذا أهل الأوثان ومشركو العرب ومن لا يؤمن دون أهل الكتاب، ومن يقر بالتوحيد فلا يكفي في عصمته بقوله: لا إله إلا الله إن كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، وكذلك جاء في الحديث الآخر " وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " . وقال الشيخ محيي الدين النووي ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " .
ومعنى قوله: " وحسابهم على الله " أي فيما يسترونه ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة، ذكر ذلك الخطابي قال: وفيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر أهل العلم. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل وهي رواية عن الإمام أحمد.
وفي قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله بها، خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في نحو أهل القبلة وهذا خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل وقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيح، يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي والله أعلم.
التكليف بما يستطاع
9 - " عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
لفظ هذا الحديث في كتاب مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أيها الناس قد فرض الحج عليكم فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسوا الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " . والرجل الذي سأله هو الأقرع بن حابس، كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية.
واختلف الأصوليون في الأمر، هل يقتضي التكرار؟ فاختار أكثر الفقهاء والمتكلمين أنه لا يقتضي التكرار، وقال آخرون لا يحكم باقتضائه ولا منعه بل يتوقف فيما زاد على مرة على البيان وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف، فإنه قد سأل فقال أكل عام؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم " بل ولم يكن حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا وأجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع.
وأما قوله: " ذروني ما تركتكم " فهو ظاهر في أن الأمر لا يقتضي التكرار ويدل هذا اللفظ أيضا على أن الأصل عدم الوجوب وأنه لا حكم قبل ورود الشرع وهو الصحيح عند كثير من الأصوليين.
صفحة ١٤
وقوله: " لو قلت نعم لوجبت " دليل للمذهب الصحيح في أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، وإنه لا يشترط حكمه أن يكون بوحي. قوله صلى الله عليه وسلم: " وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " هذا من قواعد الإسلام المهمة ومما أوتيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة إذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن غسل بعض أعضاء الوضوء غسل الممكن وكذلك إذا وجبت فطرة جماعة ممن يلزمه نفقتهم وكذلك أيضا في إزالة المنكرات إذا لم يمكنه إزالة جميعها فعل الممكن وأشباه ذلك مما لا ينحصر وهو مشهور في كتب الفقه وهذا الحديث كقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، وأما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) فقيل منسوخة بقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، قال بعضهم: والصحيح أنها ليست بها، بل هي مفسرة لها، ومبينة للمراد منها، قالوا: وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نواهيه، والله سبحانه لم يأمر إلا بالمستطاع، فإن الله تعالى قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) .
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " وما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " فهذا على إطلاقه لكن إن وجد عذر يبيحه كأكل لميتة عند الضرورة ونحوه فهذا لا يكون منهيا عنه في هذه الحال. وأما في غير حال العذر فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى يترك كل ما نهى عنه ولا يخرج عنه بترك فعل واحد بخلاف الأمر وهذا الأصل إذا فهم فهو مسألة مطلق الأمر: هل يحمل على الفور أو على التراخي، أو على المرة الواحدة أو على التكرار، ففي هذا الحديث أبواب من الفقه والله أعلم.
وقوله: " إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " وذكر ذلك بعد قوله: " ذروني ما تركتكم " أراد لا تكثروا السؤال فربما يكثر الجواب عليه فيضاهي ذلك قصة بني إسرائيل لما قيل لهم: (اذبحوا بقرة) فإنهم لو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ وبادروا إلى ذبح أي بقرة كانت اجزأت عنهم لكن لما أكثروا السؤال وشددوا شدد عليهم وذموا على ذلك فخاف النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك على أمته.
الاقتصار على الحلال الطيب
10 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له " رواه مسلم " .
......................................................
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام، وفيه الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه وإن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره، وفيه أن العبد إذا أنفق نفقة طيبة فهي التي تزكو وتنمو وأن الطعام اللذيذ غير المباح يكون وبالا على آكله ولا يقبل الله عمله.
