السيد بونتيلا وتابعه ماتي
تمهيد
1 - بونتيلا يعثر على إنسان
2 - إيفا
3 - بونتيلا يعقد خطبته على المستيقظات في البكور
4 - موقف الأنفار
5 - فضيحة في بونتيلا
6 - حديث عن الكابوريا
7 - رابطة عرائس السيد بونتيلا
8 - حكايات فنلندية
9 - بونتيلا يخطب ابنته لإنسان
10 - ليلية
11 - السيد بونتيلا وتابعه ماتي يتسلقان جبل هاتيلما
12 - ماتي يدير ظهره لبونتيلا
13 - أغنية بونتيلا
السيد بونتيلا وتابعه ماتي
تمهيد
1 - بونتيلا يعثر على إنسان
2 - إيفا
3 - بونتيلا يعقد خطبته على المستيقظات في البكور
4 - موقف الأنفار
5 - فضيحة في بونتيلا
6 - حديث عن الكابوريا
7 - رابطة عرائس السيد بونتيلا
8 - حكايات فنلندية
9 - بونتيلا يخطب ابنته لإنسان
10 - ليلية
11 - السيد بونتيلا وتابعه ماتي يتسلقان جبل هاتيلما
12 - ماتي يدير ظهره لبونتيلا
13 - أغنية بونتيلا
السيد بونتيلا وتابعه ماتي
السيد بونتيلا وتابعه ماتي
تأليف
برتولد برشت
تقديم وترجمة
عبد الغفار مكاوي
تقديم1
بقلم عبد الغفار مكاوي
إذا كنا نقصد بالأدب الشعبي عادة ذلك التراث العريق الذي يعبر به شعب من الشعوب عن نفسه في صدق وبساطة وتواضع على لسان جنود مجهولين استطاعوا أن ينطقوا مباشرة بما تحس به قلوبهم، بعيدا عن قواعد الأدب الرسمي وقيوده وأشكاله، فلا شك أننا ننتظر أيضا من المسرحية الشعبية أن تتوفر فيها هذه البساطة والصدق وأن تتجرد من الادعاء والطموح. ومن الطبيعي أن نجد فيها الفكاهة الخشنة ممتزجة بالتهويل الفاجع، والموعظة الأخلاقية بالتأثير الرخيص. هنا يلقى الأشرار الجزاء الرادع، والأخيار ينعمون في التبات والنبات، الشطار المحظوظون يرثون الأرض ويتزوجون بنت السلطان، والكسالى المنحوسون لا يبخل عليهم أحد بابتسامة الرثاء. يكفي أن يصول البطل على خشبة المسرح ويجول، ويغترف من كنز الحكمة الشعبية، ويرجع حظه للبخت والنصيب؛ فالمهم أن «التكنيك» لا يكاد يختلف من بلد إلى بلد، وطريقة التمثيل والإلقاء لا تكاد تعترف بالفروق بين اللغات والأجناس.
ويظهر أن المدن الكبرى أرادت أن تسير مع الزمن، فجعلت من المسرحية الشعبية استعراضا غنائيا، تطورت به فيما بين الحربين العالميتين إلى ما يسمى بالكباريه الأدبي. واستطاع أمثال فانجنهيم في ألمانيا، وأودن في إنجلترا، وبلتسشتين في أمريكا، وآبل في الدنمارك أن يخلقوا مسرحيات لها شكل الاستعراض الغنائي ، قد يكون فيها الكثير من الفن والشاعرية، ولكنها تخلو من بساطة المسرحية الشعبية القديمة، وتفتقر إلى براءة الحدوتة وسذاجة الحكاية، وتكاد العلاقة بينها وبين المسرحية القديمة أن تكون شبيهة بالعلاقة بين الأغنية المذاعة والأغنية الشعبية؛ فالمسرحيات الاستعراضية لم تفلح إذن في أن تصبح مسرحيات شعبية بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، وانتشارها إلى اليوم تعبير عن حاجة ضرورية لم تستطع تحقيقها، حاجة إلى مسرح شعبي فيه البساطة لا البدائية، والشاعرية لا الرومانتيكية؛ والواقعية لا المذهبية السياسية.
ولعل هذا هو ما دار في خلد «برشت» حين فكر في كتابة هذه المسرحية التي سماها بالمسرحية الشعبية، مستفيدا من تجارب الاستعراضات الغنائية والكباريه الترفيهي والأدبي على السواء؛ فالكباريه يقدم نمرا أو اسكتشات في مناظر متصلة، لا تعتمد على خيط الحكاية الواحدة التي تتخلل المسرحية المألوفة من أولها إلى آخرها. وإذا أحسن استغلال هذا الشكل أمكن عرض مشاهد من الملاحم الشعبية القديمة من خلاله، وإن كان عليها في نفس الوقت أن تحاول تقديم هذه المشاهد الملحمية في صورة واقعية تعكس حياة الناس أو تنعكس عليها، وهي مهمة لا شك عسيرة. وكاتب المسرحية الشعبية يستطيع في هذا المجال أن يستعين بالغناء والرمز والجوقة والحكاية والمثل وسائر ما يمكن أن يقدمه له الرصيد الشعبي الخصب، وأن ينسج هذا كله في إطار شاعري غنائي، ولكن المهم أن يحافظ على قدر كاف من الموضوعية، وأن يصور المواقف - لا الأشخاص الذين ينفعلون بها - في صورة شاعرية، ويعبر عن البساطة دون أن يسقط في البدائية، ويضرب المثل دون أن يلجأ إلى الموعظة، وينطق عن ذات الشعب الحقيقية مع الاحتفاظ بقدر كاف من الموضوعية. وهذه الصعوبات في أسلوب البناء الفني للمسرحية الشعبية ترتبط بصعوبات أخرى لا تقل عنها في طريقة العرض والتمثيل؛ فالصعوبة الكبرى هنا هي إيجاد الأسلوب الذي يجمع بين الفن والطبيعة في آن واحد. هنا يجد الممثل نفسه أمام أمرين: فإما أن يعمد إلى ما يمكن أن نسميه بالطريقة المثالية المبالغة في الإلقاء والأداء، وهي الطريقة التي لا تزال تتبع في الأعمال الكلاسيكية والشعرية الكبرى، أو يلجأ إلى الطريقة الطبيعية الخالصة المتبعة في الأعمال الواقعية والاجتماعية الحديثة.
وعيب الطريقة الأولى أنها كثيرا ما كانت تهوي إلى التصنع والافتعال والشكلية والحساسية المريضة، مما جعل النزعة الطبيعية في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تحل محلها زمنا طويلا. غير أن هذه النزعة الأخيرة سرعان ما سقطت هي الأخرى في السطحية والتقليد الأعمى للواقع والبعد عن الخيال والذوق حتى كادت تخلو هي نفسها من كل أسلوب. كان لا بد إذن من البحث عن طريق جديد، اشتدت الحاجة إليه بعد كوارث حربين عالميتين، وتغيير عميق في جذور الحياة الاجتماعية، وإحساس من جانب كاتب المسرح بضرورة القرب من وجدان الشعب، والتعبير عن ثورات الضمير في القرن العشرين، وجعل المسرح مكانا للتغيير لا للترفيه. طريق جديد. نعم، ولكن في أي اتجاه؟ ذلك هو السؤال الذي يواجهه المصلحون والمجددون على الدوام؛ فلو جمعنا بين الأسلوب الكلاسيكي - الرومانتيكي في طريقة التمثيل والتأليف - وبين الطريقة الطبيعية الواقعية على مذهب الحل الوسط؛ لكانت النتيجة خليطا يجمع بين الرومانتيكية والواقعية ويفسد كلا منهما على السواء. أما إذا حاولنا أن نجمع بينهما في وحدة تؤلف بين الفن والطبيعة دون أن تطمس التعارض بينهما، فسوف تكون وحدة خصبة واعية، تحقق للعمل الفني عالمه الخاص به وترضي طموحه إلى الشمول والبقاء، دون أن تخل مع ذلك بضرورات الواقع أو تتعالى عليه أو تقنع بأن تكون نسخة منه. هنالك يتحقق ذلك الحلم العسير: الفن «الطبيعي» والطبيعة «الفنية» في عمل يستطيع أن يهذب الطبيعة والواقع بالشكل الفني، ويغذي الفن بحيوية الواقع وطبيعته.
ويبدو أن مستوى المسرح يتوقف على مدى قدرته على التغلب على التعارض القائم بين ما سميناه بالطريقة المثالية (التي تهتم بنبل الحركة وسمو الأداء)، وبين الطريقة الواقعية (التي تنزع إلى نسخ الواقع ومحاكاة الطبيعة). قد يقول قائل: إن في طريقة التمثيل الواقعي أو الطبيعي شيئا غير نبيل ولا مثالي، كما أن في الطريقة المثالية النبيلة شيئا غير واقعي؛ فالفلاحون والصيادون ليسوا «نبلاء»، وإذا أردنا أن نعبر عنهم تعبيرا واقعيا صادقا لم نظفر من وراء ذلك بشيء نبيل، بل إن التعبير الواقعي عن الملوك والنبلاء أنفسهم قد لا يجعل منهم ملوكا ولا نبلاء، ولكننا نستطيع أن نزيل هذا الوهم إذا تذكرنا أن الممثل الذي يعبر عن القبح والشر والضعة عند الفلاحين أو النبلاء وعند الصيادين أو الملوك، لا يحتاج بالضرورة إلى أن يمثل بطريقة وضيعة أو رخيصة، ولا يمكن أن يستغني عن قدر لازم من الرقة والإحساس بالجمال، كما أن المسرح الذي يريد أن يحافظ على مستواه اللائق لا يحتاج بالضرورة إلى التضحية بالجمال الفني ثمنا للواقعية.
ومهما يبلغ الواقع من القبح والمرض والهوان، فلن يكون ذلك سببا في طرده من على خشبة المسرح، بل إن قبحه ومرضه ربما كانا سببا كافيا لتصويره على المسرح تصويرا حيا. هنالك تجد الملهاة مادتها الغزيرة في البخل والجشع والادعاء والغباء، كما تستمد المأساة الجادة مادتها من صراعات المجتمع ومظالم الحياة؛ فالفن عنده القدرة دائما على تصوير القبيح في صورة جميلة، والوضيع على نحو نبيل. والفنان هو الذي يستطيع أن يعبر عن الغلظة تعبيرا رقيقا، ويصور الضعف تصويرا قويا. والملهاة التي تهتم أكثر ما تهتم بجوانب القبح والشر، والضعة في الواقع لا تستطيع أن تتجرد من نبل التصوير والتعبير. والفن عموما - والمسرح على وجه الخصوص - لديه من الأسباب والوسائل ما يكفل له القدرة على تجميل القبيح، والارتفاع بالوضيع؛ لديه الخيال والسخرية والحكمة، ولديه الإضاءة واللون والإشارة والقدرة على تحريك الأشخاص والمجموعات. هذه كلها أشياء لا بد من إقرارها إذا شئنا أن نطبق الأسلوب الفني بكل ما فيه من سمو ونقاء على ما نسميه بالمسرحية الشعبية؛ فلسنا هنا بصدد مسرحيات كلاسيكية تعالج موضوعات مثالية خالدة عن موقف الإنسان من الكون والغيب والمصير، ولا نحن بصدد نوع من المسرحيات «الطبيعية» التي تتناول «مشكلات» اجتماعية وتكافح في سبيل الوصول إلى حلول لها من وجهة نظر فكرية معينة، وإنما نحن أمام نوع من المسرحيات كتبت بلغة الشعب، ونبعت من وجدانه الجمعي، واستمدت من حكمته وأمثاله وحكاياته؛ من مغامراته البريئة وعثراته المتواضعة، من سخرياته الطيبة وشطحاته الساذجة، إنها قد تتناول المشكلات، دون أن تصبح مسرحية «المشكلة»، وتكشف عن النفسيات بغير أن تكون رواية «نفسية»، وتعرض لنا أناسا بدائيين، دون أن تكون هي نفسها «بدائية». وسيجعلها كل ذلك تقف في سوق الأدب موقفا عسيرا؛ فليس هناك من يعترف بأنها «نوع أدبي»، ومعظم المؤرخين والناقدين ينظرون إليها من عل أو يصمتون عنها كل الصمت. ومع ذلك فإن هذا لم يمنعها من إثبات وجودها في الزمن الحديث، ولم يحل بينها وبين التطور بنفسها والبحث لها عن أسلوب ووظيفة ورسالة بين سائر الفنون؛ فهي على قدر استفادتها من الأساليب المختلفة في التمثيل والتعبير، سواء كانت مسرحيات كلاسيكية أو رومانتيكية أو من نوع الكوميديا «دل أرتي» أو من النوع الاجتماعي الواقعي أو حتى من طريقة الأداء الصامت بالرمز والإشارة. وعلى قدر محافظتها على طبيعتها الأصلية وحرصها على أن تظل بسيطة وقومية وشعبية كما يدل عليه اسمها، يكون مدى نجاحها أو فشلها في تحقيق الغرض منها؛ ذلك أن البحث عن المسرحية الشعبية يرتبط حتما بالبحث عن أسلوب واقعي جديد في التأليف والتمثيل يجعلها بسيطة لا ساذجة، وشاعرية لا عاطفية، وواقعية لا نسخة مشوهة من الواقع، وفنية بغير تكلف، وشعبية بغير حاجة إلى الابتذال. •••
و«السيد بونتيلا وتابعه ماتي» مسرحية كتبها برشت بين عامي 1940، 1941م عندما كان يقيم في منفاه في فنلندا، فرارا من وجه الطغيان النازي، مستلهما فكرتها عن قصة وتخطيط مسرحي للكاتبة الفنلندية هيلا فوليوكى. والمسرحية تختلف عن بقية أعمال برشت، سواء في ذلك مسرحياته المبكرة أو مسرحياته التعليمية أو مسرحياته الكبرى المتأخرة، في أنها ليست من نوع المسرحية ذات الفكرة أو ذات الموضوع. وليس يعني هذا بالطبع أنها خالية من الفكرة والموضوع، بل معناه أنها ليست من اللون «الأيديولوجي» الذي يدافع دفاعا مباشرا عن قضية فلسفية أو اجتماعية بعينها ويدعو إليها ويجند كل طاقاته الفنية في سبيلها، وإن مست مثل هذه القضية فهي لا تفعل ذلك إلا ضمنا وعن طريق الإشارة والتلميح؛ فهي مسرحية شعبية تستمد شكلها الملحمي، كما يقول برشت، من مغامرات الملاحم الشعبية القديمة و«ملاعيبها». إنها تخلو من الحكاية ذات الحبكة المتصلة التي تربط أول المسرحية بآخرها، لتعرض علينا في لوحات متجاورة ومشاهد منفصلة ما يجري للإقطاعي «بونتيلا» من أحداث، وما يصيبه في سكره أو صحوه من أحوال. إن مثلها في ذلك مثل مسرحية برشت الأولى «بعل»؛ فكلتاهما تتألف من مجموعة من المشاهد واللوحات تسودها الروح الغنائية الشاعرية، وتهتم بتجسيم المشاعر والأفكار أكثر من اهتمامها بتتبع الخيط القصصي أو رسم الشخصيات. وإذا كان الكلام عن المسرح لا يخلو عادة من الكلام عن الوحدات المسرحية المشهورة، فلسنا هنا أمام وحدة من أي نوع، اللهم إلا وحدة شخصية البطل نفسه. ومع أن هذا البطل «حيوان منقرض» كما تسميه أبيات التمهيد الشعري، فالمضمون السياسي الذي ينطوي عليه ضئيل؛ ذلك لأن الجانب المضحك من شخصيته يطغى على الجانب السياسي، ولعله بهذا الأسلوب الفني المستور يبرز هذا المضمون ويزيدنا اقتناعا به أكثر مما يفعل الأسلوب التعليمي المباشر الذي يكون غالبا على حساب الفن.
إن المسرحية تكتفي بأن تعرض علينا سلوك هذا «الحيوان المنقرض» - الذي تصفه بأنه نهم ولا نفع منه - في مواقف مختلفة، فهو حين يشرب فيسكر إنسان طيب القلب، عطوف على الفقراء والعمال، يود لو تسقط الحواجز الطبقية التي تفصله عنهم فيجلس إلى جانبهم ويأكل ويشقى معهم، بل إنه لا يمانع في أن يزوج ابنته الوحيدة من سائق عربته الذي يلمس فيه الرجولة والشهامة، فإذا صحا من سكرته اكتشفنا أنه كان يفكر بقلبه لا بعقله، ويحس بوعيه الباطن لا بشعوره الظاهر. إنه عندئذ ينقلب وحشا حقيقيا له مخالب الطبقة المستغلة وأنيابها وفيه قسوتها وخداعها؛ فها هو ذا غليظ مع الفقراء لا يرحم، حريص على غاباته وأمواله، فظ مع سائقه وتابعه ماتي يتهمه بأنه يستغل ضعفه من ناحية الخمر ويريد أن يخطف ابنته وينهب ضيعته ويخرب بيته! إنه يتراجع عن كل ما صدر عنه في أثناء سكرته من كلمات رحيمة أو وعود طيبة، ويتنكر لكل تصرفاته التي كشفت عن ذاته الحقيقية أو التي ينبغي أن تكون هي الحقيقية؛ لأنها الذات الإنسانية التي تغطيها قشور الطبقة ومواضعاتها، وتلزمها بأن تتنكر لطبيعتها. ولا شك أن شخصية بونتيلا ستذكرنا على الفور بشخصية المليونير التي خلقتها عبقرية الفنان العظيم «شارلي شابلن» في فيلمه المشهور «أضواء المدينة».
وإذا كانت الشخصيتان تلقيان الضوء على تعاسة الفقير وضياعه في العالم الحديث، فشخصية بونتيلا تزيد على ذلك أنها تفضح العلاقة المفتعلة بين السيد والخادم، والمالك ومن لا يملك شيئا، وتبين من خلال العقيدة الاشتراكية أنها علاقة مفتعلة تنفيها طبيعة الإنسان نفسه، حين يسمح لها في لحظات نادرة أن تكشف عن نفسها بنفسها، كما لو كانت في حالة الحلم أو اللاشعور. كل هذا في إطار الملحمة الشعبية، بكل ما فيها من شاعرية وبراءة وصدق. •••
وقد خص برشت هذه التجربة الفريدة في المسرح الشعبي بكثير من تعليقاته وتوجيهاته حول الإخراج والتمثيل والإضاءة، سيرا على عادته مع أعماله المسرحية الأخرى؛ فمهمة الإخراج في سخرية كهذه ذات طابع شاعري مهمة عسيرة، وعليه أن يبرز هذه الملامح الشعرية في مجموعة من الصور واللوحات المؤثرة.
إننا نلتقي في بداية المسرحية بشخصية بونتيلا الذي تحيط به هالة من العظمة تشبه أن تكون أسطورية؛ فهو البطل المنتصر الذي بقي وحده بعد أن أغرق طوفان الخمر كل من حوله. عبثا يحاول بونتيلا الوحيد أن يوقظ القاضي الذي سقط من على كرسيه من شدة السكر لكي يشاركه في الشراب، وهو لا يرى أن النادل الذي يقوم على خدمته جدير بالاطلاع على أفكاره العالية أو المشاركة في عواطفه العميقة، ربما لأن النادل المسكين نجا من الطوفان فلم يغرق في سكرته، وهو لا يجد أحدا يتفرج عليه وهو يقوم بمغامراته الشجاعة على بحر الخمر، أو يصول صولاته الهائلة على المائدة التي رصت فوقها الكئوس والزجاجات. في هذه الوحدة الأليمة يظهر له سائقه «ماتي»، الذي سئم من انتظار سيده ثلاثة أيام، فيفرح به ويحييه تحيته لإنسان طال بحثه عنه. ويدعوه بونتيلا دعوة الملوك إلى الشراب، ويروح يكشف له عن نفسه ويبوح بسر مرضه الرهيب؛ إنه مريض من نوع عجيب، تصيبه من حين لآخر نوبات من الصحو الشامل تجعله يتحول من إنسان طيب نبيل إلى إقطاعي متوحش شرير. ويقبل ماتي على بقايا المائدة، ولا يمنع نفسه - على الرغم من إحساسه بالمرارة لأن سيده جعله ينتظره في البرد ثلاثة أيام - من الإعجاب بظرف هذا الوحش الاجتماعي الذي يحاول على الرغم من كل شيء أن يقترب من مستوى البشر. ومع ذلك فإن ماتي لا يفارقه عقله المتزن البارد أبدا، بل يحاول أن يضع هذه الإنسانية التي يدعيها سيده موضع الاختبار؛ فهو يروي له حكاية الأرواح التي تظهر في ضيعة السيد بايمان، وكيف أن رائحة اللحم المشوي تكفي لطردها منها إلى غير رجعة، ولكن بونتيلا يمر على هذه الحكاية مر الكرام؛ فهو يملك حتى في حالة السكر أن يصد أذنيه عن سماع ما لا يحب سماعه. وبدلا من أن يتخذ الموقف الذي تمليه عليه إنسانيته المزعومة، نجده يحكي لصاحبه وكاتم سره الجديد عن المشكلة التي تحيره؛ فهو يعتزم أن يزوج ابنته من دبلوماسي لم يقتنع أبدا برجولته، وإن كان ينتظر من وراء هذا الزواج مجدا يليق باسمه وثروته. وهو في سبيل تدبير مهر ابنته يرى نفسه بين اثنتين: فإما أن يبيع إحدى غاباته العزيزة على نفسه، وإما أن يبيع نفسه وجسده لصاحبة ضيعة كورجيلا العجوز، ولكن صديقه ماتي لا ينصحه بشيء يعلم سلفا أنه لن يتبعه. وهكذا ينهضان لمغادرة المسرح، فأما ماتي فيسحب القاضي الغائب عن الوعي وراءه، وأما بونتيلا فيرغمه على التوقف من حين لحين لسماع خططه ووعوده وأحلامه في المستقبل.
ومهمة الإخراج في مثل هذا الموقف أن يجسم لنا إحساس بونتيلا بوحدته وتخلي الجميع عنه، كما يبرز بطولته وانتصاره على الطوفان الذي نجا منه، في شكواه المتصلة من القاضي وندائه له أن يفيق ويثبت رجولته. كما أن على المخرج أيضا أن يوضح لنا فرحة بونتيلا حين يلتقي مع إنسان حقيقي؛ فهو يقف فوق المائدة في وسط المسرح، سعيدا بمغامراته الهائلة على بحر الخمر. وحين تقع عينه على ماتي يهلل له وينزل من على المائدة لتحيته ويطوف حولها في خطوات واسعة تعبر عن فرحته بلقاء الصديق الذي طال انتظاره. أما حين يفضي له بسر مرضه الخطير، فهو يتضاءل ويضعف حتى لنكاد نحس بأنه يزحف على بطنه أمام صديقه العاقل الذي يعرف أنه لا يكاد يصدقه. ويجب كذلك أن يروي ماتي حكاية الأشباح التي تظهر في الضيعة التي كان يعمل فيها من قبل، فنحس بالتناقض الظاهر بين منظره وهو يأكل في نهم وبين أولئك الذين يشقون في المزارع حتى يموتوا جوعا، ثم تأتي أرواحهم على رائحة اللحم المشوي. وحين يوقفه بونتيلا ليضجره بهمومه الشخصية، فإن من الواجب أن يحس المتفرج بأنها ليست هموما بمعنى الكلمة، وأن مشكلاته الشخصية ليست إلا نتيجة جشعه وقسوته. ونأتي إلى ختام هذا المشهد لنرى ماتي وهو يسحب بونتيلا إلى خارج المسرح، وكأنه مدرب في سيرك أفلح بعد مجهود كبير في ترويض هذا الوحش الآدمي المضحك إلى الحد الذي جعله يسلم له حافظة نقوده بما فيها من مال يكرهه ويحتقره ... ومع ذلك فلا يجب أن نخدع أنفسنا كثيرا بما يبديه بونتيلا في بعض الأحيان من عاطفة إنسانية؛ ذلك أنه لا يكره المال ولا يحتقره إلا في حالة السكر، وهو مهما غاب عن وعيه لا يرحم العامل الاشتراكي من الطرد من ضيعته، وإذا سمع نساء كورجيلا الفقيرات يروين له حياتهن اليومية لا يترك نفسه على سجيتها، بل يسرع في طلب الخمرة القانونية حتى لا يتورط فيما يعود عليه بالخسارة، وإذا أحضر معه الشغالة من السوق أسرع هاربا إلى الحمام حتى يفيق لنفسه قبل أن يفوت الأوان. وكل هذا يدل على عمق نزعته الإقطاعية، كما يستوجب من الممثل إلماما بقوانين المجتمع ويفترض منه اتخاذ موقف بشأنها.
وطبيعي أن يكون القيام بدور بونتيلا أمرا عسيرا؛ فالمشكلة هنا في تمثيل السكر الذي لا يكاد يفيق منه طوال المسرحية؛ فلو أن الممثل قام بدور سكير عادي مما نراه على المسرح، وعرض علينا حالة السكر كأنها حالة تسمم تختلط فيها الوظائف النفسية والجسدية؛ لبعد بذلك بعدا كبيرا عن شخصية بونتيلا؛ ذلك أن سكر صاحبنا من نوع خاص، ولا بد أن يبين لنا الممثل من خلاله كيف يقترب بونتيلا عن طريقه شيئا فشيئا من الحالة الإنسانية؛ فالسكر هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه نفسه، بل وجسده أيضا أن يسبحا في مياههما الطبيعية، ويكشفا عن معدنهما الأصيل الذي لا يلبث الوضع الاجتماعي المصنوع أن يبعدهما عنه. والممثل الذي يقوم هنا بدور السكير ينبغي أن يصون نفسه من أسلوب الأداء التقليدي الذي يجعل صاحبه يخلط في كلامه وحركات جسده؛ فلغته ينبغي أن تكون ذات إيقاع موسيقي لطيف، وحركاته أقرب ما تكون إلى الرقص؛ فهو يتحرك فوق المائدة الكبيرة المكتظة بالكئوس والزجاجات حركات خفيفة رشيقة تكاد أعضاء الجسد تقصر في التعبير عن خفتها ورشاقتها، وهو يصعد فوق جبل «هات يلما» الوهمي في نهاية المسرحية كأن له جناحين. إن كل حركة من هذا الوحش المضحك الذي آن أوان انقراضه تعبر عن الجهد اللاشعوري الذي تبذله روحه لتتحرر من قيودها وتعود إلى حالتها الإنسانية الحقة. إنه حين يرضى عن صديقه أو يثور غضبا عليه، وحين يظهر الكرم الزائد أو الجشع الدنيء، وحين يلح إلى حد الذل والاستجداء أو يدعي غطرسة الكبراء والأغنياء، إنما يكشف دائما عن عظمة حقيقية وبراءة مؤثرة. ألا يزهد في أملاكه زهادة بوذا، ويثور على ابنته ثورة الملك «لير»، ويدعو نساء كورجيلا المساكين كأنه أحد سلاطين ألف ليلة أو ملك من ملوك هوميروس؟!
أما ماتي فينبغي أن يحافظ من البداية إلى النهاية على اتزانه وبروده ونظرته الموضوعية النافذة؛ فمن المهم في تفسير شخصيته أن يظل مثالا للرجل «العملي» الذي لا يغتر في نوبات صديقه وسيده، فلا يفرح كثيرا بمعاملته الطيبة، ولا يغضب أيضا لثورات غضبه؛ ذلك أنه سينظر إليه دائما نظرته إلى «ضحية» من ضحايا المجتمع الرأسمالي مهما أتت من الفظائع، فالذنب في الحقيقة يقع على البناء الاجتماعي لا عليها . ويجب أن يحرص ماتي دائما على أن يتصرف «كما ينبغي» سواء كان يتحدث مع ابنة الإقطاعي وهو يفك إحدى عجلات العربة أو وهو يغازلها أو يكنس الأرض أو يدلك قدمي بونتيلا أو يحمل القاضي السكران إلى خارج المسرح أو يطالب بحق العامل الاشتراكي في العودة إلى وظيفته. إنه دائما العقل الواضح والعين النافذة، ومن العلامات الدالة على شخصيته أن مخرجي المسرحية في برلين وزيوريخ كانوا يضعون على وجوه بونتيلا والقسيس والملحق الدبلوماسي والقاضي والمحامي وزوجة القسيس أقنعة تبرز جانب السخرية في شخصياتهم وتجعلهم يتحركون على حسب الأحوال في عظمة الملوك أو سخف البلهاء. أما ماتي (ومعه نساء كورجيلا الفقيرات وخدم بونتيلا وعمال الضيعة وفلاحوها) فقد تركوا وجوههم عارية بلا أقنعة، كأن نفوسهم الحقيقية لا تحتاج إلى شيء يموهها أو يخفيها، فإذا كان الطفيليون على المجتمع يحتاجون إلى هذا التمويه، فإن جذوره وأعمدته تستطيع أن تستغني عنها. بذلك يتخذ المسرح الواقعي موقفه من الواقع، ويدعو المتفرج معه إلى تبني هذا الموقف والاقتناع به ورؤية الواقع على أساسه.
ولنأخذ موقفا ترفع فيه التناقضات الاجتماعية في لحظة من لحظات السكر الشديد؛ فها نحن في حفلة خطوبة إيفا على الملحق الدبلوماسي، على المائدة يجلس السيد إلى جانب خادمه، والقسيس مع الطاهي، والعروس المرفهة مع راعية البقر، والقاضي والإقطاعي إلى جوار العامل والسائق. إن بونتيلا يجلس ببذلته السوداء الفخمة وياقته المنشاة وإلى جانبه سائقه ماتي ببذلته الشاحبة الصفراء وقميصه الذي سقطت عنه ياقته. النجف البلوري في السقف يشع نورا فخما في جو الحفل المتخم الشبعان. ولكن بونتيلا الذي تشاجر مع عريس ابنته من لحظة مشاجرة هائلة قد قرر الآن - وهو سكران لا يعي - أن يزوج ابنته لسائقه الهمام. وبدلا من اللحوم المشوية والفاكهة النادرة يأمر بأكلة «رنجة» يؤتى بها على طبق من الفضة؛ ليمتحن العريس الجديد عروسه المدللة، ومعها سائر الطفيليين والمقنعين. إن ماتي يقف حاملا طبق الرنجة في يد وممسكا باليد الأخرى سمكة رنجة من ذيلها. لم يعد المتفرج في حاجة إلى الملبس ليفرق به بين إنسان وإنسان. تكفيه النظرة المتزنة غير المبالية أو النظرة المدهوشة المتعجبة ليعرف إن كان صاحبها من الأعلين أو الأدنين!
ويستغرق ماتي في النظر إلى سمكة الرنجة، يفحصها ويناجيها ويبتهل إليها. إنه ينظر إليها نظرته إلى شيء يعرفه من أمد طويل ويكتشفه في نفس الوقت للمرة الأولى، ويظل يمجد فيها شرف العمل وحب الأرض وشقاء العمال: «أجل. إنها هي. إنني أعرفها من جديد. أنت أيتها الرنجة، يا سمكة الكلب، لولاك لرحنا نطلب من أصحاب الضيعة لحم الخنزير. وماذا يكون حال فنلندا حينذاك؟» ويوزع السمك على الحاضرين بين ضحك البسطاء ودهشة الأغنياء. ويبدأ الجميع في الأكل كأنهم يقومون بعملية معقدة، ويخدمهم ماتي كما يخدم صاحب البيت ضيوفه الفقراء. وتتوالى عملية الكشف عن طبقات المجتمع، كأن هناك أثرا يهيل عنها التراب. بونتيلا يتناول لقمته بلا اعتراض وفي عينيه تطلع الرحالة الذي تطأ قدماه أرضا جديدة، وسمكة الرنجة تصبح في يده كأنها سمكة قرش أو بياض! وفينا الخادمة الطيبة تلتهم نصيبها وهي صابرة؛ فطالما أكلت منه راضية أو كارهة، والقسيس يناول ماتي شوكته وهو ساخط، في ملل يشبه ذلك الذي يلقي به موعظة الأحد، بينما تثور زوجته غضبا وترفض أن تمد يدها، وأما لاينا الطاهية فليس من العسير أن نلاحظ على وجهها أنها أكلت أو أعدت في مطابخ الضياع الفنلندية من هذه السمكة آلافا مؤلفة! أما القاضي والمحامي فيعرفان كيف يتفوقان على ماتي بفضل ذكائهما الذي اكتسباه من مئات القضايا. وأخيرا تأتي إيفا ابنة الإقطاعي، لقد اجتازت الامتحان عن جدارة. إنها تحيي الرنجة باحتفال، وتمد يدها مبتسمة لتتناول عطية الحبيب، وتلتهمها بصوت أقل ما يدل عليه أنها تتلذذ بطعمها، ويا لها من وجبة تعري الأقنعة وتفضح القلوب! •••
أما تمثيل دور نساء كورجيلا الفقيرات، اللائي يدعوهن بونتيلا حين يسكر إلى حفل زفاف ابنته، ويطردهن شر طردة حين يعود إلى نفسه، فيبدو أنه كان من أصعب الأدوار على مسرح برشت في برلين أو على غيره من المسارح؛ فشخصياتهن من أنبل شخصيات المسرحية، ولا بد للمخرج أو مصمم الأزياء والأقنعة أن يحاول تصويرهن على نحو يجمع بين الجمال والواقعية، ويرفع التناقض الذي قد يبدو بينهما. أراد المخرج في بداية الأمر أن يصور نساء كورجيلا في صورة أسطورية فخلع عليهن ملابس رقيقة ناعمة الألوان، ولكنه وجد أنها تضفي عليهن منظرا شاحبا بعيدا عن الواقع. وانتقل إلى الأسلوب الطبيعي الذي يسخر من كل جمال فألبسهن أحذية ضخمة تناسب الكادحات من أمثالهن، وجعل لهن أنوفا طويلة وملابس خشنة، حتى جاء الفنان المشهور «كاسبارنيهر» ليتفرج على البروفات فراح يرسم مجموعة من اللوحات التخطيطية التي تعد من أجمل ما رسمته يد للمسرح، وأزال التناقض بين سلوكهن الذي يتسم بالفطرة والبراءة وبين خبرتهن العملية التي اكتسبنها من حياتهن الشاقة وجعلهن يعبثن مع صاحب الضيعة عبثا يفيض بالمرح والسخرية. إنهن يدخلن المسرح وهن يتعمدن اللهو والتمثيل، ويداعبن بونتيلا كما لو كن عرائسه الخياليات، اللائي لا يطمعن في أكثر من فنجال من القهوة، ورقصة مع العريس. ووضع «نيهر» على رءوسهن أكاليل رخيصة من الزهور الصناعية، كما أعطى «لماتي» مكنسة هائلة يظل يخاطبها كما لو كانت هي المحكمة العليا في فيبورج، كما يزيل بها أكاليل الزهور التي يلقين بها على الأرض بعد أن يخرجن من الضيعة غاضبات لسوء استقبالهن. وجمعت الملابس رقة العرائس الخياليات إلى غلظة الفلاحات الخشنات، كما تمثل سحر الخيال وقوة الواقع في شخصيات هؤلاء النسوة الفقيرات اللائي استطعن أن يمنحن الإقطاعي الغني من مرحهن وطيبتهن ثروة لا تقدر بمال!
