هذا الرجل السائل هو النعمان بن قوقل بقافين مفتوحتين، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: الظاهر إنه أراد بقوله: " وحرمت الحرام " أمرين أحدهما: أن يعتقد كونه حراما، والثاني: أن لا يفعله بخلاف تحليل الحلال، فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاده حلالا. قال صاحب المفهم لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل في هذا الحديث شيئا من التطوعات على الجملة وهذا يدل على جواز ترك التطوعات على الجملة لكن من تركها ولم يعمل شيئا فقد فوت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما، ومن داوم على ترك شيء من السنن كان ذلك نقصا في دينه، وقدحا في عدالته، فإن كان تركه تهاونا ورغبة عنها، كان ذلك فسقا يستحق به ذما. قال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواطئو على ترك سنة لقوتلوا عليها حتى يرجعوا، ولقد كان صدر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يثابرون على فعل السنن والفضائل مثابرتهم على الفرائض ولم يكونوا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابها.
وإنما احتاج أئمة الفقهاء إلى ذكر الفرق لما يترتب عليه من وجوب الإعادة وتركها وخوف العقاب على الترك ونفيه إن حصل ترك بوجه ما. وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهه على السنن والفضائل تسهيلا وتيسيرا لقرب عهده بالإسلام لئلا يكون الإكثار من ذلك تنفيرا له، وعلى أنه إذا تمكن في الإسلام وشرح الله صدره رغب فيما رغب فيه غيره، أو لئلا يعتقد أن السنن والتطوعات واجبة فتركه لذلك.
وكذلك في الحديث الآخر: " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فأخبره أنها خمس فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، ثم سأله عن الصوم والحج والشرائع فأجابه ثم قال في آخر ذلك: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه " فقال: " أفلح إن صدق " . وفي رواية: " إن تمسك بما أمر به دخل الجنة " .
وإنما شرعت لتتميم الفرائض. فهذا السائل والذي قبله، إنما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم تسهيلا عليهما إلى أن تنشرح صدورهما بالفهم عنه، والحرص على تحصيل المندوبات فيسهل عليهما.
وهذا يسمى بمحافظته على فرائضه وإقامتها والإتيان بها في أوقاتها من غير إخلال بها فلاحا كثير الفلاح والنجاح - وياليتنا وقفنا - كذلك ومن أتى بالفرائض وأتبعها بالنوافل كان أكثر فلاحا منه.
الإسراع في الخير
23 - " عن أبي مالك - الحارث بن عاصم - الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " رواه مسلم " .
......................................................
هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقد اشتمل على مهمات من قواعد الإسلام والدين.
أما الطهور فالمراد به هنا الفعل وهو بضم الطاء على المختار، واختلف في معناه فقيل: إن الأجر فيه ينتهي إلى نصف أجر الإيمان وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة قال تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) والطهارة شرط في صحة الصلاة فصارت كالشطر ولا يلزم في الشطر أن يكون نصفا حقيقيا وقيل غير ذلك.
وأما قوله: " والحمد لله تملأ الميزان " فمعناه: أنها لعظم أجرها تملأ ميزان الحامد لله تعالى، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفتها.
وكذلك قوله: " وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض " وسبب عظم فضلها ما اشتملت عليه من التنزيه لله تعالى والافتقار إليه.
وقوله: " تملآن أو تملأ " ضبطه بعضهم بالتاء المثناة فوق وهو صحيح فالأول ضمير مثنى والثاني ضمير في هذه الجملة من الكلام. وقال بعضهم: يجوز تملآن بالتذكير والتأنيث أما التأنيث فعلى ما تقدم وأما التذكير فعلى إرادة النوعين من الكلام وأما تملأ فيذكر على إرادة الذكر.
صفحة ٢١