شاعر أندلسي وجائزة عالمية

عباس محمود العقاد ت. 1383 هجري
85

شاعر أندلسي وجائزة عالمية

تصانيف

إن الأدب - وكل كتابة ضرورية - يعتمد على العين كالتصوير، ولا غنى له عن الزينة والفهم والمظهر؛ لأنه ليس بخلق ولكنه مقارنة ومشابهة.

الأدب ترجمة، والشعر أصيل، فإذا وكل الشعر بالبواطن العميقة، فالأدب خليق أن يوكل بالظواهر العارضة، وإذا كان الشعر وحيا بديهيا موجزا ملموما كالزهرة والثمرة، فلا جناح على الأدب أن يستقصي ويفصل ليدمج فيه الظواهر، ويتصيد المتناسق منها والمتنافر.

وأعتقد أن الفنون - والعلوم أيضا - تنقسم إلى قسمين: خلاقة ومقلدة أو ممثلة. فالخلاقة هي الشعر والرقص، وفلسفة ما وراء الطبيعة؛ إذ كانت هذه الفلسفة أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم.

أما الفنون المقلدة أو الممثلة فهي التصوير والنحت والقصة، ويتراوح التمثيل بين الخلق والتقليد، فهو خلاق إذا وكل بالمجردات والمعاني، ومقلد إذا وكل بالنوادر والحكايات.

والشعر المكتوب - كسائر الفنون الخلاقة - طبيعي كائنا ما كان حظه من الإتقان، أو هو متقن كامل في الواقع لأنه طبيعي، على حين أن الأدب لا يكون إلا مصنوعا يزداد إتقانا كلما ازداد من الصنعة، ويستطاع بلوغ الأدب صفة الجمال النسبي، على حين أن الشعر ينبغي أن يطمح أبدا إلى الجمال المطلق، ولن ندرك شأوه إلا إذا تنزل علينا، وأصبحنا أهلا له بالطموح وحماسة الروح، وهذا الذي يراد به - على الأسلوب الأفلاطوني - أن الشاعر ممسوس، أي مصاحب لإله يستولي على وجدانه. وإنه لممسوس حقا ما دام هذا الإنسان يحتوي قبسا من الإلهية وهي الحق، ويخيل إليه أنه قادر على الحق، وأن صوره على صورته.

وواضح أن الشعر المكتوب لا يتسنى له أن يدرك الكمال؛ ولهذا يتعذر بلوغ الغاية فيه، وإن لم يكن بلوغها متعذرا في كتابة القصة أو صنع التمثال فإنهما مما يصلح للاستيفاء وللختام أعني للموت؛ ولهذا السبب عينه لا نرى الشاعر الحق يترخص كثيرا لمطابقة الأنماط السارية، بل يحدث أكثر الأحيان - أو يحدث حين يحسن ذلك - أن يخترع نمطا جديدا، أو يحول الأنماط التي تواضع عليها أهل الأدب من الصيغ الجامدة إلى صيغة بينة المرونة.

وقد جعل الأدب هذه الأنماط مسألة معقدة، وربما وقع الشاعر أحيانا في الأنماط المعيبة لقلة اكتراثه للظواهر، وهو شرك يعده له حسدته الطامعون من أهل الأدب والنقاد، فيستبدلون الشين الرديء بالزين الحسن.

إن بين الشعر والأدب لفارقا يشبه الفارق بين الحب والشهوة، أو بين الحساسية والرغبة الجنسية، أو بين الكلام والثرثرة؛ إذ كان الأدب يميل إلى الدعوى والمبالغة، و(الدون جوانية) ويخلق مواضع التوكيد والإلحاح عنده من مصطلحات جوه، أو يفصل عرفه على حسب أزيائه، ولكن الشعر لا يتعقد ولا يصعب إلا إذا كانت بلاغته وليدة الكلمة والقلم، ولم تكن وليدة الفكرة والروح؛ ولهذا خلق الأدب صناعة البيان والبديع، وهما لعبة حواة يخترعها مهرة الكتاب، وإن الشاعر ليعبث بنفسه أحيانا - غفلة منه - فيقع فريسة لتلك الآفة، ويتورط في تمثيل دور الأدباء بديلا من دوره، فيدرك من المعجزات ما يقصرون عنه؛ فإن الأديب قلما يخطئ في أحكام الصنعة، ولا يزال قديرا على تلقف الأطباق التي يقذف بها في الهواء، فإن سقط واحد منها سقط على رءوس الآخرين، ولكن الشاعر قد يفقد طبقا من أطباقه فلا يسقط على رأس أحد، بل يغيب متواريا في آفاق الفضاء، لتلك الصداقة التي بين الشاعر وبين سعة الآفاق.

وإن في الدنيا لكثيرا من البلغاء الحواة الذين يتوهمون أنهم - لعلمهم بالقواعد التي هي بضاعتهم - يمدون للشعر طعما مغريا، فيقبضونه روحا وجسدا بين أيديهم، ويجدونه قلبا وقالبا، ويكتبونه ويسجلونه ويقيدونه، ولكن الشعر - لحسن الحظ - لا يقيد ولا يقبل التحقق والضبط باليدين، والشاعر الحق هو الذي يدعه يفلت من الأوهاق؛ لأنه إنسان صادق يعيش مع الصدق، وما كانت النعمة الشعرية: نعمة النشوة الجياشة، والمعجزة النابضة التي ينجم منها النغم الصادق، إلا عملا من أعمال الطيران، وصورة من صور الحرية والطلاقة.

وليس يناقض الشعر والحب شيء، كما يناقضه الأدب المحكم المحبوك الذي يدعي الحق في الحب الكامل، فالأديب يسخر من العاطفة الجياشة في عمقها، ويستبدل بها مظهر العاطفة ليقول إن الشاعر - ذلك المخلوق المسكين الذي لا جدوى له - قلما يتحرك ويتقدم، ويسمع الناس ما يقال، فيبهرهم اللمعان الهازل والرنين الخالب، ويقولون كذلك إن الشاعر - البلبل - مخلوق مسكين لا نفع فيه.

صفحة غير معروفة