وإذا كان تصوير شخصيات نساء كورجيلا بهذه الصعوبة، فإن تفسير مشهد الحكايات الفنلندية أمر عسير على المخرج والممثلين على السواء؛ فها هي الطاهية لاينا تظهر أمام الستارة، كما فعلت بعد كل مشهد من المشاهد السابقة، وتعلق على الحدث بإحدى أغانيها القصيرة (وقد يجوز أن تكون إحدى مقاطع أغنية بونتيلا التي تتخلل المسرحية كلها)، ويفهم الجمهور أن نساء كورجيلا الأربعة اللائي خطبهن بونتيلا لنفسه في لحظة سكر ذات صباح جميل ودعاهن إلى ضيعته، قد طردهن الإقطاعي بونتيلا بعد أن أفاق من سكرته وهو يقول: «هل رأى أحد خروفا يلبس معطفا من الصوف، منذ أن بدأ الناس يجزون أصواف الخراف؟»
وتفتح الستار لنرى في مؤخرة المسرح على اليسار ثلاث نساء يقتربن من النظارة. ونلاحظ أنهن قادمات من سفر طويل؛ فملابسهن معفرة بالتراب، وستراتهن مفتوحة عند الصدر، وأقدامهن قد كلت من السير، حتى إن إحداهن قد حملت حذاءها في يدها وسارت حافية. وتتلفت عاملة التليفون وراءها لتنبه جارتها عاملة الصيدلية إلى زميلتهما المهربة «إيما» التي تأخرت عنهما ونراها تشير إليها بالانتظار. وتنتبه راعية البقر كذلك، ويقف الثلاثة لينتظروا «إيما» التي تدخل المسرح وهي تعرج فلا تكاد ترى سورا واطئا حتى تلقي بنفسها عليه. ويتجمعن حولها ليفحصن معا حذاءها المقطوع، ويشتركن في معالجته والتعليق على سوء صناعته التي جعلته لا يصلح للسير به خمس ساعات متوالية على طريق زراعي. وتطلب «إيما» حجرا لتدق به مسمارا برز في حذائها فتقتنع النسوة بحاجتهن إلى لحظات يسترحن فيها وينفسن عن غضبهن على السيد بونتيلا وأمثاله. ويجلس الجميع على يمين «إيما» ويسارها، لا ليدلين باقتراحاتهن عن أفضل طريقة لإصلاح الحذاء فحسب، بل كذلك ليستخلصن العبرة مما جرى لهن، أو يروين الحكايات التي تؤكد رأيهن ... في المصير التعس الذي ينتظر كل من تنسى نفسها مع هؤلاء السادة الذين يتقلبون دائما من حال إلى حال.
مثل هذا المشهد ينبغي أن يصور تصويرا يبرز رقته وغرابته في آن واحد، كما يبعده عن كل ما يمكن أن يثير الضحك أو التهكم. ولعله بذلك أن يكون واحدا من المشاهد القليلة في مسرح برشت التي يمكن أن نطلب فيها من المتفرج أن يتعاطف معه لا أن يقف منه موقف الناقد العلمي الفاحص المدقق!
إن عاملة الصيدلية التي تعلمت في المدينة وخبرت حياتها عن قرب تروي حكاية المليونير بيكا الذي يعود إلى الوطن بعد غيبة عشرين عاما، ويحتفل به أقاربه الفقراء ويقدمون له قطعة لحم مشوي يعلم الله وحده كم تعبوا في سبيل الحصول عليها، ولكن الغني العائد لا يجد أمام البؤس الذي يراه إلا أن يتذكر أن جدته كانت قد اقترضت منه عشرين ماركا ويأسف على أنهم في حالة من الفقر لا تمكنهم من رد هذا الدين، ولا بد أن تروى هذه الحكاية في لهجة تبين التهكم بغباء الفقراء، كما تكشف عن الرثاء لهم والتعاطف معهم. ولا بد أن تتخلل روايتها فترات من الصمت تسمح للسامعات بأن يتخيلن ما تعنيه قطعة من اللحم بالنسبة لمثل هؤلاء الفقراء، كما تصور كذلك مقدار كرمهم واستعدادهم للتضحية أمام المليونير الذي يتحسر على العشرين ماركا (أي ما يساوي جنيهين).
فإذا ضحكت النسوة على هذه النكتة علقت عاملة التليفون التي تعرف كل شيء بقولها: «إنهم يستطيعون ذلك.» ومضت تروي حكايتها عن المتسول الذي يقود الإقطاعي الغني على الثلج الخطر في حين تتضاءل وعود الأخير له بالتدريج حتى يصل إلى شاطئ الأمان، فلا يكاد يجد منها شيئا. إنها تتفرس في وجوه صاحباتها من حين إلى حين؛ لترى كيف تعبر عن سخطهن على الخديعة ومشاركتهن للمخدوع. وإذا كن يشتركن في الثورة على الظلم الذي أصاب المتسول المسكين كما أصابهن، فإنهن يخرجن منه بهذه السخرية التي تعبر عنها المهربة إيما بقولها: «كيف تمنعين نفسك عن الشرب من النهر وأنت تموتين عطشا؟» ويذكرهن هذا القول بجوعهن وعطشهن وبكسرات الخبز الجاف الذي توزعه عاملة التليفون عليهن، وبالمائدة الحافلة التي حرمن منها في بيت بونتيلا «كذلك يخرج أمثالنا خواة الأيدي».
وهنا تتدخل راعية البقر فتروي حكايتها عن الفتاة التي حملت من ابن سيدها الغني، ودفعها الحرص على كرامتها إلى التخلي عن نفقة رضيعها. إنها تروي هذه الحكاية المؤثرة وهي تمضغ كسرتها، فتبعد بها عن كل تأثير عاطفي رخيص، وتبين أن عظمة الإنسان تستطيع أن ترفعه فوق الكارثة التي تصيبه، فإذا رأت عاملة التليفون أن مسلك الفتاة المخدوعة يدل على الغباء عرفت المهربة إيما كيف ترد عليها بقولها: «مثل هذا السلوك قد يدل على الغباء وقد يدل على الذكاء.» والدليل على ذلك حكايتها الطويلة التي ترويها عن «آتي» المكافح الاشتراكي الشاب الذي رفض أن يأخذ السمكة والزبد الذي حملته إليه أمه الطيبة العجوز، حين عرف أن صاحبة الضيعة تصدقت بهما عليها، على الرغم مما يقاسيه من الجوع في معسكر الاعتقال. ولا تكاد إيما تبدأ في حكايتها حتى تنتهي عملية إصلاح الحذاء، ويتركز انتباه الممثلين والجمهور على الحكاية نفسها، وتستمد النساء منه شجاعة تعينهن على الطريق الطويل في السفر وفي الحياة. إن كلماتها تعبر عن العذاب الذي لاقاه السجين في معتقل الجوع والإرهاب الذي لم تبق فيه «ورقة واحدة على شجرة واحدة». كما تعبر بفترات الصمت المتقطع واختلاج الصوت المتهدج عن الجهد الذي عانته الأم المرتعشة العجوز وهي تقطع الطريق الطويل من قريتها إلى المعسكر البعيد، ولكن موقف الفتى الشجاع وإصراره العادل على رفض صدقة من سادته قد صارا حديث الناس على مدى طريق يبلغ ثمانين كيلومترا. بذلك لم يضع جهد الأم المحطمة عبثا، ولم تعد القضية من شأنها وحدها، بل أصبحت قضية عامة تعبر عنها إحدى الممثلات بقولها: «إن أمثال آتي موجودون.» فترد عليها الأخرى قائلة: «ولكنهم نادرون.» حتى إذا انتهت الحكايات الفنلندية وظهرت الطاهية أمام الستارة لتغني أغنيتها عن السادة الأغنياء الذين يقولون رأيهم في عامة الشعب بين كئوس النبيذ وأكواب القهوة وألوان اللحم والفاكهة، كنا نحن المتفرجين قد كونا رأينا في هذا الرأي. •••
قد يسأل القارئ الآن فيقول: ما الفائدة من هذه المسرحية بعد أن قضينا على أمثال الإقطاعي «بونتيلا»؟ هل هناك ما يدعو إلى قراءتها أو تمثيلها بعد أن تم الإصلاح الزراعي وصدرت القوانين الاشتراكية؟ ولماذا نقف عند نموذج الإقطاعي الذي ينتمي إلى نظام فاسد تخلصنا منه إلى الأبد؟ أليس في مجتمعنا الاشتراكي من النماذج الفاسدة ما هو أولى بمحاربته والسخرية منه؟ أليس هناك البيروقراطي والانتهازي والمنافق والمدعي والسلبي ... إلخ؟ هذه الأسئلة وأمثالها تصدر عن حسن نية لا شك فيه، ولكنها تدل على شيء من التعجل وقلة الصبر لا يجب أن نستسلم له، فمسرحية كبونتيلا وتابعه ماتي ستظل محتفظة بأهميتها وعصريتها حتى بعد أن يزول الإقطاع من على ظهر الأرض كلها، والمتفرج سيظل يتمتع بها ، سواء كان من بلد اشتراكية أو رأسمالية؛ ذلك لأن الإنسان لا يتعلم من كفاحه فحسب، بل يتعلم كذلك من تاريخ هذا الكفاح. ورواسب الماضي لا تزول من النفوس بمجرد صدور قانون، بل قد تظل عالقة بها أجيالا وراء أجيال. وقد ينسى الناس الإقطاعي ويطردونه إلى الأبد من حياتهم، ولكنهم قد لا يتخلصون من عقليته وأخلاقه ونظرته للأمور قبل مرور سنين طويلة. وإذا كانوا قد تغلبوا على هذا «الوحش المنقرض»، واستطاعوا أن يقيدوه بالسلاسل في بلدهم، فهناك بلاد أخرى وأناس آخرون من حقهم أن يستفيدوا بكفاحهم ويتعلموا منه. أضف إلى ذلك كله شيئا يتصل بالعمل الفني نفسه كعمل فني؛ فهو لا بد أن يجمع بين عنصرين في آن واحد: المحلية والعالمية، والزمنية والخلود. فإذا فرضنا أن بونتيلا الإقطاعي المرتبط بزمان ومكان معين قد اختفى من أماكن كثيرة من العالم، وأنه سائر حتما إلى الفناء في أكثر من مكان فلا بد أن يبقى بونتيلا نموذج الإنسان المتقلب بين الخير والشر والضعف والقوة والرحمة والقسوة والإنسانية والوحشية. ولا شك أن هذا النموذج سيبقى ما بقي على الأرض إنسان يعطف أو يقسو على أخيه الإنسان.
2
السيد بونتيلا وتابعه ماتي
(كتبها برشت في الفترة التي لجأ فيها إلى فنلندا في عام 1940 عن قصص وتخطيط مسرحي للكاتبة الفنلندية هيلا فوليوكي.)
شخصيات المسرحية
بونتيلا:
إقطاعي، يمتلك ضيعة «بونتيلا» في لامي.
إيفا بونتيلا:
ابنته.
ماتي:
سائقه.
فردريك:
قاضي.
النادل:
في فندق تافا ستهاوس.
إينوسيلاكا:
ملحق بالسفارة وخطيب إيفا.
الطبيب البيطري.
إيما:
المهربة.
ماندا:
آنسة تعمل في الصيدلية.
ليزوجاكارا:
راعية البقر.
ساندرا:
عاملة التليفون.
رجل سمين:
صاحب ضيعة مثل بونتيلا.
عامل.
ذو الشعر الأحمر.
البائس.
سوركالا الأحمر.
هيللا:
ابنته الكبرى
لاينا:
الطاهية.
فينا:
خادمة عند بونتيلا.
بيكا:
المحامي.
راعي الكنيسة.
زوجته.
عمال في الغابة. (تدور مشاهد المسرحية في فنلندا.)
تمهيد
(تلقيه الممثلة التي تقوم بدور راعية البقر.)
جمهورنا الكريم،
الكفاح مرير،
لكن الحاضر بدأ يبشر بالخير،
من لم يتعلم كيف يضحك؛
فلن يصفو له بال.
لذلك رأينا أن نقدم لكم هذه الملهاة.
جمهورنا الكريم،
نحن لن نزن المرح بميزان الصيدلي.
بل كما توزن البطاطس، بالقنطار.
وربما لجأنا إلى الفأس.
نستخدمها من حين إلى حين.
سنعرض عليكم الليلة إذا.
حيوانا عاش فيما قبل التاريخ.
هو صاحب الضيعة.
الذي نسميه اليوم بالإقطاعي،
وهو حيوان نهم أكول.
معروف بأنه لا ينفع في شيء على الإطلاق.
وحيثما وجد وأصر على البقاء،
كان كالوباء الذي يعم البلاد.
سوف ترون هذا الحيوان.
يتحرك أمامكم على هواه.
في بلاد تفيض بالجمال والجلال.
إن لم تبد لكم من الديكور.
فقد تشعرون بها من خلال الكلام.
ستسمعون رنين أقساط اللبن.
تحت أشجار الغاب الفنلندية.
وتحسون بليالي الصيف الصافية.
تنساب فوق الشطآن الناعمة.
والقرى الحمراء تستيقظ على صياح الديكة.
والدخان الأسود يتصاعد.
مع الفجر فوق السطوح.
كل هذا هو ما نرجو أن تروه.
في روايتنا عن السيد بونتيلا.
1
الفصل الأول
بونتيلا يعثر على إنسان
(قاعة جانبية في فندق البستان في تافا ستهوز. صاحب الضيعة بونتيلا، القاضي والنادل، القاضي يسقط من على كرسيه في حالة سكر شديد.)
بونتيلا :
أيها النادل، كم مضى علينا هنا؟
النادل :
يومان، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا (للقاضي في لهجة تأنيب) :
سمعت؟ يومان صغيران! وها أنت ذا تسلم وتتظاهر بالتعب! في الوقت الذي أريد فيه أن أشرب معك كأس خمر وأحدثك قليلا عن نفسي، وأشرح لك كيف أشعر بالوحدة وما هو رأيي في البرلمان! ولكنكم جميعا تنهارون لأقل مجهود؛ فالروح نشيطة، أما الجسد فضعيف. أين الطبيب الذي كان بالأمس يتحدى العالم أجمع؟ لقد رآه ناظر المحطة وهم يحملونه إلى الخارج، غير أنه انهار هو نفسه في حوالي السابعة بعد كفاح بطولي. وعندما بدأ يتهته في الكلام، كان الصيدلي لا يزال على قدميه، أين هو الآن؟ هؤلاء هم الذين يسمون أنفسهم أعيان المنطقة؛ سيدير الناس لهم ظهورهم في خيبة أمل، (ويلتفت إلى القاضي الذي يغط في نومه)
يا له من مثل سيئ لأهل تافاستلاند! حين يرون كيف لا يستطيع أحد القضاة أن يتماسك في فندق على الطريق العام . لو أنني وجدت في أرضي تابعا يتكاسل في الحرث تكاسلك في الشراب لسرحته على الفور، ولقلت له: يا حيوان! سأعلمك كيف تتهاون في القيام بواجبك!
ألا تستطيع، يا فردريك، أن تفكر فيما ينتظره الناس منك، أنت الرجل المثقف الذي يتطلعون إليه، ويتوقعون أن يكون نموذجا لهم وأن يبين قدرته على التحمل والشعور بالمسئولية؟! ألا تستطيع أن تتماسك وتجلس معي وتتكلم، أنت أيها الضعيف المتهالك؟ (للنادل) : في أي يوم نحن؟
النادل :
السبت، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
هذا ما يدهشني، كان ينبغي أن يكون الجمعة.
النادل :
معذرة، ولكن اليوم هو السبت.
بونتيلا :
وتعاندني أيضا؟! يا لك من نادل عجيب! تريد أن تغضب ضيوفك وتعاملهم معاملة فظة. أيها النادل، أحضر لي كأسا أخرى، افتح أذنيك حتى لا تخلط كل شيء من جديد، كأس كونياك ويوم جمعة، فهمت؟
النادل :
نعم، يا سيد بونتيلا (يخرج مسرعا) .
بونتيلا (للقاضي) :
استيقظ، أيها الضعيف! لا تتركني وحدي! أهكذا تستسلم أمام زجاجتي كونياك أو ثلاث؟ إنك لم تكد تشمها. لقد انكفأت في القارب، بينما كنت أجدف بك على سطح الخمر، ولم تجد في نفسك الشجاعة لتنظر إلى أبعد من حافة القارب، اخجل من نفسك، انظر - ها أنا ذا أنزل في الماء (يمثل هذه الحركة)
وأتجول على سطح الخمر، فهل غطست؟ (يلمح سائقه ماتي الذي يقف بالباب منذ مدة.)
من أنت؟
ماتي :
أنا سائقك، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا (بارتياب) :
من؟ أعد ما قلت.
ماتي :
أنا السائق الذي يعمل عندك.
بونتيلا :
هذا شيء يستطيع أن يقوله كل إنسان، أنا لا أعرفك.
ماتي :
لعلك لم تتمعن في وجهي أبدا؛ فأنا أعمل عندك منذ خمسة أسابيع فقط.
بونتيلا :
ومن أين أتيت الآن؟
ماتي :
من الخارج، كنت أنتظر في العربة منذ يومين.
بونتيلا :
أية عربة؟
ماتي :
عربتك، الاستوديو بيكر.
بونتيلا :
شيء غريب، هل تستطيع أن تثبت هذا؟
ماتي :
وليس في نيتي أن أنتظرك في الخارج أكثر مما انتظرت! يجب أن تعرف هذا. لقد أصبحت روحي في حلقي، لا يمكنك أن تعامل إنسانا هذه المعاملة .
بونتيلا :
ما معنى إنسان؟ هل أنت إنسان؟ قلت منذ قليل: إنك سائق. والآن تقول: إنك إنسان. هه؟ الآن ضبطتك وأنت تناقض نفسك! اعترف!
ماتي :
سوف تعرف حالا أنني إنسان، يا سيد بونتيلا، عندما أثبت لك أنني لا أسمح لأحد بأن يعاملني معاملة البهائم ولا أن أنتظرك في الشارع حتى تتعطف وتخرج.
بونتيلا :
كنت تؤكد منذ لحظة أنك لن تحتمل هذا.
ماتي :
تماما. ادفع لي حسابي، 175 ماركا وسأذهب إلى بونتيلا لأحضر شهادتي.
بونتيلا :
صوتك أعرفه، (يدور حوله وهو يفحصه كأنه حيوان غريب)
صوتك يرن في أذني كأصوات البشر تماما، اجلس وخذ كأسا معي. يجب أن نتعارف.
النادل (يدخل حاملا زجاجة) :
الكونياك يا سيد بونتيلا. واليوم يوم الجمعة.
بونتيلا :
عظيم. (مشيرا إلى ماتي)
هذا صديقي.
النادل :
نعم يا سيد بونتيلا، سائقك.
بونتيلا :
إذا فأنت سائق؟ لقد كان من رأيي دائما أن الإنسان يقابل أظرف الناس في أثناء السفر، صب!
ماتي :
أود أن أعرف ماذا تريد الآن؟ لا أدري إن كنت سأشرب من هذا الكونياك.
بونتيلا :
أرى أنك سيئ الظن. أستطيع أن أفهم هذا؛ فلا يصح أن يجلس الإنسان مع الغرباء على مائدة واحدة. إنهم يفكرون في سرقته بمجرد أن ينام. أنا صاحب الضيعة بونتيلا من لامي وإنسان شريف. عندي تسعون بقرة. تستطيع يا أخي أن تشرب معي وأنت مطمئن.
ماتي :
عظيم. وأنا ماتي ألتونين. ويسرني أن أتعرف عليك (يشرب في صحته) .
بونتيلا :
إنني طيب القلب، وهذا ما يسعدني. في مرة من المرات حملت جعرانا من الطريق العام إلى الغابة، حتى لا يدوسه أحد بعربته. أنا عادة أبالغ في مثل هذه الأمور. ووضعته على أحد الأسوار. أنت أيضا طيب القلب. هذا ما أراه في وجهك. إنني لا أحتمل أن يكتب أحد كلمة «أنا» فيجعل حرف الألف كبيرا. هذا شيء يستحق الإنسان الجلد عليه. إن من كبار أصحاب الأطيان من ينزعون اللقمة من أفواه الفلاحين. أما أنا فأحب شيء إلى نفسي أن أقدم لهم اللحم المشوي. إنهم أيضا بشر ولهم الحق مثلي تماما في أن يأكلوا أحسن أكل. أليس هذا رأيك أيضا؟
ماتي :
تماما.
بونتيلا :
هل تركتك حقا تنتظرني أمام الباب؟ لم يكن هذا يصح مني، لن أغفره لنفسي. أرجوك إذا عدت إلى هذا الفعل أن تضربني بالمفك على رأسي! ماتي، هل أنت صديقي؟
ماتي :
لا.
بونتيلا :
أشكرك. كنت أعلم هذا. ماتي، انظر إلي. ماذا ترى؟
ماتي :
أريد أن أقول: شيئا غليظا كالبرميل، غارقا في السكر.
بونتيلا :
أرأيت كيف تخدع المظاهر؟ إنني أختلف عن ذلك تمام الاختلاف. ماتي، أنا إنسان مريض.
ماتي :
مريض جدا.
بونتيلا :
هذا شيء يسعدني. شيء لا يستطيع أن يراه كل إنسان. كل من ينظر إلي لا يستطيع أن يتصوره (في حزن وهو ينظر نظرة حادة إلى ماتي)
أنا أصاب بنوبات.
ماتي :
لا تقل هذا.
بونتيلا :
أنا لا أقوله للمزاح. إنها تصيبني مرة واحدة على الأقل كل ثلاثة شهور. أستيقظ من النوم فأجدني في صحوة تامة. ما رأيك في هذا؟
ماتي :
هل تصيبك نوبات الصحو هذه بانتظام؟
بونتيلا :
بانتظام. في غير هذه الحالات تجدني دائما في حالة طبيعية جدا، كما تراني أمامك الآن مسيطرا على حواسي وممتلكا لقواي العقلية تمام الامتلاك، ثم تأتي النوبة فجأة تبدأ بشيء أحس به كأنه خلل في عيني؛ فبدلا من أن أرى شوكتين (يرفع شوكة واحدة)
لا أرى سوى واحدة.
ماتي (مفزوعا) :
إذا فأنت نصف أعمى؟
بونتيلا :
أنا لا أرى من العالم كله إلا نصفه، ولكن الحالة تسوء عندما أهبط في أثناء هذه النوبات من الصحو التام المجنون إلى مستوى الحيوان. عندئذ لا يقف في وجهي شيء. إن ما أقوم به يا أخي من أعمال في هذه الحالة لا يستطيع أحد أن يحاسبني عليه، وبخاصة إذا كان له قلب ينبض في صدره وإذا تذكر أنني مريض، (في صوت يتهدج فزعا)
هناك أصبح مسئولا عن أعمالي مسئولية تامة، هل تعرف معنى هذا يا أخي؟ معنى أن يكون الإنسان مسئولا عن أعماله؟ إن المسئول عن أعماله إنسان يمكنك أن تتوقع منه كل شيء. إنه على سبيل المثال يفقد القدرة على الاهتمام بطفله، إنه يفقد الإحساس بمعنى الصداقة، إنه يكون على استعداد للقفز فوق جثته، كل هذا لأنه مسئول عن أعماله كما يقول المحامون.
ماتي :
ألا تصنع شيئا توقف به هذه النوبات؟
بونتيلا :
يا أخي، إنني أفعل كل ما أستطيعه، بل كل ما في طاقة الإنسان (يتناول كأسه)
هذا هو دوائي الوحيد، إنني أجرعه مرة واحدة، بغير أن يطرف لي جفن. صدقني. إنني لا أشربه بالملعقة كما يشرب الأطفال الدواء. كل ما أستطيع أن أقوله هو أنني أكافح نوبات الصحو المجنونة هذه كفاح الرجال، ولكن ما الفائدة؟ إنها تتغلب علي دائما. خذ مثلا استهتاري بك، مع أنك إنسان رائع. إليك ظهري فاضربه كما تشاء، فهو ظهر ثور، أية مصادفة سعيدة ساقتك إلي؟ كيف أتيت إلي؟
ماتي :
بعد أن فقدت وظيفتي السابقة بغير ذنب.
بونتيلا :
وكيف حدث هذا؟
ماتي :
رأيت أشباحا.
بونتيلا :
حقيقية؟
ماتي (يهز كتفيه) :
في ضيعة السيد بايمان، لم يدر أحد السبب في ظهور هذه الأشباح؛ فلم يسبق لها أن ظهرت هناك قبل التحاقي بوظيفتي. إذا سألتني رأيي فإني أعتقد أن السبب يرجع إلى سوء الطبخ هناك. عندما يقف العجين على معدة الناس تجدهم يحلمون أحلاما سيئة. وتثقل الكوابيس على أنفاسهم، وأنا بطبعي لا أتحمل الطعام الرديء. فكرت بالفعل في الاستقالة، ولكن لم يكن أمامي عمل آخر. وساءت حالتي النفسية فرحت أسب وألعن في المطبخ، وما هي إلا فترة قصيرة حتى رأت الخادمات في المطبخ رءوس أطفال بالليل فوق السور، فقدمن استقالتهن. ثم ظهرت كرة قاتمة أشبه برأس آدمية انحدرت على الأرض من حظيرة البقر، وعندما رويت ذلك للسائسة مرضت وساءت حالتها، وقدمت الخادمة كذلك استقالتها، عندما رأيت في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا رجلا أسود اللون يتمشى قريبا من الحمام وهو يحمل رأسه تحت إبطه وطلب مني أن أشعل له غليونه. راح السيد بايمان يصرخ في وجهي ويتهمني بأنني المسئول عن هروب الناس من المزرعة وينفي وجود أشباح في بيئته، ولكنني قلت له: إنه مخطئ وإنني في أثناء وجود زوجته الكريمة في مستشفى الولادة رأيت في ليلتين متتاليتين شبحا أبيض يقفز من نافذة غرفة السائسة ويدخل من نافذة غرفة السيد بايمان نفسه. لم يستطع أن يرد علي، ولكنه طردني من العمل، ونصحته قبل أن أنصرف بأن يعتني بالطبخ في مزرعته حتى تهدأ الأرواح التي لا تتحمل - على سبيل المثال - رائحة اللحم.
بونتيلا :
أرى أنك لم تفقد وظيفتك إلا لأنهم كانوا يبخلون عليكم بالطعام. أنت تحب الأكل، وهذا لا يقلل من شأنك في عيني، ما دمت تحسن قيادة الجرار وتسمع الكلام وتعطي ما لبونتيلا لبونتيلا. إن لدي ما يكفيني، وهل تفتقر الغابة إلى الخشب؟ بهذا نستطيع أن نتفاهم، كل إنسان يستطيع أن يتفاهم مع بونتيلا! (يغني) :
لم العتاب يا حبيب والملام
وفي الفراش ينتهي كل الخصام؟
كم يتمنى بونتيلا أن يقطع معكم الغاب وينقي الحقول من الأحجار ويقود الجرار بنفسه! ولكن هل يتركونه يفعل ذلك؟ لقد وضعوا منذ البداية حول رقبتي ياقة غليظة، أكلت ذقني مرتين، لا يليق ببابا أن يحرث، لا يليق ببابا أن يغمز البنات، لا يليق ببابا أن يشرب القهوة مع العمال! أما الآن فلم يعد يليق لبابا ألا يليق به شيء! سأسافر إلى «كورجيلا» وأعقد خطبة ابنتي على الملحق الدبلوماسي، ثم أحضر لأشمر أكمامي وأجلس على الأكل بغير رقيب، وستصمت كلنكمان وأنام معها كفى. أما أنتم فسوف أرفع مرتباتكم؛ لأن العالم كبير وأنا أمتلك غابتي وهناك ما يكفيكم ويكفي السيد بونتيلا.
ماتي (يضحك طويلا بصوت عال ثم يقول) :
هدئ نفسك حتى لا نزعج القاضي من نومه فيحكم علينا بالسجن مائة عام.
بونتيلا :
أريد أن أتأكد أولا أنه لم تعد هناك هوة تفصل بيننا. قل: إنه لم يعد يفصل بيننا شيء!
ماتي :
أمرك يا سيد بونتيلا! لم يعد يفصل بيننا شيء.
بونتيلا :
أخي! يجب أن نتكلم عن المال.
ماتي :
بدون شك.
بونتيلا :
ولكن من الحقارة أن نتكلم عن المال.
ماتي :
إذن لا نتكلم عن المال.
بونتيلا :
خطأ. فلماذا لا نصبح حقراء؟ ألسنا أحرارا؟
ماتي :
لا .
بونتيلا :
أرأيت ؟ وبصفتنا أحرارا ففي استطاعتنا أن نفعل ما نشاء، والآن نريد أن نصبح حقراء؛ لأن علينا أن ندبر بأية وسيلة مهر ابنتي الوحيدة. هذه مسألة ينبغي أن ننظر إليها الآن نظرة موضوعية جادة حاسمة سكيرة، أمامي إمكانيتان، فإما أن أبيع غابة أو أبيع نفسي. أيهما تفضل؟
ماتي :
لا أحب أن أبيع نفسي ما دام في استطاعتي أن أبيع غابة.
بونتيلا :
ماذا؟ تبيع غابة؟ ها أنت تخيب أملي فيك تماما يا أخي، أتعرف ما هي الغابة؟ أتظن أنها عبارة عن عشرة آلاف ذراع من الخشب وحسب؟ أو أنها بهجة خضراء لعيون البشر؟ وتريد أن تبيع بهجة البشر الخضراء؟ اخجل من نفسك!
ماتي :
إذن نلجأ إلى الحل الثاني.
بونتيلا :
حتى أنت يا بروتوس! أتريد حقا أن أبيع نفسي؟
ماتي :
وما هي الوسيلة التي تبيع بها نفسك؟
بونتيلا :
السيدة كلنكمان.
ماتي :
التي تعيش في كورجيلا، حيث تسافر إليها؟ عمة الملحق الدبلوماسي؟
بونتيلا :
إنها تشعر بضعف من ناحيتي.
ماتي :
أهي هذه التي تريد أن تبيع لها جسدك؟ شيء فظيع!
بونتيلا :
أبدا أبدا. وماذا يكون مصير الحرية يا أخي؟ لكنني أعتقد أنني أضحي بنفسي، ثم من أكون أنا؟
ماتي :
هذا صحيح. (القاضي يستيقظ ويبحث عن جرس لا وجود له ولكنه يهزه بشدة.)
القاضي :
هدوءا في قاعة المحكمة!
