تمهيد
ألفريد نوبل
الوصية
أسباب المنح والمنع
الجوائز والأمم
الإسبان المختارون
الأدب الإسباني في وطنين
نحو القرن العشرين
چوان رامون خيمنيز1
بلاتيرو وأنا
صفحة غير معروفة
آراء وخواطر
قصائد ومقطوعات
صور أدبية
ذكريات
سطور
تمهيد
ألفريد نوبل
الوصية
أسباب المنح والمنع
الجوائز والأمم
صفحة غير معروفة
الإسبان المختارون
الأدب الإسباني في وطنين
نحو القرن العشرين
چوان رامون خيمنيز1
بلاتيرو وأنا
آراء وخواطر
قصائد ومقطوعات
صور أدبية
ذكريات
سطور
صفحة غير معروفة
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
كانت أمامي مجموعة تشتمل على تراجم الأدباء المختارين لجائزة «نوبل» منذ ابتدائها في أوائل القرن الحاضر إلى سنة الحرب العالمية الأولى، فسألت نفسي: ترى لو لم تذكر مناسبة الجائزة في هذه المجموعة، هل يستطيع القارئ الناقد أن يعلم أسباب اختيار هؤلاء الأدباء دون غيرهم من مئات الأدباء في هذه الحقبة التي تجاوزت الجيل في حدوده المصطلح عليها؟!
إنه يعلم ولا شك أن هناك وحدة مقررة جمعت بين أسمائها، ولكنه قد يبحث عن تلك الوحدة طويلا قبل أن يقف على حقيقتها أو ما يقارب تلك الحقيقة.
ففي وسعه أن يعلم بغير مشقة أن هذه الأسماء لا تنتمي إلى أمة واحدة، ولا إلى فترة واحدة تتقارب فيها الأعمار.
ولكنه لا يرى فيها دلالة على التطور أو الترقي في مطلب واحد من مطالب الأدب؛ لأنها تقرن الشعر بالقصة، وتقرن هذين بالرواية المسرحية، وتقرن هذه المطالب جميعا بالتاريخ أو بفلسفة الأخلاق، وتمضي في طريق ثم تعود إليه بعد ارتياد الطرق الأخرى على اطراد وعلى غير اطراد.
ولا يرى الناقد في هذه المجموعة أنها جمعت أفضل نماذج الأدب في الأمم المتعددة ولا في الأمة الواحدة؛ لأنه يرى للأدباء المختارين أندادا يماثلونهم أو يفوقونهم في أمتهم وفي سواها.
صفحة غير معروفة
ولكنه يعلم على التحقيق أن المجموعة تعطيه صورة واسعة متعددة الجوانب من ثقافة الغرب في قرابة نصف قرن، ولا يفوته أن يلمح فيها غياب نوع من الأدب لا يمثله أديب من أدبائها، وهو ذلك النوع الذي نصطلح على تسميته بدعوة الهدم والعنف، أو بما دون ذلك من دعوات الخشونة والمرارة، فإذا لاحظ ذلك فقد وصف المجموعة على الجملة صفة مقاربة لحقيقتها؛ لأنها في الواقع تجمع نماذج الفن الرفيع على شرط محدود، وهو خدمة السلام والتفاؤل بمصير الإنسان، فإذا توافر الشرطان مع التوسط في الكفاية والإتقان، فذلك خير من الامتياز الراجح بواحد منهما وفقدان الآخر.
وليست العصمة في وزن أحد الشرطين أو وزنهما معا أمرا مستطاعا أو ميسورا لعمل من أعمال الإنسان، فقد يختل الوزن مع اختلاف الزمن واختلاف البواعث النفسية أو الاجتماعية، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه أن دراسة الجائزة على علاتها كفيلة بتعريف الناقد تعريفا صحيحا بصورة وافية من صور الثقافة الغربية الحديثة من جوانبها المتعددة، ولا يقدح في ذلك غياب الجانب المسكوت عنه من أدب الهدم والقنوط؛ فإن الجانب المختار يدل عليه ويشير إليه، ويكاد يشرحه شرحا صريحا على سنة المقابلة ومعارضة النقيض على النقيض.
وهذا الذي اخترنا تأليف هذا الكتاب لأجله؛ فإن دراسة «جائزة عالمية» يستحقها من تختارهم هيئة من الهيئات المرشحة لوظيفتها، لن تخطئ أن تعطينا صورة من تاريخ الأدب الحديث تستحق النظر، وتستحق أن يدار عليها موضوع كتاب، ومما يستحق النظر من أجله أيضا أن يتعرف الناقد المؤرخ مواطن الصحة والخطأ ومواطن الخطأ في موازين الهيئات الفنية، التي تتصدى لوزن الكفايات والملكات على نطاقها الواسع بين أمم الحضارة؛ فإن العلم بمدى هذه الهيئات من الصحة والخطأ، ومن الإنصاف والمحاباة، ومن محاباة الضرورة ومحاباة الاختيار، غرض لا يهمله مؤرخ الأدب في ناحية من نواحيه. •••
وعلى هذا الاعتبار نكتب هذه الدراسة عن الشاعر الإسباني «خيمنيز» صاحب جائزة نوبل لسنة 1956؛ فهو من هذه الزاوية يعرض للدراسة في هذه الصفحات.
ولقد دار البحث طويلا في موضوع الجائزة العالمية منذ سنوات، فخطر لبعض الباحثين أن تشمل الدراسة تقديرا مجملا لجميع الأدباء الذين استحقوا من لجنة التحكيم جوائزها منذ السنة الأولى إلى السنة الأخيرة عند تأليف الكتاب، وخطر لبعضهم أن تبتدئ الكتابة عنهم من السنة الأخيرة، ويختار من المتقدمين بعد ذلك من ترشحه المناسبة أو يرشحه التفضيل والتمييز بالقياس إلى قراء اللغة العربية.
ثم تردد الكلام عن «خيمنيز» لمناسبات شتى، وتردد كذلك عن «بسترناك» الشاعر الروسي الذي نال الجائزة بعده لمناسبات أخرى، فرجحت كفة الشاعر الإسباني وزاد في ترجيحه أنه اختتم حياته الأدبية وخلصت سيرته من لجاجة المآرب السياسية، وصلحت هذه السيرة صلاحها لتفصيل القول عن العلاقة بين الأدب القومي والأدب الإنساني، كما تتحراها الجوائز العالمية بموازينها المصطلح عليها.
وفي الصفحات التالية فصول كافية لبيان هذه الدراسة من زواياها المتعددة: عن الجائزة وصاحبها ونشأتها ودستورها من وثائقها الرسمية، وعن لجنة التحكيم وسنتها المتبعة في اختيار أدبائها، وعن الأدب القومي وآثار الآداب العالمية فيه، وعن بيئة الأدب الإسباني التي نشأ فيها الشاعر، ثم الجزء الأخير من الكتاب عن الشاعر وتقدير أدبه وشواهد هذا الأدب التي يستعان بها على تقديره. •••
ونحسب أن هذا الكتاب سيتأدى إلى قصده ويستوفي غايته، إذا خرج منه القارئ على علم برسالة الشاعر الإسباني قومية وإنسانية، وعلى علم بالمناسبة التي رشحته لجائزة العالمية.
ألفريد نوبل
لما طلب لدفيج نوبل من أخيه الفريد - صاحب الجوائز - أن يكتب تاريخ حياته، كتب إليه هذا ما معناه أن له نصف حياة في الواقع، وأن هذا النصف كان حقيقا أن يتولاه عند ولادته طبيب من محبي الخير يكتم أنفاسه ساعة بدرت منه صيحته الأولى على أبواب الدنيا.
صفحة غير معروفة
وأراد - بسليقته الأدبية - أن يسطر ترجمته في صورة بطاقة من بطاقات الشخصية فسطرها على الصورة التالية:
ألفريد نوبل:
نصف إنسان
Demi-man
ضئيل، كان ينبغي أن يتاح له طبيب طيب يقضى عليه يوم قدم صارخا إلى دنياه.
