يرد العاج إلى السودان من أقاليم خط الاستواء بكميات كبرى مرة واحدة كل عام، وفي الغالب تمر تجارته بسواكن، وبما أن المناطق المذكورة خارجة أو تخرج تباعا عن دوائر نفوذ المهدي، فقد كان من الظاهر جدا لدى عبد الله أن الكميات المذكورة تتناقص في السنوات التي تعقبه.
أما ناب الفيل فلم تكن الدوائر الحكومية لتظفر به كثيرا؛ لأن الوارد منه قليل يجلبه بيت المال من مناطق دارفور الجنوبية، ومن الحق أن نقول بأن الدراويش - ما لم يعودوا إلى احتلال بحر الغزال بالقوة مرة أخرى - لا يستطيعون الاحتفاظ بتجارة العاج احتفاظا يضمن لهم مقدارا مذكورا من الثراء.
لا يستطيع السودان جلب البضائع من مصر إلا عن طريقين؛ هما أسوان وسواكن. وقد كانت الحكومة السودانية فيما سبق تجلب مقدارا من تجارتها القادمة من مصر أو ما جاورها عن طريق سواكن إلى كسلا أو من كسلا إلى مصوع، ولكن حال دون استعمال ذينك الطريقين احتلال السودان الشرقي بواسطة الإيطاليين، فليست البضائع المستوردة سوى أصناف من قيمة مالية طفيفة، وتتكون في غالبيتها من مواد خاصة بجلابيب النساء وجبب الرجال. ومهما يكن الأمر، فإن ذلك شيء غير جوهري لدى سكان السودان، الذين اعتادوا التعلق بكل ما له رونق خارجي زاه وما فيه التزاويق الكثيرة، بغض النظر عن تناسب ذلك مع الذوق السليم وبدون اهتمام بالقماش المتين. وفي الحق يكاد يكون من العسير جدا أو من المستحيل وجود مشترين من طبقة عالية أو متوسطة في نواحي السودان.
بين الأصناف المستوردة إلى السودان، الروائح العطرية من جميع الأصناف؛ كزيت خشب الصندل، والقرنفل، والحبوب ذوات الرائحة الطيبة. والسبب في استيراد ذلك النوع التجاري بكثرة هو استحسان السودانيات إياه. ولئن كنا أشرنا أخيرا إلى عدم رواج البضائع الغالية القيمة بين أهل السودان، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إن السكر والأرز والأنواع العادية من الحلوى والفواكه المجففة تجد جميعها شارين بين أكثر السودانيات ثراء. وقد يجمل بنا أن نذكر في صدد التجارة أوامر الحكومة المصرية سابقا بمنع الحديد والقصدير والنحاس بنوعيه الأصفر والأحمر من دخول السودان، حتى أصبح عسيرا على الأوروبي في عام 1897 أن يحصل على مقص أو موسى لحلق الذقن. وقد كان من جراء هذا المنع ارتفاع أسعار أواني الطبخ النحاسية إلى حد كبير من الغلاء ؛ لأنه علاوة على منع التصدير استولت الثكنات العسكرية على النحاس القديم القابل للتصليح، فاستخدمته في صنع الخراطيش للبنادق؛ وإذن اضطر السودانيون المعوزون إلى الاستعاضة عن الأواني النحاسية بأوان خزفية في تحضير الطعام.
كان مفروضا على صاحب كل تجارة واردة للسودان أن يدفع ضريبة عبارة عن عشر قيمة الوارد، وقد ألزمت الحكومة أصحاب التجارة المستوردة بدفع الضريبة إما نقدا وإما بضاعة مبادلة. وقد كانت الضريبة تؤخذ أكثر من مرة على طول طريق القافلة، فإذا ما وصلت التجارة إلى أم درمان، أخذت إلى بيت المال ووضع عليها ختم الحكومة، ومن ذلك الوقت تجبي الحكومة عشرا جديدا؛ وإذن وقف التجار أمام ضرائب ثقيلة متعددة، كما التزموا تقديم ما يشبه الرشوة إلى رؤساء أماكن الحكومة السودانية التجارية في المحطات المختلفة؛ أي إن التاجر كان يدفع من جديد ما يقرب من نصف ثمن البضاعة الذي دفعه أولا للبائع، وهم إزاء ذلك مجبورون على رفع قيم البضائع. وعلى الرغم من ذلك كله، تجد مكاسبهم في النهاية قليلة بالنسبة لغيرهم من التجار في مختلف الجهات المجاورة للسودان.
إن كثيرين من التجار الأغنياء في السودان نزحوا إلى مصر وغرضهم الأول ليس جلب التجارة منها أو بيع تجارة لها، ولكنهم رموا قبل كل اعتبار آخر إلى التخلص من جو السودان بضعة شهور يكونون فيها بعيدين عن سلطان الخليفة الشديد، فإن كل الذين قاسوا الأمرين من ظلم هذا الحاكم، لم يجدوا وسيلة للحصول على جواز يهربون به من السودان سوى التجارة؛ فلم يكن مسموحا للحكومة السودانية أن تعترض أي راغب في بيع أو جلب تجارة للخارج أو منه.
كان الكثيرون من التجار مقيدين بأسرهم وزوجاتهم وببنيهم، ولا يخالجني أي شك أو ريبة في أنهم لو كانوا خالصين من تلك القيود لما رجعوا مطلقا إلى السودان، ولفضلوا العيش في مكان هادئ كمصر - خارج وطنهم الأصلي - عن البقاء تحت نير العسف الشديد والاستبداد المطلق في السودان.
لئن أصيبت التجارة بكساد عظيم في السودان، فثم تجارة لقيت الرواج الكبير والتأييد الكلي من جانب المهدي والخليفة عبد الله؛ وأعني بذلك تجارة الرقيق. وبما أن تصدير العبيد إلى مصر لبيعهم أصبح أمرا محظورا ومعاقبا عليه، فالخليفة بطبيعة الحال معني بتوسيع تلك التجارة في جميع المديريات والنواحي الداخلية في دائرة نفوذه، ولم يغب عن خاطر الخليفة - بعد منع تصدير العبيد - أن يحول دون استئثار مشيريه بالأمر على حسابه.
كان من المستحيل بطبيعة الحال - رغم صدور الأوامر المشددة من حكومة مصر بمنع تصدير الرقيق - أن يحول الخليفة عبد الله دون تجارة الرقيق في مصر وبلاد العرب، ولكن القوافل التي كانت فيما مضى تقل المقادير الوافرة من عبيد السودان قد وقفت وقوفا يكاد يكون كليا.
كان في السنوات التي بين 1890 و1897 يرسل العدد الكبير من عبيد الحبشة بواسطة أبي النجا، ومن فاشودة بواسطة زكي طومال، ومثل ذينك المقدارين كان يرسله عثمان واد آدم من دارفور وجبال النوبة، وكان أولئك المرسلون إلى السودان يباعون علنا في سوق المزاد العلني، على أن تودع أثمانهم في بيت المال أو في خزانة الخليفة الخاصة. وبمثل الشدة والقسوة التي كان يعامل أولئك الرقيق أثناء شرائهم كانوا يعاملون وقت تسفيرهم إلى الجهات.
صفحة غير معروفة