السيف والنار في السودان

سلاطين باشا ت. 1351 هجري
139

السيف والنار في السودان

تصانيف

عرف الجميع عن أبي النجا أنه استولى في بلاد الحبشة على الآلاف من المسيحيين لبيعهم في سوق الرقيق في السودان، وكان أغلب أولئك من النساء والأولاد، وقد بلغت القسوة بأبي النجا ورجاله مبلغا دعتهم لسوق أولئك بالسياط أثناء مسيرهم على الأقدام من بلاد الحبشة إلى أم درمان. فإذا ما ذكرنا أنهم كانوا يؤخذون قهرا من عائلاتهم، ويحرمون من الطعام الكافي لسد رمقهم في هذه المسافة الطويلة، ويسيرون على أقدامهم العارية؛ عرفنا أنهم كانوا أشبه بقطيع من الأغنام؛ فليس بدعا أن يعرف القراء أن العدد الأكبر من أولئك العبيد كانوا يهلكون جوعا أو مرضا قبل الوصول إلى أم درمان، وأن الباقين منهم - أثناء وصول أبي النجا بهم إلى أم درمان - كانوا في حالة سيئة ضعيفة يتعذر معها وجود الشارين ، وإزاء ذلك كان الخليفة في كثير من الأحيان يتبرع بعدد من أولئك العبيد لبعض أخصائه .

بعد أن هزمت قبيلة الشلوك، سعى زكي طومال في الاستفادة من ضعف رجالها ونسائها، فحمل العدد الكثير من صنادل كانت معدة لنقل رجاله الحربيين، ونقلهم إلى سيدي عبد الله في أم درمان. وقد سمعنا في تلك الأثناء الشيء الكثير عن اختناق المئات من جراء ازدحام الصنادل البحرية بهم، فإذا ما وفق الباقون للحياة أخذ الخليفة بعض صغار السن منهم لضمهم إلى حرسه الخاص بصفة احتياطي، أما النساء فكن يبعن مع الأولاد في سوق المزاد العلني، الذي كان يستغرق عادة بضعة أيام في أم درمان.

كان أولئك المنكودو الحظ يجلسون في غالب الأحيان عراة خاوي البطون أمام بيت المال، فإذا ما قدر لبعضهم أن يسدوا رمقهم أعطاهم عمال الخليفة أعوادا قليلة من الذرة دون تسوية، فكان من الطبيعي أن يصاب المئات منهم بالمرض، مما يعرضهم إلى عدم عناية أسيادهم الشارين بهم وقت العرض.

في كثير من الأحيان كان يبلغ الضجر والتعب بعشرات أولئك التعساء حدا يفضلون معه إلقاء أجسامهم في ماء النيل؛ حتى يريحوا أجسامهم العارية وبطونهم الخاوية من عذاب لا يعرفون مداه، فكانوا يموتون هناك، وبما أنه لم يوجد من يعنى بإخراج جثتهم، فإن النتيجة المنطقية هي اكتساح الجثث بقوة التيار إلى الشاطئ، فإذا ما ظهرت جثة ألقيت خارج الشاطئ، مما يدعو إلى نشر رائحة كريهة في الجهات المجاورة.

هذا فيما يختص بالقريبين من شاطئ النيل. أما الذين كتب عليهم الشقاء الأكبر، فكانوا يدفعون في الصحراء، حيث لا ماء ولا زرع على طول الطريق بين دارفور وأم درمان. وقد كان أولئك البائسون تحت إمرة رجال غلاظ القلوب، يدفعونهم إلى أم درمان نهارا وليلا دون المن عليهم بشيء، ولو قليل جدا من الراحة. وقد أكون عاجزا الآن عن وصف ما يرتكبه أولئك الرجال المتوحشون المفترسون أثناء سيرهم بالنساء إلى سوق العبيد في أم درمان.

