أشياء غريبة على الأرضية
ذات النمل
عم غنام
الحصة
حلم الحب
كيف تعالج قرف الديناصور؟
زيارة من الولد العجيب
جوائز
برنامج الطبيخ
ضيف غير مرغوب فيه
الجديد
الساعات الطويلة
السعيد
الصوت المتحدث من الثلاجة
علاقات محرمة
الزائدة
اللمسة
الباسمة
عطايا
الجالس
بعض الجحيم
علاج غير تقليدي
البطيخ في البحر
الحلم
تسوق
أشياء غريبة على الأرضية
ذات النمل
عم غنام
الحصة
حلم الحب
كيف تعالج قرف الديناصور؟
زيارة من الولد العجيب
جوائز
برنامج الطبيخ
ضيف غير مرغوب فيه
الجديد
الساعات الطويلة
السعيد
الصوت المتحدث من الثلاجة
علاقات محرمة
الزائدة
اللمسة
الباسمة
عطايا
الجالس
بعض الجحيم
علاج غير تقليدي
البطيخ في البحر
الحلم
تسوق
الصوت المتحدث من الثلاجة
الصوت المتحدث من الثلاجة
مجموعة قصصية
تأليف
أحمد عبد الرحيم
من قال «دوام الحال من المحال» لم يعش عندنا.
أشياء غريبة على الأرضية
رغم هرم الجسد، وتيبس العظام، تمكنت من تنظيف البيت كله؛ كنست السجاجيد - والأرضية المبلطة والخشبية - بالمكنسة الكهربية، لمعت الأثاث بالريشة، عطرت الأجواء بالبخور. لكن ثمة أشياء غريبة لقيتها أثناء عملية التنظيف ...
في البداية، لبة بطيخ. نحن في الشتاء، فأي بطيخ يقع لبه على الأرض؟! وحتى لو كنا بالصيف، أنا لم أشتر أي بطيخ منذ الصيف قبل الماضي. الفكهاني بجوار البيت مات، وولده لا يعاملني باحترام حين أتصل به وأطلب فاكهة ديليفيري. ولد عاق، يظهر من عينيه - هو وعامليه - شرب المخدرات. الأغرب هو التصاق اللبة السوداء بكعبي، لم تفلح أي من محاولاتي لخلعها، استقرت ببطن الكعب في مساحة على قدها تماما، كأنها مكانها الأصلي الذي ضاعت منه! كان أولادي يعشقون البطيخ؛ في تارة، تقافزوا فوق السرير، مغنين أغنيتي المفضلة؛ كي أنزل وأشتريه لهم. وفي تارة ثانية، أصيب ابني الأصغر بالدوسنتاريا من بعد تذوق جزء مر في بطيخة، ليدخل الحمام 10 مرات في الساعة، كل ساعة. لكنه بعد سخونة، وزيارة للمستوصف، وتناول المطهرات الحنظل، عاد ليطالبني بمزيد من البطيخ. إنه فاكهة منعشة، ترطب على القلب. أم العيال كانت تقطعها، وتزيل أغلب لبها، ثم تأتيني بها فوق الفراش. هذا أيام دلع شهر العسل، وما بعده أيضا. آآآه، لم أكن أحكي أيا من هذه الذكريات لأحد، حتى لأمي؛ خوفا من الحسد.
ثاني الأمور الغريبة كان ظفرا. نعم ... ظفر طويل عثرت عليه في غرفة الابن الأكبر. كان في تجويف بخشب الأرضية، يقبع من قريب. فأنا أتذكر منذ آخر كنس لي أن هذا التجويف المقارب لباب الغرفة خلا من أي شيء إلا التراب. فمن أين جاء؟! ظفر مغبش حام، يشبه قشر السمك. به آثار لون أحمر قديم وشاحب. أهو طلاء أظافر حريمي؟! لا أعلم لماذا أثارني طلاء الأظافر الأحمر منذ الصغر. كان شيئا تتميز به الفتيات عن الفتيان، ووسيلة تجميل أنيقة ورخيصة. الشعر الحر المنطلق على الأكتاف، الجلباب المزركش، الحركة الخفيفة المرنة المختلفة عن حركة الأولاد، الصوت الرطيب، النظرة المتسائلة، الحضور المرح، تأكدها من ضعفها أمام قوتك؛ كل هذه أمور تعودت أن تحول الأنثى إلى فاتنة في نظري، لكن لا شيء منها يكتمل، وينال الفاعلية، إلا بالمونيكير؛ إنه البطاقة الشخصية للأنوثة، وبدونه لا تستوفى إجراءات الافتتان. البعض يحبونها مدخنة، رقيعة، سمينة، برائحة المطبخ، بشعر أشقر، بقميص نوم لامع. أنا فضلت المونيكير. طبعا اعتزلت أم العيال طلاءه، مع التقدم في السن، ومتاعب البيت، وتنكيس الشباب. لكنها كانت تفعله من أجلي. في ليال متباعدة، ننفرد فيها ببعضنا، هاربين من عين الزمن، وسخافات الوقار، وضجيج الأولاد. لم أرم الظفر الغريب، رغم كآبته. وضعته في الطفاية الكريستالية أعلى التليفزيون، تلك التي أستخدمها مؤخرا ك «تقالة» أحفظ تحتها الإيصالات الحديثة؛ مثل الخاصة بالسوبر ماركت، أو أوراق النتيجة التي أكتب في ظهرها المشاريع القادمة؛ كتصليح ضلفة الدولاب الملخلخة، وغسل قفص الشفاط بالجاز، ودهان الحمام بلون زاه.
