السيف والنار في السودان

سلاطين باشا ت. 1351 هجري
145

السيف والنار في السودان

تصانيف

تكلمنا كثيرا عن بيت الخليفة ومساكن رجاله والمقربين إليه، والآن نذكر شيئا موجزا عن بيت ابنه عثمان، فنقول إنه يقع في الناحية الشرقية من تلك المساكن، ويكاد يكون هذا البيت مفروشا بالفراش والأثاث الموجودة في منزل أبيه، ولا نغالي إذا قلنا إنه أفخم وأكثر نزوعا إلى الثروة من مسكن أبيه؛ فقد يمتاز هذا البيت عن بيت الخليفة بالنجفات النحاسية المدلاة من سقوف الغرف، والتي أحضرها عثمان خصوصا من الخرطوم، هذا إلى أن بيت عثمان واقع وسط حديقة كبيرة يمتد إليها طمي النيل ويشتغل فيها يوميا مئات من الرقيق الأسود، وقد عني أولئك عناية فائقة بعرض الحديقة في أحسن وأجمل منظر لسيدهم عثمان، الذي كان طول حياته مولعا بكل ما هو جميل. ومن الغريب في أمر أولئك العبيد أنهم كدوا واجتهدوا في ذلك راضين مختارين، رغم التعب الذي لاقوه، ورغم القوت الذي لم يكن يكفيهم في عملهم الشاق.

صرف الخليفة عبد الله وابنه عثمان أغلب أوقاتهما في البناء وتجديد نظم ما أقاماه قبلا، وقد بذلا أقصى ما يستطيعان من جهد في سبيل البقاء في حياتهما على الأرض، متمتعين بأقصى ما تنزع إليه نفساهما من بهجة وسرور.

وقد حذا يعقوب أخو الخليفة حذوهما فلم يكن غريبا، والحالة هذه أن يتدفق يوميا مئات من العمال - وأغلبهم من الرقيق - إلى بيتي الخليفة وابنه، حاملين الحجارة والطوب وكل ما يتعلق بالبناء. أما بيت الخليفة علي واد هلو، فصغير من ناحية وبعيد عن معالم الزينة والزخرف من ناحية أخرى.

كان لعبد الله - إلى جانب بيت الخلافة الرئيسي - بعض منازل في الناحيتين الشمالية والجنوبية من أم درمان، ولكن المنازل الأخيرة مبنية بناء بسيطا عاديا، لا شيء من الزخرفة فيه، والغرض من بنائها هو استعمالها كأماكن استراحة له وللمقربين إليه عندما يرسل بعثات من جنوده إلى الجهات المجاورة لأم درمان، أو عندما يخرج لاستعراض الجنود القادمين حديثا إلى أم درمان، ولم يكن يستطيع (عبد الله) البقاء في منزل من المنازل المذكورة أكثر من يوم أو يومين في المرة التي يخرج فيها.

بنى عبد الله، خلاف المنازل المذكورة، منزلا على مقربة من نهر النيل مجاورا لحصن الحكومة القديم، بعد أن ردم الخنادق التي كانت متاخمة للحصن المذكور. وقد كان يذهب إلى هذا المنزل عندما تشرع السفن البخارية في مغادرة أم درمان إلى الرجاف. وغرضه الرئيسي من ذلك، الوقوف بنفسه على كيفية سير السفينة ومقدار سرعتها.

إلى جوار بيت الأمانات (الترسانة) المكون من بناء ضخم حجري، جمعت فيه المدافع والبنادق والذخيرة وكل ما يختص بالحرب، وإلى جوارها (في البناء نفسه) خمس عربات كانت ملك الحكام السابقين والبعثة الكاثوليكية، وقد عني عبد الله عناية فائقة بحراسة ذلك البيت، فوزع على مسافات قصيرة حراسا خصوصيين (ديدبانات)، وأعد لكل واحد كشكا صغيرا، ومهمة أولئك هي منع جميع الخارجين عن هيئة الجيش من الدنو إلى الترسانة.

وجد في الناحية الشمالية للترسانة مباشرة بناء لحفظ رايات الأمراء المقيمين في أم درمان، وإلى جانب ذلك البناء محل نصف دائري - يبلغ ارتفاعه نحو عشرين قدما ويصعد إليه الصاعدون بسلالم مدرجة - لحفظ أبواق وطبول الخليفة الحربية، فإذا ما سرنا إلى الناحية الشرقية قليلا، وجدنا مخزن الخراطيش والأسلحة الصغيرة.

ذكرنا في الفصول السابقة شيئا عن بيت المال، فنقول الآن إنه يقع في شمال أم درمان على مقربة من نهر النيل، ويمتاز هذا البناء بضخامته وانقسامه إلى أجزاء بارزة تكاد تكون أروقة متساوية الحجوم، وفي تلك الأروقة تجمع البضائع الواردة لأم درمان من جميع نواحي السودان ومن مصر، كما أن فيه (بيت المال) مكانا لخزن الحبوب وآخر لجمع الرقيق. ويقع على مسافة قريبة جنوبي بيت المال بناء واسع لبيع الرقيق يسمى (سوق النبيذ)، وقد أنشأ عبد الله جوار البناء الأخير بيتا سماه «بيت المال الحربي»، بعد أن استقرت خلافة عبد الله وسلفه المهدي في أم درمان ثم تنظيم المدينة، وهي على العموم قائمة فوق أرض مستوية، ولكنا نجد في بعض النواحي هنا وهناك تلولا صغيرة تعترض ذلك المستوى. أما تربة أم درمان فمجموعة طبقات صلبة حمراء تكاد تكون حجرية في مجموعها، وتتخللها في أجزاء متفرقة أراض رملية. ومما يذكر عن تعسف عبد الله أنه - في سبيل راحته والتمتع بما يرضي شخصه - أنشأ الطرق والشوارع الجديدة، وهذا العمل حميد في حد ذاته، إلا أن الخليفة في سبيل هذا البناء قد هدم بيوتا كثيرة ولم يدفع لأصحابها المنكودي الحظ قرشا واحدا، فدل بذلك على أنه يرمي من وراء تنظيمه الحميد في ذاته إلى منفعة خاصة؛ هي لذة النظر إلى شوارع نظيفة بغض النظر عما يصيب الناس من هدم منازلهم دون تعويض.

علا شأن أم درمان ونقص قدر الخرطوم في زمن خلافة عبد الله، فأصبحت الخرطوم عبارة عن أنقاض وخرائب، ولم يبق فيها من المباني الظاهرة سوى المرفأ، وقد ظلت المواصلات بين أم درمان والخرطوم بواسطة الرسائل التلغرافية، التي أحسن استعمالها موظفو إدارة التلغراف في الحكومة السابقة.

أبقى عبد الله قسما كبيرا من السور المحيط ببيت المال والمؤدي إليه - لم يكمل هذا البناء في زمن عبد الله - وعلى طول هذا البناء امتدت حوانيت لبيع المواد التجارية المختلفة، وإلى جوارهما حوانيت منفصلة وأماكن صغيرة مستقلة للحلاقين والنجارين والقصابين والخياطين ومن شابههم. هذا إلى أن عبد الله عني بنظام المحتسبين الذين كانوا مسئولين عن حفظ النظام في المدينة. وإنه لمما يفزعني أن أذكر المشانق وآلات الإعدام التي كانت موزعة في جميع نواحي أم درمان؛ فقد كانت أكبر دليل على حالة المدينة وموقف السودانيين من حكومتهم.

صفحة غير معروفة