مزاياه:
ينظف أظافره، ولا يحب أن يثقل على أحد.
نقائصه وأخطاؤه:
بغير أسرة، كئيب، سيئ الهضم.
أهم رغباته:
صفحة غير معروفة
ورغبته الوحيدة ألا يدفن بقيد الحياة.
خطاياه:
لا يعبد إله «المأمون»!
حوادث حياته الهامة:
لا شيء!
وعلى ما يظهر من المسحة الساخرة في هذه «البطاقة الحزينة» لا يخطر لأحد من المطلعين على حياة الرجل من أهله وصحبه أنه كان مدعيا فيها للتواضع، أو متكلفا فيها للظهور بمظهر الترفع عن الشهرة وبعد الصيت؛ فإنه قضى حياته يشعر بالفراغ ويتشاغل بالعمل الدائب عن هذا الفراغ، ولا يحس بنفسه خلوا من شواغل العمل إلا ليحس في ضميره بخيبة الأمل، ويحس في جسده بالوهن والحاجة إلى السكينة والعزلة!
وإنما يسمع الناس هذا عن رجل يدوي اسمه في العالم مع دوي المفرقعات، ويدوي اسمه في العالم مرة على الأقل كل سنة مع أصحاب الشهرة العالمية في السياسة والعلم والأدب، فيعجبون كيف تخلو حياته من شيء هام يذكره في «بطاقته الشخصية»؟! وكيف تكون أمنيته الوحيدة في الحياة أن يدفن بعد الموت ولا يدفن بقيد الحياة؟! وحبذا لو لم يكن دخلها، ولم يعرف ما يتمناه فيها، وما يحذره منها منذ اللحظة الأولى.
والعجب من هذا حق ولكنه يزول كلما رجعنا إلى أنفسنا، ولمسنا الفارق في أعمالنا بين ما يهمنا وما يهم الناس منها؛ فقد تكون الجوهرة الغالية حلية يتنافس عليها الذين يشترونها والذين يلبسونها والذين ينظرون إليها، ولكنها عند الذي يصقلها ويعدها للتنافس عليها إنما هي تعب الليل والنهار وعمل من أعمال الحاجة والاضطرار، وقد يهز اللغم الذي صنعه مخترع المفرقعات مدينة عامرة بالألوف من السكان، ولكنه عند صاحبه «تركيبة من المعادلات والأرقام» لا يهمه أن يسمع صوتها إلا ليزيد عليها رقما هنا، أو ينقص منها رقما هناك.
وقد كان ألفريد نوبل يعيش حقا في فراغ أليم بينه وبين وجدانه، وبينه وبين أقرب الناس إليه، وكان هذا الفراغ الأليم هو «أهم شيء» في حياته، إن أردنا أن نعرف الباعث له إلى خلق الاهتمام، وإلى خلق الاهتمام في إبان الحياة، وهو خير عنده من الاهتمام بالذكريات وبالآثار بعد زوال الحياة. •••
فلما استقر رأيه على «العمل المهم» الذي ينفق فيه ماله، وراقه أن يكون هذا العمل المهم تقديرا لخدام الإنسانية وإحياء للإيمان بالمثل العليا، لم يخطر له أن يكون هذا التقدير تخليدا لذكرى العظماء الغابرين، أو تجديدا لآثارهم الباقية وآياتهم الموروثة من العصور الخالية، بل أحب أن يجعله تقديرا حاضرا يشعر به خادم الإنسانية في حياته، وقد وجدت بين أوراقه ألوف من رسائل الشكر والطلب، وتبين من بعضها أنه كان يرفض كل طلب يسأل فيه أن يشترك في ذكريات التمجيد والتخليد، ويجيب كل طلب يعين صاحبه على عمل ينفعه وينفع ذويه في حياته، وجاء في إحدى رسائله:
صفحة غير معروفة
إنني أوثر العناية بمعدات الأحياء على العناية بذكريات الموتى.
وجاء في رسالة أخرى:
إن غيرتي على تكريم الموتى الذين لا يبالون أنصابنا المرمرية أضعف كثيرا من غيرتي على إعانة الأحياء الذين يشعرون بمضض الفاقة.
وكان سخطه على الواقع - ولا ريب - هو سر هذا التطلع الدائم إلى المثل العليا، وإغراء القادرين عليها بخدمتها والإيمان بها وبإمكان العمل لها في دنياهم، قبل أن يسلمهم الموت إلى عالم الذكرى، أو عالم «الأنصاب المرمرية» كما سماه.
وإن هذا الفراغ الذي أضجره من عيشته وأسخطه على الواقع الملموس في دنياه لعجيب عند من ينظرون إلى شهرة الرجل، ويسمعون بأعماله ومخترعاته، ويعرفون شيئا عن ثرائه ووفرة أرباحه من مصانعه التي انتشرت بين عواصم الغرب وهو في عنفوان شبابه، ولكنه فراغ لا يعجب له من يعلم أنه قضى عمره منذ طفولته دون العاشرة ولم يمتلئ فؤاده قط من شعور الوطن، ولا شعور السكن، ولا شعور الحب والثقة بإنسان من عشرائه وشركائه، ولا بمبدأ من المبادئ التي كانت تروج دعواها بين الناس في زمانه، وهو أعلم من سواه بحقائق هذه الدعوى وراء الستار.
فقد فارق وطنه في طفولته ليلحق بأبيه في عاصمة روسيا التي اختارها مركزا لتجربة مشروعاته ومخترعاته، ثم قضى سائر عمره إلى يوم وفاته متنقلا بين روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وعواصم الدول، أو ضواحي النزهة والاسشفاء، وأتقن في رحلاته هذه ثلاث لغات غير لغته الأصلية وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، واستطاع أن يتكلم بغير هذه اللغات الثلاث في محادثاته العاجلة أثناء العمل أو التردد على البلدان المختلفة، ولكنه كان في «حياته اللغوية» مثالا للغربة والانقطاع عن وشائج الفكر في أعماق النفس البشرية، وقد ظهر ذلك من إخفاقه في محاولاته الأدبية؛ لأنه لم يجمع بين قريحته وبين اللغة التي يبث فيها سرائر وجدانه سجية مطبوعة غير منقولة من عبارة الطبع إلى عبارة الترجمة والحكاية، فكان ينظم الشعر بالإنجليزية فيجيد غاية الإجادة التي يملكها الناظم الغريب عن اللسان والبيئة، ولكنها إجادة تقف به دون مرتبة الوحي المبتكر في لسانه الأصيل عفو البديهة، ثم يعود إلى لغة الأم - كما يقال أحيانا عن لغة الوطن - فإذا هو غريب عنها يحاول أن يودعها سرائر وجدانه، فكأنه ينقلها من لسان إلى لسان ومن بديهة إلى بديهة، وكأنه في هذه المحاولة يوسط أحدا بينه وبين نفسه قبل أن يوسط الترجمان بينه وبين القراء. •••
وشعر ألفريد نوبل - السري العالمي - بالحاجة إلى طمأنينة السكن، كما شعر بالحاجة إلى طمأنينة الوطن، وربما كان فقدانه الوطن الصغير الذي يأوي إليه أقسى على نفسه من فقدان الوطن الكبير؛ لأن العلاقات الوطنية لا تنقطع على بعد الديار، وليس بالعسير على مثله أن ينتمي إلى موطنه الفخور به حيث كان، ولا بالمتعذر عليه أن يؤدي لذلك الوطن حقه كلما سنحت له فرصة من فرص الحياة العامة أو مناسبة من مناسبات العلائق الدولية، ولكنه قد يملك ما شاء من الدور والقصور في رحاب الأرض، ولا يجد بينها «البيت» الذي يأوي إليه الأب والابن والقرين والقريب، ولا تفلح في بنائه الأموال والأمتعة إن لم تتوطد له أركانه بين حنايا الصدور.