أما الأغرب على الإطلاق، فكان ما وجدته في خشب أرضية غرفة النوم؛ جزء من هذه الأرضية ذاب. لا أدري السبب بوضوح؛ هل هو نشع مياه؟ هل هي وفاة للخشب؟ هل هو ملل من التماسك؟ ما أعلمه أن لوحين خشبيين - أو أكثر - تحللا. باتا هشيما، ترابا آخر لكن أغلظ ، أقرب للرمال في الحجم واللون. ليس هذا هو الغريب، وإنما النبتة الخضراء التي نمت وسط هشيم لوح منها. استغرقت في التفكير ... كيف حدث ذلك؟ ما التفسير المنطقي له؟ قلت إن طرفا من الشجرة المقابلة للعمارة سقط إلى شرفتي، ثم علق بشبشبي حين نشر أو جمع الغسيل، واستقر في النهاية على الأرض، وسط رفات هذا اللوح. لكن لا، البلدية مزقت الشجرة منذ عامين. بحجة ماذا؟! الله أعلم. ليلتها فوجئت من شرفتي بالدور الثالث برجل في ملابس عسكرية سترتها مفكوكة، غالبا مجند أو عريف أو ما شابه، يتسلق الشجرة ببلطة، متلذذا بتقطيعها. وبعد أن رحمها مبقيا على نصفها السفلي، نمت مجددا، قيمة متر واحد، لتغلبها الرياح ذات مساء، وتنحني منكسرة من أساسها، ساقطة في مشهد درامي مباغت وحزين. كم أتذكر مرآها وهي جثة ترقد بطول الحارة الجانبية، مثل أم كسرها الألم، وقتلها انسلاخ نصفها عنها. كانت نائمة على جنبها، تبكي أوراقا خضراء صغيرة، منتظرة من يحملها إلى قبرها.
إذن ... هي الكائنات الفضائية. طرفة قالها جاري - هاوي الروايات الخيالية - حين حادثته في أمر النبتة، سائلا بجدية عن تبرير معقول لها. قال إن كائنات من كوكب آخر نزلوا على المكان في غيابي، أو حتى في وجودي بهيئة خفية، كي يزرعوا نبتة لهم في خشبي، كتجربة جديدة. سرحت في تخريفه؛ أهي زهرة من حدائقهم لا تنمو إلا في الخشب؟ أم نبات لهم يحاولوا زرعه في خشبنا؟ أم برسيم من الذي يتغذى عليه جاري المستظرف؟! ضحكت لتتوه ضحكاتي في برد الشقة ووحدتها. كان للضحك زمان معنى حينما يرتد منك إليك. يندفع مثل كرة لينة تفوح عطرا إلى زوجتك، أو أولادك، فيرمونها إليك أكبر حجما، وأكثر لينا، وأخصب عطرا، حتى ينتشر العطر وسطكم، ويسكن ركنا من أركان البيت، لا يغادره مهما غابت الفرحة، أو سيطر النكد.
لم أجد بدا من سقاية النبتة الغريبة. كانت متألقة الاخضرار، قصيرة كأنها قط وليد، وتتفاوت بين المتانة والرخاوة على نحو فريد. في النهار تقف باسقة، متحدية العالم، ثابتة مبتسمة مثل وقفتي في طابور الصباح بمدرسة البراموني الأولية بنين. وفي المساء، ترتخي على نحو مريب، وتتقلص ملتفة حول نفسها، مثلي حينما أنام وحيدا في ليلة شريرة الشتاء. وفي يوم جمعة، حيث هناك ساعة استجابة، ابتهلت في سجداتي أن تأتي الكائنات الفضائية، وترعى هذه النبتة، فأنا أتحرك على مجرى الإقلاع بسرعة، ومسلسلي يقترب من حلقته الأخيرة. ستذهب النبتة ضحية الذبول، ولن يفهم الورثة وجودها، ليكنسوها إلى الزبالة البلاستيكية التي اسود صفارها. أدركوا نبتتكم الغامضة أيها الجاحدون. تجربتكم - أيا كانت - لن تتم.
وفي ليلة لاحقة قريبة، سمعت صوتا مهيبا. ظننت أن فرحا صاخبا دب فجأة في سماعات هائلة، أو أن طائرة حربية تلقي بقنابلها على حينا، أو أن العمارة المجاورة تنهار، لكني فوجئت بالقمر يدخل من شيش الشرفة، ويصل إلى عمق غرفة نومي. تجمدت بين التبرم وعدم الفهم، وسمعت صوتا يردد في ممر بعقلي: إنه القمر، الذي يتغنى به المطربون والمطربات في بكائهم وضحكهم. إنه جزء من كل تراث الأغاني القديمة، أيام كانت هناك رقابة، وثقة بأن المعروض لا يؤذي. حسنا، إن نوره خافت مثل مرح الرزناء، رحيم مثل أب محب. تشعر أنه كرة ناصعة من عشرات اليمامات. كما أن حركته رهيفة؛ لا يكسر شيئا، ولا يوقع غرضا من مطرحه.
مال القمر ناحية النبتة، فيما يبدو فحصا للاطمئنان، ثم نظر إلي ... وابتسم. إنها ابتسامته المعتادة في كل سماء، لكنها موجهة هذه المرة لي أنا فقط. تهلل قلبي، وتلاحقت أنفاسي من فرحة جديدة المذاق؛ تقترب من طراوة الرضا، وحلاوة لقاء المحبوب، ولذة العودة للوطن، والفخر بخير أنجزته. حادثني القمر بما لم أفهم. صوته أقرب لصوت نجاة الصغيرة، لكن في شيء من المعدنية. كأنك تسمعها من مذياع موضوع في كابينة من الصفيح. لم أميز حرفا. دلني عقلي أنها لغة أجنبية مثل لغة السائح الذي صادفته منذ سنين في شارع عماد الدين، وظل يحاكيني بألفاظ عجيبة، إلى أن أكرمني الله، وأكرمه، بشابة تتحدث لغته، وأخبرتني بلطف في أثناء رحيله مبتسما: «كان بيسألك فين شارع عماد الدين!» خرج القمر مخترقا شيش الغرفة. هل دخل إليها بهذه الطريقة؟ لم ألحظ بدقة. ثم غرب نوره الفضي الوهاج، تاركا إياي في لوعة تجاوزت سروري. ليته أطال الجلوس، ليته حدثني عن أحبابي في العالم الآخر. ليته شرب معي كوب يانسون بالعسل الأبيض.