وقوله: " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر " إلى آخره معناه والله أعلم. يطيل السفر في وجوه الطاعات: الحج وجهاد، وغير ذلك من وجوه البر ومع هذا فلا يستجاب له لكون مطعمه ومشربه وملبسه حرام فكيف بمن هو منهمك في الدنيا أو في مظالم العباد أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير.
وقوله: " يمد يديه " أي يرفعهما بالدعاء لله مع مخالفته وعصيانه، وقوله: " وغذي بالحرام " هو بضم الغين المعجمة، وتخفيف الذال المكسورة. وقوله: " فأنى يستجاب له؟ " وفي رواية: " فأنى يستجاب لذلك؟ " يعني من أين يستجاب لمن هذه صفته، فإنه ليس أهلا للإجابة، لكن يجوز أن يستجيب الله تعالى له تفضلا ولطفا وكرما والله أعلم.
التورع عن الشبهات
صفحة ١٥
11 - " عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب - سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته - رضي الله عنهما - قال: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح " . قوله: " يريبك " بفتح الياء وضمها والفتح أفصح وأشهر ويجوز الضم يقال رابني الشيء وأرابني ومعناه: اترك ما شككت فيه واعدل إلى ما لا تشك فيه وهذا راجع إلى معنى الحديث السادس وهو قوله: " الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات " وقد جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس " . وهذه درجة أعلى من ذلك.
ترك ما لا يعني المسلم
12 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا " .
......................................................
وقد رواه قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وصحح طرقه ثم قال في هذا الحديث هذا من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة ونحو ذلك قول أبي ذر في بعض حديثه: " ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه " .
وذكر مالك أنه بلغه أنه قيل للقمان: " ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل " فقال: " صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني " .
وروى عن الحسن قال: " من علامة أعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه " .
وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث وذكر منها هذا الحديث.
كمال الإيمان
13 - " عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه - خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " رواه البخاري ومسلم.
......................................................
هكذا جاء في صحيح البخاري لأخيه من غير شك وجاء في صحيح مسلم حتى يحب لأخيه أو لجاره على الشك.
قال العلماء: يعني لا يؤمن من الإيمان التام وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لك يكن بهذه الصفة.
والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي: " حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه " . قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح، وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص عليه شيء من النعمة، وذلك سهل قريب على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله تعالى وإخواننا أجمعين.
وقال أبو الزناد ظاهر هذا الحديث التساوي وحقيقته التفضيل لأن الإنسان يجب أن يكون أفضل الناس فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل هو في جملة المفضولين ألا ترى أن الإنسان يجب أن ينتصف من حقه ومظلمته؟ فإن أكمل إيمانه وكان لأخيه عنده مظلمة أو حق بادر إلى إنصافه من نفسه وإن كان عليه فيه مشقة.
ويحكى أن الفضل بن عياض، قال لسفيان بن عيينة إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك فما أديت الله الكريم النصيحة فكيف وأنت تود أنهم دونك؟ .
وقال بعض العلماء في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة فينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من حيث إنهما نفس واحدة كما جاء في الحديث الآخر " المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .
حرمة دم المسلم وأسباب إهداره
14 - " عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
وفي بعض الروايات المتفق عليها " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث " فقوله: " يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " كالتفسير لقوله " مسلم " وكذا قوله: " المفارق للجماعة " كالتفسير لقوله: " التارك لدينه " وهؤلاء الثلاثة مباحوا الدم بالنص والمراد بالجماعة " المسلمون " وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهي سبب لإباحة دمه.
صفحة ١٦
وقوله " التارك لدينه المفارق للجماعة " عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. قال العلماء ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما والله أعلم.
والظاهر أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه، فيباح قتله في دفع أذاه، وقد يجاب عن هذا: بأنه داخل في المفارق للجماعة، ويكون المراد لا يحل تعمد قتله قصدا إلا في هؤلاء الثلاثة والله أعلم.
