السيف والنار في السودان

سلاطين باشا ت. 1351 هجري
161

السيف والنار في السودان

تصانيف

أصغينا إلى نصيحة علي واد فيض، فاخترنا مكانا للنوم. وفي فجر اليوم التالي قبل شروق الشمس عدنا إلى كهفنا، ثم صعد حامد بن حسين قبل الظهر إلى قمة أحد التلول لمراقبة الناس، وكان عمله هذا شبيها بالضابط الذي يقف في أعلى القلعة لمشاهدة طلائع العدو. ظل حامد ساعات في مكانه هذا ولم يأت إلى المغارة إلا عندما أحس بالجوع الشديد، وقد قدر لنا أن ينتهي ما معنا من خبز في ذلك اليوم فلم يبق في جرابنا سوى مقدار من البلح.

بعد أن غربت الشمس بساعتين سمعنا صوتا خفيفا أشبه بالصفير، فتأكدنا أن صاحب الصوت هو علي واد فيض، وقد تحقق ظننا لحسن الحظ؛ حيث وفى صاحبنا وعده ووصل إلينا في الميعاد المضروب من قبل. لم يكن علي وفيا في وعده فحسب، بل كريما أيضا؛ حيث أحضر لنا في عزلتنا هذه كمية كبيرة من اللبن في قربة من جلد الغزال - اعتاد العرب السودانيون دبغ جلود الغزلان الصغيرة وإعدادها أواني للبن - وإلى جانب ذلك مقدار من الخبز المصنوع من الذرة.

قال لنا علي عندما وصل إلينا وبعد أن سلم علينا: «قلت لزوجتي إني خارج لمقابلة ركب الحجيج السائر إلى أم درمان لزيارة قبر المهدي، ولي الرغبة في إظهار شيء من الكرم العربي لأولئك المسافرين في رحلتهم الشاقة، وفي الحق لم يمنعني عن ذكر الحقيقة لها إلا خوفي من انتشار الخبر؛ لأن امرأتي ثرثارة.»

ابتسمت في وجه علي وقلت له: «يظهر أن الأمر واحد في جميع البلاد؛ فإن الكثيرين من الرجال في بلادنا الأوروبية يشكون مر الشكوى من نقل الحديث بواسطة زوجاتهم.» فارتاح كل من حامد وعلي إلى قولي هذا، وبعد الانتهاء قال علي: «جبت الوادي الضيق وسرت إلى مجالس الكثيرين من العشائر ليلة الأمس وصباح اليوم فلم أسمع ما يخيفكم، فكلا واشربا مرتاحين مسرورين؛ لأني على ثقة تامة في حظكما الحسن.»

قبل أكل الخبز الشبيه بالكعك وشرب اللبن، قدمنا الشكر الجم لعلي إزاء هديته الثمينة، ثم طلبت منه بعد ذلك أن يرجع إلى بيته حتى لا يثير الريب والشكوك في نفوس أبناء عشيرته بعد تغيبه الطويل عنهم، ثم أسررت إلى حامد أن يمنح عليا خمسة ريالات قبل رجوعه إلى بيته.

عندما استأذن صاحبنا علي في الانصراف قلت له: «نود أن نراك دائما أيها المخلص الوفي، ولكن الخير في أن ترتاح في بيتك وأن تبتعد عما يثير أي شك؛ لأن ذهابك وإيابك يثيران الريبة بين رجال قبيلتك، وقد تترك خطواتك أثرا بارزا على الرمال يستطيع بواسطته متعقبونا أن يهتدوا إلى مكان اختبائنا هذا، ولا نطلب منك العودة إلا في حالة سماع أخبار غير سارة تستدعي هروبنا إلى مكان جديد، وإذن فالوداع من أخ يشكر لك جزيلا ما قدمته له من ولاء وإخلاص.»

سار حامد بن حسين بعد ذلك مع صديقه علي واد فيض بضع دقائق، وبعد رجوعه قال لي: «رفض علي قبول الريالات الخمسة رفضا باتا، ولم أستطع التغلب عليه وإقناعه بقبول الهدية البسيطة إلا بعد أن أكدت له بأن رفض المبلغ يكدر خاطرك (المؤلف).»

بعد أن سافر علي إلى بيته وعاد حامد إلى الكهف قضينا (حامد وأنا) فترة صغيرة في الكلام، ثم سرنا إلى مكان النوم الهادئ حيث قضينا ليلتنا إلى صباح اليوم التالي دون أن يعكر صفو النائم قلق أو اضطراب، وعند إشراق الشمس عدت إلى الكهف، وسار حامد إلى قمة التل لمراقبة الناس كما عمل في اليوم السالف. ومما أذكره عن ذلك اليوم أنه مر ساكنا دون وقوع أي حادث مزعج، ولكني أذكر إلى جانب ذلك أنه كان طويلا علينا حتى خيل لنا أن ساعاته أطول من الساعات اليومية العادية، فكانت كل ساعة من ساعاته يوما كاملا؛ حيث مرت الأفكار المتعاقبة وأخذت أذكر سني الأسر وحوادث العسف والاضطهاد. وفي الحق كنت صبورا جدا على ذلك المضض، وسواء أصبرت أم لم أصبر فلم يكن أمامي ما يعزيني في نكبتي وما يفرج عني بليتي سوى اعتقادي الراسخ في لطف الله وفضله، وثقتي في قرب تمتعي بحرية دائمة صحيحة؛ هي تلك التي خلق الناس ليتمتعوا بها في الحياة.

قبل انتهاء كمية الماء التي في قربتنا ذهب حامد إلى الشقوق القائمة بين الصخور المجاورة ليملأ القربة، وفي الوقت نفسه فكر في إحضار الماء للجملين اللذين أنهكهما التعب من قبل والأكل الرديء الآن؛ لأنهما لم يجدا من الطعام سوى أوراق الأشجار والأجمات. قال لي حامد قبل ذهابة للشقوق: «سأرجع بعد أربع ساعات تقريبا، فالتزم السكون والهدوء في كنك، وإذا ظهر في مدة غيابي القصيرة أي مخلوق آدمي - وأسأل الله ألا يظهر في تلك الفترة أحد - فأخبره أن حامد واد شيخ حسين قادم بعد قليل من الزمن؛ لأن الشخص الذي يظهر سيكون من أبناء وطني بلا جدال، فإن الشخص الغريب يخشى المجيء إلى ناحيتنا. ومهما يكن الأمر فلا تخض مع الشخص - الذي يظهر لك - في الحديث. وأول ما أحذرك منه هو سفك الدماء، فلا ترق دم أحد مهما ارتبت فيه، وانتظر حتى أعود إليك.»

أجبته على الفور «سأنفذ نصيحتك مهما تكن الحال. وعلى أية حال، فأنا واثق أنك ستجدني في هدوء وأمن عندما ترجع لي.»

صفحة غير معروفة