نفضت عني غطائي، هابا من فراشي، موقدا بأصابع مرتعشة المصباح الأحمر النحيل - الذكرى المتبقية من ليالي حبيبتي - الواقف فوق الكومودينو، حيث كنت أكثر لهفة من إضاعة الوقت في بلوغ مفتاح لمبة ال 150 واطا المجاور للباب. هرعت في خطوة واسعة للنبتة. أبصرتها وقد طالت، وظهر لها فروع، وفي نهاية كل فرع ثمرة تشبه زهرة القطن. لم أجرؤ على لمسها، لكني بكيت حامدا الله. تتوءمت اللحظة ولحظة ولادة ابني البكر، وكيف صحت حين صاح صيحته الأولى. صيحة الفرح حدث لم أمر به منذ سنوات. سنوات أتألم - فقط - حينما أدرك أنها بعيدة. لكني سأتدرب على عدم تذكر هذه الحقيقة. وأداوم على زراعة هذا النبات الجميل. ربما يأتي القمر لزيارته مرة أخرى. وساعتها، سأعزمه على اليانسون، والعشاء، ولعب الطاولة، بل المبيت إلى الصباح أيضا.
ذات النمل
قلوقة من يومها، ومع ذلك أحبها. ربما أحب فيها قلقها هذا نفسه، لأنه يشبه قلقي. جلستها معي كاريكاتير مضحك يمثلني. النصيحة التي أحتاج إليها من الجميع أجد نفسي أوجهها إليها ولا أرسطو شخصيا، باسما في أحيان، وضاحكا في أحيان أخرى. نعم، وفرت لي تلك الفرصة الماسية كي أشعر بأني طبيعي، أو مدرك لأخطائي، بل أنصح الآخرين بما يحلها!
في هذه المرة، علا ضحكي. كانت واعية أنها تحكي بطريقة تثير التهكم منها، لكن المصيبة أن قلقها هذه المرة كان حقيقيا. حكت لي بصوت خفيض - وكأن أجهزة مخابرات ثلاث دول تطاردها - أن النمل انتشر في شقتها، وفي غرفتها تحديدا. حاولت أن أخفف من كلامها أو أقلبه إلى عادي، متذرعا بأننا نعيش فصل الصيف، في دولة أفريقية مزدحمة، والنمل يعيش فتوته تحت هذه الظروف. لكن أعتى أبطال الكلام في التاريخ ما كانت لهم القدرة على مقاطعتها في تلك المرة.
حسنا، قصت بتفاصيل تراها مهيبة أنها كلما جلست للقراءة على الكومبيوتر، تظهر نملة على ذراع من ذراعيها. بعد قليل يتكرر الأمر. ثم يحدث كل خمس دقائق. أخبرتها، وصقيع الإسكيمو يمرح بانطلاق في صوتي، أن النمل ظنها كورنيش النيل، ويتمشى عليها متنزها، لكن بطريقته الشهيرة بالنظام. حدقت لي بعينيها العسليتين في لحظة تشع نورا قمريا عذبا، ثم تابعت مع تبريقة وضغط على أسنان يهدد سخريتي؛ بأنها غيرت مكانها في الشقة، أكثر من مرة، ومع ذلك يحدث عين الأمر مجددا.
كان الحل الأوحد أمامها هو استخدام ذلك السائل الأبيض الذي اشترته من بائع بالشارع، ويقهر النمل قهرا. لقد تذكرت كيف استخدمته مع برص سابقا، وشد رحاله من المكان مهاجرا. المشكلة أن للسائل رائحة كريهة تعتصر الصدر، وتجبر التقزز على التقيؤ!
رشت السائل في المكان، وجميع الأركان. كادت أن تدهن به الجدران، وتحشو ذرات الهواء. وبقيت بعيدة عن الشقة لمدة ساعة، قضتها في التجول بشوارع وسط البلد، حيث عانت في العثور على بلوزة قطنية سوداء، كالمعتاد، وصادفت سيدة مرتدية باروكة؛ مما أثار ذهولها، باعتبار أن موضة البواريك انتهت منذ السبعينيات على الأقل، ورصدت زيادة عدد الشحاذين والمختلين عقليا عن الشهر الماضي. عادت إلى المنزل، ملاحظة تلاشي الرائحة، وبدأت في العودة لأنشطتها اليومية المحببة، وأهمها كتابة القصص القصيرة جدا على صفحتها بالفيسبوك، وتقليب كل المواقع الإخبارية على الإنترنت ... إلى أن فوجئت بنملة على قفاها!
التبسها الغضب وهي تخبرني كيف تحولت النملة إلى نمل، وتتابع ظهورهم في إيقاع لا يتغير؛ واحدة كل خمس دقائق. وأن النمل يتسلل من قفاها إلى ذراعيها بحرية، لا سيما وهي تجمع شعرها - بالمنزل - إلى أعلى في تسريحة «الكحكة». آآآه، لطالما عشقت ذلك في الفتاة، أي فتاة. هل لأنها كانت تسريحة أمي المفضلة؟ هل لأن زميلتي الطيبة الخفيفة الظل في رابعة ابتدائي، التي اعتادت الجلوس على الدكة المقابلة لي، ظلت بهذه التسريحة طوال السنة؟ لا أعلم، لكن ما أعلمه أن تخيلي لها بهذه التسريحة زرع وميضا في قلبي، ورغم إخفائي له جيدا فإني دعوت الله ألا يذبل قريبا.
