وقد وفقت للاقتراب منهم بدون أن يروني، ثم حملنا عليهم حتى مزقناهم شر ممزق، واستولينا على مقادير كبيرة من الأسلحة وأفرجنا عن السبايا اللواتي كن في حوزتهم، وقتل جواد هارون ولكن هارون نفسه مع بضعة من أتباعه تمكنوا من الهرب، وبعد أيام قليلة انهزموا أمام جيوش قلقل التي كان يقودها نور أنجرة، وقتل هرون، وبقتله عاد السلام إلى البلاد وانتهت الثورة.
ولما عدت إلى دارة وافاني خطاب من جسي باشا من بحر الغزال، يقول فيه إن الدكتور فلنكن والقسيس ولسون، مبعوث الرسالة الكنسية الإنجليزية، في طريقهما من أوغندا إلى الخرطوم عن طريق دارة ومعهما وفد من الملك متيسا إلى جلالة ملك إنجلترا، ورجاني جسي أن أقدم لهما جميع المساعدات التي في مقدوري، وقال إنهما قد شرعا في السفر إلى دارة في اليوم الذي كتب فيه هذا الخطاب، وقد وصلا إلى دارة بعد ذلك بأيام قليلة وتمتعت بصحبتهما مدة وجودهما عندي.
وقد أخبراني عن أشياء مهمة، أما أنا فقد حكيت لهما عن آخر الأنباء الأوروبية، وهي وإن كانت قد مضى عليها أشهر قد كانت مع ذلك جديدة عندهما.
وفي الصباح سمعت أن رجال وفد الملك متيسا لما رأوا الجمال أول مرة خافوا منها وفروا، فقلت للدكتور فلنكن: «بما أنك ستضطر إلى إتمام سفرك على ظهر الجمال، فمن الصواب أن تعتاد ركوب الجمال أنت ومن معك، فأحضر رجال الوفد حتى ندربهم على ركوبها.»
فذهب وأرسلت أنا في إحضار جمل من أحد التجار، وكان جملا سمينا ضخما، وحضر رجال الوفد وآخرون غيرهم، فما رأوا الجمل حتى طار صوابهم وفروا هائمين، ولم يقفهم عن الاستمرار في العدو سوى ثباتنا أنا والدكتور فلنكن، وأوضح لهم الدكتور فلنكن أن الجمل حيوان وديع صبور، وأنهم سيستأنفون السفر إلى مصر عليه، وليس فيه ما يدعو إلى الخوف، ولكنهم مع ذلك لم يتقدموا إلا على حذر ووقفوا على مسافة منه لا يجسرون على لمسه، وكان تعجبهم عظيما عندما رأوا القواص يمتطيه ويسير به وينيخه، وأخيرا تطوع أشجعهم لأن يركبه وساعدناه على تسنمه، وقام به الجمل وهو خائف ، ولكنه أخذ ينظر إلى رفقائه من مكانه العالي ويوضح لهم سهولة ركوب الجمال وملاذه، والظاهر أنه دعاهم إلى ركوبه؛ فقد برك الجمل وتكأكئوا عليه جملة، وأرادوا جميعا الركوب، وحاول بعضهم أن يركب عنقه، وتعلق آخرون بذنبه، وتعلق نحو ستة برجله، ودهش الجمل لأول وهلة لهذا الازدحام حوله، ثم تنبه وأخذ يضرب برأسه يمينا وشمالا حتى نفض جميع هؤلاء «الوجنديين» عنه، وهب واقفا وهم مبعثرون حوله، وأظنني لم أضحك في حياتي قدر ما ضحكت في هذه الفرصة؛ فقد ظن رعايا الملك متيسا - الوجنديون - أن الجمل جبل يتحمل أي عبء ويقوى على النهوض به، ولبثوا مدة ذاهلين خائفين لا يقوون على الاقتراب منه ثانيا، ولكن أخذوا بالتدريج يتعلمون ركوبه؛ فبدأ واحد ثم آخر يقترب منه ويركبه، حتى إنه عندما جاء ميعاد سفرهم كانوا جميعا يعرفون كيفية قيادته.
وكان في منزلي عدة أولاد من الذين استخلصناهم من أيدي النخاسين، ولما لم يكن للدكتور فلنكن خادم يخدمه، فقد اقترحت عليه أن يأخذ معه أحد هؤلاء الأولاد، فقبل ذلك مسرورا، وأعطيته صبيا من الغرتيت يدعى كبسون، وكان ذكيا، فعزم الدكتور على أن يربيه في أوروبا، وبعد سنتين ونصف سنة وأنا بالفاشر جاءني خطاب مكتوب بالإنجليزية من كبسون هذا، يشكرني فيه لأني أذنت له بالسفر مع الدكتور فلنكن إلى «بلاد كل من فيها طيب القلب رءوف»، ويقول إنه قد تنصر وإنه أسعد الأولاد، وأرسل مع الخطاب صورته في ملابس إفرنجية.
وجاء ميعاد سفر صديقي وكانا في اشتياق إليه، فركب الجميع جمالهم وقاموا إلى الخرطوم عن طريق طويشة.
وبعد مدة جاءني خطاب من مسدجاليه بك، يقول فيه إنه مسافر إلى الخرطوم لكي يحضر زوجته، ولكنه ما كاد يصل إلى الخرطوم حتى نشب خلاف بينه وبين ولاة الأمور هناك، فاستقال وعين بدلا منه مديرا على دارفور علي بك شريف، الذي كان قبلا مديرا على كردفان.
وقريبا من ختام سنة 1879 أو في أوائل سنة 1880 تسلمت خطابا مكتوبا بالفرنسية من غوردون، كتبه منذ شهرين قبل وصوله إلى ضبرة طابور في الحبشة ، وقد مزق الخطاب منذ سنين ولكني أتذكر كلماته بالحرف تقريبا وهي:
عزيزي سلاطين
صفحة غير معروفة