قوله: " البر حسن الخلق " يعني أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال: " الحج عرفة " . أما البر فهو الذي يبر فاعله ويلحق بالأبرار وهم المطيعون لله عز وجل. والمراد بحسن الخلق الإنصاف في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى فقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى قوله: (أولئك هم المؤمنون حقا) ، وقال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون) إلى قوله: (وبشر المؤمنين) وقال: (قد أفلح المؤمنون) إلى قوله: (أولئك هم الوارثون) (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) إلى آخر السورة فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميعها علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة على سوء الخلق ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده. ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فقط وإن من فعل ذلك فقد هذب خلقه بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين والتخلق بأخلاقهم.
ومن حسن الخلق احتمال الأذى فقد ورد في الصحيحين: " أن أعرابيا جذب بردى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيته على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك وأمر له بعطاء " .
وقوله: " الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " يعني هو الشيء الذي يورث نفرة في القلب وهذا أصل يتمسك به لمعرفة الإثم من البر: أن الإثم ما يحيك في الصدر ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، والمراد بالناس والله أعلم أماثلهم ووجوههم، لا غوغاؤهم، فهذا هو الإثم فيتركه والله أعلم.
وجوب لزوم السنة
28 - " وعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح " .
......................................................
وفي بعض طرق هذا الحديث " أن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " قوله " موعظة بليغة " يعني بلغت إلينا وأثرت في قلوبنا ووجلت منها القلوب. أي خافت وذرفت منها العيون كأنه قام مقام تخويف ووعيد.
وقوله: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة " يعني لولاة الأمور وأن تأمر عليكم عبد وفي بعض الروايات عبد حبشي. قال بعض العلماء العبد لا يكون واليا ولكن ضرب به المثل على التقدير وإن لم يكن كقوله صلى الله عليه وسلم: " من بنى لله مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة " ومفحص قطاة لا يكون مسجدا ولكن الأمثال يأتي فيها مثل ذلك. ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله حتى توضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليبا لأهون الضررين وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته لئلا يفضي إلى فتنة عظيمة.
وقوله: " وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا " هذا من بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بما يكون بعده من الاختلاف وغلبة المنكر وقد كان عالما به على التفصيل ولم يكن بينه لكل أحد إنما حذر منه على العموم وقد بين ذلك لبعض الآحاد كحذيفة وأبي هريرة وهو دليل على عظم محلهما ومنزلتهما.
وقوله: " فعليكم بسنتي " السنة: الطريقة القويمة التي تجري على السنن وهو السبيل الواضح، " وسنة الخلفاء الراشدين المهديين " يعني الذين شملهم الهدي وهم الأربعة بالإجماع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
وأمر صلى الله عليه وسلم بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين: أحدهما التقليد لمن عجز عن النظر.
والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة.
وقوله: " وإياكم ومحدثات الأمور " إعلم أن المحدث على قسمين: محدث ليس له أصل في الشريعة فهذا باطل مذموم.
ومحدث يحمل النظير على النظير فهذا ليس بمذموم لأن لفظ المحدث ولفظ البدعة لا يذمان لمجرد الإسم بل لمعنى المخالفة للسنة والداعي إلى الضلالة ولا يذم ذلك مطلقا فقد قال الله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) وقال عمر رضي الله عنه " نعمت البدعة هذه " يعني التراويح.
وأما النواجذ فهي آخر الأضراس والله أعلم.
صفحة ٢٥