وعاش السري العالمي بحاجة إلى هذا البيت في شبيبته الأولى، وربما استغنى عنه في ريعان شبابه، أو شغل عنه بشواغل العمل وشواغل اللهو التي تتسع لها أوقات الشباب، ولكن صاحب الأعمال الجسام الذي يلتقي كل يوم بأنداده من أرباب الأسر وملوك المال لا يستغني عن «المركز الاجتماعي» في مسكنه الجدير بمكانته العالمية، ولا بد له - مع مكتب العمل - من ملتقى تتصل فيه علاقاته بالناس في غير دواعي البيع والشراء وصفقات الصناعة والتجارة، وأحوج ما يكون الرجل إلى هذا «البيت» إذا أحوجته إليه متاعب الجسد المتوعك ومتاعب الفكر المشغول بمقلقات الدنيا على اتساعها، وهل من قلق في هذه الدنيا الواسعة أشد من قلق الصناعة التي عمل فيها ولم ينقطع عنها؟! هل من صناعة أقرب إلى القلق من صناعة «المتفجرات» في عصر الحروب وعصر الهدم والبناء؟
كان الرجل يتمنى أن يسلم هذا البيت إلى الفتاة التي يهواها ولكنه فقدها في إبان صباها، ثم أوفى على السن التي ينظر فيها الرجل إلى تقرير مصيره «البيتي» قبل فوات أوان التفكير في هذا المصير، وأوشك أن يجد «ربة البيت» التي توافقه في سنه وتوافقه في مزاجه وتوافقه في عمله، فعملت عنده النبيلة «برتا كنسكي» النمسوية كاتبة لرسائله ومديرة لبيته، وكانت في الثالثة والثلاثين، وهو في الثالثة والأربعين، فلما أحس ذات يوم أنه يحبها ويرتضيها قرينة لحياته لم يشأ أن يستغل حاجتها إليها، وأن يفاتحها بهواه قبل أن يتبين جوابها المنتظر لما سيعرضه عليها في غير حرج ولا اضطرار إلى المواربة، فسألها: أهي طليقة القلب؟ ولم يكن جوابها إلى اليأس ولا إلى الأمل؛ لأنه علم منها أنها أحبت فتى من نبلاء بلادها وأحبها الفتى، فنهاه أهله عن الاقتران بها لفقرها وتفاوت السن بينه وبينها، وأنها هجرت وطنها لتنسى، ولعلها وشيكة أن تنسى، ولكنه ذهب في رحلة من رحلاته، فكتبت إليه في غيبته تستودعه وتعتذر إليه من سفرها قبل عودته، ثم علم أنها استجابت لدعوة عاجلة من فتاها، وأنه تمرد على مشيئة أسرته، فتزوج بها وأرجأ إعلان الزواج إلى أن يقنع الأسرة بقبوله، وقضي على السري العالمي مرة أخرى أن يأوي إلى العالم كله، ولا يأوي إلى بيت!
وقد ربح ألفريد نوبل منذ شبابه ثروة عريضة من مخترعاته ومقاولاته، وربح في كهولته ثروة أعرض منها وأوسع انتشارا بين حواضر العالم وعواصم الدول ومراكز الحياة الاجتماعية، فلم تعطه الثروة العريضة في شبابه وكهولته تلك الثقة التي كان يفتقر إليها ويود أن يطمئن إلى ركن من أركانها؛ لأنه كسب الثروة من صناعة «المتفجرات»، وهي يومئذ تنوء بأوزار قضية التسليح وقضية السلام، وتتجسم بين أيدي العاملين فيها فضائح الرياء في دعوات المجد الوطني ودعوات الأخوة الإنسانية على السواء، فربما ارتفعت الصيحة إلى شراء السلاح باسم الحماية من خطر الأعداء، وهو يعلم من أسرارها أنها صفقة من صفقات السمسرة والرشوة، وربما قابلتها صيحة أخرى من صيحات الدعوة إلى السلام، وهي في باطنها وسيلة إلى إحباط تلك الخطة للنكاية أو للمساومة على السكوت، وبين هذا وذاك مكائد الجاسوسية والمنافسة التي لا بد منها في كل صناعة تقترن باستعداد الدول للدفاع والهجوم، وتقترن في الوقت نفسه بأسرار المخترعات ومنازعات البيوت التجارية على توريد الأسلحة والذخائر، وإبرام العقود واحتكار الأسواق الدولية.
صفحة غير معروفة
فلا جرم يسوء ظن السري العالمي المطلع على أسرار هذه الدسائس والمناورات بجميع النظم السياسية التي قامت عليها حكومات عصره، وقد اختبر منها نظام القيصرية في روسيا، ونظام الجمهورية في فرنسا، ونظام الملكية الدستورية في إنجلترا، ونظام الملكية المتوسطة بين الإطلاق والتقييد في ألمانيا، فلم يحمد خبرته لنظام من هذه الأنظمة، ووجدت بين أوراقه فاتحة قصة شرع في تأليفها، وسمى بطلها باسم السيد أڤنير
Avenir ، ومعناها بالفرنسية «المستقبل»، فألقى على لسان هذا البطل بيانا مفصلا عن عيوب كل نظام منها بين عجز ولي الأمر عن العمل النافذ أو شطط القوة التي توكل إليه حين ترفع عنه قيود الرقابة والمراجعة، وإنما يتم التوسط بين العجز والشطط - في رأي السيد أڤنير - بتوزيع السلطة بين ولاة الأقاليم من جهة، وحصر السلطة العامة في الدولة كلها بين يدي واحد منهم يختارونه وتؤيده المجالس النيابية. وكانت ثقته بمؤتمرات السلم أقل من ثقته بالنظم السياسية في زمانه، فلم يشترك قط في دعوة من دعواتها، ولم ينتظر من ورائها نفعا قريبا لقضية السلام التي كان يعمل لها في سره وجهره، والتي أوصى لها بجائزة من جوائزه بعد وفاته، بل قال يوما للنبيلة برتاڤون ستنر
Suttner : «إن مصانعي ربما أبطلت الحروب قبل مؤتمراتكم؛ ففي اليوم الذي يستطاع فيه إبادة الجيشين المتقاتلين في لمحة عين، قد يرجى أن تتفق الأمم المتحضرة على اجتناب الحروب وتسريح الجيوش.»
ومن سخرية الحظ أن ثروة نوبل جلبت له شيئا مذكورا من ألقاب الدول التي جرى العرف على تسميتها بألقاب الثقة والتقدير، أو ألقاب الجدارة والاستحقاق، فزادته شكا ولم تزده ثقة، ونقل عنه أنه كان يقول إنه مدين لألقابه من حكومات الشمال لبراعة طباخه وللمعدات الأرستقراطية التي كانت تقدر براعة ذلك الطباخ، وإنه مدين بألقابه الفرنسية لصداقة أحد الوزراء، وبألقابه من أمريكا الجنوبية لزيارة هذا الرئيس، أو لولع ذلك الرئيس بتمثيل أدوار التشريف والإنعام.
وبقيت طمأنينة واحدة يعتصم بها في هذه الحيرة لو وجد سبيله إليها، وتلك هي طمأنينة الإيمان بعقيدة من العقائد الدينية.
