شاعر أندلسي وجائزة عالمية

عباس محمود العقاد ت. 1383 هجري
83

شاعر أندلسي وجائزة عالمية

تصانيف

كلا. يا رويدا حيث أنت الآن ترى في ثرى وطنك ولديك روح الشعب الذي لم يتمثل فيك ... كلا. لا بالنعال لتبدو في زي الشعب، ولا بالحذاء الأنيق لتبدو في زي النخبة من السادة المجمعيين. فلا حاجة بك إلى الرياء لمجاراة الشعب، ولا إلى الرياء لمجاراة النبلاء، ولا حاجة بك إلى الرياء لمجاراة نفسك؛ فإن النعال البسيطة المريحة النظيفة التي تعيش أطول زمن هي التي نحتاج إليها جميعا من ديمقراطيين وأرستقراطيين.

إن الرجل الشاعر بكيانه ووعيه يبدي نبله بغير إخفاء نفسه بين الشعب، وبغير شعور منه بفقدان الاحترام الواجب لذلك الشعب الذي عليه أن يعاونه في هذه الشئون وفي سواها، وعلى الإنسان أن يبدو حيث كان كما كان، وكما صنعته ثقافته وتربيته، غير نازل عن حقيقته من أجل شارة لم يبدعها بمشيئته، وإن اجتناب حب الظهور لعلامة حسنة في الإنسان، ومثلها في الحسن أن يلتزم الإنسان ما يناسبه ولو تعرض لاعتزال غيره.

إن دون ميجويل دي أنامونو، وهو رجل عظيم ونصير عظيم للفردية، كان بنشأته القسطلية مزيجا من الشعبية والأرستقراطية على نمط مرعب لا يتقبل التبديل، وكان منذ رأيته لأول مرة يلبس جاكتة تزرر إلى العنق، ولا يلبس معها قلادة، ولا يضع على رأسه غير قبعة صغيرة مفرطة في الصغر، كأنها مشط نحيل مغروس في حمالة ضخمة، وكنا نراه ونتمثله على هذه الصورة دون أن نلقي بالنا كثيرا إلى غرابة فيها. وحدث ذات يوم قبيل وفاته وبعد أن تقرر مكانه وتقررت تصانيفه، أن دعي أثناء قيام الجمهورية الإسبانية الثالثة إلى القصر لمقابلة رئيس الجمهورية، فخلع تلك الجاكتة وتلك القبعة، ولبس الطوق والقلادة وما كان قط يلبسهما في عهد الملك - الذي سماه مرة في دار الحكمة: ملكي - لدهشتي ودهشة سامعيه يومذاك.

وقد لاح لي أنامونو مبتذلا ممسوح الملامح يوم رأيته في صورته الشمسية، يحف به الصحفيون وهو خارج من قصر الرياسة، متنكرا على ذلك المثال من صورته المعهودة، غريبا في مرآه عن كل ما ألفناه، وما اقترن بصورته من جهاده وتجاريبه.

كلا، يا دون ميجويل أنامونو الذي أضر به كثير من الناس وأضر بنفسه!

ما كان بك من حاجة أن تخدع أولئك العلية بخداعك لسواد شعبك، وإن كسوة بسيطة كالتي يلبسها كل أحد، أو كالتي تبررها منزلتك الشخصية في غير أناقة ولا كلفة لتصلح لك في كل قصر وفي كل مقصورة، ما دام هناك قصور ومقاصير. وما كان بك من حاجة إلى لبس القلادة أو خلعها أنت الذي علمتنا كثيرا، والذي كنت طوال أيامك محاسبا لنفسك، ما أغرقت في ضحك قط، ولا أغرقت في نحيب قط، وما زدت على أن تبتسم أو تتأوه في سمت الأرستقراطية الصحيحة. كيف نسيت كل هذا؟

نعال، جكتات، قلائد، أطواق ... تلك على ما يظهر أشياء ضرورية جوهرية لوجودنا.