وقد استدل بعضهم على أن تارك الصلاة يقتل لتركها لأن تاركها يسمى من هذه الثلاثة وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء منهم من يكفر تارك الصلاة ومنهم من لا يكفره واستدل بعض من يكفره بالحديث الآخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " قال فوجه الدليل أنه وقف العصمة على مجموع الشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمرتب على أشياء لا يحصل إلا بمجموعها وينتفي بانتفائها وهذا إن قصد به الاستدلال بالمنطوق وهو قوله: " أمرت أن أقاتل الناس ... " إلخ فإنه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية فقد ذهل وسها لأنه فرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه فإن المقاتل مفاعلة يقتضي الحصول من الجانبين، ولا يلزم من وجوب المقاتلة على الصلاة وجوب القتل عليها إذا تركها من غير أن يقاتلنا والله أعلم.
وقوله: " الثيب الزاني " هو المحصن ويدخل فيه الذكر والأنثى وهو حجة على ما اتفق عليه المسلمون من أن حكم الزاني الرجم بشروطه المذكورة في أبواب الفقه.
وقوله: " النفس بالنفس " موافق لقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ويعني به النفوس المتكافئة في الإسلام والحرية بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقتل مسلم بكافر " وكذلك الحرية شرط من المكافأة عند مالك، والشافعي، وأحمد. وذهب أصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالذمي وأن الحر يقتل بالعبد وقد يستدلون بهذا الحديث، والجمهور على خلاف ذلك.
آداب إسلامية
15 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
قوله: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " يعني من كان يؤمن الإيمان الكامل المنجي من عذاب الله الموصل إلى رضوان الله " فليقل خيرا أو ليصمت " لأن من آمن بالله حق إيمانه خاف وعيده ورجا ثوابه واجتهد في فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه وأهم ما عليه من ذلك ضبط جوارحه التي هي رعاياه وهو المسؤول عنها كما قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) ، وقال تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) وآفات اللسان كثيرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " . وقال: " كل كلام ابن آدم عليه إلا ذكر الله تعالى وأمر بمعروف ونهي عن منكر " . فمن علم ذلك وآمن به حق إيمانه اتقى الله في لسانه فلا يتكلم إلا بخير أو ليسكت.
قال بعض العلماء جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث ذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " . قال أهل اللغة: يقال صمت يصمت بضم الميم صمتا وصموتا وصماتا.
وقال بعضهم في معنى هذا الحديث إذا أراد الإنسان أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه فليتكلم وإلا فليمسك عن الكلام سواء ظهر أنه حرام أو مكروه أو مباح فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة أن ينجر إلى المحرم أو المكروه وقد يقع ذلك كثيرا قال الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) .
صفحة ١٧
واختلف العلماء في أنه هل يكتب على الإنسان جميع ما يلفظ به وإن كان مباحا أو لا يكتب عليه إلا ما فيه الجزاء من ثواب أو عقاب وإلى القول الثاني ذهب ابن عباس وغيره، فعلى هذا تكون الآية الكريمة مخصوصة، أي(ما يلفظ من قول) يترتب عليه جزاء. وقوله صلى الله عليه وسلم: " فليكرم جاره - فليكرم ضيفه " فيه تعريف لحق الجار والضيف وبرهما وحث على حفظ الجوارح وقد أوصى الله تعالى في كتابه بالإحسان إلى الجار، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " والضيافة من الإسلام وخلق النبيين والصالحين. وقد أوجبها بعض العلماء وأكثرهم على أنها من مكارم الأخلاق. وقال صاحب الإفصاح في هذا الحديث من الفقه: أن يعتقد الإنسان إن إكرام الضيف عبادة لا ينقصها أن يضيف غنيا ولا بغيرها أن يقدم إلى ضيفه اليسير مما عنده، فإكرامه أن يسارع إلى البشاشة في وجهه، ويطيب الحديث له، وعماد أهل الضيافة إطعام الطعام فينبغي أن يبادر بما فتح الله من غير كلفة، وذكر كلاما في الضيافة، ثم قال: وأما قوله: " فليقل خيرا أو ليصمت " فإنه يدل على أن قول الخير خير من الصمت والصمت خير من قول الشر وذلك أنه أمره بلام الأمر بقول الخير وبدأ به على الصمت، ومن قول الخير الإبلاغ عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم المسلمين والأمر بالمعروف عن علم والنهي عن المنكر عن علم والإصلاح بين الناس وأن يقول للناس حسنا، ومن أفضل الكلمات كلمة حق عند من يخاف ويرجى في ثبات وسداد.