فهذه أيضا حيل بينه وبينها في عصر المذاهب المادية والقلاقل الاجتماعية، وشكوك العلم والفلسفة واضطراب الأقوال عن إرادة الله وشعائر العبادة بين أحبار الدين الواحد - بل المذهب الديني الواحد - في القطرين المتجاورين، فحار كيف يطيع أوامر الله ويؤدي شعائر العبادة على سنة حبر من هؤلاء الأحبار، وقنع آخر الأمر بأن يهتدي إلى عقيدته الصالحة بوحي من ضميره، وأن يعلم كيف لا يخالف إرادة الله متى آمن بوجود الله، وإنه ليؤمن بوجوده ويؤمن يقينا أنه لا يخالفه في شيئين واجبين على كل ذي دين وكل ذي مروءة، وهما فعل الخير ونشدان الكمال الإنساني على هدى المثل العليا، وليس بها من خفاء. •••
إذا كانت لتراجم المشاهير صفحتان: ظاهرة وباطنة؛ فهذه هي الصفحة الباطنة التي تعنينا من سيرة ألفريد نوبل؛ لأنها هي السيرة التي نعرف منها صاحب الجوائز، ونعرف منها بواعث عمله الباقي الذي تناط به ذكراه، رجل يودع لطيف المزاج بحث عن الطمأنينة والثقة، فلم يجدهما في حياته، فتعزى بالعمل لتحقيق الطمأنينة والثقة بعد مماته، وحرص على تقدير العاملين لهما وشعورهم بهذا التقدير وهم بقيد الحياة، وما العمل لتحقيق الطمأنينة والثقة إلا العمل - بعبارة أخرى - لتحقيق السلام والإيمان بالمثل الأعلى، مناط الثقة التي لا يدركها المشغولون بالواقع المحدود، ويزيده كلفا بهذه الغاية أنه اخترع شيئا يصلح للتعمير في نطاقه الواسع، فلم يلبث أن رآه بين أيدي الناس سلاحا من أسلحة الحرب والدمار، فهو يرصد المال الذي ربحه من هذه الصناعة للتكفير عن سوء أثرها في أيدي ساسة الأمم وزبانية الحروب، وما كان له من باب للتكفير غير هذا الباب إلا إلغاء ما صنع ومحو ما اخترع، وليس ذلك بالنافع ولا بالمستطاع. •••
أما سيرته الظاهرة فقد أصاب حين قال إنها لا تشتمل على حدث ذي بال؛ فإن «المتفجرات» لها دويها الذي يزعج الأسماع، ولكنها عند من يخترعها لا تعدو أن تكون سلسلة من الأرقام والمعادلات وتجارب المحاولة والتنفيذ.
كان عمانويل نوبل - أبو ألفريد - يجهل أصله، ويعتقد أن اسم «نوبل» غريب عن اللغة السويدية، وربما كان اسم قس إنجليزي انتقل إلى بلاد السويد في عصر من عصور الاضطهاد الديني مع من هاجر من إنجلترا إلى الشمال في تلك العصور، ولم يكن لهذا الاعتقاد من أساس غير الظن؛ لأن هذا الاسم محرف من اسم بلدة نوبولوف السويدية
Nobbelov ، وقد تسمى به في القرن السابع عشر أول رجل من أسلافه تعلم في مدرسة عالية، واتخذ له اسما منسوبا على حسب النظام المتبع في تقييد أسماء الطلاب بالجامعات، ومما بقي من أخبار هذا السلف - بترس أولاڤي
صفحة غير معروفة
Olavi - نعلم أن ميراث العبقرية فيه قد تخلف لأبنائه وحفدته إلى أعقابه المشهورين في التاريخ الأخير، وأشهرهم عمانويل وابنه ألفريد؛ فإن أولافي كان على نجاحه في دروس الجامعة موسيقيا مطبوعا على حب الفن، ونشأ سليله عمانويل فنانا مخترعا على قلة حظه في تعليم المدرسة فضلا عن الجامعة، وقد اضطرته أحوال الأسرة إلى العمل بإحدى السفن التي كانت مقلعة إلى البحر المتوسط وهو يقارب الرابعة عشرة، ثم تتلمذ في صناعة البناء على بعض البنائين، واستطاع أن يحضر دروس العمارة فترة قصيرة في العاصمة، ثم أصابه نحس الطالع فاحترق بيته الذي اقتناه، وصفرت يده من المال والصفقة، فاضطر إلى مغادرة ستوكلهم سنة 1837 بعد أربع سنوات قضاها بين البطالة والمحاولة المخفقة، ولجأ إلى العاصمة الروسية أملا في تأسيس عمل جديد تتسع له تلك البلاد التي لا تزال في أوائل حركتها الصناعية بحاجة إلى الخبراء من المهندسين والصناع، فأسس عمله وأفلح فيه وكثرت عليه طلبات الدولة بعد نشوب حرب القرم، فأسرع إلى توسيع مصنعه حتى تعذر عليه أن يستبقيه على اتساعه بعد انتهاء الحرب، ثم تكاثرت عليه الديون التي اقتضاها بقاء المصنع بنفقاته الأولى، فأعلن إفلاسه وعاد إلى وطنه لتجربة العمل فيه بمعونة بنيه.
وتعتبر هذه الهجرة الأولى بلاء مشتركا للأسرة، بما في البلاء من معنى المصاب ومعنى الاختبار والامتحان، بلاء عرفت منه الأسرة - كبارها وصغارها، ومقيمها وراحلها - خير ما عندها من استعداد للعمل المبتكر، والصبر على الشدة، والقدرة على مغالبة اليأس، وتجديد الأمل بين النجاح والإخفاق، وبين إقبال الحظ وإدباره، فالأب يرحل منفردا ليتصدى وحده لأعباء الغربة وعوارض التوفيق والخيبة، وربة الأسرة تبقى في أرض الوطن مع أطفالها الصغار - وهم ثلاثة أبناء - مضطلعة وحدها بتربية هؤلاء الأطفال وتدبير معيشتهم في غيبة أبيهم، وفي انتظار الفرج من تلك المغامرة في البلد المجهول، وقد تمخضت السنون الخمس التي انقضت بين هجرة أبيهم (سنة 1837) ولحاقه بهم (سنة 1842)، عن معدن الجد والهمة في هؤلاء الصغار الذين قضوا طفولتهم الأولى في حضانة أم تقوم لهم مقام الأب والأم، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، على أمل تارة، وعلى خوف من الحرمان تارات، فنشأوا - ثلاثتهم - أعلاما نابهين بين الأقطاب العالميين من رجال الصناعة والمال: روبرت الكبير مؤسس صناعة النفط في باكوم، ولدفيج الأوسط مؤسس مصانع الذخيرة والسلاح في بطرسبرج، وألفريد صاحب الجوائز الذي كان عمره أربع سنوات يوم رحل أبوه من السويد. أما ربة هذه الأسرة فهي تلك الأم - أو تلك الإنسانة الوحيدة - التي بقي لها ألفريد طوال حياته على عهد البر والعطف إلى أن فارقت الحياة وهو يقارب الستين. وقد جاء في سيرته أنه كان يترك أعماله وشواغله حيث كان ليخف إلى مقرها في عيد ميلادها، ويتلقى منها بركة الأم الراضية لولدها المرضي عنه، ويسألها عن هدايا رأس السنة التي تحب أن ترسلها باسمها إلى ربات البيوت من صديقات صباها في أيام الضنك والكفاف.
ووصل ألفريد إلى بطرسبرج وهو دون العاشرة لم يختلف قبلها إلى مدرسة من مدارس التعليم المنتظم غير بضعة شهور، فعوض هذا النقص بالدروس التي كان يتلقاها على أستاذه الخاص في داره، ثم قد انقطعت هذه الدروس أيضا وهو في السادسة عشرة، فتعلم باجتهاده وفطنته كل ما وعاه من تلك المعارف التي أعانته على الاختراع والإدارة وتحصيل ما حصل من ثقافة جعلته ندا مشهودا له بالفضل بين أصحابه وعشرائه من نخبة العظماء والرؤساء، ومنها ثقافة الرحلة إلى فرنسا وأمريكا وألمانيا للمشاهدة والاطلاع، وغشيان معاهد الصناعة والعلم، وإن لم تكن مما يزاوله في عمله المباشر أو يتصل بمصالحه ومصالح أبيه، وكأنما شاء القدر من ضروب التربية لهذه الأسرة أن يصاب آباؤها وأبناؤها كل منهم بحصته من ضربات الحوادث وخسائر الأنفس والأموال، فدمر الانفجار مصنع ألفريد باستكهولم (سنة 1864)، وقضي على أخيه الصغير إميل مع من قضي عليهم من الصناع والخبراء، وحطم البقية الباقية من عزم أبيه وأوشك أن يقضي على صوابه فلم يفق من جرائر هذه الفاجعة حتى قضى نحبه (سنة 1872)، ونهض ألفريد بالعبء كله في تجديد المصنع والإشراف على معاملاته ومعاملات أسرته بين الأقطار التي زارها، وتعرف إلى أقطاب الأعمال فيها أثناء رحلاته أيام الطلب والاستطلاع. ويتكشف معدن الرجل من قدرته على توسيع أعماله والنهوض من كبواته مع سوء ظنه بالناس عامة وبأقرب المقربين إليه بعد تجربتهم في أيام سعوده ونحوسه، ومفاجآت رواجه وكساده، وفي إحدى رسائله يقول لمن ذكر له أصدقاءه المرجوين:
صدقني حين أقول لك إننا لا نجد الأصدقاء في غير الكلاب التي نطعمها، أو الديدان التي تطعم نفسها من أجسادنا.
