...................................................... هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده.
قوله: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " يعني أن الأشياء ثلاثة أقسام فما نص الله على تحليله فهو الحلال كقوله تعالى: (أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وقوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ونحو ذلك، وما نص الله على تحريمه فهو الحرام البين مثل قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الآية: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وكل ما جعل الله فيه حدا أو عقوبة أو وعيدا فهو حرام، وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني فالإمساك عنه ورع.
وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقالت طائفة: هي حرام لقوله استبرأ لدينه وعرضه قالوا ومن لم يستبرء لدينه وعرضه فقد وقع في الحرام، وقال الآخرون هي حلال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " كالراعي يرعى حول الحمى " فيدل على أن ذلك حلال وأن تركه ورع، وقالت طائفة أخرى المشتبهات المذكورة في هذا الحديث لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البين والحرام البين فينبغي أن نتوقف عنها وهذا من باب الورع أيضا.
وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله فرأى شبها بينا بعتبة، فقال: " هو لك يا عبد زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة " فلم ترد سودة قط. فقد حمك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأنه لزمعة على الظاهر وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبه الداخلة عليه فاحتاط لنفسه وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر اخوتها عبد وغيره.
وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي عليه فأجد معه على الصيد كلبا آخر قال: " لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضا خوفا من أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه فكأنه أهل لغير الله به وقد قال الله تعالى في ذلك: (وإنه لفسق) فكان في فتياه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم لاشتباه أسبابها وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . وقال بعض العلماء: المشتبهات ثلاثة أقسام: منها ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاة إذا شك في ذكاته لك يزل التحريم إلا بيقين الذكاة والأصل في ذلك حديث عدي المتقدم ذكره.
وعكس ذلك أن يكون الشيء حلالا فيشك في تحريمه كرجل له زوجة فشك في طلاقها أو أمة فيشك في عتقها، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه والأصل في هذا الحديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقن الطهارة.
القسم الثالث أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام ويحتمل الأمرين جميعا ولا دلالة على أحدهما فالأحسن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التمرة الساقطة حين وجدها في بيته فقال: " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " .
صفحة ١١