السيف والنار في السودان

سلاطين باشا ت. 1351 هجري
144

السيف والنار في السودان

تصانيف

اتجهت الرغبة من بادئ الأمر إلى السكنى على مقربة من شاطئ النيل؛ أملا في تسهيل الحصول على الماء الكافي، فنجم عن تلك الرغبة ازدياد في ناحية وقلة الناحية الأخرى؛ فلم يبق مكان خال واحد في مسافة ثلاثة أميال عرضا مع خلو أميال ممتدة طولا.

أنشئت في بادئ الأمر في تلك الناحية آلاف من الأكواخ المصنوعة من القش، فلم يكن ظاهرا منها سوى المسجد الكبير الذي أحاط به حائط من الطين، طوله أربعمائة وستون ياردة وعرضه ثلاثمائة وخمسون ياردة، ولكن ذلك لم يرق في عيني الخليفة، فاستعاض عنه ببناء من الطوب المحروق الذي تم تبييضه بعد ذلك بمعرفة بنائين من العرب، وبعد ذلك أقام الخليفة لنفسه ولأخيه وأقربائه بيوتا من الطين، ثم حذا الأمراء حذوهم وتبعهم في ذلك أغنياء أم درمان.

ذكرت في فصل سابق وصفا لضريح المهدي، ولكني لم أذكر أني شاهدت - قبل مغادرتي الأخيرة لأم درمان - ضياع لون القشرة البيضاء التي على الضريح، ولا بأس من العودة إلى التفصيل، فأقول بأن فوق قبة الضريح ثلاث كرات نحاسية فارغة، الواحدة فوق الأخرى، ويربط هذه الثلاثة رمح مقوس في آخره حلية رئيسية تزين الضريح. ومن أغرب ما سمعته من السودانيين أن الخليفة وضع هذا الرمح حول الكرات الثلاث، ليعلن استعداده لمحاربة الطبيعة إذا حدث ما يحول دون تحقيق رغباته.

كان عبد الله في كثير من الأحيان يقضي ساعات من النهار منفردا داخل ذلك الضريح (مزار المهدي)، والمعروف أن غرضه الأساسي من ذلك هو تلقي الوحي الخاص منه، ولكن قلت عنايته بهذه الزيارات الدينية بعد أن قتل الكثيرين من أقرباء المهدي وزعماء أتباعه. وبطبيعة الحال كان من العسير بل من المريب أن ينقطع عبد الله هذا الانقطاع الفجائي، فاضطر إلى انتحال المعاذير، وتبعا لذلك أوعز إلى رجال حرسه الخاص أن يذيعوا بين الناس أن السبب الحقيقي لانقطاع عبد الله عن زيارة سيده المهدي هو خوفه من البقاء بمفرده داخل الضريح. وقد كان منتظرا أن يرد بعضهم على ذلك بأن يستصحب الخليفة معه من يذهب عنه الفزع. ولكن عبد الله لم يعجز عن الرد، فكان يقول إنه من غير المرغوب فيه، أو من الأمور غير المسموح بها، بقاء أي شخص خلاف الخليفة داخل ضريح المهدي.

هذا ما كان يعتذر به عبد الله إلى الشعب السوداني، في حين أنه (عبد الله) خالف وصايا سيده المهدي، لا بالقول فحسب، بل بالفعل أيضا.

كان من المتبع فتح جميع الأبواب المؤدية إلى الضريح يوم الجمعة للسماح للشعب بالحج إلى ضريح المهدي. وبما أن القانون الديني كان يحتم على كل رجل من أتباع المهدي أن يردد صلوات الترحم على جثمان المهدي وروحه، فقد كان من الميسور على المشاهد أن يرى الآلاف من الناس متفقين في الغرض ومختلفين في طريقة تلاوة الصلوات والأدعية. ولم يكن قصدهم محصورا في الصلاة للمهدي، ولكنه تعداه إلى طلب الحماية والرحمة من الله الرحمن بشفاء الشهيد (؟) الذي قد رقد في قبره الأخير. ولكني في الحقيقة كثير الريبة في أن الصلوات المذكورة خارجة للترحم؛ فإني أقرر - وفي قولي على ما أعتقد كثير من الحق إن لم يكن الصدق كله - أن أغلب الصلوات الصادرة من قلوب أولئك المتحمسين إلى مقام العرش الإلهي تتطلب من الله إنقاذ الشعب السوداني من ظلم وعسف عبد الله المستبد، الذي خلف ساكن الضريح الطيب، في نظر السودانيين.

يقع بيت الخليفة الرئيسي في الناحية الجنوبية من الضريح وعلى اتصال بالمسجد الكبير، ويحيط بهذا البناء الرئيسي حائط ضخم مبني بالطوب الأحمر، ومقسمة نواحيه إلى مبان صغيرة متلاصقة، وبطبيعة الحال أقرب المباني إلى المسجد هي التي يسكنها هو وأفراد بيته المقربون، وفي الناحية الشرقية من مسكنه بيوت زوجاته وأماكن الخصيان ومخازنه الخاصة. ومما يسترعي الأنظار في الجهة الشرقية من مسكنه المركزية للمسجد الكبير قيام باب خشبي ضخم - لا توجد أبواب في داخل المسجد من النواحي الثلاث الأخرى - يجتازه المسموح لهم بالوصول إلى غرف الخليفة الخاصة ومكان الاستقبال الرسمي.

إذا ما رغب إنسان في اجتياز الممر الرئيسي، كان عليه أن يمر بما يشبه الدهليز، ومن ثم يسير إلى ردهة صغيرة فيها غرفتان، لا يوجد على جانب أيتهما ما يمنع من ظهور الناس للخليفة الذي يستقبل الناس في هذه البقعة. يوجد في الجهة الجنوبية من غرفة الاستقبال باب خاص يقفل بين تلك الغرفة وبين غرفة المخدع، ولا يسمح لأحد باجتيازها سوى الشبان من حرس الخليفة.

أما المساكن التي سبقت الإشارة إليها فمكونة على شكل قاعات متصلة، بين كل قاعة والأخرى رواق صغير، وقد تمكن الخليفة من إنشاء دور ثان على سقف مجموعة من تلك المساكن، ووضع في ذلك الدور المبني على الطراز الجديد (عام 1895) منافذ يتمكن الناظر من إحداها من مشاهدة منظر عام واضح لأم درمان.

امتازت غرف استقبال الخليفة بالبساطة الكلية والبعد عن الزخرفة، وكل ما في الغرف من زينة هو أعمدة العنجريب الممتدة في كل غرفة، وعلى الواحد منها حصيرة من أوراق النخيل. أما غرف الخليفة فمزخرفة بكل ما يستطيع الحصول عليه من زينة وتزويق في السودان؛ ففي كل الغرف الداخلية أسرة نحاسية وحديدية تعلوها ناموسيات - للوقاية من الناموس الذي يعد نكبة السودان وبلاءه - كما أن أراضي الغرف مفروشة بالسجاجيد، وفوق المراتب النظيفة أغطية حريرية ووسائد موشاة أطرافها بالحرير الخالص، وفوق الأبواب والنوافذ ستائر من الألوان والأنسجة. ولا ريب في أن ذلك أقصى ما يطمع إليه الخليفة من زخرف وأبهة في السودان. أما الأروقة فممتلئة بالحصر المصنوعة من أوراق شجر الدوم، ثم بمقاعد العنجريب. فإذا قارنا ذلك بما كان عليه الخليفة عبد الله في أول سني حياته الرسمية، وجدنا أنه شديد الميل إلى الزخرفة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

صفحة غير معروفة