بونتيلا :
إنه يحسب نفسه في قاعة المحكمة، لمجرد أنه نائم. أخي، الآن قد حسمت المشكلة وبينت لي أيهما أكثر قيمة: غابة كغابتي أو إنسان مثلي. أنت إنسان رائع. هاك محفظتي. ادفع الحساب ثم ضعها في جيبك، فأنا أفقدها دائما. (مشيرا للقاضي) : ارفعوه! ارموه في الشارع! إنني أضيع كل شيء. تمنيت لو كنت لا أملك شيئا، لكان هذا أحب إلى نفسي. المال رائحته عفنة، لا تنس هذا. إنني أحلم بأنني لا أملك شيئا، وبأننا نسير معا على الأقدام في فنلندا الجميلة، أو نركب عربة صغيرة ذات مقعدين اثنين. لن يرفض أحد أن يعطينا قليلا من البنزين، وحين نحس بالتعب ندخل من حين إلى حين في حانة كهذه، ونشرب كأسا من أجرنا في تقطيع الخشب. شيء كهذا يمكنك أن تفعله يا أخي بيدك اليسرى. (ينصرفان، ماتي يحمل القاضي.)
الفصل الثاني
إيفا
(مدخل في ضيعة كورجيلا. إيفا بونتيلا تنتظر أباها وتأكل شوكولاتة. الملحق الدبلوماسي إينوسيلاكا على أعلى السلم، يبدو عليه النعاس الشديد.)
إيفا :
أعتقد أن السيدة كلنكمان غاضبة جدا.
الملحق :
عمتي لا يطول غضبها. لقد سألت عليهم مرة أخرى بالتليفون، وعلمت أن بعض الناس في القرية شاهدوا سيارة تعبر بهم وفيها رجلان يهتفان ويهللان.
إيفا :
إنهما هما، أنا أستطيع أن أعرف أبي من بين ألف رجل، وكلما سمعت الناس يتحدثون عن رجل جرى وراء تابعه بالكرباج، أو أهدى سيارة إلى أرملة فلاح أجير عرفت أنهم يتحدثون عن أبي.
الملحق :
المهم أنه ليس هنا في عزبته في بونتيلا. أنا أخشى الفضيحة فقط. ربما كنت لا أفهم شيئا في الأرقام ولا أعرف كم لترا من اللبن يصح أن نرسلها إلى كاوناس؛ فأنا لا أشرب اللبن، ولكني أحس بالفضيحة قبل أن تقع إحساسا لا يخطئ؛ فعندما سمعت الملحق الدبلوماسي في السفارة الفرنسية في لندن يهتف في إحدى المآدب، بعد أن شرب ثماني كئوس كونياك، ويقول لدوقة كاترومبل إنها عاهرة، تنبأت على الفور بأن هناك فضيحة ستقع. وقد حدث ما توقعت. أعتقد أنهم قادمون. أنا متعب بعض الشيء، هل تسامحينني لو استأذنت في الانصراف؟ (ينصرف مسرعا.) (ضجة شديدة، يدخل بونتيلا والقاضي وماتي.)
بونتيلا :
ها نحن قد جئنا. لكن لا تثيري ضجة ولا توقظي أحدا. سنشرب زجاجة في هدوء ثم ننام. هل أنت سعيدة؟
إيفا :
نحن ننتظركم منذ ثلاثة أيام.
بونتيلا :
لقد اضطررنا للتوقف في الطريق، ولكننا أحضرنا معنا كل شيء. ماتي، هات الحقيبة. عسى أن تكون قد وضعتها بعناية على ركبتيك حتى لا ينكسر شيء وإلا هلكنا هنا من العطش. لقد أسرعنا بالحضور؛ لاعتقادنا بأنك تنتظريننا.
القاضي :
هل نقول مبارك يا إيفا؟
إيفا :
بابا، أنت مصيبة. أنا أنتظر في هذا البيت الغريب منذ أسبوع وليس معي سوى رواية قديمة والملحق وعمته حتى ذبلت من الملل.
بونتيلا :
لقد أسرعنا بالحضور. كنت دائما أتعجلهم وأقول لهم: لا يجب أن نتأخر فعندي كلام مع الملحق في موضوع الخطبة. وقد فرحت لوجودك مع الملحق حتى تجدي إنسانا يسليك في أثناء غيابنا. خذ بالك من الحقيبة يا ماتي حتى لا تحدث كارثة. (ينزل الحقيبة مع ماتي في حرص بالغ.)
القاضي :
هل تشاجرت مع الملحق حتى تشكي من تركك وحدك معه؟
إيفا :
أوه، لا أدري؛ فمن المستحيل أن يتشاجر الإنسان مع واحد مثله.
القاضي :
بونتيلا، ابنتك لا يبدو عليها الحماس. إنها تأخذ على الملحق أنه من النوع الذي لا يستطيع أحد أن يتشاجر معه. لقد نظرت مرة في قضية طلاق شكت فيها الزوجة زوجها؛ لأنها كانت تقذفه بالمصباح على رأسه فلم يضربها مرة واحدة. لقد شعرت أنه يهملها.
بونتيلا :
طيب. لقد فاتت هذه المرة أيضا على خير. إذا تدخل بونتيلا في شيء كان الحظ معه. ماذا؟ ألست سعيدة؟ أنا فاهم. إن سألتني رأيي نصحتك بأن تبتعدي عن الملحق. إنه ليس رجلا.
إيفا (التي ترى ماتي واقفا يبتسم بخبث) :
أنا لم أقل سوى أني غير متأكدة من أن الملحق يستطيع وحده أن يسليني.
بونتيلا :
وهذا هو ما أقوله أيضا. خذي ماتي. كل امرأة تستطيع أن تتسلى معه.
إيفا :
أنت فظيع يا بابا. لقد قلت فقط: إنني غير متأكدة (لماتي) : خذ هذه الحقيبة إلى الدور العلوي!
بونتيلا :
حاسب! أخرج أولا زجاجة أو زجاجتين. أريد قبل كل شيء أن أتكلم معك. إنني أسأل نفسي إن كان الملحق يناسبنا. هل تمت الخطوبة على الأقل؟
إيفا :
لا، لم تتم. إننا لم نتكلم عن مثل هذه الموضوعات. (لماتي) : لا تفتح هذه الحقيبة.
بونتيلا :
ماذا؟ الخطوبة لم تتم؟ في ثلاثة أيام؟ ماذا فعلتما إذا؟ إن هذا لا يعجبني منه. أنا أخطب في ثلاث دقائق. أحضريه، وسوف أدعو فتيات المطبخ لأبين له كيف أخطب في لمح البرق. هاتي الزجاجات، البرجوندر، لا، الليكور.
إيفا :
لا، لن تشرب الآن شيئا. (لماتي) : احمل الحقيبة إلى حجرتي. الثانية على اليمين من السلم .
بونتيلا (وقد شعر بالخطر وهو يرى ماتي يرفع الحقيبة) :
لكن يا إيفا، هذه قسوة منك. لا تستطيعين أن تمنعي أباك من بل ريقه. أعدك أن أفرغ في هدوء تام زجاجة واحدة مع الطاهية أو الخادمة أو فردريك، الذي ما زال أيضا يحس بالعطش. كوني إنسانة!
إيفا :
لقد ظللت يقظة حتى الآن لكي أمنعك من إزعاج الخدم في المطبخ.
بونتيلا :
أنا مقتنع بأن السيدة كلنكمان - أين هي الآن؟ - سترحب بالجلوس معي قليلا. فردريك متعب ويمكنه أن يذهب لينام، أما أنا فسوف أتناقش مع كلنكمان؛ فقد كانت هذه نيتي على كل حال. لقد كنا دائما نشعر بالضعف تجاه بعضنا.
إيفا :
أرجوك أن تتماسك قليلا. السيدة كلنكمان كانت ثائرة لأنك تأخرت عن موعدك ثلاثة أيام. أنا أشك فيما إذا كنت سترى وجهها غدا.
بونتيلا :
سوف أطرق بابها وأرتب كل شيء. إنني أعرف كيف أعاملها. هذه أمور لا تفهمينها يا إيفا.
إيفا :
أنا لا أفهم إلا أن أية امرأة سترفض الجلوس معك وأنت في هذه الحالة! (لماتي) : قلت لك ارفع هذه الحقيبة! يكفيني تأخيركم ثلاثة أيام.
بونتيلا :
إيفا! كوني عاقلة! إذا كنت لا تريدين أن أصعد إليها، فنادي على البنت القصيرة السمينة. أعتقد أنها هي مدبرة البيت، وعندي ما أقوله لها.
إيفا :
بابا! لا تخرج عن حدودك. وإلا حملت الحقيبة بنفسي ووقعت مني سهوا على السلالم. (بونتيلا يقف مفزوعا. ماتي يحمل الحقيبة بعيدا. إيفا تتبعه.)
بونتيلا (في هدوء) :
هكذا تعامل البنت أباها! (يستدير وهو يهتز من التأثر متجها إلى العربة)
فردريك! تعال معي!
القاضي :
ماذا تريد أن تفعل يا يوحنا؟
بونتيلا :
سأذهب بعيدا عن هنا. هذا البيت لا يعجبني. لقد أسرعت في الحضور، ووصلت متأخرا بالليل، وانظر كيف يستقبلونني؟ هل تلقاني أحد بالأحضان؟ إن هذا يا فردريك يذكرني بالابن الضائع. وبدلا من أن يذبحوا عجلا تلقوني بالشتائم. سأذهب بعيدا عن هنا.
القاضي :
إلى أين؟
بونتيلا :
لا أفهم كيف يمكنك بعد هذا كله أن تسأل؟ ألا ترى كيف تمنع ابنتي الخمر عني؟ وكيف أضطر إلى الجري في الليل لأبحث عن أحد يعطيني زجاجة أو زجاجتين؟
القاضي :
كن عاقلا يا بونتيلا. لن تجد خمرا في الساعة الثانية والنصف ليلا. إن بيع الكحول بدون شهادة من الطبيب ممنوع بحكم القانون.
بونتيلا :
أنت أيضا تتخلى عني، أتقول لن أعثر على خمرة قانونية؟ طيب. سوف أريك كيف أحصل على خمرة قانونية، في أي وقت بالليل أو بالنهار.
إيفا (تظهر على أعلى السلم) :
بابا! اخلع معطفك فورا!
بونتيلا :
كوني حكيمة يا إيفا! وأكرمي أباك وأمك لكي ترزقي بالعمر الطويل على هذه الأرض! (يتجه غاضبا إلى سيارته)
هذا بيت جميل! تنشر فيه أمعاء الضيوف لتجف على الحبال! لا أحصل على امرأة! سأريك كيف أحصل على امرأة! يمكنك أن تقولي للسيدة كلنكمان إنني زاهد في صحبتها! إنها في نظري العذراء المعتوهة التي خلا مصباحها من الزيت! الآن سأنطلق بأقصى سرعة، حتى تدوي الأرض وتصبح كل المنحنيات من الرعب مستقيمة! (يخرج.)
إيفا (تهبط السلالم) :
أنت! أمسك السيد!
ماتي (يظهر خلفها) :
فات الوقت. إنه سريع جدا.
القاضي :
أعتقد أنني لن أستطيع انتظاره. لم أعد شابا كما كنت يا إيفا. لا أظن أنه سيؤذي نفسه. لقد كان الحظ دائما معه. أين حجرتي؟ (يصعد السلالم.)
إيفا :
الثالثة على يمين السلم. (لماتي) : والآن علينا أن نظل يقظين حتى لا يشرب مع الخدم ويهين نفسه معهم.
ماتي :
إن رفع التكليف لا يأتي من ورائه إلا النكد. كنت أعمل في مصنع ورق فقدم البواب استقالته؛ لأن السيد المدير سأله عن صحة ابنه.
إيفا :
هم يستغلون أبي دائما أسوأ استغلال بسبب هذا الضعف. إنه طيب جدا.
ماتي :
من حسن حظ الناس حوله أنه يسكر في بعض الأحيان. إنه عندئذ يصبح إنسانا طيب القلب ويرى أمامه فيرانا بيضاء ويتمنى أن يربت عليها؛ لأنه طيب القلب إلى أقصى حد.
إيفا :
لا أحب أن تتكلم عن سيدك بهذه اللهجة، أو تأخذ الكلام الذي قاله عن الملحق مثلا بالحرف الواحد، ولا أحب أيضا أن تنقل الكلام الذي قاله على سبيل المزاح إلى كل من هب ودب .
ماتي :
من أن الملحق ليس رجلا؟ إن الآراء تختلف في معنى الرجولة اختلافا شديدا. كنت أعمل عند صاحبة مصنع بيرة، وكانت لها ابنة، نادتني مرة من الحمام لكي أحضر لها برنسا؛ فقد كانت خجولة جدا. قالت لي وهي تقف أمامي عارية كما خلقها الله: «ناولني بشكيرا؛ فإن الرجال ينظرون إلي عندما أستحم.»
إيفا :
لا أفهم ما تريد أن تقول.
ماتي :
لا أريد شيئا. أنا أتكلم فقط لأقتل الوقت وأسليك. إنني حين أتكلم مع سادتي لا أقصد شيئا ولا يكون لي رأي في أي شيء. إنهم لا يطيقون ذلك من الخدم.
إيفا (بعد فترة قصيرة) :
إن الملحق محترم جدا في السلك الدبلوماسي، وأمامه مستقبل عظيم. أحب أن يفهم الناس ذلك. إنه من أذكى الشبان في الجيل الجديد.
ماتي :
فهمت.
إيفا :
إن ما كنت أقصده هو أنني لم أتسل مع الملحق كما كان أبي ينتظر. بالطبع ليس المهم في الرجل أن يكون مسليا أو لا يكون.
ماتي :
عرفت رجلا لم يكن مسليا على الإطلاق، ومع ذلك فقد كون من السمن الصناعي ثروة بلغت المليون.
إيفا :
إن خطوبتنا مقررة من مدة طويلة. إننا نعرف بعضنا من أيام الطفولة. ربما كنت بطبيعتي شديدة الحيوية؛ ولذلك أشعر بالملل بسرعة.
ماتي :
من أجل هذا تترددين؟
إيفا :
أنا لم أقل هذا. لا أدري لماذا لا تريد أن تفهمني؟ إنك متعب بغير شك. لماذا لا تذهب لتنام؟
ماتي :
إنني أونسك.
إيفا :
لا داعي لأن تتعب نفسك. لقد أردت أن أؤكد لك أن الملحق إنسان ذكي وطيب القلب، لا يصح أن يحكم عليه الناس من مظهره ولا من كلامه أو تصرفاته. إنه شديد الاهتمام بي ويحس برغباتي بمجرد النظر في عيني. لن يتصرف في يوم من الأيام تصرفا سخيفا أو يرفع الكلفة بينه وبين الناس أو يستعرض رجولته أمام امرأة. إنني أحترمه وأقدره، ولكن ربما أردت أن تنام؟
ماتي :
استمري في كلامك. إنني لا أغلق عيني إلا لكي يساعدني ذلك على شدة التركيز.
الفصل الثالث
بونتيلا يعقد خطبته على المستيقظات في البكور
(ساعة الفجر في القرية. بيوت صغيرة من الخشب. كتب على أحدها «بريد» وعلى الآخر «طبيب بيطري» وعلى الثالث «صيدلية». في وسط الميدان عامود تلغراف. بونتيلا يصطدم بسيارته «الاستوديو بيكر» بعامود التلغراف ويوبخه.)
بونتيلا :
أفسحوا الطريق في تافاستلاند! أنت أيها العامود! ابتعد يا حيوان! لا تقف في طريق بونتيلا. من أنت؟ هل عندك غابة؟ هل عندك بقر؟ أرأيت؟ إلى الوراء! وإلا كلمت مفتش البوليس ليعتقلك مع الحمر حتى تندم! (ينزل من السيارة)
أخيرا تزحزحت! (يتجه إلى أحد البيوت الخشبية ويطرق النافذة. إيما المهربة تطل من النافذة.)
بونتيلا :
صباح الخير يا سيدتي الكريمة. هل نمت نوما طيبا؟ لي طلب بسيط عند السيدة الكريمة. أنا صاحب الأطيان بونتيلا من لامي ووقعت في مشكلة فظيعة؛ فأنا محتاج لخمرة قانونية لأبقاري المريضة بالحمى القرمزية. أين يسكن طبيب البهائم في قريتكم؟ إن لم تدليني عليه فسوف أقلب كوخك الحقير رأسا على عقب.
المهربة إيما :
يا إلهي! أنت خارج عن طورك تماما. بيت الطبيب البيطري تجده هنا. هل قال السيد إنه محتاج لخمرة؟ أنا عندي خمرة لذيذة، قوية، صنعتها بنفسي.
بونتيلا :
ابتعدي يا امرأة! كيف تجرئين على عرض خمرتك غير القانونية علي؟ إنني لا أشرب إلا الخمرة المصرح بها بحسب القانون، وكل خمرة سواها لا تنزل من حنجرتي. إنني أفضل الموت على أن يقال عني: إنني من أولئك الذين لا يحترمون القوانين الفنلندية. لماذا؟ لأني أفعل كل شيء طبقا للقانون. وإذا أردت يوما أن أقتل أحدا، فسأقتله بحسب القانون وإلا فلا.
المهربة إيما :
سيدي الكريم! جاءتك الرعشة من خمرتك القانونية! (تختفي في كوخها. بونتيلا يجري نحو بيت الطبيب البيطري ويدق الجرس، الطبيب البيطري يطل من الشباك.)
بونتيلا :
يا طبيب البهائم! يا طبيب البهائم! هل عثرت عليك أخيرا؟ أنا صاحب الأطيان بونتيلا من لامي وعندي تسعون بقرة والتسعون مصابة بالحمى القرمزية، يلزمني حالا كحول قانوني.
الطبيب البيطري :
أعتقد أنك أخطأت العنوان، والأحسن لك أن تنصرف.
بونتيلا :
أيها الطبيب البيطري! لا تخيب أملي. أنت لست طبيبا بيطريا بحق. وإلا عرفت ما يعطيه الناس لبونتيلا في تافاستلاند كلها، عندما تصاب أبقاره بالحمى القرمزية. أنا لا أكذب. لو أنني قلت: إنها مصابة بالسقاوة لكانت كذبة، ولكنني حين أقول: إنها مريضة بالحمى القرمزية فهذه كلمة سر بين الشرفاء.
الطبيب البيطري :
وإذا كنت لا أفهم كلمة السر؟
بونتيلا :
في هذه الحالة ربما قلت لك: إن بونتيلا هو أكبر فتوة في تافاستلاند كلها. هناك أغنية شعبية عنه. ثلاثة من أطباء البهائم ذنبهم في رقبته. هل تفهم الآن يا سيادة الدكتور؟
الطبيب البيطري (ضاحكا) :
نعم، الآن فهمت. ما دمت قويا إلى هذا الحد، فسوف تحصل بالطبع على وصفتك، إذا تأكدت أولا أنها مصابة بالحمى القرمزية.
بونتيلا :
يا حضرة الطبيب البيطري! إذا كانت كلها ظهرت عليها بقع حمراء وعلى اثنتين منها بقع سوداء، أليس هذا هو المرض في أبشع صوره؟ والصداع الذي تقاسي منه بغير شك ويجعلها تتمرغ طول الليل بغير أن تنام ولا تفكر في شيء إلا في ذنوبها!
الطبيب البيطري :
في هذه الحالة يكون من واجبي أن أخفف عنها الألم. (يقذف له الوصفة «الروشتة».)
بونتيلا :
والحساب أرسله إلي على عنواني: بونتيلا في لامي! (بونتيلا يجري إلى الصيدلية ويدق الجرس بعنف. وبينما هو ينتظر تخرج المهربة إيما من بيتها الخشبي الصغير.)
المهربة إيما (تغني وهي تنظف الزجاجات) :
وعندما نضج البرقوق،
ظهرت في القرية عربة بحصان،
نزل منها شاب جميل
في الصباح، قادما من الشمال. (ترجع إلى بيتها الخشبي. عاملة الصيدلية تطل من النافذة.)
عاملة الصيدلية :
لا تمزق لنا الجرس!
بونتيلا :
تمزيق الجرس أفضل من الانتظار! كت كت كت تب تب تب! أنا محتاج خمرة لتسعين بقرة، أنت يا حلوة! يا سمينة!
عاملة الصيدلية :
أعتقد أنك محتاج لأن أنادي لك شرطيا!
بونتيلا :
يا صغيرتي! يا صغيرتي! تنادين الشرطة من أجل إنسان مثل بونتيلا من لامي! وماذا يفيده جندي واحد؟ لا بد أن يكونوا اثنين على الأقل! ولكن لم الشرطة؟ أنا أحب رجال الشرطة. إن أقدامهم أكبر من أقدام الناس، ولهم خمس أصابع في كل قدم؛ ذلك لأنهم يحافظون على النظام، وأنا أحب النظام! (يعطيها الوصفة)
هنا يا حمامتي القانون والنظام! (عاملة الصيدلية تحضر الكحول. وبينما بونتيلا ينتظر تظهر المهربة إيما مرة أخرى قادمة من بيتها الخشبي.)
المهربة إيما (تغني) :
وعندما كنا نجمع البرقوق،
نام على العشب،
ذقنه شقراء، وعلى ظهره
رأى هذا وذاك. (تعود إلى بيتها الخشبي الصغير. عاملة الصيدلية تحضر الكونياك.)
عاملة الصيدلية (ضاحكة) :
وهذه زجاجة كبيرة. عسى أن تجد في اليوم التالي «رنجة» تكفي أبقارك! (تعطيه الزجاجة.)
بونتيلا :
جلوك جلوك جلوك! أنت أيتها الموسيقى الفنلندية. يا أجمل موسيقى في الدنيا! يا إلهي! كدت أنسى! معي الآن الخمرة ولكن ليست معي امرأة! وأنت لا عندك خمر ولا معك رجل! أيتها العاملة الجميلة أريد أن أخطبك!
عاملة الصيدلية :
أشكرك جدا يا سيد بونتيلا من لامي، ولكني لا أقبل الخطبة إلا على حسب القانون، بخاتم وجرعة نبيذ.
بونتيلا :
موافق، ما دمت ستوافقين على الخطوبة، ولكن لا بد من الخطوبة، لقد آن الأوان. فأية حياة هذه التي عشتها حتى الآن؟ أريد أن تكلميني عن نفسك. قولي لي كيف تعيشين. لا بد أن أعرف هذا، ما دمت سأخطبك!
عاملة الصيدلية :
أنا؟ هذه هي حياتي: تعلمت أربع سنوات، والآن يدفع لي الصيدلي أقل مما يدفع للطاهية. نصف مرتبي أرسله إلى أمي التي تعيش في تافاستهوس؛ فقلبها ضعيف، وأنا أيضا، ورثت مرض القلب عنها. من كل ليلتين أسهر ليلة. الصيدلية تغار مني؛ لأن الصيدلي يعاكسني. الطبيب خطه رديء، وقد حدث مرة أن صرفت وصفة بدل أخرى. والأدوية تحرق فساتيني والغسيل غال. ليس لي صديق؛ فضابط الشرطة ومدير الجمعية التعاونية وصاحب المكتبة كلهم متزوجون. أعتقد أن حياتي محزنة.
بونتيلا :
أرأيت؟ لا تفرطي إذا في بونتيلا، خذي، اشربي جرعة!
عاملة الصيدلية :
ولكن أين الخاتم؟ إنهم يقولون: جرعة نبيذ وخاتم!
بونتيلا :
أليس عندك خواتم ستائر؟
عاملة الصيدلية :
أتريد واحدا أو أكثر؟
بونتيلا :
أكثر من واحد. واحد لا يكفي. بونتيلا يحب أن يكون لديه الكثير من كل شيء. من البنات أيضا. البنت الواحدة عنده لا تنفع، فهمت؟ (بينما تبحث عاملة الصيدلية عن عامود من أعمدة الستائر تظهر المهربة إيما مرة أخرى قادمة من بيتها الخشبي.)
المهربة إيما (تغني) :
وعندما طبخنا البرقوق،
راح يمزح معنا،
ويمد إبهامه ضاحكا،
في هذا الوعاء وذاك. (عاملة الصيدلية تعطي بونتيلا الخواتم التي نزعتها من أعمدة الستائر.)
بونتيلا (وهو يضع خاتما في إصبعها) :
تعالي إلى بونتيلا يوم الأحد بعد ثمانية أيام. سيحتفل بخطوبة كبيرة. (يواصل سيره. راعية البقر ليزو تقابله حاملة قسط لبن)
قفي يا حمامتي! لا بد أن تكوني لي! إلى أين في هذه الساعة المبكرة؟
راعية البقر :
أحلب البقر!
بونتيلا :
ماذا؟ وتجلسين وليس بين فخذيك سوى وعاء اللبن؟ ألا تريدين زوجا؟ يا لها من حياة! كلميني عن حياتك، فأنت تعجبينني!
راعية البقر :
هذه هي حياتي: أصحو من النوم كل يوم في الثالثة والنصف صباحا، أحمل الروث من الحظيرة وأنظف البقر بالفرشاة، ثم أحلب وأغسل قسط اللبن بالصودا، وهذا يلهب يدي. بعد ذلك أنظف الحظيرة مرة أخرى من الروث، ثم أشرب قهوتي العطنة؛ فهي قهوة رخيصة، ثم آكل قطعة خبز بالزبدة وأنام قليلا. بعد الظهر أسوي بعض البطاطس وأضع عليها قليلا من الصلصة. أما اللحم فلا أراه أبدا، ولكن ربما أهدتني مدبرة البيت بيضة أو وجدت أنا بالصدفة واحدة، ثم أعود إلى تنظيف الحظيرة والبقر والحليب وغسل أوعية اللبن. لا بد أن أحلب كل يوم مائة وعشرين لترا من اللبن. بالليل آكل الخبز باللبن، الذي يعطونني منه لترين في اليوم، أما إذا احتجت لشيء أطبخه، فلا بد أن أشتريه من المزرعة. كل خمسة أسابيع آخذ يوم الأحد إجازة، في المساء أذهب أحيانا للرقص، وإذا ساء حظي رزقت بطفل. عندي فستانان، وعندي كذلك دراجة.
بونتيلا :
وأنا عندي مزرعة وطاحونة بالبخار وورشة نجارة لتقطيع الخشب وليس عندي امرأة! ما رأيك يا حمامتي؟ ها هو الخاتم، واشربي جرعة من الزجاجة، وكل شيء على ما يرام وعلى حسب القانون، تعالي إلى بونتيلا يوم الأحد بعد ثمانية أيام! اتفقنا؟!
راعية البقر :
اتفقنا ! (بونتيلا يواصل سيره.)
بونتيلا :
لنواصل السير إلى نهاية شارع القرية! أود أن أعرف من الذي استيقظ في هذه الساعة. إنهم جميعا لا يقاومون، حين يتسللون من الفراش وعيونهم لا تزال تلمع بالخطيئة، والعالم لا يزال شابا. (يقف أمام مبنى التليفون المركزي. وهناك يجد أمامه عاملة التليفون ساندرا.)
بونتيلا :
صباح الخير يا حرس! أنت أعلم امرأة، أنت التي تعرفين كل الأسرار عن طريق التليفون.
صباح الخير يا حلوة!
عاملة التليفون :
صباح الخير يا سيد بونتيلا. ماذا جرى لك في هذه الساعة؟
بونتيلا :
أبحث عن عروسة.
عاملة التليفون :
هل أنت الذي ظللت نصف الليل أبحث عنه بالتليفون؟
بونتيلا :
نعم، أنت تعرفين كل شيء. وأنت التي ظللت نصف الليل ساهرة وحدك! أريد أن أعرف أية حياة هذه التي تحيينها؟!
عاملة التليفون :
أستطيع أن أصفها لك. هذه هي حياتي؛ فأنا أحصل على خمسين ماركا، وفي سبيل ذلك يحرم علي أن أغادر مبنى التليفون منذ ثلاثين عاما. خلف المبنى قطعة أرض صغيرة مزروعة بالبطاطس أحصل منها على طعامي، ولكن علي أن أشترى سمك الرنجة من جيبي، والقهوة يرتفع سعرها باستمرار. أنا أعرف كل ما يحدث في القرية وفي خارجها أيضا. سوف تدهش إذا قلت لك كل ما أعرف؛ لهذا السبب لم يتزوجني أحد. وأنا سكرتيرة نادي العمال، وأبي كان صانع أحذية. توصيل المكالمات، طبخ البطاطس، ومعرفة كل الأخبار، تلك هي حياتي.
بونتيلا :
لقد آن الأوان لكي تغيري حياتك، وبسرعة أرسلي الآن برقية إلى المكتب الرئيسي وقولي لهم: إنك ستتزوجين بونتيلا من لامي. ها هو الخاتم، وها هو الكونياك، كل شيء بحسب القانون، ويوم الأحد بعد ثمانية أيام تأتين إلى بونتيلا!
عاملة التليفون (ضاحكة) :
سأكون هناك. أعرف أنك ستحتفل بخطبة ابنتك.
بونتيلا (للمهربة إيما) :
وأنت قد سمعت أنني أخطب هنا بالجملة. أرجوك يا سيدتي الكريمة ألا تتأخري.
المهربة إيما وعاملة التليفون (تغنيان) :
ولما أكلنا البرقوق المهموك،
كان قد ذهب واختفى،
ولكن، صدقونا،
لن ننسى الشاب الجميل أبدا.
بونتيلا :
والآن أواصل سفري فألف حول البركة وأخترق الغابة حتى أصل إلى موقف الأنفار ... كوت كوت كوت تب تب تب! وأنتن يا بنات تافاستلاند! يا من ظللتن تستيقظن في البكور، سنوات طويلة بغير فائدة، حتى جاء بونتيلا وعوضكن خيرا! إلي جميعا، إلي! يا من تشعلن الأفران في الفجر، ويا من ترسلن الدخان فوق الأسطح، تعالين حفاة الأقدام؛ فالعشب الطري سيعرف خطاكن وبونتيلا سيسمعها!
الفصل الرابع
موقف الأنفار
(سوق الأنفار في ميدان قرية لامي. بونتيلا وماتي يبحثان عن عمال. تسمع موسيقى شعبية مما يعزف في الأسواق وأصوات كثيرة.)
بونتيلا :
صعب علي منك أن تتركني أسافر وحدي من كورجيلا. ولكنني لن أنسى بسهولة أنك لم تسهر حتى أعود، بل كان علي أن أشدك من السرير لكي نسافر معا إلى سوق العمال. إن هذا ليس أفضل مما فعله الحواريون فوق جبل الزيتون. اخرس! لقد عرفت الآن أنني يجب أن أفتح عيني عليك جيدا. لقد شربت كأسا زيادة عن المعتاد، فإذا بك تستغل الفرصة لمصلحتك.
ماتي :
أجل، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
لا أريد أن أتشاجر معك؛ فصحتي ضعيفة، ولكنني أقولها لمصلحتك، كن متواضعا، بذلك تنفع نفسك. من يبدأ بالجشع ينته إلى الزنزانة. والخادم الذي يفرغ عينه وهو يرى سادته يأكلون، لا يمكن أن يحتمله أحد، أما المتواضع فيحرصون عليه. ولم لا؟ إذا رأوه يميت نفسه من الشغل، أغمضوا عيونهم. أما إذا طلب كل يوم إجازة، وقطعا من اللحم المشوي في حجم أغطية «المجاري» فإنهم يتقززون منه ويطردونه. أنت طبعا لا تريد هذا لنفسك.
ماتي :
طبعا يا سيد بونتيلا. لقد قرأت مرة في ملحق العدد الأسبوعي من جريدة «هلسنكي سانومات» أن التواضع من علامات الأدب. والشخص المتحفظ الذي يتحكم في عواطفه يتقدم دائما. ويقال: إن كوتيلابين الذي يملك مصانع الورق الثلاثة القريبة من فيبورج أشد الناس تواضعا. هل نبدأ الآن في اختيار العمال قبل أن يخطفوا منا أفضلهم؟
بونتيلا :
أريد الأقوياء. (وهو يفحص رجلا ضخما)
هذا لا بأس به، عوده هو المطلوب تقريبا. قدماه لا تعجبانني. يظهر أنك تحب الكسل، وذراعاه ليسا أطول من ذراعي ذلك الرجل هناك، مع أنه أقصر منه، ولكن ذراعيه طويلان طولا غير مألوف. (للأقصر) : هل تفهم في «الراكية»؟
رجل سمين :
ألا ترى أنني أتفاوض مع الرجل؟
بونتيلا :
أنا أيضا أتفاوض معه وأرجوك ألا تتدخل.
الرجل السمين :
ومن الذي يتدخل الآن؟
بونتيلا :
لا توجه إلي هذه الأسئلة الوقحة؛ فأنا لا أحتملها. (للعامل) : أنا أدفع في بونتيلا نصف ماركا للمتر الواحد. يمكنك أن تقدم نفسك يوم الإثنين. ما اسمك؟
الرجل السمين :
هذه قلة ذوق! أتفاهم مع الرجل في أمر سكنه وسكن عائلته، وأنت تندس وتصطاد في الوسط. هناك صنف من الناس يجب أن يمنعوا من دخول السوق منعا باتا.