بتفصيلات دقيقة وضحت كيف صعدت على سلمها لتفحص سقف الحجرة، مرتابة في وجود سرب هناك، وتساقط بعض منه عليها. ربما فعلت المروحة الدائرة على الشيفونيرة ذلك بهم، ربما يتكهربون من اللمبة النيون الملتصقة بالسقف، ربما ينتحرون برمي أنفسهم من أعلى، ألا تفعل الدلافين ذلك؟ قاطعتها لأهزر: ولكن الدلافين تفعلها بشكل جماعي، وليست واحدة كل خمس دقائق! تعاتبني بخفض رأسها، وإخفاض حاجبيها، وزم شفتيها. أغلق فمي بابتسامة فاضحة السخرية، لتكمل بصوتها الناعم اللين كوسادة من الفايبر أنها لم تعثر في السقف على أي سرب. وحتى لما وصل بها الحال لأن ترش كراسيها الخشبية والبلاستيكية بالسائل إياه، استمر ظهور النمل عليها. إلى أن وصلت إلى استنتاج صادم؛ فإذا ما كان النمل يظهر على قفاها، بشكل دوري، أيا كان موقعها في شقتها، فذلك يعني أن النمل ... يخرج من قفاها نفسه!
هنا ذابت سخريتي أمام الجدية، وانقلب سمير غانم إلى د. يحيى الرخاوي. دخل قلقها كهفا أكرهه، وامتدت قبضة عنيفة من ظلامه لتمزق قميصي. انتظرت أي تعليق يبدر مني، لكنها شعرت أن ما قالته صدمني بحق، فسألتني بابتسامة منهكة: «هو أنا اتجننت؟» هززت رأسي نفيا، مع إغماض عيني، محاولا تقويض قلقها، واستدعيت بسرعة قصص أطفال خيالية، وأفلام كارتون هزلية، مرطبا الجو بقولي: «لأ، وإنما لأنك عروسة حلاوة، فالنمل عايز يأكلك!» حاولت مقاطعتي بصوت عال، لكن صوتي كان أعلى، حاكيا لها قصة قرأتها في طفولتي عن صبي وحيد بنى كوخا من الحلوى ليعيش فيه، والنمل لا بد أن يكون في ذكاء هذا الصبي كي يختار سكناك. أشاحت بيدها ووجهها مستتفهة ما قلت، وأدرجت كلامي في باب العبط، ثم انصرفنا إلى كلام حملنا إلى شواطئ أخرى أقل صخبا.
بعد أسبوع، اتصلت بي، طالبة اللقاء على مقهانا الهادئ. صحيح كانت تجلس في دعة، لكن تحديقها في الأرض أزعجني، لأنه حركة لا تنتمي إلى قاموس إيماءاتها الذي أحفظه. بدأت بصوت خافت، بقي خافتا طوال الحوار على غير عادتها، إنها تحولت فعليا إلى جحر نمل. والنمل لا يخرج من بابه - أي قفاها - إلا حين دخولها إلى منزلها. في الخارج، ربما يخاف من الناس، من الحركة، من الرياح. إنما في البيت، هناك حرية وأمان بالمقارنة، والدفء أكثر ملاءمة للحياة.
رق قلبي، ظانا أن الجنون شيد معبده، وها هي تسوق نفسها إلى الرهبنة فيه. حاولت التماسك، وسألتها لماذا لا تضع أي طعام يغري النمل كي يخرج كله مفارقا جسدها، وهنا تحاصره بمياه، بمبيد حشري، بحيوان آكل النمل ... أي شيء ينهي الوضع. فقالت إنها قرأت عن النمل طيلة المدة السابقة، وعرفت أنه يقسم نفسه كالجيش، ويتبع نظاما مقدسا مثلهم، ولا يمكن أن يغادر موقعه بالكامل، وإنما يبعث بسرايا تستكشف، وتستطلع، وتخبر الآخرين بمكان الطعام، ووزنه، والأخطار المحيطة به، مختارا الطريق الأكثر سلامة إليه، والعدد المطلوب لإتمام مهمة حمله ونقله. أطلعتني منبهرة أن للنملة مفصل رقبة هو الأقوى بين كل مخلوقات الأرض، فهو القادر على حمل ما يضاعفه حجما ب 20 مرة! لم أشفق عليها، محاولا بكل جهدي تقمص وجهة نظرها، وأعتقد أني نجحت في تصديقها. أنا لم أكذبها عمري، وهي - على عكس أغلب من عرفت - ليست بكاذبة. وفي تلك اللحظة، شعرت بسمو عجيب. شعرت بقوة روحانية رفعتني إلى سماء رحبة، بهيجة. إنها لم تحك لأحد غيري. وهذا يعني أن مكانتي لديها خاصة. وحينما صدقتها، طبعت عيناها قبلة لعيني. إنها نظرة الغريق لمنقذه. فيها تعلق من نوع فريد، أشبعني.