النهي عن الغضب
16 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصيني قال: " لا تغضب " فردد مرارا قال: " لا تغضب " رواه البخاري " .
......................................................
قال صاحب الإفصاح من الجائز أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من هذا الرجل كثرة الغضب فخصه بهذه الوصية وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الذي يملك نفسه عند الغضب فقال: " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الشدائد " . ومدح الله تعالى: (الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كظم غيظه وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء " .
وقد جاء في الحديث: " إن الغضب من الشيطان " ولهذا يخرج به الإنسان من اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويرتكب المذموم وينوي الحقد والبغضاء وغير ذلك من القبائح المحرمة، كل ذلك من الغضب أعاذنا الله منه. وقد جاء في حديث سليمان بن صرد " أن الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب " وذلك إن الشيطان هو الذي يزين الغضب وكل ما لا تحمد عاقبته، فإن الشيطان يغويه ويبعده عن رضى الله عز وجل فالإستعاذة بالله منه من أقوى السلاح على دفع كيده.
الأمر بإحسان الذبح والقتل
17 - " عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " رواه مسلم " .
......................................................
" القتلة " بكسر القاف هي الهيئة والحالة، " والذبحة " بكسر الذال ويضم، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث " فأحسنوا الذبح " بغير هاء، وهو بالفتح مصدر والكسر الهيئة والحالة.
وقوله: " وليحد أحدكم شفرته " هو بضم الياء من حد يقال أحد السكين وحدها واستحدها.
قوله: " فأحسنوا القتلة " عام في القتل من الذبائح والقتل قصاصا أو في حد ونحو ذلك.
وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد كثيرة ومعنى إحسان القتل أن يجتهد في ذلك ولا يقصد التعذيب. وإحسان الذبح في البهائم أن يرفق بالبهيمة، ولا يصرعها بغتة ولا يجرها من موضع إلى موضع وأن يوجهها إلى القبلة ويسمي ويجهد ويقطع الحلقوم والوجدين، ويتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله تعالى بالمنة والشكر على نعمه فإنه سبحانه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا.
حسن الخلق
18 - " عن أبي ذر جندب بن جنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " رواه الترمذي وقال حديث حسن. وفي بعض النسخ: حسن صحيح " .
صفحة ١٨
...................................................... مناقب أبي ذر كثيرة أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أمره أن يلحق بقومه فلما رأى حرصه على المقام معه بمكة وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له صلى الله عليه وسلم: " إتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها " وهذا موافق لقوله تعالى: (أن الحسنات يذهبن السيئات) وقوله: " وخالق الناس بخلق حسن " معناه عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به واعلم " أن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا " وحسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين لا يجزون بالسيئة، بل يعفون ويصفحون ويحسنون مع الإساءة إليهم.
احفظ الله يحفظك
19 - " عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: " كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا " " .
......................................................
مناقب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أكثر من أن تحصر وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " " ودعا له بأن يؤتى الحكمة مرتين " وثبت عنه: " أنه رأى جبريل مرتين " وهو بحر هذه الأمة وحبرها وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا للوصية مع صغره فقال له: " احفظ الله يحفظك " ومعناه كن مطيعا لربك، مؤتمرا بأوامره، منتهيا عن نواهيه.