بونتيلا :
آه! وعندك عائلة؟ أنا عندي شغل لكم جميعا. وزوجتك يمكنها أن تشتغل في الحقل. هل صحتها قوية؟ كم ولدا عندك؟ وسنهم؟
العامل :
عندي ثلاثة، سنهم ثمانية وأحد عشر واثنا عشر، أكبرهم بنت.
بونتيلا :
ستكون صالحة للمطبخ. كأنكم خلقتم للعمل عندي. (بصوت مرتفع لماتي حتى يسمعه الرجل السمين) : ما رأيك في سلوك الناس في هذه الأيام؟
ماتي :
لا أستطيع الكلام.
العامل :
والسكن، كيف حاله؟
بونتيلا :
سكن ملوك! سأراجع بطاقتك في القهوة. انتظرني هناك بجانب الحائط. (لماتي) : هذا الرجل الواقف هناك يعجبني قوامه، ولكن سرواله أنيق جدا، مما يجعله غير صالح للعمل، يجب أن تفحص الملابس بنوع خاص؛ فإذا كانت أنيقة تأففوا من العمل، وإذا كانت ممزقة دلت على أخلاقه السيئة. إنني أكشف الواحد منهم بنظرة واحدة. أما السن فلا يهمني؛ فالشيوخ يكدحون مثل الشبان وربما أكثر منهم؛ لأنهم يحرصون على ألا يطردوا من العمل. المهم عندي هو الإنسان. يكفيني ألا يكون عاجزا. أما الذكاء فلا يساوي عندي شيئا؛ فالأذكياء لا يفعلون طوال اليوم شيئا سوى أن يعدوا ساعات العمل. إنني لا أطيق هذا. أريد أن تكون علاقتي مع رجالي علاقة أصدقاء. أريد أيضا أن أتفرج على راعية بقر. لا تنس أن تذكرني، ولكن ابحث قبل هذا عن عامل أو اثنين، حتى أختار منهما، سأتصل بالتليفون. (ينصرف إلى المقهى.)
ماتي (يكلم عاملا أحمر الشعر) :
نحن نبحث عن عامل لبونتيلا؛ لكي يقوم بعمل الراكية. أنا السائق الذي يعمل عنده وليس لي أن أقول شيئا. لقد ذهب العجوز ليتكلم في التليفون.
العامل الأحمر الشعر :
وكيف الحال في بونتيلا؟
ماتي :
متوسطة، أربعة لترات لبن في اليوم. لا بأس. والبطاطس يقدمونها أيضا، كما سمعت. الحجرة ليست كبيرة.
الأحمر الشعر :
هل المدرسة بعيدة؟ ابنتي تلميذة.
ماتي :
ساعة وربع.
الأحمر الشعر :
لا تعتبر بعيدة، إذا كان الطقس حسنا.
ماتي :
في الصيف لا تعد بعيدة.
الأحمر الشعر (بعد فترة صمت) :
موافق على العمل. لم أجد شيئا أفضل. وسوف يغلقون السوق بعد قليل.
ماتي :
سأتكلم معه. سأقول له إنك متواضع؛ فهو يحب ذلك، وإنك لست عاجزا. سيكون قد انتهى من المكالمة وأصبح في حالة تسمح بالتفاهم معه. ها هو قادم.
بونتيلا (قادما من القهوة صافي المزاج) :
هل وجدت شيئا؟ أريد أيضا أن آخذ معي خنزيرا صغيرا بحوالي اثني عشر ماركا، لا تنس أن تذكرني به.
ماتي :
هذا الرجل لا بأس به. تذكرت ما تعلمته منك ووجهت إليه بعض الأسئلة. إنه يرقع سراويله بنفسه، ولكنه لم يجد أحدا يعطيه الخيط.
بونتيلا :
عظيم، ناري، تعال معي إلى القهوة. سنتكلم في الموضوع.
ماتي :
لا بد من الموافقة في الحال يا سيد بونتيلا. سوف يغلقون السوق بعد قليل ولن يجد شيئا.
بونتيلا :
ولماذا لا أوافق ما دمنا أصدقاء؟ إنني أعتمد على نظرتك، يا ماتي، وأعصابي من هذه الناحية هادئة. إنني أعرفك وأقدرك. (موجها الكلام لعامل بائس) : وهذا أيضا لا بأس به. إن عينه تعجبني. أنا محتاج لعمال لعمل الراكية. ولكنني سأحتاج لغيرهم أيضا في الحقل. تعال معي. سنتكلم في الموضوع.
ماتي :
يا سيد بونتيلا! لا أريد أن أعترض عليك، ولكن الرجل لا يصلح لك. إنه لا يتحمل العمل.
العامل البائس :
هل سمع أحد بمثل هذا؟ من أدراك أنني لا أتحمل العمل؟
ماتي :
إحدى عشرة ساعة ونصف في الصيف، أريد فقط أن أجنبك خيبة الأمل، يا سيد بونتيلا، سوف تضطر بعد هذا إلى طرده إذا لم يتحمل الشغل أو إذا رأيته صباح الغد.
بونتيلا :
هيا بنا إلى القهوة! (العامل الأول والعامل ذو الشعر الأحمر والبائس يتبعون بونتيلا وماتي إلى القهوة، ويجلسون معا على الأريكة.)
بونتيلا :
هاللو! قهوة! قبل أن نبدأ، أحب أن أصفي مسألة بيني وبين صديقي ماتي، لا بد أنك لاحظت منذ قليل أنني أصبت بإحدى النوبات التي كلمتك عنها، ولو كنت صفعتني كما طلبت منك في السر لعذرت تصرفك، ماتي، هل تسامحني؟ إن من المستحيل علي أن أتفرغ للشغل وأنا أعرف أنه كان بيني وبينك شيء.
ماتي :
لقد نسيت هذا من مدة طويلة. أفضل شيء ألا نمس هذا الموضوع الآن. العمال يريدون أن تعطيهم عقودهم فأنه هذه المسألة أولا إذا تكرمت.
بونتيلا (يسجل شيئا على ورقة بشأن العامل الأول) :
فهمتك يا ماتي. أنت تنفر منى، تريد أن تنتقم مني فيما بعد، أنت بارد ولا تفكر إلا في الشغل. (للعامل) : أنا أكتب ما اتفقنا عليه، وبخصوص زوجتك أيضا، سأعطيك اللبن والدقيق، والفاصوليا في الشتاء.
ماتي :
والآن أعطه المقدم، بدون المقدم لا عقود.
بونتيلا :
لا تستعجلني. دعني أشرب قهوتي في هدوء (للنادلة) : فنجالا آخر، أو هاتي لنا برادا كبيرا، وسنصب لأنفسنا. انظر هذه الرشاقة! إنني لا أطيق سوق العمال هذا، إذا أردت أن أشتري حصانا أو بقرة ذهبت إلى السوق بدون أن أفكر في شيء، أما أنتم، أنتم بشر! لا يصح أبدا أن يساوموا عليكم في السوق. هل معي حق؟
البائس :
طبعا.
ماتي :
بعد إذنك يا سيد بونتيلا، لا ليس معك حق. هؤلاء الناس يبحثون عن عمل، وأنت لديك العمل الذي تقدمه لهم، ومن هنا تتم المساومة. وسواء أتم هذا في السوق أو في الكنيسة فهو دائما سوق. بودي أن تنتهي من المسألة بسرعة.
بونتيلا :
أنت اليوم ساخط علي، وإلا ما عارضتني في مسألة واضحة كالشمس. هل تنظر إلي لترى إن كانت قدماي مستقيمتين كما لو كنت تفتح فم الحصان لتفحصه؟
ماتي (يضحك) :
لا، إنني أثق فيك تماما. (مشيرا إلى العامل الأحمر الشعر)
إن له زوجة ، ولكن ابنته الصغيرة ما زالت تذهب إلى المدرسة.
بونتيلا :
هل هي لطيفة؟ ها هو الرجل السمين من جديد. إن مشيته تثير الدماء في عروق العمال؛ فهو يتصنع الرئاسة. أراهن على أنه في الحرس الوطني وأنه يجبر رجاله على التدريب يوم الأحد تحت قيادته؛ لكي يهزموا الروس، ألا تصدقونني؟
ذو الشعر الأحمر :
زوجتي تغسل. إنها تستطيع أن تنجز في نصف يوم ما لا ينجزه غيرها في يوم كامل.
بونتيلا :
ماتي! ألاحظ أن سوء التفاهم الذي بيننا لم ينس أو يدفن بعد. احك لهم حكاية الأشباح؛ فسوف تسليهم.
ماتي :
فيما بعد، أنه أولا مسألة المقدم الذي ستدفعه على الحساب. قلت لك إن الوقت سيفوت، وأنت تعطل الناس.
بونتيلا (وهو يشرب) :
لن أفعل. لن أترك أحدا يرغمني على هذه الوحشية. أريد أن أتقرب من رجالي قبل أن نرتبط بعضنا ببعض. أريد أولا أن يعرفوني على حقيقتي لكي يروا إن كانوا سيستريحون معي. هذا هو السؤال: أي إنسان أنا؟
ماتي :
يا سيد بونتيلا، دعني أؤكد لك أنه ليس هناك أحد يريد أن يعرف هذا، إنهم لا يريدون إلا العقود. أنصحك أن تأخذ هذا الرجل (مشيرا للرجل الأحمر الشعر)
يبدو عليه أنه أصلحهم وسوف تلاحظ ذلك بنفسك. أما أنت فنصيحتي لك أن تبحث عن عمل آخر؛ إن عمل الراكية لن يضمن لك ولا الخبز الجاف.
بونتيلا :
ها هو سوركالا يسير هناك. ماذا يفعل إذن في سوق العمال؟
ماتي :
إنه يبحث عن عمل. ألم تعد القسيس بأن تطرده لأنهم يقولون إنه اشتراكي؟
بونتيلا :
ماذا؟ سوركالا؟ العامل الذكي الوحيد في مزرعتي؟ أعطه الآن عشرة ماركات، في الحال، وقل له يحضر إلى هنا، سنأخذه معنا في الاستوديو بيكر، والدراجة سنربطها على ظهر العربة، ولن نبحث الآن عن أحد غيره. عنده أربعة أطفال، ماذا يظن بي؟ أما القسيس فليضرب رأسه في الحائط،
1
إنني سأحرم عليه دخول بيتي، سوركالا عامل درجة أولى.
ماتي :
سأذهب إليه الآن. لا داعي للعجلة. إنه لن يجد شيئا لسمعته السيئة. أرجوك أولا أن تنهي مسألة هؤلاء الناس، أعتقد أنك لست جادا وتريد أن تتسلى فقط.
بونتيلا (يبتسم في مرارة) :
أهذا هو رأيك في يا ماتي؟ لم تفهمني قط برغم الفرص التي أعطيتها لك!
العامل الأحمر الشعر :
هل تتكرم الآن بتوقيع العقد لي، لقد حان الوقت لأبحث عن شيء آخر.
بونتيلا :
أنت تجعل الناس يهربون مني يا ماتي. أنت تجبرني بأساليبك المستبدة أن أتصرف ضد طبيعتي، ولكنني سوف أقنعك بأن بونتيلا إنسان آخر تماما. أنا لا أشتري الناس بلا رحمة، بل أقدم لهم بيتا في بونتيلا. أليس كذلك؟
ذو الشعر الأحمر :
ما دامت الحال كذلك فالأفضل أن أتصرف، أنا محتاج لعمل.
بونتيلا :
قف! ها هو قد ذهب. كان من الممكن أن أحتاج إليه. سراويله لا تهمني. إن نظرتي أبعد من هذا. لا أحب أن أعقد صفقاتي في أثناء الشرب، حتى ولو شربت كأسا واحدة. ولا أحب الكلام في الشغل، عندما يكون من الأنسب أن أغني؛ لأن الحياة جميلة. كلما فكرت في طريق العودة! إن بونتيلا أحب ما تكون إلي بالليل؛ فغابات الصنوبر تزيدها جمالا. لا بد أن نشرب كأسا أخرى. هيا اشربوا، كونوا مرحين مع بونتيلا. أنا أحب أن أراكم فرحين ولا أفكر في الحساب عندما يكون المجلس لطيفا. يعطي لكل واحد منهم ماركا بسرعة. (للعامل البائس) : لا تتأثر بكلامه، إنه ساخط علي. سيعجبك الشغل وسأعينك في الطاحونة، في عمل سهل.
ماتي :
ولماذا لا تكتب عقدا معه؟
بونتيلا :
وما الداعي ما دمنا الآن نعرف بعضنا؟ أعدكم بشرفي أن كل شيء سيكون على ما يرام. هل تعرفون قيمة الكلمة التي يقولها فلاح من تافاستلاند؟ قد ينهار جبل هاثيلما، هذا شيء مستبعد، ولكنه قد يحدث. قد تتهدم قلعة تافاستلاند، ولم لا؟ أما كلمة فلاح من تافاستلاند فهي باقية. هذا شيء معروف. يمكنك أن تأتي معي.
البائس :
أشكرك يا سيد بونتيلا. سأحضر بالتأكيد.
ماتي :
بدل أن تهرب بجلدك! ليس في نفسي شيء من ناحيتك يا سيد بونتيلا، ولكن قلبي على الناس.
بونتيلا (في لهجة حائرة) :
تعجبني كلمتك يا ماتي . لقد عرفت أنك لا تحمل في نفسك شيئا من ناحيتي. وأنا أقدر صراحتك، وحرصك على مصلحتي، ولكن بونتيلا يمكنه أن يتصرف ضد مصلحته، ويجب عليك أن تتعلم هذا. ولكنني أحب يا ماتي أن تقول لي رأيك دائما. عدني بهذا (للآخرين) : لقد فقد وظيفته في «تامر فورس»؛ لأنه قال للمدير الذي كان يسوق السيارة بأقصى سرعة إنه كان يصلح جلادا.
ماتي :
كان هذا غباء مني.
بونتيلا (جادا) :
أنا أقدرك بسبب هذه الغباوة!
ماتي (يقف) :
لننصرف الآن. وسوركالا؟
بونتيلا :
ماتي! ماتي! أنت أيها الشكاك! ألم أقل لك: إننا سنأخذه معنا إلى بونتيلا لأنه عامل من الدرجة الأولى وإنسان يفكر تفكيرا مستقلا، وهذا يذكرني بالرجل السمين الذي أراد أن يجعل الناس تهرب مني. أريد أن أقول له كلمة بسيطة؛ فهو رأسمالي بشع!
الفصل الخامس
فضيحة في بونتيلا
(فناء في ضيعة بونتيلا به حمام يمكن أن ترى العين ما بداخله. الوقت قبل الظهر. الطاهية لاينا والخادمة فينا تعلقان على باب الضيعة لوحة كتب عليها: «مرحبا بكم في حفلة الخطوبة.» يدخل بونتيلا وماتي من باب الفناء ومعهما بعض عمال الغابات ومن بينهم سوركالا الأحمر.)
لاينا :
مرحبا بكم في بونتيلا، الآنسة إيفا والسيد الملحق والسيد القاضي وصلوا ويتناولون طعام الإفطار.
بونتيلا :
أول ما أحب أن أفعله هو تقديم الاعتذار لك ولعائلتك يا سوركالا، أرجوك أن تذهب الآن وتحضر أولادك الأربعة؛ فإنني أريد أن أعبر لهم شخصيا عن أسفي للقلق وعدم الاطمئنان الذي عاشوا فيه بسببي.
سوركالا :
لا داعي لهذا يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
لا، لا بد (سوركالا ينصرف) .
السادة سيبقون. أحضري لهم كونياك يا لاينا؛ فإني أريد أن أعينهم للعمل في الغابة.
لاينا :
ظننت أنك ستبيع الغابة.
بونتيلا :
أنا؟ أنا لن أبيع شيئا، مهر ابنتي بين فخذيها. هل معي حق؟
ماتي :
ربما استطعنا الآن يا سيد بونتيلا أن نعطيهم مقدم الأتعاب، لكي يستريح بالك من هذه الناحية.
بونتيلا :
أنا سأدخل الحمام، فينا، أحضري للسادة كأس كونياك ولي فنجال قهوة. (يدخل الحمام.)
العامل البائس :
هل تظن أنه سيعينني فيما بعد؟
ماتي :
لن يفعل إذا أفاق ورآك.
البائس :
ولكنه إذا سكر لا يبرم عقودا.
ماتي :
لقد حذرتكم من الحضور قبل أن تكون العقود في أيديكم. (فينا تحضر الكونياك، ويتناول كل عامل كأسا.)
العامل :
وما حاله في غير هذه الأوقات؟
ماتي :
ألوف جدا. الأمر سواء بالنسبة لكم؛ فأنتم في الغابة، أما أنا ففي سيارته وتحت رحمته. وقبل أن أتلفت يصبح إنسانا. سأضطر إلى تقديم استقالتي. (سوركالا يعود ومعه أولاده الأربعة. الابنة الكبيرة تحمل أصغر إخوتها.)
ماتي (بصوت خفيض) :
بحق السماء! اختفوا حالا! بمجرد أن يخرج من الحمام ويشرب قهوته فسوف يفيق تماما والويل لكم لو رآكم في فناء الضيعة. أنصحكم ألا تروه وجوهكم في اليومين القادمين (سوركالا يطرق برأسه علامة الموافقة ويتهيأ للانصراف سريعا مع أبنائه.)
بونتيلا (الذي خلع ملابسه وراح يتصنت وإن لم يسمع ما قاله ماتي، يطل من الحمام ويرى سوركالا وأولاده) :
سأعود إليكم حالا. ماتي، تعال لتصب الماء علي ... (للبائس) : يمكنك أيضا أن تأتي معه، لكي أتعرف عليك عن قرب. (ماتي والعامل يتبعان بونتيلا إلى الحمام. ماتي يصب الماء على بونتيلا. سوركالا ينصرف بسرعة مع أولاده الأربعة.)
بونتيلا :
دلو يكفي، أنا أكره الماء.
ماتي :
تحمل دلوين آخرين، ثم اشرب قهوتك وبعدها تستطيع أن تحيي ضيوفك.
بونتيلا :
أستطيع أن أحييهم وأنا في هذه الحالة أيضا، أنت تريد أن تغيظني فقط.
البائس :
أعتقد أيضا أن دلوا واحدا يكفي. السيد بونتيلا لا يحتمل الماء. أرى هذا بوضوح.
بونتيلا :
سمعت يا ماتي؟ هكذا يتكلم إنسان قلبه علي. أريد أن تحكي له ما فعلته مع الرجل السمين في السوق. (فينا تدخل.)
بونتيلا :
ها هو الملاك الذهبي ومعه القهوة! هل هي ثقيلة؟ أريد معها كأس «ليكور».
ماتي :
وما فائدة القهوة إذن؟ لن تشرب معها شيئا.
بونتيلا :
أعلم أنك الآن ساخط علي؛ لأنني جعلت الناس ينتظرونني. معك حق، ولكن احك قصة الرجل السمين، فينا يمكنها أيضا أن تسمعها. (يحكي بنفسه) : رجل سمين، كريه، رأسمالي بحق، أراد أن يخطف مني عاملا. أوقفته عند حده ، ولكن عندما أردت أن أركب سيارتي، كانت مركبته ذات الحصان الواحد تقف على جانب الطريق. أكمل الحكاية يا ماتي؛ لكي أشرب قهوتي.
ماتي :
رأى السيد بونتيلا فتغير دمه، وتناول السوط وأخذ يضرب حصانه حتى قفز إلى أعلى.
بونتيلا :
وأنا لا أطيق من يسيء معاملة الحيوانات.
ماتي :
أمسك السيد بونتيلا الحصان من لجامه وأخذ يهدئه، وقال للسمين رأيه. واعتقدت بالفعل أنه سيناوله واحدة بالسوط، ولكن الرجل السمين لم يجرؤ على ذلك؛ لأننا كنا أكثر منه. غمغم شيئا عن الجهل وسوء التربية وربما ظن أننا لا نسمعه، ولكن السيد بونتيلا يكون حاد السمع حين لا يطيق أحدا، فرد عليه على الفور وسأله إن كان قد بلغ من التربية والعلم حدا يجعله يعرف أن الإفراط في السمنة يسبب الإصابة بالشلل.
بونتيلا :
قل لهم كيف احمر وجهه كالديك الرومي وكيف عجز عن الكلام أمام الناس.
ماتي :
احمر وجهه كالديك الرومي. ونصحه السيد بونتيلا ألا يثور حتى لا يؤذيه ذلك بسبب الدهن غير الصحي، وأنه لا يجب أن يحمر وجهه؛ فذلك دليل على أن الدم يصعد إلى مخه وعليه أن يتحاشى ذلك بسبب الأمراض التي ورثها.
بونتيلا :
نسيت أنني قلت لك أنت إننا لا ينبغي أن نثير أعصابه، بل يجب أن نقيه ذلك. لقد أثاره كلامي إثارة شديدة، هل لاحظت ذلك؟
ماتي :
وظللنا نتكلم عنه كأنه ليس موجودا معنا. وأخذ الناس يضحكون. وأخذ وجهه يزداد احمرارا. هنا فقط احمر وجهه كالديك الرومي، أما قبل ذلك فقد كان أشبه بحجر أحمر شاحب اللون. لقد كان يستحق هذا؛ إذ ما الذي جعله يهوي بالسوط على حصانه؟ لقد شاهدت مرة في إحدى عربات السكة الحديدية المكتظة بالناس كيف راح أحدهم يدوس على قبعته لأنه أضاع تذكرته التي كان قد أخفاها فيها حتى لا تضيع منه.
بونتيلا :
أضعت الخيط. لقد قلت له أيضا: إن أي مجهود جسدي، مثل ضرب الحصان بالسوط، يمكن أن يودي بحياته. من أجل هذا لا يجب أن يسيء معاملة الحيوانات. هو بوجه خاص لا يجوز له ذلك.
فينا :
هذا شيء لا يجوز أن يفعله أي إنسان.
بونتيلا :
تستحقين على هذا كأس ليكور. هيا أحضري كأسا.
ماتي :
لقد شربت قهوتها. لا بد أنك تشعر الآن بتحسن يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
بالعكس، أحس أن حالتي أسوأ.
ماتي :
لقد زاد تقديري للسيد بونتيلا عندما رأيته يعاقب ذلك الرجل. كان من الممكن أن يقول لنفسه: هذا شيء لا يخصني. إنني لا أريد أن يكون لي أعداء في هذه الناحية.
بونتيلا :
أنا لا أخاف من الأعداء.
ماتي :
هذا صحيح، ومن الذي يستطيع مثلك أن يقول ذلك عن نفسه؟ يمكنك أن ترسل مهراتك إلى مكان آخر.
بونتيلا :
ولماذا أرسل مهراتي إلى مكان آخر؟
ماتي :
لقد سمعت بعد أن هذا الرجل السمين هو الذي اشترى مزرعة «سومالا». إن عندهم البغل الوحيد في مساحة ثمانمائة كيلومتر، الذي يمكنه أن يلقح مهراتنا.
بونتيلا :
إذن فقد كان المالك الجديد في سومالا؟ ولم تعرف هذا إلا فيما بعد؟ (بونتيلا يقف ويتجه إلى الخلف حيث يصب على رأسه دلوا من الماء.)
ماتي :
لم نعرف ذلك إلا فيما بعد. لقد كان السيد بونتيلا يعلم ذلك. صاح بالرجل السمين قائلا: إن بغله قد أكل من الضرب ما يجعله غير صالح لمهراته. أو ماذا قلت؟
بونتيلا (باقتضاب) :
قلت ما قلت وانتهينا.
ماتي :
لا لم تقل أي شيء، بل كان كلامك بارعا.
فينا :
ولكن إرسال المهرات كل هذه المسافة سيكون سخرة فظيعة.
بونتيلا (متبرما) :
فنجالا آخر من القهوة (تعطيه الفنجان) .
ماتي :
إن الرفق بالحيوانات، كما سمعت، صفة غالبة على أهل تافاستلاند؛ لذلك تعجبت من الرجل السمين. وقد سمعت فيما بعد أنه صهر السيدة كلنكمان. أعتقد أن السيد بونتيلا لو كان يعرف ذلك لكانت قسوته عليه أشد. (بونتيلا ينظر إليه.)
فينا :
هل كانت القهوة قوية؟
بونتيلا :
لا تسألي هذه الأسئلة الغبية. أنت ترين أنني شربتها. (لماتي) : أنت يا جدع! لا تجلس هكذا بلا عمل. نظف الأحذية، اغسل العربة وإلا بدت كعربات السباخ. لا ترد علي، وإذا ضبطتك وأنت تنثر الإشاعات وتنقل الكلام وراء ظهري فسوف أسجل ذلك في شهادتك. لاحظ ذلك جيدا! (ينصرف غاضبا في ثياب الحمام.)
فينا :
لماذا تركته يمثل هذا الدور مع الرجل السمين صاحب ضيعة سومالا؟
ماتي :
وهل أنا ملاكه الحارس؟ إذا كنت أراه يقوم بتصرف كريم ومستقيم، أعني بتصرف غبي، ضد مصلحته، فهل أمنعه عنه؟ لم يكن ذلك في استطاعتي، إنه حين يسكر يشتعل بنار حقيقية. لو تدخلت لاحتقرني، ولست أريد أن يحتقرني وهو سكران.
بونتيلا (ينادي من الخارج) :
فينا! (فينا تتبعه ومعها ثيابه.)
بونتيلا (لفينا) :
أنصتي لما قررت، وإلا شوه كلامي فيما بعد كما هي العادة. (مشيرا إلى أحد العمال)
هذا العامل كان من الممكن أن آخذه. إنه لا يبحث عن إعجابي، بل يريد العمل عندي، ولكنني تدبرت الأمر، ولن آخذ أحدا. الغابة سأبيعها على كل الأحوال. والفضل في هذا يرجع إلى الواقف هناك. لقد تعمد أن يتركني على جهلي بما كان ينبغي أن أعرفه، الوغد! وهذا يذكرني بشيء آخر (ينادي)
هيه! أنت! (ماتي يخرج من الحمام)
نعم أنت! أعطني سترتك! قلت أعطني سترتك، سمعت؟ (ماتي يعطيها له)
ضبطتك يا وغد! (يريه المحفظة)
وجدتها في جيبك. كنت أتوقع هذا. من النظرة الأولى عرفت أنك وجه سجون، هل هذه محفظتي أم لا؟
ماتي :
نعم يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
الآن رحت في داهية. عشر سنوات سجن. مجرد إشارة لمركز البوليس.
ماتي :
نعم يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
ولكنني لن أصنع فيك هذا المعروف. لكي تنام وتتمطع على مزاجك في الزنزانة وتأكل من عرق دافعي الضرائب، هيه، لعل هذا هو ما يناسبك، خصوصا في وقت الحصاد، لكي تهرب من الجرار، ولكنني سأسجلها عليك في الشهادة، هل تفهمني؟
ماتي :
نعم يا سيد بونتيلا. (بونتيلا يتجه غاضبا إلى بيت الضيعة. تقف إيفا على العتبة، وفي يدها قبعتها المصنوعة من القش. سمعت ما قيل.)
العامل البائس :
هل أحضر أنا أيضا يا سيد بونتيلا؟
بونتيلا :
لست في حاجة إليك. لن تحتمل مشقة العمل.
البائس :
ولكن السوق أغلقت أبوابها الآن.
بونتيلا :
كان ينبغي أن تقول ذلك لنفسك من قبل، بدلا من محاولة استغلال ساعة صفا فيها مزاجي، إنني لا أنسى من يسيء استغلالها. (ينصرف غاضبا ويدخل البيت.)
العامل :
هكذا هم جميعا. ينقلونك في عربتهم، ثم يتركونك تمشي تسعة كيلومترات على قدميك، وما من عمل. هذا ما يحدث لمن ينخدع في مظهرهم الطيب.
العامل البائس :
سأبلغ عنه.
ماتي :
أين؟ (العمال يغادرون الفناء ساخطين.)
إيفا :
لماذا لا تدافع عن نفسك؟ نحن جميعا نعرف أنه عندما يشرب يسلم محفظته لغيره لكي يدفعوا الحساب.
ماتي :
لن يفهمني إذا حاولت أن أدافع عن نفسي، لقد لاحظت أن السادة لا يحبون أن يدافع الخدم عن أنفسهم.
إيفا :
لا تدع القداسة والتواضع، فلست اليوم على استعداد للمزاح.
ماتي :
صحيح، فسوف تخطبين اليوم للملحق.
إيفا :
لا تكن فظا، الملحق شاب لطيف جدا، ولكنه لا يصلح للزواج.
ماتي :
هذا شيء يحدث كثيرا، فلا تستطيع امرأة أن تتزوج جميع الظرفاء ولا جميع الملحقين، لا بد لها أن تختار واحدا بالذات.
إيفا :
أبي يترك لي كل الحرية. لقد سمعت هذا بنفسك. قال لي: إنني أستطيع أن أتزوج من أشاء، ولو كنت أنت بنفسك. غير أنه وعد الملحق أن يزوجني له، ولا يريد أن يقال عنه بعد ذلك إنه أخلف وعده؛ لهذا السبب وحده تجدني أراعي هذا الاعتبار وقد أتزوجه بالفعل.
ماتي :
إذن فأنت الآن في مأزق.
إيفا :
لست في مأزق، كما تعبر بطريقتك البلدية. لست أدري لماذا أتحدث معك في مثل هذه المسائل الحساسة؟!
ماتي :
إن كلام الناس مع بعضها عادة إنسانية جدا. وهذه هي ميزة الإنسان الكبرى على الحيوانات. ولو أن الأبقار مثلا استطاعت أن تتكلم مع بعضها لاختفت السلخانات من عهد بعيد!
إيفا :
ليس لهذا أدنى علاقة بموضوعنا. لقد قلت: إنني قد أكون سعيدة مع الملحق، وإن عليه في هذه الحالة ألا ينسحب، ولكن كيف يمكن التلميح له بذلك؟
ماتي :
لا يكفي لذلك عامود في سور حديقة، بل يحتاج الأمر إلى عامود سواري!
إيفا :
ماذا تقصد؟
ماتي :
أقصد أنه يجب أن أقوم أنا بهذه المهمة ؛ فأنا فظ.
إيفا :
كيف تتصور أن تساعدني في مسألة حساسة كهذه؟
ماتي :
لنفرض أنني تشجعت بتأثير الكلام الودي الذي قاله أبوك في ساعة سكر، من أنك تستطيعين أن تتزوجيني أنا. ولنفترض أنك شعرت بنفسك منجذبة إلي تحت تأثير قوتي الوحشية - فكري في طرزان - وأن الملحق فاجأنا وقال لنفسه: إنها غير جديرة بي؛ فهي تتسكع مع سائق.
إيفا :
لا أستطيع أن أطلب هذا منك.
ماتي :
لن يكون ذلك سوى جزء من عملي، مثل مسح العربة. ولن يكلفني أكثر من ربع ساعة. يكفي أن نبين له أننا منسجمان.
إيفا :
وكيف تريد أن تبين له هذا؟
ماتي :
أستطيع أن أناديك «بإيفا» في حضوره.
إيفا :
وماذا تقول مثلا؟
ماتي :
إيفا، بلوزتك ليست مقفلة من الخلف.
إيفا (تتحسس رقبتها) :
ولكنها مقفلة، آخ! لقد لعبت لعبتك! ولكنه لا يهتم بذلك؛ فليس غيورا إلى هذا الحد. إن ديونه الكثيرة تمنعه من ذلك.
ماتي :
إذن فأستطيع أن أخرج من جيبي أحد جواربك مع منديلي، كما لو كان ذلك سهوا مني، بحيث أتعمد أن يراني.
إيفا :
هذا أفضل. ولكنه سيقول إنك التقطته في أثناء غيابي؛ لأنك تهيم بي في السر. (فترة صمت)
يبدو أن خيالك ليس فقيرا في مثل هذه الأمور.
ماتي :
إنني أفعل ما في طاقتي، يا آنسة إيفا. وأتصور كل المواقف الممكنة والأوضاع المحرجة التي يمكن أن تحدث بيننا، حتى يخطر على بالي الحل المناسب.
إيفا :
دعك من هذا.
ماتي :
حسن، سأدع هذا.
إيفا :
ماذا على سبيل المثال؟
ماتي :
إذا كانت ديونه كبيرة إلى هذا الحد، فلا بد أن نخرج معا من الحمام، ولا يصح أن نفعل شيئا أقل من هذا. وإلا التمس العذر دائما لتصرفاتنا بحيث تبدو بريئة. فإذا هجمت عليك مثلا وأشبعتك تقبيلا فإنه يستطيع أن يقول: إنني لم أتهجم عليك إلا لأنني لا أستطيع أن أضبط أعصابي أمام جمالك وهكذا دواليك.
إيفا :
لا أدري أبدا متى تمزح ولا إن كنت تسخر بي وراء ظهري. إن الإنسان لا يستطيع معك أن يتأكد من أي شيء .
ماتي :
ولماذا تريدين إذا أن تتأكدي؟ إنك لا تودعين أموالك في بنك. عدم اليقين - كما يقول أبوك - أكثر إنسانية. أنا أحب النساء وهن في حالة الشك.
إيفا :
لا أستبعد هذا عليك.
