قلت إن غرض عبد الله الأول من بقائي هو إلمامي بشئون السودان، أما الغرض الثاني فيرجع إلى نزعة نفسية؛ فقد رغب عبد الله في إرضاء كبريائه باستخدام الرجل الذي كان فيما مضى حاكم إقليم دارفور بأكمله وحاكم قبيلته. ففي استخدام الرجل الذي تمتع فيما مضى بهذه السلطة، يعد عظمة لعبد الله في عيون السودانيين، خصوصا إذا بقي الرجل المذكور (مؤلف الكتاب) كأسير بين يدي الخليفة. ومن المدهش أن عبد الله لم يتأخر لحظة واحدة عن الظهور بهذه العظمة الكاذبة، فكان بين آن وآخر يقول لرجال القبائل الغربية: «انظروا هذا الرجل الذي كان فيما مضى سيدنا وحاكم قبيلتنا، والذي قاسينا الآلام تحت حكمه الجائر، انظروا إليه اليوم تجدوه خادمي وسامع أوامري والملتزم تنفيذ ما أشير به إليه في أية لحظة، انظروا إلى الرجل الذي انغمس في بحر الشهوات وكان منقادا وراء تيار المعاصي تجدوه اليوم لابسا جبته القذرة وسائرا حافي القدمين، فلا ريب إذن في أن الله رءوف رحيم.»
كان عبد الله كثير الحذر والخوف مني، ولم يعن كثيرا بغيري من الأسرى الأوروبيين الذين عاشوا عيشة بسيطة قوامها الاتجار في المواد المختلفة في حي قريب من ميدان سوق أم درمان؛ حيث بنوا غرفا خاصة لتجارتهم ظلوا فيها آمنين لا يعكر صفوهم أي تدخل من الأهالي.
كان الأب أوهروالدر نساجا يعيش هو وأهله مما يكسبه من نسج القطن، وعاش الأب روزينولي وبيوروجنتو - وكلاهما من طائفة الإرسالية الدينية المسيحية - بياعين للساعات في الدائرة المركزية للسوق، وقد عاشت السيدات الأوروبيات إلى جانب أولئك الأوروبيين حتى نجون معهم وقت تدبير الهرب، مع استثناء الأخت تريزة جويجولتي.
يتبقى بعد ذلك جوست جويزي أحد الكتاب الأجانب، ثم طائفة أخرى من اليونانيين والسوريين والمسيحيين والأقباط، ويبلغ مجموع أولئك خمسة وأربعين، رجالا ونساء، تزوجوا وتزوجن من مسيحيين ولدوا في السودان أو مصريين ومصريات.
تسمى المنطقة الداخلية لأولئك المسيحيين المسلمانية - تطلق على المتناسلين من غير المسلمين بوجه عام، وقد أطلقها أتباع المهدي على كل من لم يدينوا بالإسلام - وقد اشتغل أولئك بأمورهم وانتخبوا من بينهم أميرا ائتمروا بإرشاداته وأوامره. وقد كان ذلك الرئيس المسيحي مسئولا لدى الخليفة عن كل ما يجري في دائرته، وعن كل شخص غير مسلم في أم درمان. واسم الأمير الحالي (في عام 1896) نيكولا، وهو رجل يوناني يطلق عليه السودانيون اسما عربيا مماثلا لاسم الخليفة عبد الله. ومهما يكن الأمر فلم يكن مسموحا لأي شخص من أولئك المسيحيين بمغادرة أم درمان، وقد كان مفروضا عليهم أن يضمن الواحد منهم الآخر، ومن نتائج ذلك أنه عندما سافر الأب روزينولي صدرت الأوامر بإلقاء زميله وضامنه بيبو في السعير (السجن). وقد زادت المراقبة واشتد الاضطهاد على أولئك المنكوبين بعد فرار الأب أوهروالدر؛ فقد أنشأ الخليفة خصوصا مكانا حصينا لحجزهم فيه من الناحية الشمالية الشرقية من المسجد الكبير؛ حيث كان مفروضا عليهم أن يحضروا الصلوات الخمس يوميا، وقد كان الخليفة عبد الله داهية في ذلك الأمر، فإنه أمر بأن يذهب الشخص من أولئك - غير المسلمين عامة والأوروبيين بصفة خاصة - مرة في اليوم للمسجد، وعين للإحصاء مراقبا يقدم بعد نهاية الصلوات الخمس يوميا تقريرا إلى عبد الله، يتمكن بواسطته من معرفة المتغيب، وإذ ذاك يرتاح ضميره لأنه يثق من بقاء جميع أولئك المحجوزين في ناحيتهم الجديدة.
