كان عبد الله كثير الميل إلى الوشايات وتصديقها، ومما نرويه في هذا الصدد أن عسكر أبا كلام شيخ قبيلة جمعة الكبيرة كان مشهورا بصداقته للخليفة عبد الله ولأبيه من قبل، ولكن تلك الصداقة لم تجده شيئا عندما وصل إلى أذني الخليفة أن عسكرا هذا تكلم بشدة ضد الحالة في السودان، ففي ذلك الحين أمر عبد الله بإلقاء عسكر في السجن راسفا في الأغلال الثقيلة تأديبا له وزجرا لغيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نفي إلى الرجاف وحملت زوجته «التي كانت مشهورة بجمالها الرائع» من بين ذراعي زوجها «أثناء توديعه قبل نفيه» إلى دار عبد الله لتكون واحدة من حريمه.
سبق في الفصول السابقة ذكر الشيء الكثير عن الأمير السوداني الشهير زكي طومال، وهنا نقول إنه عندما صدرت أوامر الخليفة باعتقال هذا الأمير، عومل معاملة سيئة جدا تدل على الغلظة القاسية والانتقام الشنيع؛ فقد بنيت له غرفة من الطين شبيهة بالقبر، وأغلق بابها على من فيها ولم يسمح له بشيء من الطعام على الإطلاق، وكل ما من به الخليفة هو مقدار صغير من الماء سلم له من كوة صغيرة في الغرفة الحجرية، وقد تمكن زكي طومال الشجاع من البقاء ثلاثة وعشرين يوما حيا بواسطة الماء، إلا أن الجوع أنهكه لدرجة الموت، ومع ذلك لم يشك طومال لحظة واحدة ولم يطلب عفوا من عبد الله رغم بقائه في ذلك القبر الشنيع؛ فقد كان زكي طومال من ناحيته شديد الإباء بعيدا عن التذلل، ومن الناحية الأخرى كان واثقا من عبث السعي إلى هذا العفو من رجل اشتهر بانتقامه المريع وقساوة قلبه. وقد ظل على تلك الحال إلى اليوم الرابع والعشرين من سجنه حتى حمله الموت إلى مقره الأخير، ليرتاح من قساوة معذبيه في السجن وانتقام عبد الله في الخارج.
في فجر اليوم الرابع والعشرين سمع بعض الحراس الغلاظ القلوب زفرات الموت من غرفة زكي طومال، وعندما سكن الصوت وتحقق أولئك الطغاة من موت الأمير، أسرعوا لزف البشرى إلى سيدهم عبد الله، فأمر الأخير بحمل جثة الأمير «زكي طومال» إلى الناحية القريبة من أم درمان، وهناك دفن على كومة من الخرق البالية وظهره مقابل مكة - دفن زكي على هذه الصورة يرمي إلى تحقيره بإبعاد وجهه عن القبلة - فإن الخليفة عبد الله لم يكتف بتعذيب غريمه طومال في الحياة، بل أراد مواصلة التعذيب والانتقام منه في موته بإبعاده عن مكة؛ ليحرمه من السلم والراحة في العالم الثاني.
كان عبد الله شديد الخطر على الجميع، حتى إنه لم يتأخر عن الشك في القاضي أحمد الذي يعد أقرب الملتصقين؛ به فقد اتهمه بخيانته، فأمر الحراس بإلقائه في الغرفة التي ألقوا فيها زكي طومال من قبل، وبعد يومين من سجن أحمد هذا دخل إليه في غرفته قاضيان بأمر من الخليفة، وهناك سألا زميلهما البائس أحمد عن المكان الذي خبأ فيه أمواله، فأجابهما أحمد بجرأة: «أخبرا سيدكما عبد الله الخليفة أني زهدت الدنيا، ولا أعرف مكانا أجد فيه الذهب أو الفضة.»
تحايل القاضيان كثيرا على زميلهما السابق وسعيا جهدهما في الوصول إلى معرفة المكان الذي يوجد فيه ماله، وعندما فشلا عادا أدراجهما مطأطأي الرأسين إلى الخليفة، وقد كان ذلك الأمر كله قبل مغادرتي أم درمان ببضعة أيام. وقد تأكدت عقب رجوعي إلى مصر أن القاضي أحمد توفي بعد أيام في سجنه على الصورة التي توفي بها زكي طومال.
إن المرء يستطيع ملء مجلد كامل بفظائع وقسوة الخليفة ضد المسجونين في السعير (السجن)، ولكن من العبث إتعاب القارئ بذكر فظائع وحشية ارتكبت بأمر هذا الظالم المستبد الغليظ القلب عبد الله.
الفصل السابع عشر
وسائل النجاة
كنت أرمي من وراء بقائي إلى جانب الخليفة عبد الله والتصاقي به إلى غرض مزدوج الفائدة؛ فقد رغبت في تعرف طباعه من ناحية، ومن تعرف أحوال السودان من الناحية الأخرى بطريقة تكاد تكون رسمية. أما الخليفة عبد الله نفسه فكان بتقريبه إياي يقصد شيئين متقاربين، ويرمي إلى فائدتين؛ فقد كان على ثقة من أني الموظف المصري الأجنبي الوحيد الملم بشئون السودان إلماما كليا دقيقا، وأني جئت البلاد السودانية ودرستها وأصبحت على معرفة كاملة بلغة التخاطب الداخلية، وسأذكر الغرض الثاني بعد قليل.
كان عبد الله على جهل فاضح بالشئون السياسية، وقد ذهب به فكره إلى أن خروجي من السودان خطر داهم عليه هو شخصيا؛ لأني إذا وفقت إلى النجاة، فمعنى ذلك أني أتمكن بسرعة من إغراء الحكومة المصرية أو أي حكومة أجنبية عن السودان إلى دخول تلك البلاد، وإسقاط نفوذ عبد الله، وفي ذلك الحين أتمكن من إيجاد صلة متينة ورابطة وثيقة بين الحكومة الجديدة وبين أفراد وزعماء القبائل الذين يكرهون حكم عبد الله أشد كراهة؛ وإذن ينتهي الأمر إلى إنشاء حكومة نظامية في السودان.
صفحة غير معروفة