وأدل من ذلك على معدن هذه النفس القوية أنها احتفظت بقوتها بين متاعب القلب والجسد: متاعب القلب حرفا ومعنى؛ لأنه كان مصابا بالذبحة الصدرية، ومتاعب الجسد من فرط الجهد ومن سوء الغذاء، أو من قلة هذا الغذاء الصالح الذي كانت تسمح به معدته الواهية، بين أكداس الأموال التي تفي بشهوات ألوف المعدات من طعام وشراب. وإنما كان عزاؤه عن حرمانه أن يؤمن بالعلم ويؤمن بأنه كفيل غدا «بالمعيشة الحسنة؛ أعني معيشة الجماعات، ولا أعني ترف الآحاد من الموسرين.»
وحقق مبادئه - عملا - قبل أن يختتم حياته في أواخر القرن التاسع عشر (سنة 1896)، فلم يحفل بنصيب الآحاد من ميراثه كما حفل بنصيب الجماعات، ومنه نصيب خدامها في ميادين الصناعة والصحة والأخلاق.
الوصية
يقول ألفريد نوبل في وصيته بعد أسطر الافتتاح المألوفة في وثائق التوصية:
يكون التصرف في تركتي المحصلة على الوجه التالي:
يودع رأس المال بإشراف منفذي الوصية في ودائع مضمونة، ويكون منه مبلغ تنفق أرباحه سنويا على صورة جوائز توزع على الذين قاموا في السنة السابقة بأنفع الخدمات للإنسانية، وتقسم هذه الأرباح على خمس حصص متساوية توزع كما يلي: حصة للشخص الذي قام بأهم كشف أو اختراع في مباحث العلم الطبيعي - الفزيقية - وحصة للشخص الذي قام بأهم كشف أو تحسين في مباحث الكيمياء، وحصة للشخص الذي قام بأهم كشف في علم التشريح أو الطب، وحصة للشخص الذي أنتج في الآداب نتاجا هاما ذا وجهة مثالية، وحصة للشخص الذي قام بأكبر أو أفضل عمل لتحقيق الإخاء بين الأمم، ولإلغاء أو نقص عدد الجيوش القائمة، ولدعوة المؤتمرات العاملة للسلم أو نجاحها.
صفحة غير معروفة
ويمنح مجمع العلوم السويدي جائزة الطبيعة والكيمياء، ويمنح معهد كارولين باستكهولم جائزة التشريح والطب، ويمنح مجمع استكهولم جائزة الآداب، وتقرر منح جائزة السلام نخبة مؤلفة من خمسة أعضاء ينتخبها مجلس النواب النرويجي. وإن رغبتي الصريحة في منح الجوائز ألا ينظر في ذلك إلى وطن المرشح؛ لينال الجائزة من هو أحق بها، سواء كان من الأمم السكندنافية أم لم يكن منها.
باريس في 27 من نوفمبر سنة 1895
وقد توفي ألفريد نوبل في سان ريمو بإيطاليا في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1896، وأعلنت وصيته بعد أيام، ولكنها لم توضع موضع التنفيذ إلا بعد انقضاء أربع سنوات، وكان هذا التأخير من الأمور المنتظرة منذ فتح الوصية والشروع في تنفيذها؛ لأن البدء في تنفيذ هذه الوصية بصيغتها المجملة التي نقلناها فيما تقدم لم يكن مستطاعا قبل الفراغ من إجراءات قانونية وعملية شتى يتبعها وكلاء التنفيذ بغير إرشاد من صاحب الوصية، ولا سابقة من وصية قبلها يهتدون بها ويعملون على مثالها.
فكان ابتداء العمل بالوصية موقوفا - أولا - على حصر التركة الموزعة بين أقطار متفرقة تختلف فيها قوانين التركات ومعاملات التبادل والاتفاق على قيم العملة والأعيان الثابتة والمنقولة بينها وبين الأقطار الأخرى.
وكان من الضروري بعد ذلك أن يرضى الورثة عن توزيع الثروة على الوجه الذي نصت عليه الوصية، وقد كان من هؤلاء الورثة من يطعن في الوصية من ناحية «الشكل القانوني» الذي أفرغت فيه، ومن ناحية التطبيق الذي يحتاج إلى تفصيلات كثيرة تتسع للخلاف والشك في مدلول الكلمات والموضوعات.
وكان التنفيذ يتوقف مع هذا كله على موافقة الهيئات واللجان التي نيط بها الحكم في الترشيحات، والنظر في تلك الترشيحات قبل اختيار صاحب الجائزة، ومن أعضاء تلك الهيئات واللجان من كان يرفض النظر في شأن من شئون الوصية قبل إقرارها واعتمادها في المراجع الرسمية.
وتعرضت الوصية لمنازعات السياسة والدعايات الاجتماعية بين المؤيدين لها والمعترضين عليها، ومن أصحاب هذه الدعايات من كان يحسب الوصية اختلاسا من حقوق الأمة السويدية، ومن يحسبها على خلاف ذلك كسبا أدبيا لهذه الأمة، ووسيلة كريمة لتعزيز مكانتها في ميادين الثقافة العالمية.
وأشفق كبار الساسة من عواقب التدخل في مشاكل الحكومات الأجنبية وعداوات الدول التي لا سبيل إلى اجتناب التحزب فيها والتحيز إلى أطرافها، كلما حان أوان النظر فيمن يستحق جائزة السلام ومن لا يستحقها من قادة العالم ودعاة السلم أو الحرب بين الوزراء والمفكرين.
ورفع الأمر إلى الملك، فاستدعى إليه عمانويل نوبل - ابن شقيق ألفريد - ونبهه إلى المحرجات التي تعترض تنفيذ الوصية على التعميم واختيار المرشح لجائزة السلم على التخصيص، واستحسن أن يوضع لتنفيذ الوصية نظام يلائم ضرورات السياسة، ويحقق أمنية صاحبها جهد المستطاع.
قال الملك: «إن عمك كان منقادا للمتهوسين من دعاة السلم ولا سيما النساء!»
صفحة غير معروفة
قال عمانويل: «ربما كان صاحب الجلالة يوافق الجنرال مولتكي الذي كان يقول: إن السلام الأبدي حلم، وإنه لحلم - على هذا - غير جميل!»
قال الملك: «أقال ذلك؟! حلم! وحلم غير جميل!» وكررها مرتين.
وأضيفت صعوبة أخرى إلى صعوبات السياسة بعد اشتداد حركة الاستقلال والانفصال في النرويج، فإن ساستها لم يستريحوا إلى تكليف مجلسهم بمهمة تابعة لحكومة السويد يرجع التصرف في مصادرها المالية إلى صاحب حقوق الميراث وأصحاب الوكالة عليه. •••
وبعد مطاولة مضنية استنفدت حيل الأمناء الموكلين بإبرام الوصية، تمت تصفية التركة وسددت الرسوم المقررة عليها بحساب القوانين الوطنية والقوانين الأجنبية، وبقي منها رصيد يقابل ثلاثين مليون كرونر كانت موزعة بين تسعة أقطار: هي السويد، والنرويج، وألمانيا، والنمسا، وفرنسا، واسكوتلاندة، وإنجلترا، وإيطاليا، وروسيا. وقيمتها يومئذ تساوي نحو مليوني جنيه، وتساوي أكثر من عشرة أضعاف هذا الرقم إذا لوحظ فرق القيمة الشرائية بين زمن التصفية والزمن الحاضر.