ماتي :
أرأيت أنت أيضا، خيالك واسع.
إيفا :
لم أقل سوى أن المرء معك لا يعرف أبدا ماذا تريد على وجه التحديد.
ماتي :
مثل طبيب الأسنان تماما؛ فأنت لا تعرفين أبدا ماذا يريد منك على وجه التحديد، عندما تجلسين في كرسيه.
إيفا :
أرأيت عندما تتكلم هكذا يتأكد لي أن حكاية الحمام مستحيلة معك؛ لأنك قد تستغل الموقف استغلالا سيئا.
ماتي :
عدنا إلى شيء أكيد. إذا كنت ستستمرين على هذا التردد فسوف أفقد كل متعة في أن أفضحك، يا آنسة إيفا.
إيفا :
أفضل بكثير أن تفعل ذلك بدون إحساس بالمتعة. اسمع. قبلت حكاية الحمام. أنا واثقة فيك. لا بد أنهم سينتهون حالا من تناول الإفطار، وبعدها سيتمشون في الشرفة ويتكلمون في مسألة الخطوبة.
الأفضل أن ندخل الحمام الآن على الفور.
ماتي :
ادخلي أنت أولا؛ فسوف أحضر ورقا للعب.
إيفا :
وما الداعي لورق اللعب؟
ماتي :
وكيف نضيع الوقت في الحمام؟ (يدخل البيت. تسير في بطء إلى الحمام. الطاهية تأتي ومعها سلتها.)
لاينا (لإيفا) :
صباح الخير يا آنسة إيفا. أنا ذاهبة لأحضر خيارا، هل تأتين معي؟
إيفا :
لا، أنا أحس بصداع وأريد أن آخذ حماما. (تدخل الحمام. لاينا تقف وهي تهز رأسها يخرج بونتيلا والملحق من البيت وهما يدخنان السيجار.)
الملحق :
ما رأيك يا بونتيلا؟ أنا أفكر في السفر إلى الريفييرا مع إيفا. سأطلب من البارون «فوريان» سيارته «الرولز»، ستكون هذه دعاية لفنلندا ودبلوماسيتها؛ فما أقل السيدات المشرفات في هيئتنا الدبلوماسية.
بونتيلا (للطاهية) :
أين ذهبت ابنتي؟ هل خرجت؟
لاينا :
إنها في الحمام يا سيد بونتيلا، كان عندها صداع فدخلت الحمام. (تنصرف.)
بونتيلا :
هي دائما هوائية. لم أسمع أبدا أن من عنده صداع يأخذ حماما.
الملحق :
فكرة أصيلة! ولكن هل تعلم يا بونتيلا أننا لا نستغل حماماتنا الفنلندية كما ينبغي؟ لقد كلمت رئيس الوزراء في ذلك عندما كنا نتحدث عن وسيلة للحصول على قرض. إن الحضارة الفنلندية يجب أن تنتشر بطريقة جديدة. ولماذا لا ننشئ حمامات فنلندية في بيكاديللي؟
بونتيلا :
أريد أن أعرف منك إن كان الوزير سيحضر حفلة الخطوبة في بونتيلا؟
الملحق :
لقد وعدني بكل تأكيد. إنه مدين لي من يوم أن عرفته بليتينن، مدير البنك التجاري؛ فهو مهتم بالنيكل.
بونتيلا :
أريد أن أتكلم معه.
الملحق :
إن عنده ضعفا من ناحيتي. كل الموظفين في الوزارة يقولون هذا. قال لي مرة: أنت من النوع الذي يمكن إرساله إلى كل مكان؛ فأنت لا تكشف أسرارا ولا تهتم بالسياسة. يقصد أنني أمثل بلادي بجدارة!
بونتيلا :
يظهر أن مخك تعبان يا إينو. إن لم تستطع أن تبني مستقبلك فلا بد أن الشياطين تعاكسك، ولكن مسألة حضور الوزير إلى حفلة الخطوبة مسألة حيوية، وأنا مصمم عليها. إنني سأعرف منها ما هو مركزك عندهم.
الملحق :
بونتيلا، أنا من هذه الناحية متأكد جدا. لقد كان الحظ دائما معي. إن هذا يجري مجرى الأمثال في الوزارة. إذا ضاع مني شيء وجدته. هذا شيء لا يخطئ أبدا. (ماتي يظهر وعلى كتفه منشفة ويدخل الحمام.)
بونتيلا (لماتي) :
لماذا تتسكع هنا، يا جدع؟ لو كنت مكانك لخجلت من هذه الصعلكة ولسألت نفسي بأي حق أحصل على أجرتي؟ لن أعطيك الشهادة. وعندئذ يمكنك أن تتعفن كالسمكة التي سقطت بجانب البرميل ولا يريد أحد أن يأكلها.
ماتي :
أجل يا سيد بونتيلا! (بونتيلا يلتفت مرة أخرى إلى الملحق. ماتي يدخل الحمام في هدوء.) (بونتيلا إلى هذه اللحظة لا يسيء الظن في شيء. ثم يخطر له فجأة أن ابنته إيفا لا بد وأن تكون في هذه اللحظة أيضا في الحمام فينظر مذعورا إلى ماتي.)
بونتيلا (للملحق) :
ما هي علاقتك بالضبط مع إيفا؟
الملحق :
علاقتي طيبة معها، هي باردة بعض الشيء معي، ولكن هذه هي طبيعتها. أحب أن أقارن موقفها معي بموقفنا من روسيا؛ فنحن نقول بلغة الدبلوماسيين: إن العلاقات سليمة. تعال! أريد أن أجمع لإيفا باقة من الزهور البيضاء.
بونتيلا (ينصرف معه وهو يحدق ببصره إلى الحمام) :
أعتقد أيضا أن هذا أفضل.
ماتي (من الحمام) :
لقد رأوني وأنا أدخل. كل شيء على ما يرام.
إيفا :
يدهشني أن أبي لم يمنعك. لقد قالت له الطاهية إنني هنا.
ماتي :
لم ينتبه إلا بعد فوات الأوان. لا بد أنه يشعر اليوم بصداع فظيع، من حسن الحظ على كل حال؛ فالنية على تشويه سمعتك لا تكفي؛ إذ لا بد أن يكون قد حدث بيننا شيء بالفعل.
إيفا :
لا أظن أنهم سيشكون في شيء. هكذا في عز الصباح؟ يبدو الأمر صعبا.
ماتي :
لا تقولي هذا؛ فذلك دليل على الغرام الملتهب. ستة وستون، (يوزع الورق)
لقد عملت مرة عند سيد في فيبورج كان يأكل طول النهار. بعد الظهر، وقبل القهوة، كانوا يشوون له دجاجة. كان الأكل عنده غراما، وكان يعمل في الحكومة.
إيفا :
كيف تستطيع المقارنة؟
ماتي :
ولم لا؟ إن من الناس من عندهم مثل هذه الشهية في الحب أيضا. الدور عليك. هل تعتقدين أن البهائم في الحظيرة تنتظر حتى يدخل الليل؟ نحن الآن في الصيف، والاستعداد موجود لدى الجميع. ثم إن الناس موجودون في كل مكان؛ ولذلك يسرعون إلى الحمامات؛ فالجو حار، (يخلع سترته)
يمكنك أيضا أن تخفف قليلا من ملابسك. لن آكل منك شيئا. أظن أننا نلعب على نصف مليم.
إيفا :
إني أعجب لكل هذا الكلام الدنيء الذي تتفوه به أمامي. تذكر أنني لست راعية بقر.
ماتي :
وأنا ليس بيني وبين رعاة البقر شيء.
إيفا :
أنت لا تحترم أحدا.
ماتي :
لقد سمعت هذا كثيرا. إن السائقين مشهورون بأنهم متمردون، وأنهم لا يحترمون أحدا من الطبقات العالية، والسبب في هذا أننا نسمع أبناء الطبقات العالية وهم يتكلمون خلفنا في السيارة. أنا عندي ستة وستون، كم عندك؟
إيفا :
لقد كنت في مدرسة الراهبات في بروكسل وكنت أسمعهم يتكلمون بأدب.
ماتي :
أنا لا أتكلم عن الأدب ولا عن قلة الأدب. أنا أتكلم عن الأغبياء فقط. وزعي أنت، ولكن فنطي الورق أولا حتى لا يحدث غلط . (بونتيلا والملحق يعودان. الملحق يحمل في يده باقة من الزهور.)
الملحق :
إنها ذكية جدا. أقول لها: كنت ستكونين كاملة لو لم تكوني على هذا الغنى كله؛ فتقول بلا تردد: الغنى في رأيي ألذ. هاهاها! وهل تعلم يا بونتيلا أن الآنسة روتشيلد ردت علي بنفس الإجابة عندما قدموني لها عند البارونة «فوريان»؟ إنها أيضا ذكية.
ماتي :
اضحكي كما لو كنت أزغزغك، وإلا مروا من هنا بدون أن يحسوا بشيء، (إيفا تأتي ضحكة خفيفة في أثناء اللعب بالورق)
صوتك لا يدل على الانسجام.
الملحق (يقف) :
أليست هذه هي إيفا؟
بونتيلا :
لا، مستحيل. لا بد أنه شخص آخر.
ماتي (بصوت مرتفع في أثناء اللعب) :
أنت حساسة جدا.
الملحق :
أنصت!
ماتي (بصوت منخفض) :
قاومي قليلا.
بونتيلا :
إنه السائق في الحمام. أعتقد أن من الأفضل أن تضع باقتك في البيت!
إيفا (تصيح في تمثيل) :
لا! لا!
ماتي :
نعم!
الملحق :
ما رأيك يا بونتيلا؟ الصوت يبدو الآن كما لو كان صوت إيفا.
بونتيلا :
لا داعي للإهانة من فضلك!
ماتي :
الآن قولي يا حبيبي ودعيك من المقاومة التي لا معنى لها!
إيفا :
لا! لا! لا! (في صوت منخفض)
ماذا أقول أيضا؟!
ماتي :
قولي: لا، عيب! اندمجي في الموقف! فكري بحواسك!
إيفا :
لا، عيب.
بونتيلا (بصوت كالرعد) :
إيفا!
ماتي :
استمري! استمري في قمة الانفعال! (يبعد أوراق اللعب، بينما يواصلان تمثيل مشهد الحب)
إذا دخل علينا، فيجب أن يرانا متعانقين، لا مفر من هذا.
إيفا :
لا يصح.
ماتي (وهو يقلب كنبة بقدمه) :
ثم تخرجين من هنا كالكلب المبتل!
بونتيلا :
إيفا! (ماتي يتخلل شعر إيفا بيده في عناية لكي يبدو مشعثا، وتفك هي زرارا من بلوزتها عند الرقبة، ثم تخرج من الحمام.)
إيفا :
هل ناديت علي يا بابا؟ لقد أردت فقط أن أغير ملابسي لكي أذهب إلى حمام السباحة.
بونتيلا :
ماذا تقصدين بالضبط من هذا التسكع في الحمامات؟
هل تظنين الحاضرين صما؟
الملحق :
لا تغضب هكذا يا بونتيلا، لماذا لا يكون من حق إيفا أن تستحم؟ (يخرج ماتي ، ويقف خلف إيفا.)
إيفا (بغير أن تلاحظ ماتي. خائفة بعض الشيء) :
ماذا سمعت يا بابا؟ لم يحدث شيء.
بونتيلا :
هكذا، وتسمين هذا لا شيء. انظري وراءك قليلا!
ماتي (مدعيا الارتباك) :
يا سيد بونتيلا. أنا كنت ألعب مع الآنسة المحترمة لعبة ال 66، ها هي الأوراق إذا كنت لا تصدق. إنه مجرد سوء تفاهم من جانبك.
بونتيلا :
أغلق فمك! أنت مطرود! (لإيفا) : ماذا يقول «إينو» عنك؟
الملحق :
هل تعرف يا بونتيلا؟ إذا كانوا قد لعبوا ال 66 فلا بد أنه سوء تفاهم من ناحيتنا. لقد ثارت أعصاب الأميرة «بيبسكو» مرة وهي تلعب «الروليت» حتى إنها كسرت عقدها اللؤلؤي. لقد أحضرت لك أزهارا بيضاء يا إيفا. (يعطيها الأزهار)
تعال يا بونتيلا نلعب دور بلياردو! (يسحبه من كمه بعيدا.)
بونتيلا (يزأر) :
ما زلت أتكلم معك يا إيفا! وأنت يا ولد! إذا تجرأت مرة أخرى وتنفست بكلمة واحدة مع ابنتي، فعليك أن تجمع جواربك القذرة وترحل! الأفضل لك أن ترفع قبعتك الملوثة بالزيت من على رأسك وتقف باحترام أمامها وتحمر خجلا من أذنيك المتسختين. اخرس! عليك أن تتطلع إلى ابنة سيدك كما لو كانت كائنا علويا هبط من السماء. دعني يا إينو! هل تظن أنني أسمح بشيء كهذا؟ (لماتي) : أعد ما قلت! ماذا يجب عليك؟!
ماتي :
أن أتطلع إليها كما لو كانت كائنا علويا هبط من السماء، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
وتفتح عينيك في دهشة؛ لأن مثلها موجود على الأرض يا ولد!
ماتي :
وأفتح عيني في دهشة يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
وتحمر خجلا كالسرطان من أفكارك القذرة التي كانت لديك عن النساء قبل التناول عندما ترى هذه البراءة المتجسدة وتتمنى أن تبلعك الأرض، فهمت؟
ماتي :
فهمت. (الملحق يسحب بونتيلا إلى داخل البيت.)
إيفا :
لا شيء.
ماتي :
إن ديونه أكبر مما كنا نتصور.
الفصل السادس
حديث عن الكابوريا
(حجرة المطبخ في ضيعة بونتيلا. الوقت مساء.) (يسمع من حين لآخر صوت موسيقى آتية من الخارج.) (ماتي يقرأ الجريدة.)
فينا (تدخل) :
الآنسة إيفا تريد أن تكلمك.
ماتي :
حاضر، بعد أن أشرب القهوة.
فينا :
لا تتظاهر أمامي بأنك غير متعجل، يمكنك ألا تشربها إلى آخرها. أعتقد أنك مغرور في نفسك؛ لأن الآنسة إيفا تقابلك من وقت لآخر؛ ذلك لأنها لا تجد أحدا تجلس معه في الضيعة ولا بد أن ترى وجه إنسان.
ماتي :
في مثل هذا المساء يطيب لي أن أغتر بنفسي، إذا كانت لديك بالصدقة رغبة في الخروج معي لرؤية النهر، فأنا لم أسمع أوامر الآنسة إيفا ويمكنني أن أذهب معك.
فينا :
لا أظن أن عندي رغبة.
ماتي (يتناول جريدة) :
هل تفكرين في المدرس؟
فينا :
لم يكن بيني وبينه شيء. كان إنسانا رقيقا معي وأراد أن يعلمني فأعارني كتابا.
ماتي :
خسارة أن يتناول هذا الأجر الضئيل على تعليمه.
أنا أتقاضى 300 ماركا والمدرس 200 ماركا، ولكن يجب علي في الحقيقة أن أعرف أكثر منه. إن أسوأ ما يمكن أن يحدث، إذا كان المدرس لا يعرف شيئا عن أي شيء، هو ألا يستطيع الناس في القرية أن يقرءوا الجريدة، لو حدث هذا قديما لكان دليلا على التأخر، أما اليوم ... فما الفائدة من قراءة الجرائد، والرقابة لم تترك فيها شيئا يقرأ؟ بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا وأقول: إنهم لو تخلصوا نهائيا من المدرسين، لما احتاجوا إلى الرقابة، ولوفروا على الدولة مرتبات الرقباء. أما أنا فإذا تعطلت بي السيارة في الطريق فإن السادة سيضطرون إلى السير في الوحل وسيقعون في الحفر؛ لأنهم سكارى (ماتي يشير لفينا التي تجلس على ركبته. يدخل القاضي والمحامي، والمنشفات على أكتافهم. قادمين من الحمام البخاري) .
القاضي :
أليس عندك شيء تقدمه لنا؟ شيء من اللبن الرائب كالذي شربناه في المرة السابقة؟
ماتي :
هل تحضره الخادمة؟
القاضي :
لا، دلنا فقط على مكانه. (ماتي يغرف لهم، تخرج فينا.)
المحامي :
رائع.
القاضي :
أنا أشربه دائما في بونتيلا بعد الحمام البخاري.
المحامي :
ليالي الصيف الفنلندية!
القاضي :
إنها تكلفني الكثير من العمل. قضايا النفقة المرفوعة في المحاكم هي في الحقيقة أغاني تشيد بجمال ليالي الصيف الفنلندية! وفي قاعة المحكمة يقدر الإنسان جمال الغابات . إن الناس لا يسيرون على شاطئ النهر إلا ويصابون بالضعف. جاءت أمامي مرة فتاة اتهمت العشب بأن رائحته كانت نفاذة جدا. لا يصح أيضا أن يجمعوا «الفراولة» ولا أن يحلبوا الأبقار، فذلك يكلفهم غاليا. وكل لفيفة من الأشجار في الشوارع يجب أن يحيطوها بسور شائك. البنات والصبية يدخلون الحمامات البخارية فرادى؛ لكيلا يقعوا في الإغراء الشديد، ولكنهم يذهبون معا بعد الحمام إلى المراعي، ومن المستحيل إيقافهم في الصيف. إنهم ينزلون من على الدراجات ويتسلقون مخازن البن، إنهم في كل مكان؛ في المطبخ لأن الجو شديد الحرارة، في الخلاء لأن الهواء منعش، وهم ينجبون الأطفال، إما لأن الصيف قصير جدا أو لأن الشتاء طويل جدا.
المحامي :
ومن الأمور الجميلة أيضا أن العجائز يشاركون في ذلك. إنني أقصد الشهود «البعيدين»، طبعا تفهمني، إنهم يرون كل شيء؛ يرون العشاق يختفون في الغابة، والأحذية الخشبية على أبواب مخازن الغلال، والفتاة وهي تعود من جمع التوت وهي تحس بالحر الشديد، في حين أنه عمل لا يشعر الإنسان معه بالحر أبدا؛ لأنه لا يبذل فيه أي جهد، وهم لا يرون فحسب، بل يسمعون كذلك؛ فأقساط اللبن ترن، والأسرة تقرقع. وهكذا يشاركون بالأعين والآذان ويأخذون نصيبهم من الصيف.
القاضي (لماتي وقد دق الجرس) :
هل تسمح باستطلاع ما يريدون؟ ولكننا نستطيع على كل حال أن نشهد بأنهم يتمسكون بالعمل ثماني ساعات في اليوم. (يخرج مع المحامي، ماتي يعود إلى قراءة الجريدة.)
إيفا (تدخل وهي تدخن سيجارة طويلة جدا وتمشي مشية مغرية تعلمتها من أفلام السينما) :
لقد ضربت لك الجرس. هل لديك ما تعمله هنا؟
ماتي :
أنا؟ لا. إن عملي يبدأ في الساعة السادسة صباحا.
إيفا :
لقد فكرت فيما إذا كان من الممكن أن تخرج معي إلى الجزيرة في قارب لتصيد بعض «الكابوريا» للأكل في حفلة الخطوبة.
ماتي :
ألا تعتقدين أن هذا هو وقت النوم؟
إيفا :
أنا لست متعبة على الإطلاق. إنني أنام في الصيف بصعوبة لا أدري السبب في ذلك. هل ستنام إذا وضعت نفسك الآن في الفراش ؟
ماتي :
نعم .
إيفا :
أنت جدير بالحسد. جهز أدوات الصيد، أبي يريد أن يأكل الكابوريا. (تريد أن تستدير للانصراف، وتعود إلى مشيتها التي تعلمتها من السينما.)
ماتي (وقد اعتدل مزاجه) :
أعتقد أنني سأذهب معك، سأجدف لك في القارب.
إيفا :
ألست متعبا جدا؟
ماتي :
أحس أنني انتعشت وأفقت من النوم، يجب أن تغيري ملابسك لكي تستطيعي أن تخوضي في الماء على راحتك.
إيفا :
الأدوات في غرفة الكرار (تنصرف) . (ماتي يلبس سترته. إيفا تعود في سروال قصير جدا.)
إيفا :
لم تحضر الأدوات.
ماتي :
سنمسكها بالأيدي. هذا أجمل بكثير، سأعلمك كيف نفعل ذلك.
إيفا :
لكن الأدوات مريحة.
ماتي :
من مدة قصيرة كنت في الجزيرة مع الخادمة والطاهية وأمسكناها بالأيدي. كان شيئا ممتعا، وتستطيعين أن تسأليهما، أنا خفيف، ألست كذلك؟ بعض الناس لهم خمس أصابع في اليد الواحدة، الكابوريا بالطبع سريعة؟ الصخور منزلقة، ولكن الجو ساطع هناك، والسحب قليلة، فقد نظرت الآن في السماء.
إيفا (مترددة) :
أنا أفضل أن نأخذ الأدوات معنا، سنحصل على عدد أكبر.
ماتي :
وهل نحتاج إلى كل هذا؟
إيفا :
بابا لا يأكل من صنف إلا إذا وجد أمامه الكثير منه.
ماتي :
إذن فالمسألة جد، ظننت أننا سنكتفي بالبعض، ثم نتسلى قليلا، فالليل جميل جدا.
إيفا :
لا تقل عن كل شيء: جميل جميل! الأفضل أن تحضر الأدوات.
ماتي :
لا تكوني جادة إلى هذا الحد، ولا تلاحقي الكابوريا بكل هذه القسوة! سنملأ جيوبنا وهذا يكفي، أعرف موضعا تكثر فيه، بحيث نصيد ما يكفينا منها في خمس دقائق، لكي نبينه لهم.
إيفا :
ماذا تقصد؟ أتنوي أن تصيد الكابوريا أم لا؟
ماتي (بعد فترة صمت) :
أظن أننا تأخرنا قليلا. لا بد أن أصحو في السادسة صباحا لأحضر الملحق من المحطة. فإذا ظللنا نخوض في الجزيرة حتى الساعة الثالثة أو الرابعة فسوف لن آخذ راحتي في النوم. يمكنني بالطبع أن أوصلك بالقارب إلى هناك، إذا كنت مصرة على ذلك كل الإصرار (إيفا تستدير في صمت وتخرج. ماتي يخلع سترته من جديد ويعود إلى قراءة الجريدة) . (تدخل «لاينا» قادمة من الحمام البخاري.)
لاينا :
فينا ورئيسة الطباخين تسألان إن كان عندك استعداد للمشي قليلا على النهر. إنهما ما زالا يتسامران هناك.
ماتي :
أنا متعب. كنت اليوم في سوق العمال، ثم قدت الجرار في البرية حتى كلت قواي.
لاينا :
أنا أيضا ميتة من التعب. طول النهار أمام الفرن، وليس عندي استعداد لحفلات الخطوبة. ولكنني انتزعت نفسي من السرير لكيلا أنام؛ فلا يزال الجو صافيا ومن الخطيئة أن ننام. (تلقي نظرة على الطريق من النافذة قبل أن تنصرف)
أعتقد أنني سأنزل قليلا؛ فسائس الحظيرة سيلعب على الهارمونيكا وأنا أحب أن أسمعه (تنصرف في غاية التعب، ولكن في عزم وتصميم. تدخل إيفا) .
إيفا :
أريد أن توصلني للمحطة.
ماتي :
خمس دقائق فقط حتى أخرج العربة. سأنتظر أمام الباب.
إيفا :
طيب. أرى أنك لا تسألني لماذا أذهب الآن إلى المحطة.
ماتي :
أظن لتركبي قطار الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق إلى هلسنجفورز.
إيفا :
أرى أن الخبر لم يدهشك.
ماتي :
يدهشني! ولماذا؟ إن دهشة السائق لم تغير شيئا ولم تنفع في شيء. من النادر أن ينتبه أحد إليها أو يكون لها معنى.
إيفا :
سأسافر إلى بروكسل لأقضي عدة أسابيع عند إحدى صديقاتي ولا أريد أن أضايق أبي بذلك. عليك أن تقرضني مائتي ماركا ثمن التذكرة. سيدفعها أبي لك بالطبع، بمجرد أن أكتب إليه.
ماتي (بغير حماس) :
بالطبع.
إيفا :
أتعشم ألا تكون خائفا على نقودك؟ إن أبي لا يهمه من الذي سيخطبني، ولكنه لن يرضى بأن يبقى مدينا لك.
ماتي (بحذر) :
لا أدري إن كان سيشعر بأنه مدين لي إذا أعطيتك النقود.
إيفا (بعد فترة صمت) :
متأسفة لأنني طلبتها منك.
ماتي :
لا أظن أن المسألة ستكون سواء بالنسبة لأبيك إذا سافرت في منتصف الليل قبل الخطوبة، بينما فطائر الحلوى لا تزال في الفرن كما يقال. وإذا كان قد نصحك في لحظة عدم تدبر بأن تهتمي بي فلا يجب أن تؤاخذيه على ذلك. إن أباك يضع مصلحتك نصب عينيه، يا آنسة إيفا. لقد لمح لي هو نفسه بذلك، وهو حين يسكر - أو لنقل حين يكثر قليلا من الشرب - فإنه لا يعود يعرف أين مصلحتك، بل ينقاد لعاطفته، ولكنه حين يفيق يشتري لك ملحقا يستحق ما يدفعه فيه، وتصبحين سفيرة في باريس أو في ريفال وتستطيعين أن تعملي ما تشائين، إذا كان لك منه مزاج في ليلة صيف جميلة، وإذا لم يكن لك مزاج فلست مجبرة عليه.
إيفا :
إذن فأنت تنصحني بأن أتزوج الملحق؟
ماتي :
يا آنسة إيفا! حالتك المالية لا تسمح لك بإغضاب أبيك.
إيفا :
أرى أنك غيرت رأيك مثل الراية المعلقة في الريح.
ماتي :
هذا صحيح، ولكن ليس من الظلم فقط التحدث عن رايات الريح، بل كذلك من الحمق. إنها مصنوعة من الحديد، وليس هناك ما هو أشد منه صلابة، ولكن ينقصها الأساس المتين. أنا أيضا ليس عندي هذا الأساس المتين (يحك إصبعه الكبير في سبابته) .
إيفا :
يجب علي للأسف أن آخذ نصيحتك الطيبة بحذر ما دام ينقصك الأساس المتين لكي تنصحني بأمانة، وكلماتك الجميلة عن نوايا أبي الطيبة معي تأتي على ما يبدو من خوفك من إقراضي ثمن التذكرة.
ماتي :
تستطيعين أن تضيفي إلى ذلك وظيفتي؛ فهي في رأيي لا بأس بها.
إيفا :
أنت مادي جدا يا سيد ألتونين، أوتعرف، كما يقولون في بيئتكم، على أية ناحية من رغيفك توضع الزبدة. وعلى أية حال فلم أر في حياتي أبدا من يبين في مثل صراحتك مقدار حرصه على ماله أو على راحته. يظهر أن الأغنياء ليسوا هم وحدهم الذين يفكرون في المال.
ماتي :
يؤسفني أنني خيبت أملك، ولكنني كنت مضطرا لذلك؛ لأنك طلبت مني النقود بشكل مباشر، ولو أنك لمحت لها وتركت الموضوع عائما في الهواء أو كما يقولون بين السطور لما كانت هناك مسألة نقود بيننا؛ فهي دائما تفسد كل شيء.
إيفا (تجلس) :
لن أتزوج الملحق.
ماتي :
كلما فكرت في الموضوع لم أفهم لماذا ترفضين أن تتزوجيه بالذات؟ في رأيي أنهم جميعا سواء؛ فأنا أعرفهم معرفة كافية. إنهم مهذبون، ولن يقذفوا أحذيتهم على رأسك، حتى ولو كانوا سكارى، وهم لا ينظرون إلى النقود، خصوصا إذا لم تكن نقودهم، ويفهمون كيف يقدرونك، تماما كما يفهمون في تذوق النبيذ؛ لأنهم تعلموا ذلك.
إيفا :
لن أتزوج الملحق، أعتقد أنني سأتزوجك أنت!
ماتي :
ماذا تقصدين؟!
إيفا :
يستطيع أبي أن يعطينا نشارة خشب.
ماتي :
تقصدين: يعطيك أنت.
إيفا :
أقصد يعطينا، إذا تزوجنا.
ماتي :
كنت أعمل في إحدى الضياع في «كاريليا» وكان صاحبها فيما مضى تابعا. وعندما كان القسيس يأتي لزيارتهم كانت المدام ترسله ليصيد السمك، وعندما كان الضيوف يزورنهم كان يجلس بجانب الفرن ويلعب بالورق لعبة الصبر، وذلك بمجرد أن ينتهي من فتح الزجاجات، وكان عنده أطفال كبار كانوا ينادون عليه باسمه الأول
1
ويقولون: «يا فيكتور! أحضر حذائي ولا تتسكع هكذا.» لن يوافقني ذلك يا آنسة إيفا.
إيفا :
لا، أنت بالطبع تريد أن تكون السيد. أستطيع أن أتصور كيف ستعامل زوجتك.
ماتي :
هل فكرت في ذلك بالفعل؟
إيفا :
بالطبع لا، أتظن أنني لا أفكر طول النهار إلا فيك؟ لا أدري كيف يداخلك هذا الغرور. لقد شبعت من كلامك دائما عن نفسك، وما تحبه وما لا تحبه وما يوافق مزاجك وما سمعت. إنني أعرف ما تريد بحكاياتك البريئة ودعاباتك الوقحة. إنني لا أحتملك؛ لأن الأنانيين لا يعجبونني أبدا. يجب أن تفهم هذا! (تخرج. ماتي يتناول جريدته ويقرأ فيها.)
الفصل السابع
رابطة عرائس السيد بونتيلا
(فناء في ضيعة بونتيلا. الوقت صباح يوم الأحد. بونتيلا يحلق ذقنه ويتشاجر مع إيفا في شرفة البيت. تسمع أجراس الكنيسة من بعيد.)
بونتيلا :
ستتزوجين الملحق وينتهي الأمر. لن أعطيك مليما فوق ذلك. أنا مسئول عن مستقبلك.
إيفا :
قلت لي من يومين إنني حرة في ألا أتزوجه، إذا لم يكن رجلا، وإنني يجب أن أتزوج الرجل الذي أحبه.
بونتيلا :
أنا أقول الكثير، إذا شربت كأسا تزيد عما يروي عطشي، ولا أحب أن تفسري كلامي على مزاجك، وإذا ضبطتك مرة أخرى مع السائق فسوف أريك. لو أن أحد الغرباء رآك من الطريق وأنت تخرجين من الحمام مع سائق لتمت الفضيحة. (يتطلع فجأة بعيدا ويزأر)
لماذا خرجت الخيول إلى المرعى؟
صوت :
سائس الإسطبل.
بونتيلا :
أبعدوها حالا! (لإيفا)
إذا غبت عصر يوم واحد عن الضيعة سادت الفوضى كل شيء. الخيول ترعى في البرسيم، لماذا؟ لأن سائس الإسطبل يجري وراء العاملة في الحديقة. ولماذا نططوا على البقرة الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها سنة وشهرين حتى يمنعوها من أن تكبر؟ لأن الكلافة منسجمة مع الصبي؛ لذلك فليس لديها الوقت لتمنع الثور من أن ينط على البقرة الصغيرة، بل تتركه يفعل ما يأتي على مزاجه. شغل خنازير! ولو لم تكن البستانية - سأتكلم معها كلمتين! - مشغولة مع السائس لكان عندي الآن أكثر من مائة كيلو طماطم لأبيعها هذا العام، ولكن من أين لها الإحساس بالطماطم، وقد كانت دائما منجم ذهب صغير؟ سأمنع هذه المغازلات في ضيعتي. إنها تكلفني الكثير، أتسمعين؟ واسمعيها كلمة أنت والسائق، إنني لن أسمح لأحد أن يخرب ضيعتي، لا بد أن أوقفه عند حده.
إيفا :
أنا لا أخرب الضيعة.
بونتيلا :
أنا أحذرك، لن أصبر على الفضيحة، إنني أهيئ لك زفافا يكلفني ستة آلاف ماركا وأفعل كل شيء لكي تتزوجي من الطبقات العالية. إن هذا يكلفني غابة. هل تعرفين ما هي الغابة؟ وماذا تفعلين أنت؟ تجرين مع هذا وذاك، بل مع سائقي نفسه! (ماتي يظهر تحت الشرفة ويسمع.)
بونتيلا :
لقد دفعت أموالي لتتربي تربية صحيحة في بروكسل لا لكي تلقي بنفسك على صدر السائق، بل لكي تظلي بعيدة عن الخدم والعمال حتى لا يظهروا وقاحتهم، ويرقصوا على بطنك. عشر خطوات بعيدا عنهم، ممنوع الود بينك وبينهم وإلا عمت الفوضى، وهناك أكون من حديد! (تظهر النسوة الأربعة القادمات من كورجيلا أمام الباب، يتشاورن، ويرفعن المناديل التي يضعنها على رءوسهن ويضعن مكانها أكاليل من القش ويرسلن واحدة منهن لكي تتقدمهن، تصل عاملة التليفون ساندرا في الفناء.)