نصحتها أن نذهب إلى طبيب، لكن في أي تخصص؟ أمي اعتادت تلقيني أن طبيب الباطنة بالذات قادر على تشخيص أي مرض. ربما سيرا على مقولة الحارث بن كلدة: «المعدة بيت الداء.» رضيت باقتراحي، واتجهنا إلى طبيب صديق لي. هو طبيبي القديم، ومن غزارة زياراتي له صار صديقي. إنه رجل مرح، يتناول - كما اعترف لي - كبشة مضادات اكتئاب كي يكون بهذا المرح، ويحتمل مآسي البلد والناس. في عيادته، ظنت الممرضة أننا زوجان؛ فظهرت لي أجنحة ضخمة من السعادة لم يرها أحد غيري بالطبع. وحينما شرعنا في الجلوس على كراسي الانتظار، تقاربت أصابعنا دون تخطيط على يدي الكرسيين المتلاصقين. أبعدتها بعد ثانية ممتعة منحتني انتعاشا لم يتبدد. وهي لم يبد عليها اكتراث بالأمر.
دخلنا حجرة الطبيب معا، ولخصت له أزمة الصديقة. دار في عينيه ارتياب خاطف، ميزت لاحقا أنه سبب تحاوره معها عن نفسها وحياتها، وظيفتها ومواهبها. كان يريد ما يطمئنه - ولو نسبيا - أني لم أحضر مخبولة إلى عيادته. لف شكوكه كعلبة بونبوني تشتريها من حلواني فاخر، ثم طلب منها الصعود إلى فراش الكشف النحيل وراء البارافان. وهبتني وشاحها. هذا الوشاح ... كم تمنيت الإمساك بك! لم ينس إطفاء التكييف كي يوفر لها الحرارة التي تقول إن النمل يظهر فيها. وخلال دقائق معدودة، اضطربت حركته، ثم غادر بارافانه، فاتحا مجموعة أدراج بدولاب أشبه بدواليب المصالح الحكومية، إلى أن وجد عدسة مكبرة، وما إن دخل بها وراء البارافان، وطالعت ظله ينظر منها، حتى سمعته - لأول مرة منذ يوم عرفته - يشهق في ذهول!
أفهمنا الطبيب أن الحالة نادرة، بل نادرة جدا؛ فالنمل يعيش داخلها، ويخرج من أحد مسام الجلد في منتصف القفا. «لماذا؟» كان ترفا لا يملكه كما قال. لكن العلاج قد يكون في يده بعد إجراء أشعات وتحاليل معينة، واستشارة أساتذته. ثم صافحنا وتوتر المفاجأة يفرض وجوده عليه، مودعا إيانا بكلمة: «اطمئنوا». راقت لها الكلمة، لكنها لم تعرف أنها «الإفيه» الذي يودع به كل مرضاه. على أي حال، كان واضحا إشراقها لتأكد صحة ظنها، وعند النزول لم تفعل شيئا غير شكري، رغم أن العلاج لم يأت بعد. امتنانها كان مطرا رأيته في الحلم زمان، ينهمر علي وأنا في بهو عمارة.
لم أدع النوم يبعدني عن صورتها وهي تشكرني مرتاحة. تشبثت بهذه الصورة إلى آخر مدى. وفي اليوم التالي، طلبت أنا مقابلتها. وبمجرد أن جلست، وبينما كانت تعلق على فشل السياسة الاقتصادية للحكومة الجديدة، عاجلتها: «تتجوزيني؟!»
توقف الزمن لفترة لم أسمع فيها إلا صخب الطريق، وصياح مجنون الشارع، ورنة موبايل لها لحن راقص، وبين كل ذلك زقزقة عصفور فرحان يثبت حضوره وفرحته من بعيييييد.
بعد إتمام الزواج، ظهر في قفاي نمل أيضا. وأبدى طبيبي دهشته، بعد عجزه عن علاج كلينا. لكني وإياها اعتدنا على الأمر، وتسلينا بقتل النمل من على أقفية بعضنا.
عم غنام
طاقيته الشبيكة الخفيفة ملتصقة برأسه دوما، لا تمنع عنه حرارة شمس، أو مطر شتاء. بطنه بطيخة صيفية شيليان، لا تختفي في أي مناسبة، وأظنها تأكل من قامته القصيرة بالفعل. وجهه دائري مثل أغلب الساعات، وثابت الإيقاع مثلها، فملامحه راكدة، بلا فرح أو حزن. في مشيته بساطة متناغمة مع شخصيته، فالرجل متواضع، لم يدع عمره ما ليس فيه. أراه ملتصقا بكرسيه أمام دكانه في الشارع الجانبي الرفيع، الأقرب لحارة خامدة، يقرأ بنهم جريدة لا أعلم اسمها، لكنه يقرؤها كل يوم، وكل ساعة، حتى تظنه يعمل قارئا، وليس سباكا. وتعود أبي - وأعوذ بالله من بعض العادات - إذا ما تعطل شيء في الحمام، أن يتصل به. وبعد مكالمة سريعة من هاتفنا الأرضي، يأتي عم غنام، حاملا حقيبة جلدية، صغيرة ومستطيلة، تتطابق وحقائب الأطباء في الأفلام المصرية القديمة.