ونذكر الآن اللحية الإسبانية؛ فإن اللحية في إسبانيا محك آخر وعلامة أخرى، وما أكثر ما عرف الإسبان من اللحى التقليدية. ما أكثر اللحى فيمن نعرفهم من طبقات الشعب والعلية! ولم لا؟ لم يجوز للغني أن يحمل لحية ولا يجوز للفقير أن يحملها؟! لم يجوز ذلك للطبيب ولا يجوز للنجار؟ لم يجوز لراسم السحب ولا يجوز لراسم الأبواب؟ إن كاتبا إسبانيا في الخمسين الآن نشأ في بيئة برجوازية، وعاش أياما كثيرة من حياته بين طبقات الشعب، يحمل لحيته كما يرى من الصورة التي رسمها له يواقين سوين في مدريد. ولما نشبت الحرب غير المدنية وغير القومية خلافا لمن يسمونها بالمدنية والقومية مع ما قذفتنا به من البرابرة من كل نوع ومن كل صوب ليمزقوا إسبانيا ويمعنوا في طعنها. لما نشبت تلك الحرب الوحشية كان بعض الموظفين يحملون اللحى شعارا أرستقراطي؛ أعني شعارا كاذبا لأن الطرف الآخر كان فيه كثير من القادة والرهبان يحملون اللحى. وجعل الفوضيون الذين يرون في الصور بلحاهم، أو مهملين الحلاقة، ينظرون شزرا إلى جماعة الملتحين بأعين تطل من وجوه بقيت فيها من اللحى بقية كبقية أعواد السنابل المحصودة في حقولها، وإني الآن لتال عليكم نبذة مسلية من رواية - حربية - بقلم أرنستينا دي شمبرشين حيث تقول:

في عرف بعض الأذكياء الألباء أن كل من عبر عن نفسه بأسلوب مصقول وعلى نحو مهذب، فلا بد أن يكون من جماعة الفاشيين، وأستطيع أن أذكر لذلك مثل الشاعر الذي انضوى من اللحظة الأولى بباعث نفساني كريم إلى صفوف الدهماء، واهبا قواه الروحية والمادية بلا قيد ولا شرط في سبيل تلك القضية، ولم يكن في الواقع إلا ضحية لاختلاط ذهني محزن، وقد سألته أفريقية صديقته المعجبة به أن يزور ملجأ الأطفال ليسليهم بأحاديثه؛ إذ كان مشهورا بالإفاضة والتجلي حين يشعر حوله بالأطفال الصغار، إلا أن العاملين في الملجأ لم يقدروا جميعا قيمة هذا التبرع الصغير، وحدث أن الحرس الجديد الذي حل في نوبته محل الحرس السابق وصل إلى الملجأ في تلك الساعة وليس فيه من يعرف الشاعر، فاستقر في روعهم أن إنسانا بهذا المظهر المقبول وهذه اللحية السوداء الممشوطة لا يمكن أن يكون إلا واحدا من زمرة الفاشيين. فقال أحد الحراس: إذا لم يذهب هذا الرجل توا فإني حالق لحيته لا محالة. وقلقت إفريقية نفسها من هذه السخافة، فبسط الشاعر جناحيه وطار يبغي له مطارا أصلح من هذا المطار.

وكذلك نرى الشاعر - على حسب هذه الرواية - لا يعنى بإخفاء نفسه بين قومه، بعد أن قضى حياته الأولى متشبها بالأرستقراطيين، فلم يخطر له - وقد رآهم في حرب - أن يزيل لحيته؛ لأنه عد إزالتها عملا من أعمال الجبن والنذالة، سواء أكان بين فوضيين أم غير فوضيين. والعجيب كما جاء في الرواية أن (لنين) كان يحمل لحية، وكذلك كان ماركس، وإن كان أصحابه لم يروهما بأعينهم. وقد نشأت بعد الحرب أزياء مختلطة وتقاليد متشابهة، فحمل الفريقان اللحى غير مستثنى منهم حتى (كامبزنيو) نفسه. وقد قال كاتب آخر إنه لا يبالي أن يحلق لحيته اتقاء للخطر، فإذا هو يعود إلى إرسال اللحية بعد شيوع اللحى مرة أخرى في كل مكان، لعله يخدع الثائرين وغير الثائرين.

صفحة غير معروفة