لم أدع النوم يبعدني عن صورتها وهي تشكرني مرتاحة. تشبثت بهذه الصورة إلى آخر مدى. وفي اليوم التالي، طلبت أنا مقابلتها. وبمجرد أن جلست، وبينما كانت تعلق على فشل السياسة الاقتصادية للحكومة الجديدة، عاجلتها: «تتجوزيني؟!»
توقف الزمن لفترة لم أسمع فيها إلا صخب الطريق، وصياح مجنون الشارع، ورنة موبايل لها لحن راقص، وبين كل ذلك زقزقة عصفور فرحان يثبت حضوره وفرحته من بعيييييد.
بعد إتمام الزواج، ظهر في قفاي نمل أيضا. وأبدى طبيبي دهشته، بعد عجزه عن علاج كلينا. لكني وإياها اعتدنا على الأمر، وتسلينا بقتل النمل من على أقفية بعضنا.
عم غنام
طاقيته الشبيكة الخفيفة ملتصقة برأسه دوما، لا تمنع عنه حرارة شمس، أو مطر شتاء. بطنه بطيخة صيفية شيليان، لا تختفي في أي مناسبة، وأظنها تأكل من قامته القصيرة بالفعل. وجهه دائري مثل أغلب الساعات، وثابت الإيقاع مثلها، فملامحه راكدة، بلا فرح أو حزن. في مشيته بساطة متناغمة مع شخصيته، فالرجل متواضع، لم يدع عمره ما ليس فيه. أراه ملتصقا بكرسيه أمام دكانه في الشارع الجانبي الرفيع، الأقرب لحارة خامدة، يقرأ بنهم جريدة لا أعلم اسمها، لكنه يقرؤها كل يوم، وكل ساعة، حتى تظنه يعمل قارئا، وليس سباكا. وتعود أبي - وأعوذ بالله من بعض العادات - إذا ما تعطل شيء في الحمام، أن يتصل به. وبعد مكالمة سريعة من هاتفنا الأرضي، يأتي عم غنام، حاملا حقيبة جلدية، صغيرة ومستطيلة، تتطابق وحقائب الأطباء في الأفلام المصرية القديمة.
ستظن للحظة «يوضع سره في أضعف خلقه»، لكن هي في الواقع «جبتك يا عبد المعين ...» فعم غنام له لمسة ضد-ميداسية تقلب الذهب رملا. إنه لا يستغرق طويل الوقت، فقط ينظر إلى العطل، ويمد يده إلى المعطوب، ويقرأ تعويذة سحرية لا يسمعها أحد، ثم يعمل الشيء فجأة، وخلال ابتسامة امتنان اعتاد أبي - وما ألعن بعض العادات - توزيعها بمجانية مفرطة، يكون عم غنام قد نقد مبلغا ما، ليحمل حقيبته الصغيرة مثله، ويتكل على الله راحلا في تهذب، ونظرات لا تعلو عن الأرض. ... لكن ما إن يخرج من الباب، وينزل 4 درجات، وأحيانا 5، يتوقف ما أصلح، ويعود لتعطله. وهنا، لحظة لم يعشها إلا أبطال الأساطير المأساوية. أرجوك، توقف عن إيمانك أن أساطير الأقدمين خيال. إنه واقع لم تعشه. أو لعلك تعيشه كل يوم، وللأسف الشديد لا تنتبه. في تلك اللحظة، ماذا يحدث من ناحية أبي، وأمي التي تستخدم إنزال حاجبها الأيمن كاعتراض مسلح؟! الإجابة: يتم النداء على عم غنام، الذي لم يكمل نزول السلم، كي يرجع، ويطالع الخطأ - الأصلي، أو الذي فعله - ومن ثم يعيد التشخيص، ويكتب روشتة جديدة، طارحا أدوية أجدى. هل هناك مشكلة في ذلك؟! إنه حرفي لا يملك إصلاح كل شيء في العالم، ومن من البشر يملك تلك القدرة الخارقة؟! لكن المشكلة كانت أبعد من ذلك ...
