Olavi - نعلم أن ميراث العبقرية فيه قد تخلف لأبنائه وحفدته إلى أعقابه المشهورين في التاريخ الأخير، وأشهرهم عمانويل وابنه ألفريد؛ فإن أولافي كان على نجاحه في دروس الجامعة موسيقيا مطبوعا على حب الفن، ونشأ سليله عمانويل فنانا مخترعا على قلة حظه في تعليم المدرسة فضلا عن الجامعة، وقد اضطرته أحوال الأسرة إلى العمل بإحدى السفن التي كانت مقلعة إلى البحر المتوسط وهو يقارب الرابعة عشرة، ثم تتلمذ في صناعة البناء على بعض البنائين، واستطاع أن يحضر دروس العمارة فترة قصيرة في العاصمة، ثم أصابه نحس الطالع فاحترق بيته الذي اقتناه، وصفرت يده من المال والصفقة، فاضطر إلى مغادرة ستوكلهم سنة 1837 بعد أربع سنوات قضاها بين البطالة والمحاولة المخفقة، ولجأ إلى العاصمة الروسية أملا في تأسيس عمل جديد تتسع له تلك البلاد التي لا تزال في أوائل حركتها الصناعية بحاجة إلى الخبراء من المهندسين والصناع، فأسس عمله وأفلح فيه وكثرت عليه طلبات الدولة بعد نشوب حرب القرم، فأسرع إلى توسيع مصنعه حتى تعذر عليه أن يستبقيه على اتساعه بعد انتهاء الحرب، ثم تكاثرت عليه الديون التي اقتضاها بقاء المصنع بنفقاته الأولى، فأعلن إفلاسه وعاد إلى وطنه لتجربة العمل فيه بمعونة بنيه.
وتعتبر هذه الهجرة الأولى بلاء مشتركا للأسرة، بما في البلاء من معنى المصاب ومعنى الاختبار والامتحان، بلاء عرفت منه الأسرة - كبارها وصغارها، ومقيمها وراحلها - خير ما عندها من استعداد للعمل المبتكر، والصبر على الشدة، والقدرة على مغالبة اليأس، وتجديد الأمل بين النجاح والإخفاق، وبين إقبال الحظ وإدباره، فالأب يرحل منفردا ليتصدى وحده لأعباء الغربة وعوارض التوفيق والخيبة، وربة الأسرة تبقى في أرض الوطن مع أطفالها الصغار - وهم ثلاثة أبناء - مضطلعة وحدها بتربية هؤلاء الأطفال وتدبير معيشتهم في غيبة أبيهم، وفي انتظار الفرج من تلك المغامرة في البلد المجهول، وقد تمخضت السنون الخمس التي انقضت بين هجرة أبيهم (سنة 1837) ولحاقه بهم (سنة 1842)، عن معدن الجد والهمة في هؤلاء الصغار الذين قضوا طفولتهم الأولى في حضانة أم تقوم لهم مقام الأب والأم، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، على أمل تارة، وعلى خوف من الحرمان تارات، فنشأوا - ثلاثتهم - أعلاما نابهين بين الأقطاب العالميين من رجال الصناعة والمال: روبرت الكبير مؤسس صناعة النفط في باكوم، ولدفيج الأوسط مؤسس مصانع الذخيرة والسلاح في بطرسبرج، وألفريد صاحب الجوائز الذي كان عمره أربع سنوات يوم رحل أبوه من السويد. أما ربة هذه الأسرة فهي تلك الأم - أو تلك الإنسانة الوحيدة - التي بقي لها ألفريد طوال حياته على عهد البر والعطف إلى أن فارقت الحياة وهو يقارب الستين. وقد جاء في سيرته أنه كان يترك أعماله وشواغله حيث كان ليخف إلى مقرها في عيد ميلادها، ويتلقى منها بركة الأم الراضية لولدها المرضي عنه، ويسألها عن هدايا رأس السنة التي تحب أن ترسلها باسمها إلى ربات البيوت من صديقات صباها في أيام الضنك والكفاف.