وصدرت المراسيم بتنظيم هيئات التحكيم، وتعريف هذه الهيئات بالأسماء «الرسمية» المصطلح عليها.
فعهد الحكم في جوائز الطبيعة والكيمياء إلى مجمع العلوم الملكي باستكهولم، وعهد الحكم في جوائز الطب والتشريح إلى كلية الطب والجراحة الخاصة، وعهد الحكم في جوائز الأدب إلى المجمع السويدي الذي نص في مرسوم إنشائه على أنه «مؤسس للعمل على تنقية اللغة السويدية وترقيتها وتحقيق سلامة الذوق وتهذيبه».
وعهد الفصل في جائزة السلم إلى لجنة من خمسة أعضاء يختارها مجلس الأمة النرويجي لمدة ست سنوات.
وتقرر أن تخصص في كل هيئة من الهيئات الأخرى لجنة تتألف من ثلاثة إلى خمسة أعضاء، وتألفت لمساعدة اللجان في أعمال التحضير والتحرير مؤسسة عامة سميت بمؤسسة نوبل، وألحقت بها مكتبة خاصة لجمع الكتب والأسانيد الضرورية لمراجعاتها وبيان أسباب ترشيحاتها وأحكامها.
وتفاهمت اللجان من مبدأ الأمر على معاني بعض العبارات المطلقة التي وردت في الوصية، فاتفق الأعضاء على أن كلمة «الآداب» تشمل فنون الكتابة التاريخية والفلسفية، ولا تقصر على فنون المنظوم والمنثور التي جرى العرف في الغرب على تسميتها بالكلم الجميل.
واتفق الأعضاء على أن العناية الأولى في الترشيح للجائزة تتجه إلى العمل الذي ظهر في السنة السابقة لتاريخ منحها، ثم تضاف إليه العناية بسائر الأعمال السابقة فيما يوافق الاعتبارات العامة التي نصت عليها الوصية.
صفحة غير معروفة
وقد أضيفت إلى المؤسسة - بعد إنشائها معامل ودواوين علمية أو إدارية لمعاونتها ، واستفادت اللجان من تجارب البحوث المتصلة منذ توزيع الجوائز لأول مرة سنة 1901 - فوائد عملية كان لها أثرها المتتابع في تنقيح دستورها وتعديل خطتها وتنظيم برنامجها، وبخاصة في مسائل الابتداء بالترشيح وانتخاب الأعضاء المحكمين.
وتقرر أن يحتفل بتوزيع الجوائز في اليوم العاشر من شهر ديسمبر تكريما لذكرى صاحب الجوائز الذي توفي في ذلك اليوم، ويجرى الاحتفال بتوزيع الجوائز جميعا بعاصمة السويد، ما عدا جائزة السلام؛ فإن الاحتفال بتسليمها يجرى في عاصمة النرويج.
وتقام الحفلة العامة بمعهد الموسيقى الأكبر في استكهولم، ويشهدها الملك وأعضاء الأسرة المالكة والوزراء بملابس الاحتفالات، ويدعى إليها أفراد أسرة نوبل، وسفراء الدول، وأعضاء الهيئات السياسية، وأعضاء مجلس الأمة، وكبار رؤساء الدواوين، وسراة البلاد، والمندوبون المختارون عن الجامعات والمجامع العلمية والفنية، وكل من منح الجوائز في السنوات السابقة، وربات الأسر من زوجات المدعوين وسيدات المجتمع ذوات الأثر المشهور في أعمال البر والخدمة الإنسانية.
وتعزف الفرقة الملكية نشيد التحية عند تقديم أصحاب الجوائز، مع إلقاء كلمة التعريف والتقدير، ثم تسلم الجائزة والشهادة والنوط الذهبي الذي رسمت عليه صورة ألفريد نوبل.
وتختم الحفلة بترتيل نشيد السويد، ثم يشهد المدعوون في المساء مأدبة تقيمها المؤسسة في أكبر فنادق العاصمة، تفتتح بنخب الملك، وتتلوه دعوة من الملك أو من ينوب عنه إلى تحية ذكرى ألفريد نوبل، ثم يدعى أصحاب الجوائز لإلقاء كلماتهم، وهي غير الكلمات المطولة التي يبسطون فيها آراءهم العلمية أو الأدبية، فإنها تلقى أحيانا في غير هذه المأدبة، ثم تنشر مع السجل السنوي الذي تصدره المؤسسة.
وتسلم الجائزة عادة إلى صاحبها، ومعها نوط نوبل الذهبي منقوشا عليه اسمه وتاريخ منحه الجائزة، فإن حيل بينه وبين حضور الحفلة سلمت الجائزة والنوط إلى سفير دولته أو المندوب الممثل لها عند الحكومة السويدية.
أما جائزة السلام فإن الاحتفال بها يقام بمجلس الأمة في (أوسلو) عاصمة النرويج، يفتتحه رئيس المجلس بخطاب رسمي، ويعقبه خطاب رئيس اللجنة المختارة من أعضاء المجلس، ثم جواب صاحب الجائزة في موضوع بعيد عن الخوض في المسائل الدولية، وسيأتي في الفصول التالية مزيد من الشروح والتعليقات على المبادئ والشروط التي تتحراها المؤسسة في تنفيذ دستورها أو تسوقها إليها لوازم العمل في ظروفها المختلفة.
أسباب المنح والمنع
يفهم من دستور الجوائز، ومن الموضوعات التي اشتهر بها مستحقوها في نظر اللجنة السويدية أن هذه اللجنة تتقيد بالاتجاه الذي يتحراه الأدباء، ولا تتقيد بالموضوعات التي يشملها عنوان الأدب على أوسع نطاق.
فلا بد من تحقيق الاتجاه إلى السلام والرخاء، أو السعي إلى المثل الأعلى والمقاصد المثالية، وهذا هو الشرط الذي لا محيد عنه ولا اختيار للجنة في قبوله أو اجتنابه.
صفحة غير معروفة
أما الموضوعات فلا قيد لها، ولا ترجيح لموضوع منها على سواه ما دام من موضوعات الفنون الأدبية، وما دام له نصيبه من جمال الفن وجودة الأداء.
وقد أجيز الشعر الغنائي كما أجيز شعر الوصف الطبيعي، وأجيزت القصة كما أجيز التاريخ، وأجيز النقد كما أجيز الإنشاء والابتكار، وأجيزت المباحث الاجتماعية كما أجيزت الفلسفة، وكاد اختيار اللجنة يطرد على مقياس واحد قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنه تباين واختلف بعد ذلك فلم يطرد على وتيرة واحدة في جميع الأحوال؛ لأسباب تظهر من مراجعة الترشيحات بين ظروف الحرب والسلام.
بدأت اللجنة جوائزها الأدبية منذ السنة الأولى في القرن العشرين، ونشبت الحرب العالمية الأولى بعد أربع عشرة سنة، ونشبت الحرب العالمية الثانية بعد خمس وعشرين سنة، فمضى عليها جيل كامل في هذه الأثناء، تكشفت فيه طريق الحرب والسلام، وتبين فيها منهج اللجنة في التوفيق بين رعاية الشروط الفنية الأدبية ورعاية شروط الاتجاه إلى الوجهة المقصودة بإقامة المؤسسة كلها، وهي وجهة السلام والرخاء. •••
كان العالم الأوروبي عند مطلع القرن العشرين يتجاوب بأسماء الأعلام النابهين من أصحاب الشهرة العالمية في طبقة تلستوي وهاردي وزولا وإبسن، ومن يلحق بهم في شأوهم من كبار الأدباء في لغات الحضارة، ولكن اللجنة السويدية تجاوزتهم - لأسباب سيأتي ذكرها - إلى الشاعر المفكر الفيلسوف (رينيه سولي برودوم) عضو الأكاديمية الفرنسية، وصاحب جائزة ڤيتيت
Vitet
للشعر في فرنسا، وهو يزيد قليلا على الأربعين من عمره، وقالت إنها منحته الجائزة «تقديرا لتفوقه في الأدب، ولا سيما الشعر الذي يتسم بالروح المثالية السامية، والإتقان الفني والتوفيق النادر بين الضمير والعبقرية».