في اليوم التالي، أو الأسبوع التالي، يتعطل نفس الشيء، أو شيء آخر. افترض ما شئت؛ صنبور مياه، مقبض كومبينشين، دش استحمام، ماسورة داخلية أو خارجية. بمن يتصل أبي؟! بعم غنام. أثناء دراستي الثانوية، أنبه أبي - في لهجة أنعمها بالتهريج درءا لرد فعل هجومي - أن هناك سباكين غير عم غنام. لكن أبي يزمجر، ويطلق من عينيه إشعاعا أصفر يلجم لساني لأيام وليال، ويشيح بكفه استهزاء ب «ابن امبارح» هذا، الذي يحاول النصح! ثم يأتي العم غنام، ويتحاور همسا مع الصنبور أو الدش، وأكاد أسمع ضحكات داعرة بينهما، لعله يذكر أيا منهما بصبا شقي، أو غراميات بائدة، أو خطايا تحن النفس إليها وتعجز الآن عنها. ثم تحدث المعجزة الفتاكة، وتنطلق المياه الحبيسة، أو تنحبس المياه المنطلقة، وينصلح الحال. وعند الدرجة الرابعة أو الخامسة ... «يا عم غنااااااااام.» نعم، يتعطل المنصلح بعد مرور أقل من 30 ثانية من قبض المقابل المادي.
تمر السنوات، وتلين أسلحة أبي الدفاعية، خاصة شعاع الزعيق الأحمر المتأجج، وأتمكن من سؤاله في استهجان حثيث: «ليه عم غنام بالذات؟!»، لعل أبي، وهو تقريبا في سن والد عم غنام، كان صديقا لهذا الوالد، وأوصاه الأخير - من فوق فراش الموت - على ولده. أو لعل أبي هو الوالد الحقيقي لعم غنام! لكن أبي أجابني دون تفكير: «لأن هوه اللي بوظ الحاجة». آآآه، هذا هو المنطق إذن. الإصرار على عم غنام يتأتى من كونه الفاشل الذي فشل، وبالتالي عليه أن يصلح فشله بنفسه. لكن إذا ما اعتبرنا ذلك أطول درس «تنمية بشرية» عملي في التاريخ، فإنه لا يؤدي لأي جديد مفيد. فلا حال الحمام انصلح، ولا حال عم غنام ذاته انصلح!
جاهدت الموقف بالصبر، والطناش. وبعد سنوات ، يهزل أبي، ويعرف الزمن كيف ينفذ إليه، ويثير غبار الضعف في عروقه الفتية حتى يضيقها ويسدها. فيضع الهاتف المحمول على أذنه التي سقطت أسيرة شعر شاب بغتة، ويتصل بمحمول عم غنام. ليأتي عم غنام، ويدور الروتين ذاته، كاسكتش كوميدي فاقع، تكراره معذب، وشجنه بلا طائل. وكما عرفت، بل حفظت، أنت وأنا وجدران الحمام المتأففة، ينفخ عم غنام الحياة في الشيء؛ فيبعث من بعد موات، ويرقص في سعادة، طائرا في الأجواء، مغنيا كعصفور مسحور، قصيدة عن الغد الذي جاء، والأحلام التي هزمت الواقع، وسيزيف الذي كسر اللعنة، وحطم الحجر، بل الجبل. ثم - كالمعتاد العفن - ينزلق العصفور في الكابانيه، ويموت غارقا في تجميع فضلات سكان المدينة. ثم «يا عم غناااااااااااااااام»، بصوتي أنا إذ إن أبي وهن منه الصوت. وصل بي الحال أن أزعق: هناك عم يوسف، والأسطى ملاك، والحاج حسين. كلهم «سباكين» درجة أولى، لا يشتكي منهم أحد. وغنام سيئ السمعة، يجلس عاطلا، غير مطلوب، أمام دكانه، لا يوفر غيرنا عملا له. فلماذا الإصرار عليه؟!
توفي أبي، رحمة الله عليه، وبقي عم غنام على كرسيه يقرأ الجريدة التي ميزت مؤخرا أنها الجريدة الرسمية. ما يثير عجبي أنه لا يتقدم في السن على الرغم من تراكم العقود. شعره الظاهر أسفل الطاقية الشبيكة لا يزال فاحم السواد. وهيئته، وإيقاعه، بل ملامح وجهه لا تختلف على الإطلاق. أهو مصاص دماء من هؤلاء الذين لا يصيبهم العجز أبدا؟ أهو شخصية في قصة، وخرجت إلى عالمنا، لتنقل إلينا ثبات القصة، وتمنعنا من التغيير؟! أهو مجرد شخص في أذهاننا، نتخيله لنلجأ إليه؟ وقدرته الخارقة في بقائه على ما هو عليه. أحيانا بقاء الشيء كما هو يبث الراحة في روح متوترة، ويوفر حائطا نبكي عليه ولا ينهدم، والأهم من كل ذلك يبدل خوفنا اطمئنانا، ويشرح صدرونا بأن هناك ثوابت؛ مهما غدر بنا الزمن لن تهتز أو تخون.
صفحة غير معروفة