عاملة التليفون :
صباح الخير. أريد أن أكلم السيد بونتيلا.
ماتي :
لا أعتقد أن من الممكن الكلام معه اليوم. إن حالته لا تسمح بذلك.
عاملة التليفون :
أظن أنه سيوافق على استقبال خطيبته .
ماتي :
هل أنت مخطوبة له؟
عاملة التليفون :
أعتقد هذا.
صوت بونتيلا :
وسأمنع أن تضعي في فمك كلمة مثل كلمة الحب. إنها ليست سوى تعبير آخر عن الخنزرة، وأنا لا أحتملها في بونتيلا.
الخطوبة تحددت، وقد أمرت بأن يذبحوا خنزيرا ولا أستطيع أن أسحب كلامي. إن الخنزير لن يصنع في معروفا ويعود إلى الحظيرة ويأكل في صبر لمجرد أنك غيرت رأيك. وعلى كل حال فقد رتبت نفسي على كل شيء وأريد الهدوء في بونتيلا. سوف تغلق حجرتك فرتبي نفسك على هذا! (ماتي يتناول مكنسة طويلة ويبدأ في كنس الفناء.)
عاملة التليفون :
صوت السيد ليس غريبا علي.
ماتي :
ليس هذا عجيبا؛ فهو صوت خطيبك.
عاملة التليفون :
هو صوته وليس صوته، كان في كورجيلا غير هذا.
ماتي :
آخ! أكان ذلك في كورجيلا؟ يوم ذهب يبحث عن خمرة قانونية؟
عاملة التليفون :
ربما لم أستطع أن أتعرف على الصوت مرة أخرى؛ لأن الظروف كانت هناك مختلفة، والوجه أيضا كان وجها آخر ودودا. لقد كان يجلس في العربة والشفق ينعكس عليه.
ماتي :
أعرف الوجه وأعرف الشفق، خير لك أن تعودي إلى بيتك (تأتي المهربة إيما إلى الفناء. تتظاهر بأنها لا تعرف عاملة التليفون) .
المهربة إيما :
هل السيد بونتيلا موجود؟ أريد أن أكلمه على الفور.
ماتي :
غير موجود للأسف، ولكن هذه هي خطيبته، وتستطيعين أن تكلميها.
عاملة التليفون (تمثل) :
أليست هذه هي إيما تاكينانين؟ مهربة الكونياك؟
إيما :
ماذا أفعل؟ أهرب الكونياك لأنني أحتاج لبعض الكحول لأدلك به ركبة زوجة مفتش البوليس! إن زوجة ناظر المحطة تستعمله في صنع «ليكور الكرز»، ومن ذلك ترين أنه قانوني. ثم ما هي حكاية الخطوبة هذه؟ أتدعي ساندرا عاملة التليفون أنها مخطوبة لخطيبي السيد بونتيلا، الذي يسكن هنا، كما أعلم؟ هذا كثير، أيتها الفاجرة!
عاملة التليفون (في فرح) :
وما هذا يا حارقة النخالة؟ ماذا ترين في أصبعي؟
إيما :
كاللو، وماذا ترين أنت في أصبعي؟ أنا المخطوبة، لا أنت. وبالكونياك والخاتم.
ماتي :
هل السيدتان من كورجيلا؟ يظهر أن العرائس هنا كالعصافير في الربيع . (تظهر في الفناء راعية البقر ليزو وعاملة الصيدلية ماندا.)
راعية البقر وعاملة الصيدلية (معا) :
هل يسكن هنا السيد بونتيلا؟
ماتي :
هل أنتما أيضا من كورجيلا؟ إذن فهو لا يسكن هنا، إنني أعرف هذا؛ فأنا سائق سيارته. السيد بونتيلا شخص آخر يحمل نفس اسم السيد الذي خطبكما.
راعية البقر :
ولكنني أنا «ليزو جاكارا»، وقد خطبني بكل تأكيد، ويمكنني أن أثبت هذا (تشير إلى عاملة التليفون)
وهذه أيضا تستطيع أن تثبت ذلك؛ فهي الأخرى مخطوبة له.
إيما وعاملة التليفون (معا) :
نعم، نستطيع أن نثبت ذلك، نحن جميعا عرائسه الشرعيات! (الأربعة يضحكن ضحكا عاليا.)
ماتي :
أنا سعيد لأنكن تستطعن إثبات ذلك. أقول صراحة: إنها لو كانت خطيبة واحدة فقط لما اهتممت بها، ولكنني أعرف صوت الشعب أينما سمعته. أقترح أن تنشئن رابطة السيد بونتيلا، وبذلك يمكن أن تطرحن هذا السؤال: ماذا ستفعلن؟
عاملة التليفون :
هل نقول له؟ لقد دعانا السيد بونتيلا شخصيا من مدة طويلة لكي نحضر نحن الأربعة حفلة الخطوبة الكبيرة.
ماتي :
مثل هذه الدعوة كمثل الثلج الذي تساقط في العام الماضي. لقد أتيتن إلى هنا كأربع بطات متوحشات من البحيرات، بعد أن عاد الصيادون إلى بيوتهم.
المهربة إيما :
ياه! إن هذا لا ينبئ بالاستقبال الحار!
ماتي :
لم أقل إنهم سيسيئون استقبالكن، ولكنكن من وجهة نظر معينة قد بكرتن جدا بالحضور، لا بد أن أحاول تقديمكن في اللحظة المناسبة، لكي تستقبلن الاستقبال الجدير بالعرائس.
عاملة الصيدلية :
لقد كان مجرد مزاح ودعابة لتنشيط الرقص.
ماتي :
إذا أحسنا اختيار الوقت المناسب، فسوف يجري كل شيء على ما يرام؛ لأنهم بمجرد أن يشربوا ويعتدل مزاجهم فسوف يبحثون عن المسخرة. في هذه اللحظة تستطيع العرائس الأربعة أن تدخلن، سوف يدهش القسيس، وسوف يسعد القاضي ويصبح إنسانا آخر حين يرى أن القسيس ظهرت عليه الدهشة، ولكن لا بد من النظام، وإلا فلن يفهم السيد بونتيلا أي شيء، حين ندخل جميعا إلى القاعة، نحن رابطة عرائس السيد بونتيلا، رافعين أصواتنا بنشيد تافاستلاند الوطني، وفي أيدينا علم كان قميص نوم! (الجميع يضحكن ضحكا عاليا.)
المهربة إيما :
هل تعتقد أننا سنحصل على فنجال قهوة وربما رقصنا أيضا بعدها؟
ماتي :
هذا طلب عادل قد تتمكن الرابطة من تحقيقه؛ فقد وضعتن الآمال، وتكلفتن بعض النفقات، لقد أتيتن إلى هنا بالقطار، على ما أظن؟
المهربة إيما :
في الدرجة الثانية! (الخادمة فينا تدخل البيت حاملة وعاء كبيرا من الزبدة.)
راعية البقر :
زبدة!
عاملة الصيدلية :
لقد أتينا من المحطة مباشرة. أنا لا أعرف اسمك، ولكن ربما استطعت أن تحضر لنا كوب لبن؟
ماتي :
كوب لبن؟ ليس قبل الغداء؛ فسوف يفسد شهيتكن.
راعية البقر :
لا داعي للخوف علينا!
ماتي :
الأفضل أن أحضر للعريس شيئا آخر غير اللبن، لكي تنجح زيارتكن.
عاملة التليفون :
الحقيقة أن صوته كان جافا بعض الشيء.
ماتي :
إن ساندرا عاملة التليفون التي تعرف كل شيء وكل إنسان تفهم قصدي. إنها تعرف أن من الأفضل أن أفكر في تدبير الكونياك له بدلا من البحث عن اللبن لكن!
راعية البقر :
هل هناك حقا تسعون بقرة في بونتيلا؟ لقد سمعت هذا.
عاملة التليفون :
ولكنك لم تسمعي صوته، يا ليزو.
ماتي :
أعتقد أنكن عاقلات وستقنعن الآن برائحة الطعام الآتية من المطبخ! (سائس الإسطبل والطاهية يحملان خنزيرا مذبوحا، ويدخلان به البيت.)
النساء (يصفقن في فرح) :
عظيم! عسى أن يحسنوا شيه! ضعوا عليه قليلا من التوابل!
إيما :
هل تعتقدن أنني سأتمكن من فتح أزرار فستاني قليلا، إذا لم ينظروا إلي؟ إنه ضيق فعلا؟
عاملة الصيدلية :
قد يحب السيد بونتيلا أن ينظر إليك.
عاملة التليفون :
ليس في ساعة الغداء.
ماتي :
هل تعلمن أي غداء سيكون هذا؟ إنكن ستجلسن إلى جانب قاضي محكمة فيبورج العليا. سوف أقول له (يثبت المكنسة على الأرض ويكلمها قائلا) : يا سعادة القاضي! ها هي أربع نساء فقيرات يعشن في قلق لرفض مطالبهن. قطعن مسافة بعيدة على الطريق الزراعي المترب لكي يصلن إلى خطيبهن؛ ذلك أنه في الصباح الباكر منذ عشرة أيام جاء إلى القرية سيد سمين مرفه في عربته الاستوديو بيكر، فتبادل معهن الخواتم وخطبهن لنفسه ، وهو الآن يحب أن ينكر ذلك، قم بواجبك أصدر حكمك، ولكنني أحذرك؛ فإذا تركتهن بغير حماية، فقد يحدث أن تختفي المحكمة العليا في فيبورج.
عاملة التليفون :
برافو!
ماتي :
المحامي أيضا سيشرب في صحتكن؛ ماذا ستقولين له يا إيما تاكينانين؟
إيما :
سأقول له: أنا سعيدة بهذا الزواج، فهل تتفضل بكتابة شهادة الضرائب لي والتشدد مع الموظفين؟ هل تساعدني بفصاحتك على ألا يحجزوا زوجي طويلا في العسكرية؛ فعلاقته بالعقيد علاقة سيئة، وأنا وحدي لا أستطيع مواجهة العمل في حقل البطاطس، ساعدني أيضا في ألا يغشني البقال عندما يحاسبني على السكر والغاز.
ماتي :
هذا معناه استغلال الظروف، ولكن إذا تزوجت السيد بونتيلا، فلن تكوني في حاجة إلى دفع الضرائب؛ فالتي ستتزوجه منكن سيكون في إمكانها أن تدفع. كذلك ستشربن كأسا في صحة الدكتور، فماذا ستقلن له؟
عاملة التليفون :
سأقول له: سيدي الدكتور! ما زالت أحس بآلام في الكليتين، ولكن لا تنظر إلي هكذا، قليلا من الصبر، سأدفع الحساب بمجرد أن أتزوج السيد بونتيلا، واصبر علي قليلا؛ فما زلنا نعد الشوربة، والماء لم يوضع بعد على النار لتسوية القهوة، وأنت مسئول عن صحة الشعب. (عاملان يدحرجان برميلي بيرة إلى البيت.)
إيما :
إنهم يدخلون البيرة.
ماتي :
وستجلسن أيضا مع القسيس، ماذا ستقلن له؟
راعية البقر :
سأقول له: من الآن سيكون لدي الوقت الكافي للذهاب إلى الكنيسة، إذا وجدت عندي الرغبة.
ماتي :
هذا قليل جدا بالنسبة لحديث على المائدة؛ ولذلك فسوف أضيف قائلا: سيدي القسيس، اليوم تأكل ليزو راعية البقر في طبق من الصيني. يجب أن تفرح لهذا إلى أقصى حد؛ لأنه مكتوب أن الناس كلهم سواسية أمام الله، فلم لا يكونون سواسية أمام السيد بونتيلا؟ وعندما تصبح سيدة الضيعة فتأكد أنها ستعاملك معاملة سخية، وسيصلك منها بعض زجاجات من النبيذ الأبيض في عيد ميلادك كما حدث حتى الآن، بذلك تستطيع أن تواصل في الكنيسة عظاتك الفصيحة عن المروج السماوية؛ لأنها ستعفى بعد الآن من حلب البقر على المروج الأرضية. (في أثناء خطبة ماتي الطويلة يظهر بونتيلا في الشرفة ويستمع في تجهم.)
بونتيلا :
عندما تنتهي من خطبتك فأخبرني، من هؤلاء؟
عاملة التليفون (ضاحكة) :
عرائسك يا سيد بونتيلا، لا بد أنك تعرفهن.
بونتيلا :
أنا؟ أنا لا أعرف أحدا منكن.
إيما :
بل تعرفنا، على الأقل من الخاتم.
عاملة الصيدلية :
خاتم ستارة الصيدلية في كورجيلا.
بونتيلا :
وماذا تردن هنا؟ المشاغبة؟
ماتي :
يا سيد بونتيلا، لعل الوقت الآن في عز الظهر غير مناسب، ولكننا كنا نتناقش في طريقة نضفي بها البهجة على حفلة الخطوبة، فأسسنا رابطة عرائس السيد بونتيلا.
بونتيلا :
ولماذا لم تجعلوها نقابة؟ حيثما تسكعت ظهرت مثل هذه الأشياء من تحت الأرض. أنا أعرفك، وأعرف الجريدة التي تقرؤها!
إيما :
مجرد مزاح، ربما لا نطلب أكثر من فنجال قهوة.
بونتيلا :
أنا أعرف مزاحكن، لقد أتيتن إلى هنا لتكرهنني على قذف شيء في أفواهكن!
إيما :
لا! لا! لا!
بونتيلا :
ولكنني سأعرفكن شغلكن! تردن أن تقضين يوما جميلا على حسابي! أنصحكن أن تغادرن الضيعة قبل أن أطردكن وأدعو الشرطة. أنت عاملة التليفون في كورجيلا. إنني أعرفك، سوف أجعلهم يتصلون بالمكتب ويسألونهم إن كان رؤساؤك في البريد يصبرون على مثل هذا المزاح، وأنتن أيضا، سوف أعرف من أنتن.
إيما :
فهمنا. انظر يا سيد بونتيلا! لقد كنا نقصد أن تكون ذكرى لأيام الشيخوخة. سوف أجلس هنا على أرض ضيعتك، لكي أستطيع في يوم من الأيام أن أقول: لقد جلست ذات يوم في بونتيلا، وكنت مدعوة هناك. (تجلس على الأرض) ، والآن لا يستطيع أحد أن يكذبني أو ينكرها علي. إنني أجلس بالفعل! لست في حاجة إلى القول بأنني لم أجلس على كرسي، بل على أرض تافاستلاند العارية، التي تقول عنها الكتب المدرسية: إنها متعبة، ولكنها تجازي التعب. وبالطبع لا تذكر الكتب من الذي يتعب ولا من الذي تجازيه على تعبه. ألم أشم رائحة عجل مشوي؟ ألم أر برميل بيرة؟ ألم يكن مملوءا بالبيرة؟ (تغني) :
والبحيرة والجبل، والسحب فوق الجبل!
غالية هي على شعب تافاستلاند
من بهجة الغابات الخضراء إلى شلالات آبوس.
أليس معي الحق؟ والآن ساعدنني على النهوض، لا تتركنني جالسة في هذا الوضع التاريخي!
بونتيلا :
اخرجن من الضيعة! (النساء الأربعة يقذفن أكاليل القش على الأرض، ويغادرن الفناء. ماتي يتناول المكنسة ويجمع القش في كومة.)
الفصل الثامن
حكايات فنلندية
(طريق زراعي. الوقت مساء. النساء الأربعة على طريق العودة.)
إيما المهربة :
إيما المهربة: من المستحيل أن يعرف الإنسان في أية حال سيلقاهم، فإذا أفرطوا في الشرب ضحكوا عليك وقرصوك لا تدري من أين حتى لتجد عناء في أن تمنعهم من أن يسحبوك وراء الشجر، ولكنهم بعد خمس دقائق يزحف شيء على أكبادهم ويكون من حظك إذا لم ينادوا الشرطة. لا بد أن في حذائي مسمارا.
عاملة التليفون :
النعل أيضا انخلع.
راعية البقر :
إنه لم يخلق ليتحمل خمس ساعات على الطريق الزراعي.
إيما المهربة :
لقد ذاب من المشي. كان يجب أن يتحمل سنة أخرى. هاتوا لي طوبة. (يجلسن على الأرض. تدق المسمار في الحذاء)
كما قلت، الواحدة منا لا تستطيع أن تضمن أسيادها؛ فهم مرة هكذا، ومرة هكذا، والمرة الثالثة في حال آخر. كانت زوجة مفتش الشرطة السابق تدعوني في منتصف الليل لكي أدلك لها قدميها. وفي كل مرة كان مزاجها يختلف عن المرة السابقة، على حسب حالتها مع زوجها. كان بينه وبين الخادمة شيء. وفي يوم أعطتني «شكولاتة»، فهمت أن زوجها طرد الخادمة، ولكن يبدو أنه عاد إليها بعد ذلك بقليل؛ ذلك لأنها لم تستطع فجأة أن تتذكر أنني دلكت قدميها عشر مرات في الشهر لا ست، مثل هذه الذاكرة الضعيفة أصابتها فجأة.
عاملة الصيدلية :
وفي بعض الأحيان تكون ذاكرتهم قوية. خذوا مثلا «بيكا» الأمريكاني الذي كون ثروة في أمريكا ثم عاد إلى أهله بعد عشرين سنة. كان أهله فقراء إلى حد أنهم كانوا يشحذون قشر البطاطس من أمي. وعندما جاء لزيارتهم وضعوا أمامه قطعة لحم محمرة لكي يعتدل مزاجه. أكلها وقال: إنه يذكر أنه كان قد أقرض الجدة عشرين ماركا، ثم هز رأسه وهو يراهم على هذا البؤس حتى إنهم لا يستطيعون أن يسددوا ديونهم .
عاملة التليفون :
عندهم القدرة على هذا، وهم يتمسكون به وإلا لما صاروا أغنياء. في إحدى ليالي شتاء سنة 1908 طلب أحد الإقطاعيين في بلدنا من أحد الأجراء عنده أن يقوده على البحيرة المتجمدة. كانا يعرفان أن في الثلج صدعا كبيرا، ولكن لم يكونا يعرفان مكانه، فكان على الفلاح أن يسير على قدميه اثني عشر كيلومترا أمام الإقطاعي الجالس في عربته. كان الإقطاعي خائفا على نفسه، ووعد أن يعطي للفلاح حصانا إذا وصلا سالمين إلى الشاطئ، فلما وصلا إلى منتصف البحيرة قال له: إذا نجحت ولم أسقط في الحفرة فلك مني عجل. ولما رأى نورا يلمع من إحدى القرى البعيدة قال له: أتعب نفسك إذا كنت تريد الساعة. وعلى بعد خمسين مترا من الشاطئ كان يتكلم عن جوال من البطاطس. ولما وصلا إلى الشاطئ أعطاه ماركا وقال له: لقد احتجت وقتا طويلا. نحن أغبياء جدا لا نفهم ألاعيبهم ونقع دائما في حيلهم، وما هو السبب؟ لأنهم يبدون مثلنا تماما، وهذا يخدعنا فيهم، ولو كان مظهرهم مثل الدببة أو الثعابين لاحترسنا منهم.
عاملة الصيدلية :
علينا ألا نمزح معهم أو نأخذ شيئا منهم.
إيما المهربة :
لا نأخذ شيئا منهم؟ هذا جميل جدا، ما دام عندهم كل شيء وليس عندنا شيء. لا تشربي قطرة من النهر، إذا أردت أن تموتي من العطش!
عاملة الصيدلية :
أنا عطشانة جدا.
راعية البقر :
أنا أيضا، كانت هناك في «كاوزالا» فتاة وقع شيء بينها وبين ابن سيدها، وكان فلاحا، أنجبت طفلا، ولكنه أنكر كل شيء أمام المحكمة في هلسنجفورز لكيلا يدفع النفقة. أجرت أمها محاميا، وضع أمام المحكمة كل خطاباته الغرامية التي أرسلها إليها عندما كان مجندا. كانت هذه الخطابات تكفي لكي يحكم عليه بخمس سنوات في السجن عقابا على شهادة الزور، ولكن عندما بدأ القاضي في قراءة الخطاب الأول بصوت مرتفع وبطيء أسرعت الفتاة إليه تطلب الخطابات، وبذلك ضحت بالنفقة. ويقول الناس: إن الدموع كانت تنهمر من عينيها كالشلال عندما رأوها تخرج من المحكمة، ثارت أمها، وضحك هو، هذا هو الحب.
عاملة التليفون :
إن سلوكها يدل على الغباء.
إيما المهربة :
ولكنه قد يدل في بعض الأحوال على الذكاء. كان هناك شاب من ناحية فيبورج لم يقبل أن يأخذ منهم شيئا. كانت سنه ثمانية عشر عاما، وكان يتعاون مع الحمر؛ ولذلك اعتقلوه في معسكر في «تامر فورس». لم يكونوا يقدمون لهم شيئا، وكان يجد نفسه مضطرا - وهو الشاب الصغير - إلى افتراس العشب لكيلا يموت من الجوع، ذهبت أمه لتراه. كان عليها أن تمشي ثمانين كيلومترا. كانت تؤجر قطعة صغيرة من الأرض، وأعطتها صاحبة الضيعة سمكة ورطلا من الزبد. سارت على قدميها، ومن حين لآخر كان أحد الفلاحين يتعطف عليها ويأخذها معه في عربته. قالت لأحد هؤلاء الفلاحين: أنا ذاهبة لأزور ابني «آتي» في معسكر الحمر في «تامر فورس»، وصاحبة الضيعة الطيبة أعطتني سمكة ورطلا من الزبد لأعطيها له. وعندما كان الفلاح يسمع منها ذلك كان يأمرها بالنزول من عربته؛ لأن ولدها من الحمر. وعندما كانت تمر على النساء اللائي يغسلن في النهر كانت تبدأ حكايتها من جديد: أنا ذاهبة إلى «تامر فورس» لأزور ولدي في معسكر الحمر، وصاحبة الضيعة الطيبة أعطتني سمكة ورطلا من الزبد لأعطيها له. وعندما وصلت إلى المعسكر أعادت كلمتها على القائد الذي ضحك وسمح لها بالدخول مع أن ذلك كان ممنوعا. كان العشب لا يزال ينمو أمام المعسكر، أما وراء الأسلاك الشائكة فلم يكن له أثر ولا لورقة شجر واحدة. لقد التهموها جميعا. صدقوني، لقد حدث هذا بالفعل. لم تكن قد رأت «آتي» من سنتين قضاهما في الحرب الأهلية والاعتقال، وكان قد صار نحيلا جدا. «هذا أنت يا آتي. انظر! لقد أحضرت لك سمكة ورطلا من الزبد، أرسلتها لك صاحبة الضيعة الكريمة.» سلم «آتي» عليها وسألها عن أخبار الروماتيزم وعن بعض الجيران، ولكنه رفض أن يأخذ منها السمكة والزبدة ولم ينفع معه التوسل والبكاء فقد غضب وقال: هل شحذتها من صاحبة الضيعة؟ يمكنك أن تأخذيها معك، لن آخذ شيئا من هؤلاء الناس! لفت هداياها من جديد ، على الرغم من جوع «آتي»، ودعته ورجعت تمشي على قدميها، أو تركب عربة إذا وجدت من يأخذها معه. في هذه المرة كانت تقول للفلاح: «لقد رفض ولدي «آتي» الذي حبسوه في المعتقل أن يأخذ مني السمكة والزبدة؛ لأنني شحذتها من صاحبة الضيعة وهو لا يقبل شيئا منهم.» الطريق كان طويلا، والمرأة كانت عجوزا. كانت تجلس من حين إلى حين على جانب الطريق وتأكل شيئا من السمكة ومن الزبدة فقد كانت رائحتهما قد بدأت تظهر، ولكنها كانت تقول الآن للنساء اللاتي كن يغسلن في النهر: «ابني آتي الذي حبسوه مع المعتقلين لم يقبل السمكة والزبدة؛ لأنني شحذتهما من صاحبة العزبة، وهو لا يأخذ منهم شيئا.» كانت تقول هذا لكل من تقابله، وكان هذا يدهش الناس على طول الطريق الذي كان يبلغ ثمانين كيلومترا.
راعية البقر :
هناك بعض الناس مثل ابنها «آتي».
إيما :
ولكنهم قليلون جدا. (ينهضن ويواصلن السير في صمت.)
الفصل التاسع
بونتيلا يخطب ابنته لإنسان
(حجرة الطعام وبها موائد صغيرة وبوفيه ضخم، القسيس والقاضي والمحامي وقوف يدخنون وهم يشربون القهوة، بونتيلا جالس في الركن يشرب في صمت. بعض المدعوين يرقصون في جانب على صوت موسيقى تنبعث من الحاكي «الجراموفون».)
القسيس :
من النادر أن تجد الإيمان الحقيقي. كل ما تجده هو الشك وعدم المبالاة، حتى لييأس الإنسان من شعبنا. إنني أحاول على الدوام أن أدخل في عقولهم أنه بغير مشيئة الله لن تنمو توتة واحدة، ولكنهم ينظرون إلى ثمار الطبيعة كما لو كانت شيئا طبيعيا، ويلتهمونها كأنها حق لهم. إن جانبا من هذا الكفر يرجع إلى أنهم لا يترددون على الكنيسة ويتركونني ألقي مواعظي أمام المقاعد الخالية وكأنما ليس لديهم العدد الكافي من الدراجات لكي يأتوا إلي ويسمعوني. كل راعية بقر لديها دراجة، ولكنهم مفطورون على الشر. وكيف أفسر ما حدث لي في الأسبوع الماضي أمام فراش رجل يحتضر، رحت أحدثه عما ينتظر الإنسان في العالم الآخر فهل تعلمون ماذا كان جوابه؟ «هل تعتقد أن البطاطس ستتحمل الأمطار؟» مثل هذا الحادث يجعلني أسأل: أليس كل نشاطنا هباء؟
القاضي :
إنني أفهمك؛ فنقل الحضارة إلى هذه الأعشاش عمل لا لذة فيه.
المحامي :
نحن المحامين أيضا لم تعد حياتنا سهلة. لقد كنا نعيش دائما من صغار الفلاحين، ذوي الأخلاق الحديدية الذين يؤثرون التسول على التخلي عن حقوقهم. إنهم لا يزالون يحبون العراك ولكن بخلهم يقف الآن في طريقهم. إنهم على استعداد لأن يسبوا ويطعنوا بعضهم بالسكاكين ويشنقوا الخيول المشلولة لبعضهم البعض، ولكنهم حين يلاحظون أن القضايا تكلف أصحابها غاليا تجدهم يتخلون سريعا عن حماسهم ويقطعون أجمل القضايا، كل هذا من أجل الطاغوت المحبوب.
القاضي :
هذا هو عصر التجارة والمال. السطحية تنتشر، والزمن الطيب القديم يختفي. إن من أصعب الأمور الآن ألا نيأس من الشعب، بل نحاول دائما معه من جديد، لعلنا أن ننقل إليه شيئا من نور الحضارة.
المحامي :
خذوا بونتيلا مثلا. إن زراعته تنمو دائما في الحقول من تلقاء نفسها. أما القضية فهي مخلوق حساس إلى أقصى حد. وقد يشيب شعر الإنسان قبل أن تكبر وتنضج. كم من مرة يقول الإنسان لنفسه: لا جدوى الآن من القضية، لا يمكن أن تستمر. لم يعد هناك دليل جديد. إنها ستموت في شبابها، وفجأة تتحرك القضية وتسترد صحتها من جديد. يجب أن يكون الإنسان في منتهى الحذر حين تكون القضية في سن الرضاعة؛ فنسبة الوفاة ترتفع أقصى ارتفاع في هذه المرحلة. فإذا نجحنا في أن ندفعها إلى سن الصبا فسوف يعرف طريقه بنفسه، والقضية التي يزيد عمرها عن أربع أو خمس سنوات قضية تضمن لها أن تشيخ ويبيض شعرها، ولكن يا له من تعب حتى تصل إلى هذه السن! آه! ويا لها من حياة كحياة الكلاب! (يدخل الملحق مع زوجة القسيس.)
زوجة القسيس :
يا سيد بونتيلا! من الواجب أن تهتم قليلا بضيوفك. إن السيد الوزير يرقص الآن مع الآنسة إيفا، وقد سأل عنك. (بونتيلا لا يجيب.)
الملحق :
ردت السيدة زوجة القسيس الآن على الوزير ردا ممتعا كله ظرف وذكاء. سألها إن كانت تجد طعما للجاز. انتظرت على شوق، كما لم أفعل في حياتي، لكي أرى كيف ستتخلص من هذه المعضلة. فكرت قليلا ثم قالت: إن المعتاد ألا يرقص أحد على أنغام الأرغن في الكنيسة؛ ولذلك فسواء عندها أن يستخدموا في ذلك الآلة التي تعجبهم. كاد الوزير أن يموت على نفسه من الضحك، فما رأيك في هذا يا بونتيلا؟
بونتيلا :
لا رأي لي؛ لأنني لا أنتقد ضيوفي. (يشير للقاضي أن يقترب منه.)
فردريك، هل يعجبك هذا الوجه؟
القاضي :
أي وجه تقصد؟
بونتيلا :
وجه الملحق، قل لي: المسألة جد!
القاضي :
حاذر يا يوحنا. البونش ثقيل جدا.
الملحق (يدندن باللحن الذي يدور الرقص عليه ويقوم ببعض الحركات بقدميه على الإيقاع) :
اللحن يشجع على الرقص. أليس كذلك؟
بونتيلا (يشير مرة أخرى إلى القاضي الذي يحاول أن يتغاضى عنه) :
فردريك. قل الحقيقة. ما رأيك فيه؟ إنه يكلفني غابة. (بقية المدعوين يدندنون: أنا أبحث عن تيتينا ...)
الملحق (على سجيته) :
إنني لا أحفظ النص أبدا. من أيام المدرسة وأنا هكذا، ولكن الإيقاع يسري في دمي.
المحامي (الذي يرى بونتيلا يشير إشارات عنيفة) :
الجو حار بعض الشيء هنا. لننتقل إلى الصالون! (يريد أن يسحب الملحق معه.)
الملحق :
أخيرا استطعت أن أتذكر هذه الجملة «ليس عندنا موز
We have no bananas » لذلك لم أفقد الأمل في ذاكرتي.
بونتيلا :
انظر إلى وجهه قليلا ثم احكم! فردريك؟
القاضي :
هل تعرف نكتة اليهودي الذي نسي معطفه في القهوة؟ علق المتشائم على ذلك بقوله: نعم سوف يعثر عليه! أما المتفائل فقال: لا لن يجده! (المدعون يضحكون.)
الملحق :
وهل وجده؟
القاضي :
أعتقد أنك لم تفهم النكتة تماما.
بونتيلا :
فردريك!
الملحق :
لا بد أن تشرحها لي. أعتقد أنك بدلت التعليقات؛ فالمتفائل هو الذي يقول: نعم سوف يجده!
القاضي :
لا، بل المتشائم! حاول أن تفهم. إن طرافة النكتة في أن المعطف قديم لدرجة أنه يتمنى أن يكون قد ضاع!
الملحق :
فهمت، المعطف قديم؟ لقد نسيت أن تقول هذا. ها ها ها! هذه أحسن نكتة رأسمالية سمعتها في حياتي!
بونتيلا (يقف متجهما) :
يجب الآن أن أتدخل. إنني لا أستطيع أن أحتمل مثل هذا الإنسان. فردريك! أنت ترفض الإجابة الصريحة على سؤالي الجاد: ما رأيك في مثل هذا الوجه إذا أدخلته في عائلتي؟ حسن. لقد وصلت إلى سن تسمح لي باتخاذ قرار وحدي. إن الإنسان الذي لا يفهم المزاح ليس إنسانا على الإطلاق. (بعزة)
اخرج من بيتي! نعم أنت، ولا تحاول أن تدور حول نفسك، كما لو كنت أقصد أحدا غيرك.
القاضي :
بونتيلا، أنت تذهب بعيدا جدا.
الملحق :
سادتي، أرجوكم أن تنسوا ما حدث. أنتم لا تتصورون مقدار دقة مركز أعضاء السلك الدبلوماسي. إن أقل زلة خلقية يمكن أن تتسبب في رفض الموافقة على أوراق اعتمادهم. لقد حدث مرة في باريس، في المونمارتر، أن نزلت حماة سكرتير المفوضية الرومانية ضربا بالمظلة على رأس عشيقها، وكانت فضيحة على الفور.
بونتيلا :
جرادة في ردنجوت! جرادة تلتهم الغابات.
الملحق (في حماس) :
أنتم تفهمون بالطبع. لم يكن سبب الفضيحة أن لها عشيقا؛ فهذه هي القاعدة، ولا أنها ضربته؛ فهذا شيء مفهوم، ولكن ضربها له بالمظلة هو التصرف «البلدي» الذي لم يكن ينتظر منها. هنا العقدة.
المحامي :
بونتيلا. معه الحق. إنه شديد الحساسية فيما يتعلق بشرفه؛ فهو في الهيئة الدبلوماسية.