ووصل ألفريد إلى بطرسبرج وهو دون العاشرة لم يختلف قبلها إلى مدرسة من مدارس التعليم المنتظم غير بضعة شهور، فعوض هذا النقص بالدروس التي كان يتلقاها على أستاذه الخاص في داره، ثم قد انقطعت هذه الدروس أيضا وهو في السادسة عشرة، فتعلم باجتهاده وفطنته كل ما وعاه من تلك المعارف التي أعانته على الاختراع والإدارة وتحصيل ما حصل من ثقافة جعلته ندا مشهودا له بالفضل بين أصحابه وعشرائه من نخبة العظماء والرؤساء، ومنها ثقافة الرحلة إلى فرنسا وأمريكا وألمانيا للمشاهدة والاطلاع، وغشيان معاهد الصناعة والعلم، وإن لم تكن مما يزاوله في عمله المباشر أو يتصل بمصالحه ومصالح أبيه، وكأنما شاء القدر من ضروب التربية لهذه الأسرة أن يصاب آباؤها وأبناؤها كل منهم بحصته من ضربات الحوادث وخسائر الأنفس والأموال، فدمر الانفجار مصنع ألفريد باستكهولم (سنة 1864)، وقضي على أخيه الصغير إميل مع من قضي عليهم من الصناع والخبراء، وحطم البقية الباقية من عزم أبيه وأوشك أن يقضي على صوابه فلم يفق من جرائر هذه الفاجعة حتى قضى نحبه (سنة 1872)، ونهض ألفريد بالعبء كله في تجديد المصنع والإشراف على معاملاته ومعاملات أسرته بين الأقطار التي زارها، وتعرف إلى أقطاب الأعمال فيها أثناء رحلاته أيام الطلب والاستطلاع. ويتكشف معدن الرجل من قدرته على توسيع أعماله والنهوض من كبواته مع سوء ظنه بالناس عامة وبأقرب المقربين إليه بعد تجربتهم في أيام سعوده ونحوسه، ومفاجآت رواجه وكساده، وفي إحدى رسائله يقول لمن ذكر له أصدقاءه المرجوين:
صدقني حين أقول لك إننا لا نجد الأصدقاء في غير الكلاب التي نطعمها، أو الديدان التي تطعم نفسها من أجسادنا.
وأدل من ذلك على معدن هذه النفس القوية أنها احتفظت بقوتها بين متاعب القلب والجسد: متاعب القلب حرفا ومعنى؛ لأنه كان مصابا بالذبحة الصدرية، ومتاعب الجسد من فرط الجهد ومن سوء الغذاء، أو من قلة هذا الغذاء الصالح الذي كانت تسمح به معدته الواهية، بين أكداس الأموال التي تفي بشهوات ألوف المعدات من طعام وشراب. وإنما كان عزاؤه عن حرمانه أن يؤمن بالعلم ويؤمن بأنه كفيل غدا «بالمعيشة الحسنة؛ أعني معيشة الجماعات، ولا أعني ترف الآحاد من الموسرين.»
وحقق مبادئه - عملا - قبل أن يختتم حياته في أواخر القرن التاسع عشر (سنة 1896)، فلم يحفل بنصيب الآحاد من ميراثه كما حفل بنصيب الجماعات، ومنه نصيب خدامها في ميادين الصناعة والصحة والأخلاق.
الوصية
يقول ألفريد نوبل في وصيته بعد أسطر الافتتاح المألوفة في وثائق التوصية:
يكون التصرف في تركتي المحصلة على الوجه التالي:
يودع رأس المال بإشراف منفذي الوصية في ودائع مضمونة، ويكون منه مبلغ تنفق أرباحه سنويا على صورة جوائز توزع على الذين قاموا في السنة السابقة بأنفع الخدمات للإنسانية، وتقسم هذه الأرباح على خمس حصص متساوية توزع كما يلي: حصة للشخص الذي قام بأهم كشف أو اختراع في مباحث العلم الطبيعي - الفزيقية - وحصة للشخص الذي قام بأهم كشف أو تحسين في مباحث الكيمياء، وحصة للشخص الذي قام بأهم كشف في علم التشريح أو الطب، وحصة للشخص الذي أنتج في الآداب نتاجا هاما ذا وجهة مثالية، وحصة للشخص الذي قام بأكبر أو أفضل عمل لتحقيق الإخاء بين الأمم، ولإلغاء أو نقص عدد الجيوش القائمة، ولدعوة المؤتمرات العاملة للسلم أو نجاحها.
صفحة غير معروفة