ستظن للحظة «يوضع سره في أضعف خلقه»، لكن هي في الواقع «جبتك يا عبد المعين ...» فعم غنام له لمسة ضد-ميداسية تقلب الذهب رملا. إنه لا يستغرق طويل الوقت، فقط ينظر إلى العطل، ويمد يده إلى المعطوب، ويقرأ تعويذة سحرية لا يسمعها أحد، ثم يعمل الشيء فجأة، وخلال ابتسامة امتنان اعتاد أبي - وما ألعن بعض العادات - توزيعها بمجانية مفرطة، يكون عم غنام قد نقد مبلغا ما، ليحمل حقيبته الصغيرة مثله، ويتكل على الله راحلا في تهذب، ونظرات لا تعلو عن الأرض. ... لكن ما إن يخرج من الباب، وينزل 4 درجات، وأحيانا 5، يتوقف ما أصلح، ويعود لتعطله. وهنا، لحظة لم يعشها إلا أبطال الأساطير المأساوية. أرجوك، توقف عن إيمانك أن أساطير الأقدمين خيال. إنه واقع لم تعشه. أو لعلك تعيشه كل يوم، وللأسف الشديد لا تنتبه. في تلك اللحظة، ماذا يحدث من ناحية أبي، وأمي التي تستخدم إنزال حاجبها الأيمن كاعتراض مسلح؟! الإجابة: يتم النداء على عم غنام، الذي لم يكمل نزول السلم، كي يرجع، ويطالع الخطأ - الأصلي، أو الذي فعله - ومن ثم يعيد التشخيص، ويكتب روشتة جديدة، طارحا أدوية أجدى. هل هناك مشكلة في ذلك؟! إنه حرفي لا يملك إصلاح كل شيء في العالم، ومن من البشر يملك تلك القدرة الخارقة؟! لكن المشكلة كانت أبعد من ذلك ...
في اليوم التالي، أو الأسبوع التالي، يتعطل نفس الشيء، أو شيء آخر. افترض ما شئت؛ صنبور مياه، مقبض كومبينشين، دش استحمام، ماسورة داخلية أو خارجية. بمن يتصل أبي؟! بعم غنام. أثناء دراستي الثانوية، أنبه أبي - في لهجة أنعمها بالتهريج درءا لرد فعل هجومي - أن هناك سباكين غير عم غنام. لكن أبي يزمجر، ويطلق من عينيه إشعاعا أصفر يلجم لساني لأيام وليال، ويشيح بكفه استهزاء ب «ابن امبارح» هذا، الذي يحاول النصح! ثم يأتي العم غنام، ويتحاور همسا مع الصنبور أو الدش، وأكاد أسمع ضحكات داعرة بينهما، لعله يذكر أيا منهما بصبا شقي، أو غراميات بائدة، أو خطايا تحن النفس إليها وتعجز الآن عنها. ثم تحدث المعجزة الفتاكة، وتنطلق المياه الحبيسة، أو تنحبس المياه المنطلقة، وينصلح الحال. وعند الدرجة الرابعة أو الخامسة ... «يا عم غنااااااااام.» نعم، يتعطل المنصلح بعد مرور أقل من 30 ثانية من قبض المقابل المادي.
تمر السنوات، وتلين أسلحة أبي الدفاعية، خاصة شعاع الزعيق الأحمر المتأجج، وأتمكن من سؤاله في استهجان حثيث: «ليه عم غنام بالذات؟!»، لعل أبي، وهو تقريبا في سن والد عم غنام، كان صديقا لهذا الوالد، وأوصاه الأخير - من فوق فراش الموت - على ولده. أو لعل أبي هو الوالد الحقيقي لعم غنام! لكن أبي أجابني دون تفكير: «لأن هوه اللي بوظ الحاجة». آآآه، هذا هو المنطق إذن. الإصرار على عم غنام يتأتى من كونه الفاشل الذي فشل، وبالتالي عليه أن يصلح فشله بنفسه. لكن إذا ما اعتبرنا ذلك أطول درس «تنمية بشرية» عملي في التاريخ، فإنه لا يؤدي لأي جديد مفيد. فلا حال الحمام انصلح، ولا حال عم غنام ذاته انصلح!
جاهدت الموقف بالصبر، والطناش. وبعد سنوات ، يهزل أبي، ويعرف الزمن كيف ينفذ إليه، ويثير غبار الضعف في عروقه الفتية حتى يضيقها ويسدها. فيضع الهاتف المحمول على أذنه التي سقطت أسيرة شعر شاب بغتة، ويتصل بمحمول عم غنام. ليأتي عم غنام، ويدور الروتين ذاته، كاسكتش كوميدي فاقع، تكراره معذب، وشجنه بلا طائل. وكما عرفت، بل حفظت، أنت وأنا وجدران الحمام المتأففة، ينفخ عم غنام الحياة في الشيء؛ فيبعث من بعد موات، ويرقص في سعادة، طائرا في الأجواء، مغنيا كعصفور مسحور، قصيدة عن الغد الذي جاء، والأحلام التي هزمت الواقع، وسيزيف الذي كسر اللعنة، وحطم الحجر، بل الجبل. ثم - كالمعتاد العفن - ينزلق العصفور في الكابانيه، ويموت غارقا في تجميع فضلات سكان المدينة. ثم «يا عم غناااااااااااااااام»، بصوتي أنا إذ إن أبي وهن منه الصوت. وصل بي الحال أن أزعق: هناك عم يوسف، والأسطى ملاك، والحاج حسين. كلهم «سباكين» درجة أولى، لا يشتكي منهم أحد. وغنام سيئ السمعة، يجلس عاطلا، غير مطلوب، أمام دكانه، لا يوفر غيرنا عملا له. فلماذا الإصرار عليه؟!
توفي أبي، رحمة الله عليه، وبقي عم غنام على كرسيه يقرأ الجريدة التي ميزت مؤخرا أنها الجريدة الرسمية. ما يثير عجبي أنه لا يتقدم في السن على الرغم من تراكم العقود. شعره الظاهر أسفل الطاقية الشبيكة لا يزال فاحم السواد. وهيئته، وإيقاعه، بل ملامح وجهه لا تختلف على الإطلاق. أهو مصاص دماء من هؤلاء الذين لا يصيبهم العجز أبدا؟ أهو شخصية في قصة، وخرجت إلى عالمنا، لتنقل إلينا ثبات القصة، وتمنعنا من التغيير؟! أهو مجرد شخص في أذهاننا، نتخيله لنلجأ إليه؟ وقدرته الخارقة في بقائه على ما هو عليه. أحيانا بقاء الشيء كما هو يبث الراحة في روح متوترة، ويوفر حائطا نبكي عليه ولا ينهدم، والأهم من كل ذلك يبدل خوفنا اطمئنانا، ويشرح صدرونا بأن هناك ثوابت؛ مهما غدر بنا الزمن لن تهتز أو تخون.
