وقوله: " كلكم ضال إلا من هديته وكلكم جائع إلا من أطعمته وكلكم عار إلا من كسوته " تنبيه على فقرنا وعجزنا عن جلب منافعنا ودفع مضارنا إلا أن يعيننا الله سبحانه على ذلك وهو يرجع إلى معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، وليعلم العبد أنه إذا رأى آثار هذه النعمة عليه أن ذلك من عند الله ويتعين عليه شكر الله تعالى وكل ما ازداد من ذلك يزيد في الحمد والشكر لله تعالى. وقوله: " فاستهدوني أهدكم " أي اطلبوا مني الهداية أهدكم والجملة في ذلك أن يعلم العبد أنه طلب الهداية من مولاه فهداه ولو هداه قبل أن يسأله لم يبعد أن يقول أنما أوتيته على علم عندي وكذلك كلكم جائع إلى آخره يعني أنه خلق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام فكل طاعم كان جائعا حتى يطعمه الله بسوق الرزق إليه وتصحيح الآلات التي هيأها له فلا يظن ذو الثروة أن الرزق الذي في يده وقد رفعه إلى فيه أطعمه إياه أحد غير الله تعالى وفيه أيضا أدب للفقراء، كأنه قال لا تطلبوا الطعام من غيري فإن هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم فاستطعموني أطعمكم وكذلك ما بعده.
وقوله: " إنكم تخطئون بالليل والنهار " في هذا الكلام من التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن وكذلك إن الله خلق الليل ليطاع فيه ويعبد بالإخلاص حيث تسلم الأعمال فيه غالبا من الرياء والنفاق أفلا يستحي المؤمن أن لا ينفق الليل والنهار في الطاعة، فإنه خلق مشهودا من الناس فينبغي من كل فطن أن يطيع الله أيضا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سرا أو جهرا، لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: " وأنا أغفر الذنوب جميعا " فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكدها بقوله: " جميعا " وإنما قال ذلك قبل أمره إيمانا بالاستغفار، لئلا يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه.
قوله: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم " إلى آخره فيه ما يدل على أن تقوى المتيقن رحمة لهم وإنها لا تزيد في ملكه شيئا.
وأما قوله: " لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد " إلى آخره ففيه تنبيه الخلق على أن يعظموا المسألة ويوسعوا الطلب ولا يقتصر سائل ولا يختصر طالب فإن ما عند الله لا ينقص وخزائنه لا تنفذ فلا يظن ظان إن ما عند الله يغيضه الإنفاق كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر " يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه " وسر ذلك أن قدرته صالحة للإيجاد دائما لا يجوز عليها عجز ولا قصور والممكنات لا تنحصر ولا تتناهى.
وقوله: " إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر " هذا مثل قصد به التقريب إلى الأفهام بما نشاهده، والمعنى أن ذلك ما ينقص مما عنده شيئا، والمخيط بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء هو الإبرة.
وقوله: " إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله " يعني لا يسند طاعته وعبادته من عمله لنفسه بل يسندها إلى التوفيق ويحمد الله على ذلك.
وقوله: " ومن وجد غير ذلك " لم يقل ومن وجد شرا يعني ومن وجد غير الأفضل فلا يلومن إلا نفسه، أكد ذلك بالنون، تحذيرا أن يخطر في قلب عامل أن اللوم تستحقه غير نفسه والله أعلم.
ذهل أهل الدثور بالأجور
25 - " عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا: " أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون: إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " رواه مسلم " .
......................................................
الدثور بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
وقوله: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون " الرواية بتشديد الصاد والدال جميعا ويجوز في اللغة تخفيف الصاد.
وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضار النية في المباحات وإنما تصير طاعات بالنيات الصادقات.
صفحة ٢٣