كانت مساكنهم الصغيرة متلاصقة، وتبعا لذلك كان من اليسير جدا اتصال الواحد بالآخر، مما خفف عنهم آلام الوحشة والاضطهاد. أما أطفال أولئك الأشخاص وأولادهم الصغار، فكانوا ملزمين بالبقاء في التكايا السودانية حيث يتعلمون القرآن.
قد وصفت فيما مضى كيفية سكني وما أحاط به في الحياة السودانية، وبقي علي أن أضيف لما تقدم أنه كان مسموحا لي أن أتكلم مع قلائل من الحرس الخاص الذين كانوا - مثلي - إما تحت الرقابة وإما - وهذا خلافي طبعا - كجواسيس للخليفة، يراقبون الأجانب ويكتبون التقارير الوافية عن أقوالهم وحركاتهم، ثم يرفعونها كل مساء إلى دار الخليفة. أما دخول المدينة (أم درمان) فكان غير مسموح به إلا في النادر، هذا إلى أني منعت منعا كليا من زيارة المنازل أو زيارة الناس لبيتي الصغير.
ومما أرويه عن ميول الخليفة الشخصية، أنه كان مولعا جدا بالساعات الصغيرة وساعات الحائط على اختلاف حجومها، وقد وضع علي الخليفة - فيما وضع من مهمات - مهمة تنظيف الساعات الكبيرة وإصلاح ثلاث ساعات للجيب يتناوب حملها. وقد تمكنت بواسطة هذه المهمة من زيارة ساعاتي أرمني يدعى أرتين بدعوى أن ساعة من ساعات الحائط في دار الخليفة تحتاج إلى الإصلاح.
كان بيت الخليفة عبد الله قائما على مقربة من ميدان سوق أم درمان؛ حيث كنت أتقابل بين حين وآخر مع أفراد مخصوصين كنت أرغب رغبة صادقة في مقابلتهم والتحدث معهم. أما فيما يختص بموقفي مع أرتين بائع الساعات، فلم أكن أثق فيه على الإطلاق، وكل ما دعاني إلى التوجه إليه في أوقات مختلفة هو نزوعي إلى الالتقاء بالأشخاص المعينين، ولئن اضطررت إلى الكلام معهم فلم يكن أرتين يسمع ما يدور بيننا من حديث.
كان أغلب وقتي مقضيا في الفسحة الكبرى المواجهة لدار الخليفة حيث يتلى القرآن، ولم يكن مسموحا على الإطلاق كتابة أي شيء؛ لأن عبد الله كان يرى من العار أن أعمل شيئا أو أتعلم جديدا لم يكن هو يعرف عنه قليلا ولا كثيرا. ورغم ما أبداه عبد الله من حذر وريبة، كان يضطر إلى دعوتي لاصطحابه في المسجد الكبير أو في بعض الرحلات الداخلية الخاصة، وكانت وظيفتي معه شبيهة بوظيفة مستشار حاكم الدولة. وإزاء أتعابي هذه كلها لم أكن ممن يتناولون مرتبا من الدولة، فكنت تبعا لذلك على خفض من العيش؛ فكان طعامي عاديا جدبا يتكون غالبا من العصيدة والبقول الحقيرة. وفي يوم أو يومين من الأسبوع كنت أتناول قطعة صغيرة من اللحم بعد شرائها خصوصا من السوق.
صفحة غير معروفة