يجبرني طريق العودة من العمل أن أمر - يوميا - من أمام دكان الفاشل، فلا ألقي السلام عليه. وهو يلومني ساكتا بنظرة «من هانت عليه العشرة». أتجهم، وأكمل خطواتي. لكنه يعرف كيف يضحكني، خاصة حينما أسمع صياح جارتنا الجديدة، أم الخمسة أولاد، وهي تنادي من شرفتها بلهفة: «يا عم غنااااااااام! ... الحاجة اللي انت لسه مصلحها باظت تاني!» لا أقوم ساعتها كي أطالع صورته وهو يعود إليها بحقيبته البنية الصغيرة، فإن لدي ما هو أهم لأفعله.
الحصة
كانت حصة الزراعة، وفيها ينتقل فصلنا - بتلاميذه الثلاثين - إلى مبنى آخر؛ حيث نصعد سلمه إلى الدور الثاني، ونحاول الجلوس محشورين على دكك خشبية متجاورة، تتراص على جانبي باب «حجرة الزراعة»، أو على كراسي خشبية نحيلة في شرفة الحجرة الواسعة، الممتلئة بأكثر من أصيص لنباتات مثل الريحان، أو الأقحوان.
اتجه الفصل بأكمله كالمعتاد. قادنا المدرس ذو البالطو الأبيض. كان سارحا أكثر من سرحانه المألوف. شاردا بنظراته في أنحاء الفناء، كأن ثمة نداهة تناديه، وهو يخاصمها حينا، ويفكر في الرد عليها حينا، ثم يهجرها كسلا بقية الأحيان. شعره الأصفر المختلط بالأبيض، والذي تعود طلاءه بالفازلين، تطاير في ثقل مع نسائم شتوية متجبرة. يبدو أنه نسي دهانه هذا الصباح. لطالما شعرت أنه في السبعين على الأقل، بينما هو - بالطبع - لم يصل إلى سن المعاش بعد. على أي حال كان أفضل من زميله المختل عقليا، والذي أغرقتنا أمواج عصبيته، الدائمة الهياج، ليدخل علينا ذات مرة، ويشبعنا ضربا بخرزانته، بشكل عشوائي مسعور، نكتشف بعدها أن سببه ما قاساه من زحام في المواصلات. لقد دمغته مجنونا رسميا حينما ضحك بعدها كالأبله، سائلا وكأن آهات ألم لا تدوي، وساعات يد لم تكسر: «إيه رأيكم في ماتش امبارح بقى؟!» هذا الرزين أفضل منه بمراحل ...
وصلنا إلى غرفة الزراعة، وجلسنا هذه المرة خارج بابها. تعالت أصوات بعضنا. ثرثرة، مجرد ثرثرة فارغة كالهواء. وجلست أنا صامتا، لا أجد ما أقوله. كنت مشغولا طيلة إجازة الأسبوع الماضي بقراءة مجموعة قصصية لنجيب محفوظ. وطبعا، لن أجد من زملائي من سيستمع إلى حديث عن هذا الأمر، أو يطيقه. كانت الغالبية تتحدث عن مدى حلاوة فتيات إعلان جديد عن البسكويت، مقررين أن الثالثة منهن كانت الأجمل ... رغم أن شعرها مصبوغ على نحو مقزز، ومساحيق التجميل تغطيها كشيء مزيف. هذا كان رأيي الذي لم أحب إعلانه؛ كراهية لخوض حديث مثل هذا، أو لأنهم سيضحكون علي، كما يفعلون مع أغلب كلامي، أو لأني لا أريد الحديث معهم من الأساس. التزمت بصمت ظاهره مريح، وباطنه حزين.
مرت دقائق كخلع ضروس على مهل. نحن جالسون، والأستاذ بالداخل، ولا جديد. بعد انتهائه من إجراءات الحضور والغياب، دلف إلى الغرفة، وجلس وراء مكتبه يقرأ، متغيبا عن العالم بأسره. كان الجو باردا، لأن ثمة شباكا كبيرا على سلم الدور، مفتوحا على مصراعيه، يطل منه الشتاء محدقا فينا بفجاجة. كل شيء كان كبيرا زمان. وعمر هذا المبنى تجاوز المائة عام حسبما سمعت. ترابزين السلم له زخارف حديدية لم أشهد فنيتها إلا في منازل الأثرياء في الأفلام القديمة، يعلوها خشب ذو سماكة، أخضر اللون، شديد النعومة، عشقت لمسه، ومرور باطن كفي عليه، في كل صعود وهبوط.
تغولت الرياح، واقتحمت المكان محاصرة إيانا، لنرتعش جميعا. لم يفلح النفخ في الكفوف، أو هز الساقين. لف جاري كوفية قصيرة رفيعة حول رقبته، كانت أقرب لمنديل مبروم، وكأنها حل سيدفئه. لذت أنا إلى حواري الداخلي، وطفقت أؤلف قصة جديدة، سأسطرها حين أصل إلى البيت.
بدأ التلاميذ في التسرب الواحد تلو الآخر. فالسلم أمامنا، وواضح أن الأستاذ لن يبالي، أو يلتفت. توالى التسلل من المكان، والعودة إلى الفصل. الكل اقتنع أن الجلوس هنا صار بلا معنى. ولا أحد يعترض. فلم لا؟! رحل عشرة، ثم عشرون، ثم بقي 4، و3، ثم لم يبق إلا أنا. كنت ملتصقا بالدكة الخشبية، أتطلع إلى لمعان سطحها المصقول الفارغ في ضوء الشباك - ذلك الذي تحول لمستطيل فضي ساطع - مقاسيا البرد، والوحدة أيضا.
