هذا حديث عظيم وقاعدة من قواعد الدين وقد روى هذا الحديث أنس وقال: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " . وجاء في حديث مسلم من رواية أبي هريرة: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " وذلك موافقة لرواية ابن عمر في المعنى. وأما معاني هذا الحديث فقال العلماء بالسير: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده، وكفرمن كفر من العرب عزم أبو بكر على قتالهم، وكان منهم من منع الزكاة ولم يكفر وتأول في ذلك، فقال له عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا لا إله إلا الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " إلى آخر الحديث فقال الصديق إن الزكاة حق المال، وقال: والله لو منعوني عناقا وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم على منعه فتابعه عمر على قتال القوم.
قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " . قال الخطابي وغيره: المراد بهذا أهل الأوثان ومشركو العرب ومن لا يؤمن دون أهل الكتاب، ومن يقر بالتوحيد فلا يكفي في عصمته بقوله: لا إله إلا الله إن كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، وكذلك جاء في الحديث الآخر " وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " . وقال الشيخ محيي الدين النووي ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " .
ومعنى قوله: " وحسابهم على الله " أي فيما يسترونه ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة، ذكر ذلك الخطابي قال: وفيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر أهل العلم. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل وهي رواية عن الإمام أحمد.
وفي قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله بها، خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في نحو أهل القبلة وهذا خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل وقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيح، يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي والله أعلم.
التكليف بما يستطاع
9 - " عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " رواه البخاري ومسلم " .
......................................................
لفظ هذا الحديث في كتاب مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أيها الناس قد فرض الحج عليكم فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسوا الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " . والرجل الذي سأله هو الأقرع بن حابس، كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية.
واختلف الأصوليون في الأمر، هل يقتضي التكرار؟ فاختار أكثر الفقهاء والمتكلمين أنه لا يقتضي التكرار، وقال آخرون لا يحكم باقتضائه ولا منعه بل يتوقف فيما زاد على مرة على البيان وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف، فإنه قد سأل فقال أكل عام؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم " بل ولم يكن حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا وأجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع.
وأما قوله: " ذروني ما تركتكم " فهو ظاهر في أن الأمر لا يقتضي التكرار ويدل هذا اللفظ أيضا على أن الأصل عدم الوجوب وأنه لا حكم قبل ورود الشرع وهو الصحيح عند كثير من الأصوليين.
صفحة ١٤