القاضي :
الكونياك قوي جدا على أعصابك يا يوحنا.
بونتيلا :
فردريك، أنت لا تفهم خطورة الموقف.
القسيس :
السيد بونتيلا ثائر بعض الشيء. (مخاطبا زوجته) : آنا، ربما استطعت أن تنتقلي إلى الصالون.
بونتيلا :
سيدتي الكريمة! لا تقلقي فأنا مالك زمام أعصابي. إن البونش عادي، أما ما لا أستطيع احتماله، فهو وجه هذا السيد الذي لا أطيقه، ولا بد أنك تفهمين السبب.
الملحق :
لقد امتدحت الأميرة بيبسيكو إحساسي بالفكاهة إلى الحد الذي شعرت معه كأنها تتملقني. قالت لليدي أكسفورد: إنني أضحك قبل سماع النكتة مما يدل على سرعة بديهتي.
بونتيلا :
فردريك! انظر إلى فكاهته!
الملحق :
طالما لم تذكر أسماء، فمن الممكن إصلاح كل شيء، ولكن بمجرد أن تذكر الأسماء مصحوبة بالإهانات فمن المستحيل أن يعود شيء إلى أصله.
بونتيلا (في سخرية مريرة) :
فردريك، ماذا أفعل الآن ؟ لقد نسيت اسمه، ولن أستطيع التخلص منه، كما يقول. الحمد لله! الآن تذكرت أنني قرأت اسمه على إيصال بالدين كان علي أن أشتريه له، وأن اسمه هو أينوسيكالا، لعله يذهب الآن، ألا ترى ذلك؟
الملحق :
سادتي! الآن قد ذكر الاسم، لا بد من الآن فصاعدا أن توزن كل كلمة بميزان من ذهب.
بونتيلا :
لا فائدة! (يزأر فجأة) : اخرج حالا من هنا ولا تجعل أحدا يرى وجهك في بونتيلا. لن أزوج ابنتي من جرادة في ردنجوت!
الملحق (وهو يستدير له) :
بونتيلا، أنت الآن تهينني. ستتجاوز الحاجز الدقيق الذي يؤدي إلى الفضيحة إذا طردتني من بيتك.
بونتيلا :
هذا كثير. إن صبري يتمزق. كنت أريد أن تفهم فيما بيننا أن وجهك يضايق أعصابي وأن من الأفضل لك أن تختفي ولكنك تضطرني أن أكون واضحا وأن أقول لك: «اخرج يا من تتبرز على نفسك.»
الملحق :
بونتيلا، هذا كلام سأسيئ تأويله، سادتي! لي الشرف (يخرج).
بونتيلا :
لا تمش على مهلك هكذا! أريد أن أراك وأنت تجري، سأعلمك كيف ترد علي ردودك الوقحة! (يجري وراءه. الجميع يتبعونه، فيما عدا زوجة القسيس والقاضي.)
زوجة القسيس :
ستكون فضيحة. (تدخل إيفا.)
إيفا :
ماذا حدث؟ ما هذه الضجة في الفناء؟
زوجة القسيس (تهرع إليها) :
آه يا طفلتي. لقد حدث شيء مؤلم. يجب أن تتسلحي بالشجاعة الهائلة.
إيفا :
ماذا حدث؟
القاضي (يحضر كأس شيري) :
اشربي هذا، يا إيفا. أبوك أفرغ زجاجة بونش كاملة في بطنه. وفجأة أصابته نوبة غضب على وجه إينو وطرده من البيت.
إيفا (تشرب) :
الشيري طعمه كطعم السدادات، خسارة. وماذا قال له إذن؟
زوجة القسيس :
ألست خارجة عن طورك يا إيفا!
إيفا :
طبعا طبعا! (القسيس يعود.)
القسيس :
إنه فظيع!
زوجة القسيس :
ماذا؟ ماذا حدث؟
القسيس :
مشهد بشع في الفناء. لقد قذفه بالطوب.
إيفا :
وأصابه؟
القسيس :
لا أدري. لقد رمى المحامي نفسه بينهما، والوزير هنا في الصالون!
إيفا :
يا عم فردريك، أنا الآن متأكدة من أنه سيسافر. من حسن الحظ أننا دعونا الوزير، لولا هذا لنقصت الفضيحة بمقدار النصف .
زوجة القسيس :
إيفا! (يدخل بونتيلا ومعه ماتي وخلفهما لاينا وفينا.)
بونتيلا :
ها أنا قد ألقيت نظرة عميقة في فساد العالم. لقد دخلت هنا بنية حسنة وفي عزمي أن خطأ قد ارتكب وأنني كدت أن أزف ابنتي إلى جرادة وأريد الآن أن أسرع فأزوجها إلى رجل. لقد قررت من مدة طويلة أن أزوج ابنتي لرجل شريف، هو ماتي ألتونين، وهو سائق نشيط وصديق لي. عليكم إذن أن تشربوا كأسا في صحة الزوجين السعيدين. ما ظنكم كيف كان ردهم علي؟ الوزير الذي كنت أحسبه رجلا مهذبا، نظر إلي كأنني عيش الغراب وطلب سيارته. والآخرون بالطبع قلدوه كالقرود. شيء مؤسف. لقد بدا لي كأنني شهيد مسيحي ألقوا به أمام الأسود ولم أستطع أن أداري عواطفي. لقد انصرف مسرعا، ولكنني استطعت لحسن الحظ أن أدركه وأن أقول له: إنه هو أيضا في رأيي ولد قذر. أعتقد أنني عبرت عن رأيكم جميعا.
ماتي :
يا سيد بونتيلا، أعتقد أنه يصح أن ندخل جميعا المطبخ ونناقش الموضوع أمام زجاجة بونش.
بونتيلا :
ولماذا في المطبخ؟ إن خطوبتكم لم يحتفل بها إلى الآن. الخطوبة التي احتفلنا بها كانت خطأ. خطوبة في الهواء! صفوا الموائد الصغيرة إلى جانب بعضها واجعلوا منها مأدبة كبيرة تصلح للاحتفال. سنبدأ الآن. فينا، اجلسي إلى جانبي! (يجلس في منتصف الصالة، بينما يصف بقية المدعوين الموائد الصغيرة إلى جانب بعضها البعض ويجعلون منها مأدبة كبيرة، إيفا وماتي يخرجان معا لإحضار الكراسي.)
إيفا :
لا تنظر إلي هكذا، كما ينظر أبي حين يقدمون له بيضة فاسدة على الإفطار. أذكر أنك كنت تنظر إلي نظرة أخرى، من وقت غير بعيد.
ماتي :
مجرد إجراء شكلي.
إيفا :
عندما أردت في الليلة الماضية أن نذهب إلى الجزيرة لصيد الكابوريا، لم تكن تفكر أبدا في صيد الكابوريا.
ماتي :
كان ذلك بالليل، ولم أكن أيضا أفكر في الزواج.
بونتيلا :
أيها القسيس، بجانب خادمة المطبخ! يا زوجة القسيس، إلى جانب الطباخة! فردريك، اجلس أنت أيضا كما ينبغي! (الجميع يجلسون مكرهين، صمت.)
زوجة القسيس (للاينا) :
هل خللت عيش الغراب هذه السنة؟
لاينا :
أنا لا أخللها ولكن أجففها.
زوجة القسيس :
وكيف تفعلين هذا؟
لاينا :
أقطعها قطعا صغيرة، وأشكها في خيط ثم أعلقها في الشمس.
بونتيلا :
أريد أن أقول كلمة عن عريس ابنتي ماتي، لقد درستك في السر وكونت فكرة عن أخلاقك. لا أريد أن أقول إنني سعيد لأنه لم تعد هناك آلات مكسورة منذ حضورك إلى بونتيلا، بل أقول: إنني أحترم الإنسان فيك. لم أنس حادثة اليوم. لقد لاحظت نظرتك بينما كنت أنا واقفا في الشرفة مثل نيرون، أطرد الضيوف الأعزاء في غضب أعمى. ماتي، لقد كلمتك من قبل عن النوبات التي تصيبني، لعلك لاحظت أنني كنت في أثناء الأكل أجلس صامتا منطويا على نفسي، ولو لم تكن موجودا لتصورت ذلك من تلقاء نفسك. لقد كنت أتخيل النساء الأربعة وهن في الطريق إلى كورجيلا مشيا على الأقدام، لم أقدم لهن قطرة كونياك واحدة، بل كلمات غليظة ولن أدهش إذا شكوا في بونتيلا. إنني أوجه إليك الآن هذا السؤال: هل يمكنك أن تنسى هذا يا ماتي؟
ماتي :
اعتبرها منسية يا سيد بونتيلا، ولكن قل لابنتك بكل ما لك من سلطة عليها إنها لا تستطيع أن تتزوج سائقا.
القسيس :
مضبوط.
إيفا :
بابا. حدثت أمس بين ماتي وبيني مشادة كلامية بسيطة، عندما كنت أنت خارج البيت. إنه لا يصدق أنك ستعطينا ورشة نشارة ويعتقد أنني لن أحتمل الحياة معه كزوجة سائق بسيط.
بونتيلا :
ما رأيك يا فردريك؟
القاضي :
لا تسألني عن شيء يا يوحنا، ولا تنظر إلي كالوحش الذي يموت من جراحه. اسأل لاينا!
بونتيلا :
لاينا، أجيبيني أنت: هل تتصورين أنني يمكن أن أبخل على ابنتي بورشة نشارة وطاحونة بخارية وغابة؟
لاينا (وقد أحست بأنه يقاطعها في حديثها الهامس مع زوجة القسيس عن عيش الغراب، كما يرى من إشاراتهما) :
سأحضر لك فنجال قهوة، يا سيد بونتيلا!
بونتيلا (لماتي) :
ماتي، هل تتقن ال...؟
ماتي :
يقولون هذا.
بونتيلا :
أنا لا أهتم بما يقولون. هل تتقنها حقا؟ هذا هو المهم، ولكنني لن أنتظر منك الإجابة؛ فأنا أعرف أنه يؤلمك أن تمدح نفسك، ولكن هل ... مع فينا؟ إذن أستطيع أن أسألها. لا؟ لست أفهم هذا.
ماتي :
لا تصر على هذا، يا سيد بونتيلا.
إيفا (التي أكثرت قليلا من الشرب تقف وتلقي خطبة) :
عزيزي ماتي. أرجوك أن تجعلني زوجتك لكي يكون لي رجل مثل غيري، وإن شئت ذهبنا حالا لصيد الكابوريا، ولو بدون شبكة. أنا لا أعتبر نفسي ملكة جمال، كما قد تظن في، وأعتقد أنني قادرة على الحياة معك حتى ولو كنا فقراء.
بونتيلا :
برافو!
إيفا :
أما إذا كنت لا تريد أن تذهب معي لصيد الكابوريا - فربما يبدو لك أمرا غير جاد - فإنني على استعداد الآن لأن أجهز حقيبة يد بسرعة، وأسافر معك لزيارة أمك. إن أبي لن يمانع.
بونتيلا :
بالعكس. أنا أرحب بهذه الزيارة.
ماتي (ينهض كذلك واقفا ويشرب كأسين بسرعة) :
يا آنسة إيفا! أنا مستعد للقيام بكل ما تطلبين من حماقات. أما أن آخذك معي إلى أمي فهذا ما لا أستطيعه بحال من الأحوال، وإلا أصيبت العجوز بالشلل، لماذا؟ لأنه ليس عندنا كنبة واحدة. سيدي القسيس، صف للآنسة إيفا كيف يبدو مطبخ فقراء ينامون فيه أيضا!
القسيس (جادا) :
في غاية البؤس.
إيفا :
ولماذا يصفه؟ سوف أراه بنفسي.
ماتي :
وتسألين أمي العجوز عن مكان الحمام!
إيفا :
سأستحم في حمام البلدية.
ماتي :
بنقود السيد بونتيلا؟ أنت تتصورينني مالكا لورشة النشارة، ولكن لا تعتمدي على هذا. غدا صباحا، سيصبح السيد بونتيلا إنسانا عاقلا، بمجرد أن يعود إلى نفسه.
بونتيلا :
اسكت. لا تتكلم عن ذلك السيد بونتيلا عدونا المشترك. لقد غرق الليلة في زجاجة بونش، هذا الجدع البطال! أنا الآن قد عدت إلى نفسي. أصبحت إنسانا. اشربوا أنتم أيضا. كونوا بشرا. لا تيأسوا!
ماتي :
قلت لك مستحيل أن آخذك معي إلى أمي. ستضربني «بالبانتوفل» على رأسي إذا حاولت أن أحضر إليها واحدة مثلك. أقول هذا لتعرفي الحقيقة!
إيفا :
ماتي. ما كان يصح أن تقول هذا.
بونتيلا :
من رأيي أيضا أنك تتجاوز الحد قليلا يا ماتي. إن إيفا لها عيوبها، ويمكن أن تسمن قليلا مثل أمها، ولكن هذا لن يكون قبل الثلاثين أو الخمسة والثلاثين، ولكنها الآن تستطيع أن تظهر في كل مكان.
ماتي :
أنا لا أتكلم عن السمنة، إنما أقول إنها غير عملية، وإنها لا تصلح لأن تكون زوجة سائق.
القسيس :
هذا هو رأيي تماما.
ماتي :
لا تضحكي يا آنسة إيفا؛ فسوف تفقدين الرغبة في الضحك إذا وضعتك أمي موضع الاختبار. عند ذلك تتضاءلين جدا.
إيفا :
فلنجرب يا ماتي! أنت سائق، وأنا زوجتك. قل لي ماذا يجب أن أفعل؟
بونتيلا :
هذا هو الكلام! هاتي السندوتشات يا فينا. سنتناول أكلة مريحة، وسيمتحن ماتي إيفا حتى يعصرها!
ماتي :
ابقي مكانك يا فينا؛ فليس عندنا خدم، وإذا فاجأنا الضيوف فلن نقدم لهم إلا الموجود. أحضري الرنجة يا إيفا!
إيفا (فرحة) :
ها أنا أجري! (تخرج.)
بونتيلا (يناديها) :
لا تنس الزبدة! (لماتي) : أنا أحيي تصميمك على أن تستقل بنفسك ولا تأخذ مني شيئا. هذا شيء لا يفعله كل واحد!
زوجة القسيس (للاينا) :
ولكنني لا أضع عيش الغراب في الملح، بل أسويها بالزبدة والليمون، حتى تصبح في حجم الأزرار. أنا أخلل كذلك عيش الغراب اللبني في اللبن.
لاينا :
إن عيش الغراب اللبني ليس في حد ذاته من النوع الجيد، ولكن طعمه لا بأس به. أفضل أنواع عيش الغراب هو الشامبنيون وعيش الغراب الحجري.
إيفا (تعود حاملة طبقا عليه رنجة) :
ليس في مطبخنا زبدة، أليس كذلك؟
ماتي :
نعم، ها هو. لقد تعرفت عليه. (يتناول الطبق)
لقد رأيت شقيقه بالأمس فقط، ورأيت واحدا من أسرته قبل الأمس، وهكذا. إنني أعرفه منذ بدأت آكل في طبق. كم مرة في الأسبوع تحبين أن تأكلي الرنجة؟
إيفا :
ثلاث مرات يا ماتي، إذا لزم الأمر.
لاينا :
ستأكلين منه أكثر من ذلك، شئت أو لم تشئي.
ماتي :
سيكون عليك أن تتعلمي الكثير. إن أمي التي كانت طاهية في ضيعة كانت تأكله خمس مرات في الأسبوع، ولاينا تأكله ثماني مرات! (يتناول رنجة ويمسكها من ذيلها)
مرحبا بك أيتها الرنجة، يا وجبة الفقراء! أنت يا مشبع البطون في كل الأوقات، يا أيها الألم المملح في الأمعاء! من البحر جئت، وإلى الأرض تعود. أنت القوة التي تقطع أشجار الغابة وتزرع الحقول، وتسير الآلات التي يسمونها العمال والتي لم تصبح الحركة الدائمة بعد. أيتها الرنجة، أنت أيتها الوضيعة، لو لم توجدي لرحنا نطلب من الضيعة لحم الخنزير، فكيف يكون عندئذ مصير فنلندا؟ (يضعها في الطبق ويقطعها قطعا صغيرة يعطي واحدة منها لكل واحد من الحضور.)
بونتيلا :
طعمها في فمي مثل طعم الدليكاتيسة التي آكلها نادرا. هذه تفرقة لا ينبغي أن يكون لها وجود. لو أن الأمر كان بيدي، لوضعت دخل الضيعة كلها في خزينة وكل من يحتاج من العمال إلى شيء يسحبه بنفسه منها؛ لأنه لولاه ما كان فيها شيء. أليس معي الحق؟
ماتي :
لا أستطيع أن أنصحك بهذا؛ لأنك سرعان ما تفلس، ويستحوذ البنك على كل شيء.
بونتيلا :
هذا هو رأيك، أما أنا فلي رأي آخر. إنني أكاد أكون اشتراكيا، ولو أنني كنت تابعا أجيرا لجعلت الحياة جحيما في بونتيلا. استمر في امتحانك؛ فأمره يهمني.
ماتي :
إذا فكرت فيما يجب أن تعرفه المرأة التي سأقدمها لأمي فإنني أتذكر جواربي على الفور. (يخلع حذاءه ويعطي الجورب لإيفا)
هل يمكنك مثلا أن ترقعي هذا؟
القاضي :
أنت تطلب منها الكثير. لقد سكت في موضوع الرنجة، ولكن حب جولييت لروميو ما كان ليصمد أمام مطلب كهذا مثل ترقيع الجوارب. إن حبا يقدر على مثل هذه التضحية يمكن أن يجر معه المتاعب؛ لأنه بطبيعته ناري جدا ويمكن أن يؤدي إلى المحاكم.
ماتي :
في الطبقات الدنيا لا ترقع الجوارب بدافع الحب وحده، بل كذلك لأسباب اقتصادية.
القسيس :
لا أعتقد أن المعلمات الطيبات اللاتي ربينها في بروكسل قد فكرن في مثل هذه المسائل العرضية. (إيفا تعود بالإبرة والكستبان وتبدأ في ترقيع الجورب.)
ماتي :
من واجبها الآن أن تستدرك ما فاتها في التعليم. (لإيفا) : لن أؤاخذك على عيوب تربيتك ما دمت ستبدين استعدادا طيبا. لقد كان حظك سيئا في اختبار أبويك؛ فلم تتعلمي شيئا نافعا. وقد أظهرت الرنجة الفجوات الضخمة في معلوماتك، وقد اخترت الجوارب عن عمد لكي أعرف ماذا يمكن أن تصلحي له.
فينا :
يمكنني أن أبين للآنسة إيفا.
بونتيلا :
ركزي نفسك يا إيفا. أنت نبيهة، ولا بد أن تنجحي. (إيفا تعطي ماتي الجورب وهي مترددة، يرفعه في يده ويفحصه وهو يبتسم ابتسامة مريرة، عندما يلاحظ أنها قد أفسدته تماما.)
فينا :
أنا أيضا لم أكن أستطيع بدون الكستبان أن أرقعه أحسن مما فعلت.
بونتيلا :
لماذا لم تستعملي البيضة؟
ماتي :
جهل. (للقاضي الذي يضحك) : لا تضحك فقد هلك الجورب. (لإيفا) : إذا تزوجت سائقا فستحدث مأساة؛ لأنك لا بد أن تمدي رجليك على قد لحافه، وهو قصير، أقصر مما تتصورين، ولكنني سأعطيك فرصة أخرى؛ لكي تثبتي كفاءتك.
إيفا :
أعترف بأنني لم أنجح في مسألة الجورب.
ماتي :
أنا سائق أعمل في ضيعة، وأنت تساعدين في الغسيل وفي الشتاء توقدين الفرن. أعود إلى البيت في المساء، فكيف يكون استقبالك لي؟
إيفا :
سأنجح في هذه المرة. ماتي، عد إلى البيت! (ماتي يتراجع بضع خطوات إلى الوراء ويتظاهر بأنه يدخل من الباب.)
إيفا :
ماتي! (تجري نحوه وتقبله.)
ماتي :
أول غلطة! أحضان وقبلات وأنا متعب وراجع إلى البيت. (يتظاهر بأنه يتجه إلى صنبور المياه ليغتسل، ثم يمد يده يريد أن يتناول منشفة.)
إيفا (التي بدأت تثرثر) :
ماتي يا مسكين! هل أنت تعبان؟ طول النهار وأنا أفكر في العذاب الذي تراه. إنني أتمنى أن أخفف عنك. (فينا تناولها فوطة يد، فتعطيها مطبقة لماتي.)
إيفا :
معذرة. لم أفهم ماذا كنت تريد. (ماتي يدمدم ساخطا ويجلس على كرسي أمام المائدة. يمد قدميه نحوها فتحاول أن تسحب الحذاء منهما.)
بونتيلا (يقف وينظر بأعصاب متوترة) :
اسحبي!
القسيس :
أنا أعتبر هذا درسا سليما جدا. أنتم ترون أن هذا كله شيء غير طبيعي.
ماتي :
أنا لا أعمل هذا دائما، ولكنني اليوم مثلا قدت الجرار وأشعر أنني الآن نصف ميت ويجب أن يدخل الإنسان هذا في حسابه. ماذا فعلت اليوم؟
إيفا :
غسلت يا ماتي .
ماتي :
كم قطعة أعطوها لك لتغسليها؟
إيفا :
أربعة، ولكنها ملاءات سرير.
ماتي :
فينا. قولي لها.
فينا :
لقد غسلت على الأقل سبع عشرة قطعة ودلوين من القطع الملونة.
ماتي :
هل حصلتم على الماء بالخرطوم أم صببتموه بالدلو؟ لأن الخرطوم مقطوع كما هو الحال في بونتيلا.
بونتيلا :
أعطني فوق دماغي يا ماتي؛ فأنا إنسان سيئ.
إيفا :
بالدلو.
ماتي :
هل كسرت أظافرك (يرفع يدها في يده)
وأنت تغسلين أم وأنت توقدين النار؟ أفضل طريقة أن تضعي دائما عليها قليلا من السمن. لقد أصبحت يدا أمي مع الزمن هكذا (يبين بيده)
متورمتين وحمراوين. أظن أنك متعبة، ولكن لا بد أن تغسلي بذلة الشغل قبل أن تنامي فأنا محتاج إليها غدا.
إيفا :
نعم يا ماتي.
ماتي :
وبذلك تكون في الصباح قد جفت ولا يكون عليك إلا أن تكويها. لا داعي لأن تستيقظي قبل الخامسة والنصف صباحا (ماتي يبحث بيده عن شيء على المائدة) .
إيفا (في فزع) :
ماذا؟
فينا :
الجريدة. (إيفا تقفز وتتظاهر بأنها تقدم الجريدة لماتي. ماتي لا يأخذها منها، بل يستمر على الخبط بيده على المائدة.)
فينا :
على المائدة! (إيفا تضع الجريدة أخيرا على المائدة، ولكنها لم تسحب فردة الحذاء الأخرى بعد وماتي يضرب بها الأرض فارغ الصبر. تجلس على الأرض، وعندما تنجح أخيرا في خلعه تقف متخففة من هذا العبء، وهي تتنفس الصعداء وتسوي شعرها.)
إيفا :
لقد حكت المريلة بنفسي، وهذا يضيف بعض الألوان إليها، أليس كذلك؟ من الممكن دائما إضافة الألوان، ولا يكلف هذا كثيرا، المهم أن يفهم الإنسان كيف يفعل ذلك. هل تعجبك يا ماتي؟ (ماتي ينظر إليها متألما بعد أن عطلته عن قراءة الجريدة التي يدعها تسقط من يده على الأرض. تصمت في فزع.)
فينا :
لا تتكلمي وهو يقرأ الجريدة!
ماتي (واقفا) :
أرأيتم؟
بونتيلا :
خيبت أملي يا إيفا.
ماتي (فيما يشبه الإشفاق) :
كل شيء ينقصها ... الرنجة لا تريد أن تأكلها سوى ثلاث مرات في الأسبوع، الكستبان تنساه. وعندما أرجع إلى البيت في المساء ينقصها الإحساس الرقيق، على سبيل المثال أن تسد فمها! والآن. إذا دعوني بالليل لأحضر العجوز من المحطة، ماذا يحدث؟
إيفا :
سترى ماذا أفعل. (تتظاهر بأنها تذهب إلى النافذة وتصرخ بسرعة)
ماذا؟ في عز الليل، ولم يكد زوجي يرجع إلى البيت وهو في أشد الحاجة إلى النوم، الحكاية زادت وفاضت! يستطيع السيد أن يفيق لعقله في إحدى حفر الشارع. لن أترك زوجي يخرج. سأخفي سرواله!
بونتيلا :
عظيم! يجب أن تعترف بهذا.
إيفا :
تطبلون على أدمغة الناس وتزعجونهم من عز النوم؟! كأنهم لم يروا المر طول النهار. زوجي يرجع إلى البيت ويسقط في الفراش كالموتى. سأستقيل! هل هذا أفضل؟
ماتي (ضاحكا) :
إيفا. هذا مجهود رائع. سيطردونني بكل تأكيد، ولكنك إذا فعلت هذا أمام أمي فسوف تكسبين عطفها. (يضربها بيده على مؤخرتها وهو يمزح.)
إيفا (تبهت أولا ثم تقول في غضب) :
ارفع يدك!
ماتي :
ماذا حدث؟
إيفا :
كيف تسمح لنفسك بأن تضربني في هذا المكان؟
القاضي (يقف ويربت على كتف إيفا) :
أخشى أنك رسبت أخيرا في الامتحان.
بونتيلا :
ماذا جرى لك؟
ماتي :
هل شعرت بالإهانة؟ ألم يكن يصح أن أضربك واحدة؟
إيفا (تضحك من جديد) :
بابا، أنا في الحقيقة أشك إن كان الزواج سيتم.
القسيس :
هذا هو الواقع.
بونتيلا :
ما معنى هذا؟ تشكين؟
إيفا :
بدأت الآن أصدق أن تربيتي كانت فاسدة. سأصعد إلى حجرتي.
بونتيلا :
لا بد أن أتدخل. اجلسي حالا في مكانك يا إيفا.
إيفا :
بابا. الأفضل أن أنصرف. لن تحتفل للأسف بخطوبتك، تصبحون على خير! (تخرج.)
بونتيلا :
إيفا! (القسيس والقاضي يتأهبان كذلك للخروج، ولكن زوجة القسيس لا تزال تواصل حديثها مع الطاهية عن عيش الغراب.)
زوجة القسيس (في حماس) :
كدت تقنعينني، ولكنني تعودت على تخليلها. إنني أشعر أن هذا أضمن، ولكنني أقشرها قبل التخليل.
لاينا :
لا داعي لهذا. يجب عليك فقط أن تمسحي الطينة عنها.
القسيس :
تعالي يا آنا. لقد تأخرنا.
بونتيلا :
إيفا! ماتي. لقد انتهيت منها. أجد لها رجلا، رجلا عظيما، وأهيئ كل شيء لسعادتها، لكي تستيقظ كل صباح وتغني كالقنبرة. أما هي فتعتبر نفسها أرفع من ذلك وتساورها الشكوك. سأطردها (يجري نحو الباب)
سأحرمك من الميراث! اجمعي خرقك واختفي من بيتي! هل تظنين أنني لم ألاحظ كيف كنت على وشك أن تتزوجي الملحق لمجرد أنني أوصيتك أن تتزوجيه؟ لأنك عديمة الأخلاق، يا زبالة! لست ابنتي بعد الآن!
القسيس :
يا سيد بونتيلا. أنت لست في وعيك.
بونتيلا :
اتركني في حالي! اذهب وألق مواعظك في كنيستك؛ فليس هناك أحد يسمعها!
القسيس :
يا سيد بونتيلا. أنا حصل لي الشرف.
بونتيلا :
نعم! اذهبوا جميعا واتركوا وراءكم أبا مفجوعا! لا أدري كيف خلفت ابنة كهذه، أضبطها متلبسة بالدعارة مع جرادة دبلوماسية. أية راعية بقر تستطيع أن تقول لها لماذا خلق الله لها مؤخرتها والعرق يتصبب من جبينه. تنام مع رجل وتلعق أصبعها كلما رأت رجلا. (للقاضي)
أنت أيضا لم تفتح فمك الواسع في الوقت المناسب لكي تقوم شذوذها، اختف من أمامي!
القاضي :
بونتيلا. يكفي ما حدث. اتركني في حالي. إنني أغسل يدي في براءة (يخرج وهو يبتسم) .
بونتيلا :
هذا ما تعمله من ثلاثين سنة، لا بد أنه لم يبق منهما شيء! فردريك! كانت لك يدا فلاح قبل أن تصبح قاضيا وتبدأ في غسلهما في براءة!
القسيس (يحاول أن ينتزع زوجته من حديثها مع لاينا) :
آنا، حان وقت الانصراف.
زوجة القسيس :
لا، أنا لا أضعها في الماء البارد. ولا أسوي الجذع معها. كم من الوقت تتركينها حتى تستوي؟
لاينا :
حتى تغلي غلوة واحدة.
القسيس :
أنا منتظر يا آنا.
زوجة القسيس :
أنا قادمة. أنا أتركها تغلي عشر دقائق. (القسيس يخرج وهو يهز كتفيه.)
بونتيلا (بعد أن عاد إلى المائدة) :
ليسوا بشرا. لا أستطيع أن أعدهم من البشر.
ماتي :
إن شئت الدقة فهم كذلك. لقد عرفت طبيبا كان يقول كلما رأى فلاحا يضرب حصانه: ها هو واحد يعامله معاملة إنسانية. لماذا؟ لأن كلمة «حيوانية» لم تكن هي المناسبة في هذه الحالة.
بونتيلا :
هذه حكمة عميقة. كنت أتمنى أن أسكر معه. اشرب كأسا معي. أعجبتني طريقتك في الامتحان يا ماتي.
ماتي :
لا تؤاخذني يا سيد بونتيلا إذا كنت ضربت ابنتك على المؤخرة. لم يكن ذلك جزءا من الامتحان، بل قصدت منه أن يكون نوعا من رفع الروح المعنوية! وقد أوضح الهوة التي تفصل بيننا، كما لا بد أنك لاحظت!
بونتيلا :
ماتي! لا داعي للاعتذار. أنا ليس لي بنت بعد الآن.
ماتي :
لا تكن عنيدا هكذا! (لزوجة القسيس ولاينا) : هل اتفقتما أخيرا على عيش الغراب؟
زوجة القسيس :
ثم تضيفين الملح من الأول؟
لاينا :
نعم، من الأول (يخرجان) .
بونتيلا :
اسمع. ما زال الشغالة يرقصون في الميدان. (يسمع غناء سوركالا الأحمر آتيا من ناحية البحيرة):
1
في بلد السويد
كانت تعيش دوقة
جميلة جدا
شاحبة جدا
يا أيها الصياد!
يا أيها الصياد!
رباط جوربي انخلع
رباطه انخلع ... رباطه انخلع ...
يا أيها الصياد
اركع على الأرض
اركع على الأرض
واربطه لي حالا!
2
سيدتي الدوقة!
سيدتي الدوقة!
لا تنظري إلي
فإنني أخدمك
للقمة العيش.
نهداك بيضاوان
كطلعة الفجر
لكنها الفأس
يهوي بها الجلاد
يوما على رأسي
باردة ... كالثلج
باردة ... كالثلج
الحب ما أحلاه
وما أمر الموت!
3
هرب الصياد
في نفس الليلة
ركب جواده
وجرى للبحر
يا أيها الملاح!
يا أيها الملاح!
خذني بقاربك ...
خذني بقاربك ...
يا أيها الملاح
لآخر البحر ...
لآخر البحر ...
4
كانت هناك ثعلبة
تحب ديكا رائعا
يا حبي الذهبي
ترى تحبني
كمثل حبي لك؟
ما كان أجمل المساء
ثم مضى ... والفجر جاء
والفجر جاء ...
والفجر جاء ...
وكان كل ريشه
معلقا على الشجر ...
معلقا على الشجر ...
بونتيلا :
أنا المقصود بها. أمثال هذه الأغاني تؤلمني ألما شديدا. (يكون ماتي في هذه الأثناء قد احتضن «فينا» وخرج معها وهما يرقصان.)
الفصل العاشر
ليلية
(في الفناء. ليل. بونتيلا وماتي يتبولان.)
بونتيلا :
لن أطيق الحياة في المدينة. ولماذا؟ لأنني أريد أن أخرج إلى الفضاء، وأتبول على حريتي تحت سماء تلمع بالنجوم، وإلا فما الفائدة من ثروتي كلها؟ يقولون: إن التبول في الخلاء شيء بدائي. أما أنا فأقول: إن التبول في «الصيني» هو البدائي حقا.
ماتي :
أفهم وجهة نظرك. إنه بالنسبة إليك نوع من الرياضة . (صمت.)
بونتيلا :
لا يعجبني أن أرى إنسانا لا يجد لذة في الحياة. إنني أقيس العمال عندي بقدرتهم على المرح، وكلما رأيت أحدهم يجلس وحده وسحنته مدلاة فإنني أنفر منه على الفور.