وكان صاحب الجائزة في السنة التالية مؤرخا ألمانيا فخم الأسلوب راجح الفكرة نافذ البصيرة هو تيودور مومسن مؤلف الأسفار المستفيضة في تاريخ الرومان «لأنه أعظم أساتذة المؤرخين الأحياء في زماننا مع التنويه بعمله في تاريخ رومة»، وكانت لهذا المؤرخ الكبير مشاركة قيمة في نظم الشعر وترجمته من اللغات الأخرى إلى الألمانية.
واختصت اللجنة السويدية بجائزتها للسنة الثالثة شاعر الأمم الشمالية بجورنسون
Bjornson
النرويجي، الذي كان يومئذ يجاوز السبعين من عمره، وقالت إنها تمنحه جائزتها «تقديرا لعمله الشعري العظيم النبيل في جوانبه المتعددة، مع امتيازه بالوحي المبتكر وصفاء الروح»، وقد كان جواب الشاعر على خطاب استقباله حملة صارمة على الذين يستبيحون - باسم الفن للفن - مخالفة الشاعر لمبادئ الخير والصلاح.
صفحة غير معروفة
وعادت اللجنة إلى ميدان الشعر الفرنسي، فاختارت في السنة التالية - سنة 1904 - شاعرا من إقليم (برفنس) ينظم قصائده بلهجة الإقليم، ويتفرغ للنظم بعد تخرجه في دراسة القانون. هذا الشاعر هو فردري مسترال
Mistral
الذي منحته الأكاديمية الفرنسية جائزتها لسنة 1861، وهو يومئذ في الحادية والثلاثين من عمره، وقالت إنها تجيزه «لسلاسته الرائعة، وإجادته الفنية التي صور بها مناظر وطنه وحياة الريف فيه تصويرا صادقا، أضاف إليه عنايته بدراسة لغة الإقليم»، وقد أشركت معه شاعرا إسبانيا من شعراء المسرح وكتابه هو الأديب النائب السياسي جوزي إشيجاري
Echegaray «لبراعته وإحاطته واقتداره - في استقلال وإبداع - على إحياء تراث الدرامة الإسبانية».
ومنحت جائزة السنة التالية - سنة 1905 - لهنريك سينكفيش
Sienkiewicz
الروائي البولوني الأشهر، الذي أودع رواياته تاريخ وطنه وسيرة أبطاله، واستحق التقدير من جامعات الأمم السلاڨية، كما استحق من الجمهورية الفرنسية وسام «فرقة الشرف» تنويها بفضله وجهاده، وكان توجيه الجائزة إليه في تلك السنة التي ناهز فيها الستين «تقديرا لعظمته في تأليف الملاحم التاريخية».
وكان كردوتشي
Carducci
شاعر إيطاليا في القرن التاسع عشر صاحب الجائزة لسنة 1906، وقالت اللجنة: «إنها تمنحه الجائزة بصفة خاصة إجلالا لمثابرته وروعة أسلوبه، وملكته الغنائية التي بدت في آياته المنظومة، فضلا عن سعة معارفه ومباحثه النقدية.»
صفحة غير معروفة
وفي سنة 1907 تنبهت اللجنة إلى شاعر إنجليزي وصفته بأنه «عالمي الشهرة»، وهو رديارد كبلنج الذي قدرت فيه «قوة الملاحظة، والتخيل المطبوع، والوعي المتيقظ، والتصوير الصادق».
وكان رودلف يوكن
Eucken
الألماني أول فيلسوف استحق الجائزة الأدبية في تقدير اللجنة السويدية؛ لأنه عرف «بالجد في البحث عن الحقيقة، وبالنظر الثاقب، والبصيرة الواسعة، والتصوير الذي يجمع بين الحرارة والقوة، واستخدم ذلك كله في جلاء العالم على الصورة المثالية».
وأول من منح الجائزة من أمة السويد شاعرتها وناظمة ملاحمها سلمى لاجرلوف
Selma Lagerlof ، التي أصبحت بعد ذلك أول عضو في الأكاديمية السويدية، وهي الهيئة المشرفة على توزيع الجوائز واختيار مستحقيها، وقد قال رئيس الأكاديمية وهو يوجه الجائزة إليها: «إن الساعة قد حانت لبروز السويد إلى الطليعة بين الأمم الكبرى المتنافسة في حلبة الأدب.» وإنها جديرة بالتكريم لأنها لمست أشرف شمائل (أمنا) السويد كما لمست أكرم الشمائل الإنسانية.
ونال الجائزة لسنة 1910 بول فون هيس
Heyse
الأديب الروائي الألماني، الذي ألف نحو مائة قصة بين تاريخية واجتماعية، وعني مع كتابة القصص بترجمة أشعار الأمم اللاتينية من الإيطالية والإسبانية، ونظم في لغة قوية نخبة من لطائف الشعر الغنائي تسلكه في أكبر شعراء اللغات الجرمانية في هذا الشعر، وقد نال الجائزة وترقى إلى مراتب النبلاء في سنة واحدة، وأطنبت لجنة نوبل في الثناء عليه فقالت إنها تقدر «فنه الممتاز بالجودة والروح المثالية، الذي توفر عليه في جهاد طويل قيم، وهو يدأب على نظم الشعر الغنائي وكتابة الدراما والرواية والنوادر القصار ذوات الشهرة العالمية».
وكانت الجائزة لسنة 1911 من نصيب إحدى الأمم الأوروبية الصغيرة، وهي الأمة البلجيكية، فنالها موريس مترلنك الذي ارتقى إلى رتبة «كونت» لمناسبة بلوغه السبعين من عمره، وهو شاعر يكتب للمسرح «الفكري»، ويبحث في الأسرار الدينية، ويشتغل بدراسة النحل من الوجهة الاجتماعية، واستحق الجائزة من اللجنة «لخصب ملكاته الأدبية، وبخاصة مبتكراته المسرحية التي اتسمت بالتخيل الفني والروح المثالية الشاعرة التي تنم أحيانا في قالب الأسطورة المسرحية عن بصيرة عميقة تمس وجدان القارئ وأشواقه النفسية».
صفحة غير معروفة
وأجيز الكاتب الألماني جرهارت هوبتمان في سنة 1912 لجهوده في فن المسرحية العصرية على التخصيص، مع التنويه بصدقه في تصوير الطبيعة، وبراعته في الوصف، وفي رسم المناظر والشخوص.
وأجيز «تاجور» في السنة التالية، وهو الشاعر الشرقي الوحيد الذي اختصته اللجنة بجائزتها «لنظمه العميق الرفيع الذي وفق في صيغته الإنجليزية لإحلاله بالمقام الكريم بين الآداب الغربية».
ونشبت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، فتوقفت فيها اللجنة عن إعلان جائزتها، ثم استأنفت عملها بعد عام، فوجهت الجائزة إلى بطل من أبطال السلام بين حملة الأقلام، أصابه العنت الشديد بين قومه من جراء دفاعه عن السلم واستنكاره للحرب، وحملته على ذوي المطامع من عباد المال والسلطان، وذلك هو الكاتب الفرنسي المجيد «رومان رولان» أكبر النقاد الفنيين في الموسيقى بين أبناء جيله، ومؤلف الروايات التي ارتفعت بالرواية من طبقة التسلية وتزجية الفراغ إلى طبقة الإلهام والإرشاد، وقد جاءته جائزة نوبل بعد تكريمه بالجائزة العليا من الأكاديمية الفرنسية بسنتين، وقالت اللجنة السويدية إنها تقدر في أدبه «الروح المثالي المجيد، والتصوير الزاخر الأمين للشخصيات الإنسانية الذي يدل على بعد الغور وعمق العاطفة».
