لما انتهت مهمتي مع الملك يوحنا عزمت على أن أرجع في الطريق التي جئت منها، ولكني وأنا بالجلابات أدركني رجال تابعون للرأس عدل وأجبروني على الرجوع، وسيأخذونني محروسا إلى كسلة ومنها إلى مصوع، وقد أحرقت جميع الأوراق التي يخشى منها، وسيسقط في يد الملك يوحنا عندما يعرف أنه ليس رئيس بيته.
صديقك غوردون
الفصل الثالث
حكومة دارفور
كانت سنة 1880 سنة سلام وهدوء نسبيين في دارة، وكانت أهم أعمالي إدارية؛ فقد زرت تقريبا جميع القرى بنفسي، وعرفت جميع القبائل العربية القوية التي كانت على الدوام مشتبكة بعضها مع البعض في قتال متواصل أو موشكة على القتال، وقد قمت بينها عدة مرار بالصلح.
ووجدت في ختام سنة 1880 أن لدي عدة أشياء تستحق مراجعة الحاكم العام، فطلبت الإذن بالذهاب إلى الخرطوم لكي أقابل رءوف باشا الذي صار حاكما عاما بعد سفر غوردون، وقد أجيب طلبي فبرحت دارة في سنة 1881 وبلغت الخرطوم بعد أسبوعين.
هناك وجدت زربوخين الذي رحب بي وأنزلني بمنزله القريب من مكان الرسالة الكاثوليكية الرومانية، وكان ملكا للمرحوم لطيف دويونو، وهو رجل ملطي كان نخاسا شهيرا.
وفي مدة إقامتي في الخرطوم كنت أحادث رءوف باشا كثيرا عن أحوال دارفور، واقترحت أنه يحسن عدلا وإنصافا أن تخفض الضرائب في الفاشر وفي كبكبية، وطلبت منه أيضا أن يأذن لي بأن أجبر العرب على أن يعطوني كل عام عددا من العبيد؛ لكي أملأ بهم الفراغ الذي يقع في الجيش بالأمراض والوفيات والحوادث، وطلبت أيضا منه أن يأذن للعرب بأن يدفعوا الضرائب عبيدا بدلا من المواشي؛ لأني أؤمل بهذه الطريقة أن أسترجع إلى جيشنا جنود «البازنجر»، الذين كانوا ملتحقين بجيش سليمان زبير وصاروا الآن متفرقين في القبائل، وقلت إن معرفتهم بالأسلحة من أسباب الخطر الدائمة للحكومة، فوافق رءوف على جميع طلباتي وأعطاني صكا مكتوبا بذلك.
ولما كنت في الخرطوم جاءني في يوم ما من يدعى حسن ولد سعد النور، وهو دارفوري ، وكان أبوه قد قتل مع وزير أحمد شحاتة في شقة، فرجاني أن أتشفع له لكي يعود إلى دارفور، فقابلت رءوف باشا وطلبت ذلك منه فرضي، ولكنه بعد أيام أرسل لي وقال إنه عاد فألغى أمره، وإنه لا يسمح بعودة هذا الرجل إلى دارفور، فقلت إن كل جنايته أنه اشترك في الثورة وقد فعل غيره ذلك، وإنه لا سبيل له الآن إلى إيصال الأذى بالحكومة، ولكن رءوف باشا أبى أن يوافقني على رجوعه، وشعرت أنا بالإهانة لأني كنت وعدت هذا الرجل بأنه سيرجع، فقلت لرءوف باشا إنه بين اثنتين؛ إما رجوع الرجل وإما قبول استقالتي، وخرجت مغضبا فاستدعاني بعد ذلك بيومين، وقال لي إني كنت مخطئا في وعد هذا الرجل بالرجوع فأقررت بذنبي، فقال لي إنه سمح برجوعه وإنه يعتقد أني موظف عنيد ولكني ذو كفاية؛ ولذلك طلب من الخديو توفيق باشا أن يعينني حاكما لدارفور وأن يمنحني لقب بك، فشكرته وأكدت له أني سأعمل جهدي لكي أحقق ثقته في.
ثم طلب مني رءوف باشا أن أكتب له ضمانا أتحمل فيه تبعة مسلك نور في المستقبل، فكتبت هذا الضمان وأنا مسرور؛ لأني شعرت أنه بعد كل ما تحملت من المشاق لأجل رجوعه إلى وطنه سيحسن سلوكه ويثبت ولاءه وأمانته، ولما عدت إلى منزلي أرسلت في حضور نور، وكان قد مضى عليه يومان وهو لا يدري ما تنتهي إليه مسألته، فلما أخبرته بأنه قد أذن له بالرجوع إلى وطنه انكب على قدمي وأخذ يشكرني ويكثر من الدعاء لي، وشعرت بأنه رجل شريف يمكن الاعتماد عليه، ولكني كنت وقتئذ أجهل أني قد ضممت إلى صدري ثعبانا.
صفحة غير معروفة