وقوله: " احفظ الله تجده تجاهك " أي اعمل له بالطاعة ولا يراك في مخالفته فإنك تجده تجاهك في الشدائد كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فآووا إلى غار فانحدرت صخرة فانطبقت عليهم فقالوا انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة فاسألوا الله تعالى بها فإنه ينجيكم، فذكر كل واحد منهم سابقة له مع ربه، فانحدرت عنهم الصخرة فخرجوا يمشون وقصتهم مشهورة في الصحيح.
وقوله: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " أرشده إلى التوكل على مولاه وأن لا يتخذ إلها سواه ولا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قل منها وما كثر. وقال الله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى بطلبه أو بقلبه أو بأمله فقد أعرض عن ربه بمن لا يضره ولا ينفعه وكذلك الخوف من غير الله وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك " وكذلك في الضر وهذا هو الإيمان بالقدر والإيمان به واجب خيره وشره وإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به وكذلك إجابة الخليل عليه الصلاة والسلام جبريل عليه السلام حين سأله وهو في الهواء " ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا " .
وقوله: " رفعت الأقلام وجفت الصحف " هذا تأكيد أيضا لما تقدم أي لا يكون خلاف لما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل.
قال: " واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا " فنبهه على أن الإنسان في الدنيا ولا سيما الصالحون معرضون للمصائب لقوله عز وجل " (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) وقال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) .
الحياء من الإيمان
20 - " عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " رواه البخاري " .
صفحة ١٩
...................................................... معنى قوله: " من كلام النبوة الأولى " إن الحياء لم يزل ممدوحا مستحسنا مأمورا به لم ينسخ في شرائع الأنبياء الأولين.
وقوله: " فاصنع ما شئت " فيه وجهان أحدهما أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهديد ولم يرد به الأمر كقوله: " اعملوا ما شئتم " فإنه وعيد لأنه قد بين لهم ما يأتون به وما يتركون. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من باع الخمر فليشقص الخنازير " ، لم يكن في هذا إباحة تشقيص الخنازير. والوجه الثاني أن معناه أئت كل ما لم يستحيا منه إذا ظهر فاعله، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " الحياء من الإيمان " معناه إنه لما كان يمنع صاحبه من الفواحش ويحمل على البر والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من ذلك ويحمله على الطاعات صار بمنزلة الإيمان لمساواته له في ذلك والله أعلم.
قل آمنت بالله ثم استقم
21 - " عن أبي عمرو - وقيل أبي عمرة - سفيان بن عبد الله رضي الله عنه، قال قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: " قل آمنت بالله ثم استقم " رواه مسلم.
......................................................
معنى قوله: " قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك " أي علمني قولا جامعا لمعاني الإسلام واضحا في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأتقي به فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: " قل آمنت ثم استقم " .
هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم فإنه جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلها فإنه أمره أن يجدد إيمانه بلسانه متذكرا بقلبه وأمره أن يستقيم على أعمال الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيء من الإعوجاج فإنها ضده وهذا كقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) الآية أي آمنوا بالله وحده، ثم استقاموا على ذلك، وعلى الطاعة إلى أن توفاهم الله عليها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " استقاموا والله على طاعته ولم يروغوا روغان الثعلب " . ومعناه اعتدلوا على أكثر طاعة لله اعتقادا وقولا وفعلا. وداموا على ذلك، وهذا معنى قول أكثر المفسرين، وهي معنى الحديث إن شاء الله تعالى.
وكذلك قوله سبحانه: (فاستقم كما أمرت) قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشق عليه من هذه الآية . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " شيبتني هود وأخواتها " .
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى؛ " الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيما في حال سعيه ضاع سعيه وخاب جده " . قال وقيل: الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المعهودات. ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " استقيموا ولن تحصوا " وقال الواسطي: الاستقامة الخصلة التي بها كمال المحاسن، وبفقدها قبحت المحاسن، والله أعلم.
الاقتصار على الفرائض يدخل الجنة
22 - " عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم " رواه مسلم. ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته. ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله " .
......................................................
صفحة ٢٠