وبلغ الشاعر الناقد السويدي فيرنر فون هيدنستام
Heidenstam
سنته الخامسة والسبعين حين آثرته اللجنة في إبان سنوات الحرب - سنة 1916 - بجائزة الأدب الفعال في خدمة السلام، وقالت في تحيتها له إنها تقدر «عظمة شأنه في الدعوة إلى عهد جديد في فنوننا الجميلة»؛ لأن هذا الشاعر قد اشتهر بمذهب في علم الجمال يبشر بالقيم العليا في الآداب والفنون، وينحى أشد الأنحاء على إسفاف الأدباء والفنانين إلى التبذل الرخيص باسم «الواقعية الطبيعية».
وكأنما شاءت اللجنة في سنوات الحرب أن تبتعد عن جوانب الدول الكبرى المشتركة فيها؛ فكانت جوائز السنوات (1917 و1918 و1920) من نصيب أدباء الأمم الصغيرة التي التزمت الحيدة خلالها.
فأجازت الدنمركي كارل جلروب
Giellerup
سنة 1917، وقالت إنها تقدر في هذا الشاعر المفكر «وفرة محصوله في فن القصة مع التنوع والنزعة المثالية»، وأشركت معه في جائزة السنة أديبا دنمركيا آخر هو الروائي الحكيم هنريك بنتوبدان
صفحة غير معروفة
، الذي أسهب في بحث مشكلات الروح الإنسانية كما تمثلت له بين أبناء قومه، وقدرته اللجنة السويدية لما امتاز به من «الأوصاف القيمة للحياة الحاضرة في بلاده».
وأجازت في سنة 1919 الأديب السويسري كارل سيتلر
Spitteler ، صاحب الملاحم المطولة والمقالات الكثيرة في الوصف والنقد والملاحظات الاجتماعية.
وكان صاحب الجائزة في سنة 1920 نمطا فريدا بين مستحقيها من سنتها الأولى إلى هذه السنة في أعقاب الحرب العظمى، إذ وجهتها اللجنة إلى أديب من العصاميين في الأدب لم تتيسر له دراسة منتظمة بمعهد من معاهد التعليم، ولكنه قضى سنوات صباه يتكسب من صناعة الأحذية تارة، ومن العمل في السفن تارة أخرى، ويتنقل من بلد إلى بلد بين أوروبة وأمريكا، مشتغلا بكل ما تهيأ له من الأعمال في الترام أو القطارات أو المزارع أو مصائد الأسماك، ويطالع في أثناء ذلك ويجرب قلمه فيما يعنيه من شدائد العيش، حتى نشرت له قصة صغيرة في صحيفة دنمركية عنوانها «الجوع»، فتلقفها القراء في بلاد الشمال؛ لأنها صادفت «موضوع الساعة» بينهم وبين معظم الشعوب التي أوقعتها الحرب في جرائرها المتلاحقة من أزمات الفقر وثورات الطبقات المحرومة، وقد كان شعور الكاتب بمتاعب العيش منزها عن آفة النقمة والتهجم على قواعد الحياة الاجتماعية ومبادئ الأخلاق، فغلبت فيه عاطفته الإنسانية على رذائل الحسد والبغضاء، ولقيت صيحته حقها من الإصغاء والتلبية بين المنصفين في جميع الطبقات والآراء، ثم تتابعت قصصه وفصوله والتفت إلى المسرح كما التفت إلى الرواية المطولة والنادرة الصغيرة، وتابع الطواف بين بلاد المغرب والمشرق، مستفيدا من التجربة والرحلة مسجلا لثمرات هذه التجارب والرحلات في آثاره الأدبية على اختلاف موضوعاتها، ملزما في أسلوبه أصول الكتابة على منهج المحافظين من بلغاء السلف من رواد الثقافة والأدب؛ خلافا لنظرائه من العصاميين في ميادين الأدب واللغة.
ذلك هو الكاتب النرويجي العالمي كنوت هامسون
Hamsun
أو كنوت بدرسين كما كتب في شهادة الميلاد، وأشهر ما اشتهر به فيما عدا ذلك المحصول الضافي من الزوايات والملاحم والأقاصيص: نداؤه البليغ بعنوان «اللغة في خطر» تحذيرا لأبناء الشمال من فوضى الكتابة باسم التقدم والتجديد. •••
وقد اتسع مجال الاختيار بعد انعقاد الصلح وتبادل العلاقات السلمية بين الأمم المتقاتلة، فعادت اللجنة إلى الترشيح من جميع الأمم، وبدأت مرة أخرى بفرنسا فاختارت أناتول فرانس «لبراعته التي تتسم بالأسلوب الرفيع والإنسانية الكريمة وجمال الأداة، مطبوعا بطابع العبقرية الفرنسية الصحيحة».
واختارت (سنة 1922) الشاعر الروائي الإسباني جاسنتو بينافينتي
Jacinto Benavente
صفحة غير معروفة
لاتفاق الناطقين باللغة الإسبانية في وطنها وفي أمريكا الجنوبية على اعتباره عنوانا لبلاغة هذه اللغة في فن الدراما.
واختارت (سنة 1923) الشاعر الأيرلندي وليام بتلر ياتس
Yeats
لشعره الملهم الذي يعبر بصورته الفنية عن روح أمته.
واختارت (سنة 1934) شاعرا بولونيا لمثل هذا السبب، وهو لاوسلو ريمونت
Reymont ، ولوحظ في اختيار الشاعرين الأخيرين - على ما يظهر - أنه كان بمثابة التحية الأدبية لأمتيهما في نهضة المطالبة بالحرية.
واختارت (سنة 1925) أشهر أدباء اللغة الإنجليزية يومئذ الكاتب الأيرلندي برنارد شو لجهوده الأدبية القائمة على أساس من الطموح المثالي والعاطفة الإنسانية، يقترن بالنقد الشامل الذي يمتزج أحيانا بنفحة شعرية خاصة بصاحبها. وقد تبرع الكاتب بقيمة الجائزة لتشجيع العلاقات الثقافية بين السويد والبلاد الإنجليزية.
واختارت (سنة 1926) الكاتبة الإيطالية جراتسيا بليدا
Beledda ؛ لأنها وصفت بأسلوبها الرفيع حياة أبناء وطنها في جزيرة سردينية، وتناولت شئون الإنسان جميعا بحرارة وحمية.
واختارت (سنة 1927) هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي «لأفكاره الواسعة المثمرة التي صاغها في قالبها الفني البارع».
صفحة غير معروفة
واختارت (سنة 1928) الكاتبة النرويجية سيجريد أوندست
Undset
بصفة خاصة لاقتدارها على تصوير حياة الأمم السكندنافية خلال القرون الوسطى.
واختارت (سنة 1929) الكاتب الروائي توماس مان تقديرا على الخصوص، لقصته المطولة (آل بودنيروك) التي نالت من الإعجاب على توالي الأيام ما جعلها ملحمة كالملاحم السلفية في تصوير العصر الحاضر.
واختارت (سنة 1930) الكاتب الأمريكي سنكلر لويس، لفنه العظيم الحي الذي استخدمه في وصف الحياة وصفا يدل على ملكة مقتدرة على خلق النماذج البشرية تشملها الفكاهة الذكية.
واختارت (سنة 1931) إريك آكسل كارفيلد
Karlfeldt
السويدي عضو الأكاديمية السويدية، وعضو اللجنة الموكلة بالحكم في الترشيحات الأدبية، ولكن اختيارها له كان بعد وفاته؛ لأنه رفض الجائزة حين وجهت إليه قبل ذلك معتذرا بجهل قراء الأدب بمؤلفاته خارج البلاد السويدية، ثم قبلها لانتهاء مدته في وظيفته ، وابتدأت إجراءات الترشيح على هذه النية، ولكنه توفي قبل إعلان النتيجة في موعدها.
واختارت (سنة 1932) الكاتب الإنجليزي جون جالزورثي
Galzworthy ، وهو أول من نال الجائزة من صميم الإنجليز لوصفه الممتاز الذي بلغ الذروة في روايته المطولة عن الحياة العصرية.
صفحة غير معروفة