ماتي :
أستطيع أن أشاركك في شعورك. لا أدري لماذا يبدو الناس في ضيعتك في غاية البؤس، سحنتهم متجهمة، كتلة من العظام، وأكبر من سنهم بعشرين عاما أعتقد أنهم يريدون إغاظتك، وإلا لما راحوا يتسكعون في الفناء هكذا، كلما جاءك ضيوف.
بونتيلا :
وكأن هناك مجاعة في بونتيلا!
ماتي :
ولو كان الأمر كذلك. كان من المفروض أن يتعودوا على الجوع في فنلندا، ولكنهم لا يريدون أن يتعلموا، والإرادة الطيبة تنقصهم، في سنة 1918 قتلوا منهم ثمانين ألفا فعم البلاد سلام سماوي، لمجرد أن عدد الأفواه الجائعة قد نقص.
بونتيلا :
لا داعي لأن تصل الأمور إلى هذا الحد.
الفصل الحادي عشر
السيد بونتيلا وتابعه ماتي يتسلقان جبل هاتيلما
(حجرة المكتبة في ضيعة بونتيلا. بونتيلا يلف رأسه بفوطة مبتلة ويفحص حساباته وهو يتنهد. الطاهية لاينا تقف إلى جواره وفي يدها حوض به ماء وفوطة ثانية.)
بونتيلا :
إذا سمح الملحق لنفسه مرة أخرى بالكلام في التليفون نصف ساعة مع هلسنكي فسوف أفسخ الخطوبة. لقد كلفتني غابة بأكملها، ولم أقل شيئا، ولكن السرقات الصغيرة تجعل الدم يغلى في دماغي، وانظري إلى دفتر البيض: خربشة على كل الأصفار! هل المفروض أن أرابط في حظيرة الدجاج؟
فينا (تدخل) :
السيد القسيس والسيد عضو الجمعية التعاونية للألبان يريدان مقابلتك.
بونتيلا :
لا أريد أن أراهما، دماغي سيتمزق. أعتقد أنني سأصاب بالالتهاب الرئوي. أدخليهما! (يدخل القسيس والمحامي. فينا تخرج بسرعة.)
القسيس :
صباح الخير يا سيد بونتيلا. أتعشم أن تكون قد استرحت، قابلت السيد عضو الجمعية مصادفة في الشارع فقررنا أن نزورك زيارة خاطفة ونسأل عن صحتك.
المحامي :
يمكن أن تسميها ليلة سوء التفاهم.
بونتيلا :
لقد اتصلت بإينو تليفونيا، إن كان هذا هو قصدكم. اعتذر لي وبذلك أصبحت المسألة منتهية.
القسيس :
يا عزيزي بونتيلا. هناك نقطة أخرى يجب مراعاتها. طالما كان سوء التفاهم الذي حدث في بونتيلا يتصل بحياتك العائلية وبعلاقتك بأعضاء الحكومة فالمسألة كلها تخصك أنت وحدك، ولكن هناك للأسف مسائل أخرى.
بونتيلا :
بيكا. لا تلف معي. إذا كانت هناك أية خسائر فأنا على استعداد للدفع.
القسيس :
يا عزيزي بونتيلا. هناك للأسف خسائر لا يعوض عنها المال. باختصار، لقد أتينا إليك لنتحدث في موضوع سوركالا، بروح الصداقة التي تربط بيننا.
بونتيلا :
وماذا حدث لسوركالا؟
القسيس :
لقد فهمنا من كلامك من قبل أنك ترغب في طرده من الضيعة؛ فهو كما قلت بنفسك اشتراكي معروف، وتأثيره خطير على المجموع.
بونتيلا :
لقد قلت إنني سأطرده.
القسيس :
كان أمس يا سيد بونتيلا هو آخر موعد لطرده، ولكن سوركالا لم يطرد، وإلا لما رأيت ابنته الكبرى أمس في الصلاة.
بونتيلا :
ماذا؟ سوركالا لم يطرد؟ لاينا! ألم يتسلم سوركالا شهادة طرده؟!
لاينا :
لا.
بونتيلا :
وكيف حدث هذا؟
لاينا :
لقد قابلته عندما كنت في السوق وأحضرته معك في سيارتك «الاستوديو بيكر» وأعطيته ورقة بعشرة ماركات بدلا من أن تطرده.
بونتيلا :
هذه وقاحة منه. يأخذ مني عشرة ماركات بعد أن قلت له مرارا وتكرارا إن عليه أن يترك الضيعة قبل أن يحل موعد الطرد؟ فينا! (تدخل)
نادي حالا على سوركالا! (فينا تخرج)
أحس بصداع فظيع.
المحامي :
اشرب قهوة.
بونتيلا :
معك حق يا بيكا، لابد أنني كنت سكران، كلما شربت كأسا أكثر من اللازم حدثت مني مثل هذه التصرفات. أكاد أمزق رأسي. هذا الوغد يستحق أن يكون الآن في السجن. لقد استغل الفرصة.
القسيس :
لقد اقتنعت بكلامك يا سيد بونتيلا. نحن نعلم جميعا أنك رجل شريف، وأن قلبك موجود في مكانه الصحيح! لا بد أنك كنت واقعا تحت تأثير الشراب.
بونتيلا :
شيء فظيع! (يائسا)
ماذا أقول الآن للحرس القومي؟ إنها مسألة كرامة. لو عرفوا الحكاية لضاع مستقبلي. لن يأخذوا اللبن مني. إن ماتي هو المسئول عن هذا. لقد كان يجلس إلى جواره، ما زلت أرى هذا أمامي. إنه يعلم أنني لا أطيق سوركالا، ومع ذلك يتركني أعطيه عشرة ماركات .
القسيس :
يا سيد بونتيلا. لا تنظر إلى المسألة كأنها مأساة. إن ما وقع يمكن أن يحدث كثيرا.
بونتيلا :
لا تقل إنه يمكن أن يحدث. إذا استمر الحال على هذا فلا بد أن يحجر علي. لن يكون في مقدوري أن أشرب اللبن وحدي، سأتحطم تماما. بيكا. لا تجلس هكذا بعيدا عنا. يجب أن تتدخل. أنت عضو الجمعية التعاونية. سأعطي الحرس القومي هبة مالية. إن الخمرة هي السبب. لاينا، لا أريد أن أراها بعد اليوم.
المحامي :
إذن فستدفع حسابه وتطرده. إنه يسمم الجو.
القسيس :
أظن أننا سنستأذن الآن يا سيد بونتيلا. ما من خسارة يعز إصلاحها، ما دامت الإرادة الطيبة موجودة. الإرادة الطيبة هي كل شيء، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا (يسلم عليه ويهز يده) :
أشكرك.
القسيس :
لا شكر على واجب. المهم أن نؤديه على وجه السرعة!
المحامي :
لعلك أيضا تسأل عن ماضي سائقك؛ فأنا غير مطمئن إليه (يخرج القسيس والمحامي) .
بونتيلا :
لاينا. لن أمس قطرة كحول في حياتي. أبدا أبدا! لقد فكرت اليوم، عندما استيقظت من النوم. إنها لعنة. لقد صممت أن أذهب إلى حظيرة البقر وأتخذ القرار. إنني أحب البقر، وما أصمم عليه وأنا في الحظيرة لا يخيب. (بعظمة)
أحضري الزجاجات من دولاب طوابع البريد، كل الزجاجات، وكل ما بقي في البيت من كحول، سوف أعدمها جميعا، هنا وفي هذه اللحظة. سأكسرها واحدة بعد الأخرى، لا تكلميني عن ثمنها يا لاينا. فكري في الضيعة.
لاينا :
نعم يا سيد بونتيلا، ولكن هل أنت متأكد من نفسك؟
بونتيلا :
إن فضيحة سوركالا الذي لم أطرده في الشارع درس لي. يجب أن يحضر ماتي كذلك في الحال. إنه روحي الشريرة.
لاينا :
آه! لقد أعد سوركالا حقائبه، وهو الآن يفكها! (تخرج لاينا مسرعة. يدخل سوركالا وأطفاله.)
بونتيلا :
لم أطلب أن تحضر عيالك معك. لقد طلبت أن أتكلم معك أنت.
سوركالا :
أعرف يا سيد بونتيلا؛ ولذلك أحضرتهم معي، يمكنهم أن يسمعوا؛ فلا ضرر عليهم من ذلك. (صمت، يدخل ماتي.)
ماتي :
صباح الخير، يا سيد بونتيلا. كيف حال الصداع؟
بونتيلا :
ها هو الخنزير، ما هذا الذي أسمعه عنك من جديد؟ ماذا دبرت وراء ظهري؟ ألم أحذرك بالأمس فقط من أنني سأطردك وأحرمك من الشهادة؟
ماتي :
نعم يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
اخرس! لقد شبعت من وقاحتك وردودك علي! أصدقائي كشفوا لي عنك. كم دفع لك سوركالا؟
ماتي :
لا أدري ماذا تقصد، يا سيد بونتيلا؟
بونتيلا :
ماذا؟ أتريد أن تنكر الآن أنك تتآمر مع سوركالا؟ وأنت نفسك أحمر. وقد عرفت كيف تمنعني من تسوية حسابه في الوقت المناسب.
ماتي :
بعد إذنك يا سيد بونتيلا. لقد نفذت أوامرك فقط.
بونتيلا :
كان يجب أن تعرف أن أوامري كانت بغير معنى ولا عقل.
ماتي :
معذرة! إن أوامرك لا يمكن التفرقة بينها بوضوح. ولو أنني لم أنفذ غير الأوامر التي لها معنى لطردتني بحجة أنني كسول ولا أعمل شيئا على الإطلاق.
بونتيلا :
لا تضايقني، أيها المجرم. أنت تعلم تماما أنني لا أطيق هذه العناصر المشاغبة في ضيعتي. إنهم يثيرون الناس حتى يمتنعوا عن الذهاب إلى الحقل ما لم يأكلوا بيضة على الإفطار، أيها البلشفي! إن الكحول هو الذي منعني من طرده في الوقت المناسب وعلي الآن أن أدفع له حساب ثلاثة شهور. أما أنت فقد كانت الحكاية عندك محسوبة! (لاينا وفينا تحضران زجاجات الخمرة بلا توقف.)
بونتيلا :
المسألة جد في هذه المرة يا لاينا! وهكذا سترون أنني لا أكتفي بالوعود، بل أعدم الكحول كله بالفعل. في المرات السابقة كنت للأسف لا أصل إلى هذا الحد؛ ولذلك كنت أحتفظ دائما بزجاجة تكون تحت يدي لكي أواجه بها لحظات ضعفي. كانت الخمرة هي سبب المتاعب كلها. لقد قرأت مرة أن الخطوة الأولى نحو العفة والاستقامة هي عدم شراء الكحول. هذا شيء لا يعرفه إلا القليلون، ولكن إذا وجد الكحول، فيجب على الأقل أن نقضي عليه. (لماتي) : لقد تعمدت أن تكون حاضرا معي لترى ما سأفعله. إنه سيفزعك أكثر من أي شيء آخر.
ماتي :
أجل يا سيد بونتيلا. هل آخذ الزجاجات لأكسرها في الفناء بدلا منك؟
بونتيلا :
لا. أنا سأكسرها بنفسي. أيها الوغد! يجوز أن يعجبك هذا الكونياك العظيم (يرفع الزجاجة في يده ويفحصها)
فتحاول أن تعدمه بإفراغه في جوفك!
لاينا :
لا تنظر طويلا إلى الزجاجة يا سيد بونتيلا. ارمها على الفور من النافذة!
بونتيلا :
معك حق، (في برود لماتي) : لن تغريني على الشرب بعد الآن، أيها الخنزير. أنت لا تحس بالسعادة إلا إذا رأيت الناس يتمرغون أمامك كالخنازير. أما الحماس الحقيقي للعمل فأنت لا تعرفه. ولولا خوفك من أن تموت جوعا ما حركت إصبعا، أيها الطفيلي! تفرض نفسك علي، وتضيع ليالي في حكاياتك القذرة، وتحرضني على إهانة ضيوفي، ولا يرضيك إلا أن تجر كل شيء في الوحل الذي جئت منه! أنت وجه سجون! وقد اعترفت لي لماذا طردوك من كل مكان اشتغلت فيه. وقد ضبطتك وأنت تثير نساء كورجيلا علي، أنت عنصر مخرب! (يبدأ بلا وعي في ملء كأس أحضرها له ماتي.)
أنت تمقتني، وتظن أنك تضحك علي بحاضر يا سيد بونتيلا!
لاينا :
يا سيد بونتيلا!
بونتيلا :
دعيني! لا تخافي علي! أنا أجربه فقط لأتأكد من أن التاجر لم يغشني وأحتفل بقراري الذي لا يتزعزع! (لماتي) : ولكنني كشفتك من أول لحظة، وكنت أراقبك إلى أن تفضح نفسك؛ ولذلك شربت معك بدون أن تشك في شيء. (يستمر في الشراب)
ظننت أن في إمكانك أن تضللني وأن تستغل الموقف لمصلحتك وتغريني على السكر معك طول النهار، ولكنك مخطئ. لقد فتح أصدقائي عيني عليك؛ ولذلك فأنا أشكرهم وأعترف بجميلهم، وأشرب هذه الكأس في صحتهم! إنني أنتفض من الفزع حين تعود بي الذاكرة إلى تلك الحياة، الأيام الثلاث في فندق البستان، والسفر بحثا عن الخمرة القانونية، ونساء كورجيلا. يا لها من حياة خالية من المعنى والعقل. عندما أتذكر راعية البقر في ساعة الفجر! كانت تريد أن تستغل الظروف لمصلحتها. كان صدرها ناهدا واسمها ليزو على ما أظن. وأنت أيها الوغد كنت بالطبع دائما معي. كانت أوقاتا حلوة، يجب أن تعترف بهذا، ولكنني لن أزوجك ابنتي، أيها الخنزير. لاحظ أنني لم أقل أيها الوغد. أعترف بأن هذا ظلم لك.
لاينا :
يا سيد بونتيلا. أنت تشرب من جديد.
بونتيلا :
أشرب! هل تسمين هذا شربا؟ زجاجة أو زجاجتين؟ (يمد يده إلى الزجاجة الثانية)
اكسري هذه (يعطيها الزجاجة الفارغة)
حطميها. لا أريد أن أراها، قلت لك هذا. ولا تنظري إلي هكذا كما نظر المسيح إلى بطرس. لا أطيق أن يبحث أحد عن زلة في كلامي. (مشيرا إلى ماتي)
إن الوغد يسحبني معه إلى أسفل، ولكنكم تريدون أن أتعفن هنا وآكل أظافري من الملل! أية حياة هذه التي أعيشها هنا؟ لا شيء سوى تعذيب الناس طول النهار وحساب العلف للأبقار! اخرجوا أيها الأقزام! (لاينا وفينا تخرجان، وهما تهزان رأسيهما.)
بونتيلا (وهو يتابعهما ببصره) :
مساكين! بلا خيال! (لأبناء سوركالا) : اسرقوا. انهبوا. كونوا حمرا، ولكن لا تكونوا أقزاما. هذه نصيحة بونتيلا لكم. (لسوركالا)
معذرة إذا كنت أتدخل في تربية أولادك. (لماتي)
افتح هذه الزجاجة.
ماتي :
أتعشم أن يكون البونش على ما يرام وألا يكون «مفلفلا» كما حدث أخيرا. يجب أن يحتاط الإنسان دائما من «أوسكالا» يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
أعرف؛ ولذلك أحتاط دائما؛ فأنا أبدا دائما بجرعة صغيرة جدا؛ بحيث يمكنني أن أبصقها إذا لاحظت فيها شيئا، ولولا هذا الاحتياط الذي تعودت عليه لنزلت أقذر القاذورات في جوفي. خذ لك زجاجة يا ماتي، بحق السماء. لقد عزمت على أن أحتفل بقراراتي التي صممت عليها؛ لأنها قرارات لا تتغير، وهذه دائما مسألة صعبة في صحتك يا سوركالا.
ماتي :
هل يمكنهم إذن أن يبقوا في الضيعة يا سيد بونتيلا؟
بونتيلا :
هل يجب أن نتكلم في هذا الموضوع، ونحن الآن بيننا وبين بعض؟ أنت تخيب أملي فيك يا ماتي. إن بقاء سوركالا ليس في مصلحته؛ فبونتيلا ضيقة بالنسبة له. إن الحياة فيها لا تعجبه، وأنا أفهم وجهة نظره، ولو أنني دخلت في جلده لفكرت نفس التفكير، ولكان بونتيلا في رأيي رأسماليا حقيرا، وهل تعلمون ماذا كنت أفعل معه؟ كنت أرسلته إلى منجم ملح؛ لكي يتعلم معنى العمل، هذا الطفيلي. هل معي حق يا سوركالا؟ بلا مجاملات!
ابنة سوركالا الكبرى :
ولكننا نريد أن نبقى يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
لا! لا! سوركالا سيذهب، ولن تستطيع عشرة خيول أن توقفه. يذهب إلى مكتبه فيفتحه ويخرج منه مبلغا من النقود يعطيه لسوركالا. ناقص عشرة. (للأطفال) : افرحوا لأن لكم أبا يتحمل كل شيء في سبيل عقيدته. أنت الكبيرة يا هيللا، فكوني عونه. والآن جاء وقت الوداع. (يمد يده لسور كالا. سوركالا يرفض أن يسلم عليه.)
سوركالا :
تعالي يا هيللا، سنحزم حقائبنا، لقد سمعتم كل ما يمكن أن يسمع في بونتيلا، تعالوا (يخرج مع أطفاله) .
بونتيلا (في تأثر) :
يدي لا تستحق أن يسلم عليها. هل لاحظت كيف انتظرت أن يقول لي شيئا وهو يودعني، ولو كلمة واحدة، ولكنه لم يقل شيئا؛ فالضيعة في رأيه قذارة. إنه بلا جذور. الوطن عنده كلمة بلا معنى؛ لذلك تركته يذهب عندما أصر على الذهاب. لحظة مريرة (يشرب)
أنت وأنا، نحن مختلفان يا ماتي. أنت صديق ودليل على الطريق الوعر. إنني أحس بالعطش، بمجرد النظر إليك، كم أعطيك في الشهر؟
ماتي :
ثلاثمائة ماركا، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
سأرفعها إلى ثلاثمائة وخمسين؛ لأنني راض عنك بنوع خاص. (وكأنه يحلم)
ماتي. أريد أن أتسلق معك جبل «هاتيلما»، لكي ترى المنظر المشهور من هناك، ولكي تعرف في أي بلد جميل تعيش. سوف تعض أصابعك من الندم؛ لأنك لم تعرف ذلك من قبل. هل سنصعد جبل هاتيلما يا ماتي؟ أعتقد أن ذلك ممكن، نستطيع أن نتسلقه بالخيال. تكفي بضعة كراسي.
ماتي :
أنا مستعد أن أفعل كل ما يخطر على بالك ما دمنا بالنهار.
بونتيلا :
لا أدري إن كان عندك الخيال المطلوب. (ماتي يسكت.)
بونتيلا (يصيح) :
ابن لي جبلا يا ماتي! لا تبخل بشيء! لا تخف من شيء! اجمع أضخم الصخور، وإلا لما كان هو جبل هاتيلما، ولا تمتعنا بالمنظر المشهور.
ماتي :
رغباتك كلها مجابة يا سيد بونتيلا، واعلم أيضا أنه لا يمكن التفكير في ساعات العمل الثمانية طالما أنك تريد أن يكون لك جبل في قلب الوادي . (ماتي يحطم بركلات من قدميه ساعة حائط ثمينة ودولابا ضخما للأسلحة ويبني من الأنقاض ومن بعض الكراسي التي يضعها على مائدة البلياردو جبل هاتيلما.)
بونتيلا :
خذ أيضا هذا الكرسي الموضوع هناك! اتبع إرشاداتي لكي تبني جبل هاتيلما بسهولة؛ فأنا أعرف ما هو ضروري وما لا ضرورة له، وأنا الذي أتحمل المسئولية. أنت تحب أن تبني جبلا لا يساوي شيئا؛ أي لا يضمن لي منظرا ولا يدخل السرور على نفسي؛ ذلك لأن العمل وحده هو الذي يهمك، أما أنا فيهمني أن أوجه هذا العمل إلى هدف نافع. والآن أريد أن تشق لي طريقا إلى أعلى الجبل؛ طريقا أستطيع أن أجر عليه وزني الذي يبلغ مائة كيلو وأصعد عليه وأنا مستريح. وإذا لم تمهد هذا الطريق فسوف أتبرز عليك أنت وجبلك، لكي تعرف أنك عاجز عن التفكير! أنا أفهم في قيادة الناس. أريد أن أعرف كيف يمكنك أن تقود نفسك بنفسك؟
ماتي :
ها هو الجبل قد تم، يمكنك الآن أن تتسلقه. إنه جبل وبه طريق، ليس جبلا ناقصا كتلك الجبال التي خلقها الله على وجه السرعة، في ستة أيام فحسب، مما اضطره إلى خلق عدد هائل من العبيد لكي يمكنك أن تستفيد بهم يا سيد بونتيلا.
بونتيلا (يبدأ في الصعود) :
ستنكسر رقبتي.
ماتي (يمسك بيده) :
قد يحدث لك هذا أيضا على الأرض إذا لم أسندك.
بونتيلا :
ولذلك أخذتك معي يا ماتي، وإلا لما أمكنك أن ترى البلد الجميل الذي أنجبك والذي لولاه لكنت قذرا، فاعترف له بالجميل!
ماتي :
أنا معترف بجميله علي حتى القبر، ولكنني لا أدري إن كان هذا كافيا؛ فقد قرأت في «هلسنكي سانومات» أن من الواجب أن يعترف له الإنسان بالجميل حتى بعد الموت.
بونتيلا :
يجب أن تشكره على الحقول والمراعي، ثم على الغابات، بأشجارها الصنوبرية التي تمتد بجذورها في الصخور وتحيا على العدم، حتى ليعجب المرء كيف يمكنها أن تعيش في مثل هذا الضنك!
ماتي :
كان من الممكن أن يكونوا عمالا مثاليين.
بونتيلا :
ها نحن نصعد ، يا ماتي ، نرتفع إلى الأعالي. أبنية البشر ومنشآت أيديهم تتراجع، ونحن نتوغل في الطبيعة الخالصة فنكشف عن عريها وحقيقتها. تخلص الآن من كل همومك الصغيرة وهب نفسك للانطباع الهائل يا ماتي.
ماتي :
أنا أفعل ما أقدر عليه يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
آه يا تافاستلاند المباركة! فلنشرب جرعة أخرى، لكي نرى جمالك كله!
ماتي :
لحظة واحدة، حتى أهبط من الجبل لأحضر النبيذ الأحمر! (يهبط ثم يتسلق الجبل مرة أخرى.)
بونتيلا :
أنا أسأل نفسي: هل يمكنك أن ترى كل هذا الجمال؟ هل أنت من تافاستلاند؟
ماتي :
نعم.
بونتيلا :
إذا فأسألك: أين توجد مثل هذه السماء التي ترتفع فوق تافاستلاند؟ لقد سمعت أن لونها في البلاد الأخرى أشد زرقة، ولكن السحب هنا أرق، والرياح الفنلندية أهدأ، ولن أقبل زرقة أخرى، ولو كان لي الخيار. وعندما يطير البجع البري قادما من البحيرات، أهذا قليل؟ لا تدع أحدا يحكي لك شيئا عن البلاد الأخرى يا ماتي فسوف تخسر. ابق على إخلاصك لتافاستلاند، هذه نصيحتي لك.
ماتي :
نعم، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
وهذه البحيرات وحدها! دعك من الغابات إذا شئت. هناك الغابات التي أمتلكها. الغابة الواقعة على اللسان سآمر بقطعها. انظر إلى البحيرات وحدها، لتكتف بثلاث أو أربع منها. دعك أيضا من الأسماك التي تملؤها. املأ عينيك من البحيرات في الصباح. يكفي أنك لن تفكر في البعد عنها، بل ستموت شوقا إليها وأنت في الغربة، وعندنا ثمانون ألف بحيرة منها في فنلندا!
ماتي :
حسنا، سألتفت إلى المنظر وحده!
بونتيلا :
هل ترى هذا الجرار البخاري الصغير بصدره الذي يشبه «البول دوج» وجذوع الأشجار في نور الفجر؟ هل ترى كيف تسبح في المياه الدافئة، محزومة ومقشرة؟ ثروة صغيرة. أنا أشم رائحة الأخشاب الطازجة على بعد عشرة كيلومترات، هل تشمها أنت أيضا؟ روائح تافاستلاند، كيف نجد الكلام الذي يعبر عنها؟ خذ مثلا التوت! بعد أن تسقط الأمطار وأوراق الغاب، بعد أن تخرج من الحمام البخاري ويجلدوك بالأغصان السميكة، وكيف تصل رائحتها إليك وأنت ما تزال في الفراش، أين تجد هذا كله ؟ أين تجد مثل هذا المنظر؟
ماتي :
لا نظير له، يا سيد بونتيلا.
بونتيلا :
إنه أحب ما يكون إلي عندما يتلاشى في الأفق البعيد، تماما كما يغمض الإنسان عينيه في بعض لحظات الحب ويتلاشى كل شيء أمامه. أعتقد أن مثل هذا الحب لا وجود له إلا في تافاستلاند.
ماتي :
كانت لدينا كهوف في مسقط رأسي، انتثرت أمامها الأحجار المستديرة اللامعة كالكريات المخروطية.
بونتيلا :
هل كنتم تندسون فيها؟ هه؟ بدلا من أن ترعوا البقر! انظر! أنا أرى بعضها يستحم على شاطئ البحيرة!
ماتي :
وأنا أيضا أراها، خمسون بقرة على الأقل.
بونتيلا :
بل ستون. ها هو القطار، إذا أنصت جيدا، استطعت أن أسمع رنين أقساط اللبن.
ماتي :
نعم، إذا أنصت جيدا.
بونتيلا :
نعم، يجب أن أريك تافا ستهوز، المدينة القديمة، عندنا أيضا مدن. هناك أرى فندق البستان، عندهم نبيذ جيد، أوصيك به. دعنا من القلعة؛ فقد أقاموا فيها سجنا للنساء. كان ينبغي ألا يتدخلن في السياسة، ولكن انظر إلى الطواحين البخارية، أليست رائعة على البعد؟ ألا تبعث الحياة في الريف؟ والآن، ماذا ترى إلى اليسار؟
ماتي :
نعم، ماذا أرى؟
بونتيلا :
الحقول بالطبع! تراها على مدى البصر، والحقول التي يملكها بونتيلا تراها هناك، وبالأخص البرية. إن أرضها من الخصوبة بحيث أستطيع أن أحلب الأبقار ثلاث مرات في اليوم إذا تركتها ترعى الكلأ، وسنابل القمح تصل إلى ذقنك وتؤتي محصولها مرتين في السنة، غن معي:
وأمواج الروان المحبوب
تقبل الرمال البيضاء كالحليب. (تدخل فينا ولاينا.)
فينا :
يا إلهي!
لاينا :
خربوا المكتبة كلها!
ماتي :
نحن نقف الآن على قمة هاتيلما ونتمتع بالمنظر!
بونتيلا :
غنوا معنا! ألا تحبون الوطن؟
الجميع (ما عدا ماتي) :
وأمواج الروان المحبوب
تقبل الرمال البيضاء كالحليب.
بونتيلا :
تافاستلاند! أيتها الأرض المباركة! بسمائها وبحيراتها وشعبها وغاباتها! (لماتي) : قل إن قلبك يطير من الفرح عندما ترى هذا!
ماتي :
قلبي يطير من الفرح، عندما أرى غاباتك يا سيد بونتيلا!
الفصل الثاني عشر
ماتي يدير ظهره لبونتيلا
(فناء في بونتيلا. الوقت في الصباح الباكر. ماتي يخرج من البيت حاملا حقيبة. لاينا تتبعه حاملة لفافة بها مأكولات.)
لاينا :
خذ هذه اللفة يا ماتي. لا أفهم لماذا تذهب. انتظر على الأقل حتى يصحو السيد بونتيلا من النوم.
ماتي :
لن أخاطر بالانتظار حتى يصحو. لقد ظل يشرب الليلة حتى وعدني مع طلوع النهار بأنه سيكتب لي نصف غابته، وأمام الشهود، إذا سمع بهذا فسوف يتصل هذه المرة بالشرطة.
لاينا :
ولكنك إذا رحلت بغير الشهادة فسوف تضيع نفسك.
ماتي :
الشهادة! وما فائدتها بالنسبة لي؟ وهو إما أن يكتب فيها إنني أحمر أو إنني إنسان، وفي الحالين لن أجد عملا.
لاينا :
سوف يتوه بدونك، فقد تعود عليك.
ماتي :
يجب أن يستمر وحده. كفاني ما تحملت، لن أستطيع الصبر على مداعباته بعد حكاية سوركالا. أشكرك على اللفة. وداعا يا لاينا.
لاينا (تنهنه باكية) :
مع السلامة! (تدخل مسرعة.)
ماتي (بعد أن سار بضع خطوات) :
ساعة الوداع جاءت.
نراك على خير، يا سيد بونتيلا.
لست في الواقع أسوأ من عرفت.
لأنك تكاد تصبح إنسانا إذا شربت.
رابطة الصداقة بيننا لم يكن من الممكن أن تدوم.
فالسكرة تذهب، والفكرة تجيء.
والحياة تسأل كل يوم: من الذي هزم الآخر؟
وإذا جفف الإنسان دمعة نزلت من عينيه.
لأن الماء لا يذوب أبدا في الزيت.
فما فائدة هذا؟ الدمعة كانت خسارة.
آن الأوان لكي يدير الأتباع ظهورهم لك.
والسيد الطيب سيجدونه سريعا.
عندما يصبحون سادة أنفسهم. (ينصرف مسرعا.)
الفصل الثالث عشر
أغنية بونتيلا
1
السيد بونتيلا سكر ثلاثة أيام
في فندق تافا ستهوز.
وعندما هم بالانصراف،
لم يقف النادل ليحييه.
آه! يا جرسون! هل هذه أخلاق؟
أليس العالم عجيبا؟ هه؟
النادل تكلم وقال: لا أستطيع أن أقول؛
فقدماي تؤلمانني من الوقوف.
2
ابنة صاحب الضيعة
قرأت رواية بلذة كبيرة
واحتفظت بها؛ فقد كان مؤلفها يقول عنها
إنها كائن علوي.
ولكنها ذات يوم قالت للسائق
ونظرت إليه نظرة غريبة:
تعال، داعبني أيها السائق؛
فقد سمعت أنك أنت أيضا رجل.
3
وبينما كان السيد بونتيلا يتنزه
رأى إحدى البنات التي تستيقظ في البكور:
آخ يا راعية البقر! يا ذات الصدر الأبيض
قولي لي: إلى أين تذهبين؟
يبدو أنك ذاهبة لتحلبي أبقاري
من الفجر، والديكة تصيح.
لكن لا يجب أن تستيقظي من الفراش من أجلي،
بل يجب أيضا أن تذهبي معي إليه!
4
في بونتيلا، يحبون دخول الحمام؛
فهو المكان الذي يتسلون فيه.
وفي بعض الأحيان يدخل أحد الاتباع
عندما تكون الآنسة هناك.
السيد بونتيلا تكلم وقال:
سأزوج ابنتي من الملحق السياسي.
لن يقول شيئا، إذا رأى التابع معها؛
لأنني سأدفع كل ديونه.
5
ابنة صاحب الضيعة دخلت مرة
إلى المطبخ في الساعة التاسعة والنصف:
أيها السائق، رجولتك تسحرني،
تعال معي نصطاد الكابوريا.
السائق تكلم وقال: آه يا آنستي،
أنا خائف من النتيجة، هذا ما أراه
ولكن، يا آنستي العزيزة، ألا ترين
أنني الآن أقرأ الجرنال؟
6
رابطة عرائس السيد بونتيلا
ظهرت في حفلة الخطوبة.
وما كاد السيد بونتيلا يراهن
حتى صرخ في وجوههن:
هل رأى أحد خروفا يلبس رداء من الصوف
منذ أن بدءوا يجزون الخرفان؟
أنا أنام معكن، ولكن لا تطمعن
أن تأكلن يوما على مائدتي.
7
نساء كورجيلا، كما يقال،
غنين أغنية ساخرة.
ولكن أحذيتهن ذابت،
ويوم الأحد ضاع عليهن.
والذي يثق في كرم الأغنياء
يجب أن يفرح؛ لأنه لم يخسر إلا الحذاء؛
فهو الذي جنى هذا على نفسه.
8
السيد بونتيلا ضرب بكفه على المائدة وصاح - وكانت مائدة شهر العسل -
لن أزف ابنتي، كما يقال،
لسمكة باردة.
هنا أراد أن يعطيها لتابعه،
ولكنه حين سأله قال:
أشكرك، لا أستطيع؛
فهي لا تناسب سائقا مثلي ... (تمت)
صفحة غير معروفة