كان من عادة أولئك المتوحشين الهمج أن يقطعوا آذان من يعجز من الأولاد أو الرجال أو النساء عن السير إلى أم درمان بمناسبة ما نزل بهم من الكلال، ليقدموا الآذان المقطوعة للخليفة علامة على مقدار من ماتوا من سباياهم وسط الطريق. وقد أخبرني أحد أصدقائي أنه شاهد في مرة من المرار إحدى النساء مقطوعة الأذنين ولكنها لم تكن قد فارقت الحياة بعد، فدب دبيب الشفقة في قلبه فأحضرها إلى الفاشر، وبعد أيام من الله عليها بالشفاء، في حين أن أذنيها قدمتا إلى الخليفة دليلا على موتها.

وقف تيار القوافل المملوءة بالعبيد إلى أم درمان؛ لأن القسم الأكبر من الأجزاء الموردة للعبيد، كدارفور، قد هجرها ساكنوها. وفي أحيان أخرى كان يقدم رجال القبائل، كقبيلتي تاما ومسالت، فروض الخضوع إلى الخليفة ليعفيهم من خطر الأسر. ومع ذلك استمر لغاية عام 1895 ورود الكثيرين من الرقيق الأسود من الرجاف، إلا أن بعد المسافة بينهما وبين أم درمان كان يحول دون وصول الكثيرين أحياء إلى بيت المال.

اضطر الخليفة عام 1896 - حيال نقص أو انعدام المأسورين من الرقيق الأسود في القلابات وكردوفان ودارفور - إلى إصدار أوامره للأمراء التابعين له ببيع ما يصل إلى أيديهم من العبيد لزعماء القبائل المتجولين؛ بحيث يضطر كل من أولئك الزعماء إلى كتابة ورقة يذكر فيها اسم العبد ومقدار ما دفعه للأمير ثمنا له. وقد كان يسمح لهم الخليفة بإعادة بيع من اشتروهم من العبيد بالطريقة ذاتها.

لا ريب في أن بيع الرقيق في أم درمان ذاتها يجري يوميا، ولكن من المحرم رسميا الآن (1897) بيع رقيق الجهات والقوافل؛ والسبب في السماح ببيع النوع الأول هو اعتبارهم ملك الخليفة وحكرا له، على أن جميعهم أو أغلبهم كانوا يعتبرون ضمن الجنود. وإذا سلمنا بأن شخصا خارج أم درمان جلب معه سرا أحد العبيد السذج، فقد كان من الميسور أن يبيعه بيعا اسميا لبيت المال على أن يورده إلى صفوف الجند مقابل قيمة مالية لمن جلب العبيد، وذلك في حالة تمتع الرقيق بالصحة، أما إذا كان الأخير غير لائق للخدمة فيبقى في دائرة نفوذ سيده على أن يعمل في أراضيه الخاصة.

أما فيما يختص ببيع النساء والأولاد، فأمر مسموح به في أيه ناحية من نواحي السودان، بشرط أن يمضي على ورقة البيع اثنان من الشهود، ويحسن أن يكون أحد الاثنين قاضيا، وفي تلك الورقة يقر الاثنان بأن المرأة التي بيعت حق مكتسب للسيد السوداني الذي اشترى. والسبب في تنفيذ ذلك العمل والسماح به هو أن كثيرا من العبيد كانوا يهربون من بيوت ساداتهم، فيمسكهم آخرون ويبيعونهم لغير ساداتهم الأولين؛ مما أدى إلى انتشار فكرة سرقة العبيد في أم درمان. وكان أولئك العبيد في كثير من الأحيان يؤخذون بواسطة أشخاص ظاهرين لضمهم إلى منازلهم، أو كان يغريهم أولئك بترك الحقول والأراضي التي يعملون فيها، وبعد ذلك كانوا يقيدون بالسلاسل لترحيلهم إلى جهات نائية؛ حيث يتم بيعهم بأثمان بخسة جدا.

صفحة غير معروفة