نظرت إلى الأستاذ. إن باب الغرفة مفتوح، ومن الأكيد أنه رأى مغادرة الطلبة، أو شعر بها. لكن وجهه ملتصق بما يقرأ. ما المهم فيما يقرؤه إلى هذا الحد؟ أهي وصفة سحرية للسعادة الجنسية؟! سمعته مرة يحكي مع زميله المخبول أن الجنس هو أهم شيء في الوجود. وبدونه لا متعة في هذه الحياة العقيمة. سخر المخبول منه، ومن تقدم سنه، وفخر بشبابه، وفحولته. لكن الأستاذ رد له السخرية، وعايره بصلعته؛ وهو ما ألقى الجمر على زيته، وأشعل جنونه. فإن أي معايرة من هذا النوع كانت توصله إلى آخر طوابق ناطحة سحاب عصبيته، ليلقي من أعلاها بمن يحادثه!
نظرت إلى أستاذي الأشقر في جلسته الباردة، وأشفقت عليه. ثم رجعت إلى مكاني، ألتهم الصمت ويلتهمني. المكان ساكت جدا. لا أصوات حولي إلا لارتعاش عظامي، وخبط الرياح لأذني، وزقزقة عصافير تحتفل بالصباح ... تابعت أطيافها وسط المستطيل الفضي، تحلق في السماء سعيدة. لعلها سعيدة لأنها تحلق. آآآه، لماذا يا أبي علمتني أن ألتزم بالقواعد، وأحترم الآخرين؟ هنا لا توجد قواعد، وليس كل الآخرين يستحقون احتراما. ربما دمعت عيناي على جلستي وحيدا، فقررت بهدوء أن أقوم ب «حركة» مغامرة ...
هبطت السلم، عائدا إلى الفصل، حيث لقيت الجميع هناك؛ يلعبون، ويغنون، ويثرثرون. مغلقين الشبابيك، ومتنعمين بالدفء. أخبرتهم بصوت عال، وتمثيل محكم، أن الأستاذ يريدهم هناك حالا. فرد أحدهم ب «تناحة» أعجبني منطقها: «لو عايزنا، ييجي هو هنا!» ... فعلا، إنه لا يريدنا، ولا يكترث.
نزلت قاصدا غرفة الزراعة، متذكرا أنها مادة هامشية، لا ندرس فيها شيئا تقريبا. وجودها يساوي عدمها. لكن أليس لهذا الوقت قيمة؟ إن الدقيقة لها أهميتها، ويجب ألا تعبرنا هكذا دون أن نستفيد منها. سيحاسبنا الله على كل ثانية! قلت في نفسي أني سأذهب إليه، وأسأله لماذا لا يحرك ساكنا؟ وكيف نتصرف حين صمته المبهم هذا؟ وماذا أفعل أنا؟
بلغت مكانه، ودنوت منه. كان مثل ميت يتنفس. صنم يقرأ. روبوت بنظارة «كعب كباية»، متدلية على أنفه. بحثت عن الكلمات على لساني، فلم أجد. ريقي ناشف كالحطب. هل أنا خائف من مواجهته؟ نعم. حشدت غيظي، واستنفرت جرأتي، ونطقت سائلا: «يا أستاذ ... يا أستاذ ...» ودون أن يترك ما يقرأ، أو يعيرني نظرة واحدة، رد بلهجة زاجرة، ونبرة خفيضة: «ارجع مطرحك.»
عدت إلى دكتي بتباطؤ كان كل ما أملك من اعتراض، وانتظرت جرس نهاية الحصة حتى أعود إلى فصلي، متمنيا أن يلاقي أستاذي من يعامله هكذا يوما ما، وداعيا الله أن يخرجني من هذا السجن على خير.
حلم الحب
كنت أمام عمارة قديمة، تشبه بيت جدتي، وأناس متجمعين، يشبهون أقاربي الذين لم أعد أراهم إلا في المآتم، وعبد الحليم حافظ يقف ببدلة فخمة، متوترا، يفرك كفيه كزوج يقف على باب حجرة عمليات، منتظرا تحوله إلى أب. هدأت من روعه، فهناك حفلة داخل المكان، وهو نجمها، ولا بد أن يثق في نفسه، ويواجه جمهوره، ليبهرهم بأحلى الأغاني. نظر إلي بعيون مبيعة للحزن، قائلا برهافته المعهودة، لكن مع يأس هذه المرة: «مش ح أقدر من غيرها ...» فهمت تلميحه لغيابها. لكن ماذا نفعل؟ لقد افترقا. لا أعلم السبب بوضوح؛ أكانت غنية وهو فقير؟ أم العكس؟ أم فهم خطأ أنها خانته؟ أم العكس؟ إلى آخر قاموس الميلودراما الذي تقتات منه أفلامنا القديمة. انتقل حزنه إلي، لكني لم أظهر ذلك، ودفنت شجني وراء ابتسامة بارعة، مربتا على كتفه، كي يخلع عنه توتره، ويتجه لمسرحه، وفرقته، وحلمه. دخل وأنا أسمعه يرد دون كلام أنها - أيضا - حلم، ربما الحلم الذي لا تكتمل بدونه بقية الأحلام. تلاشى ظله، لكن ليست حرارة مشاعره. وبعد ثوان، سمعت همسة أعرفها وأحبها. التفت في الجانب، لأجدها في سيارة مختفية تحت ظل شجرة وارفة. إنها سعاد حسني، حبيسة سيارتها، عاجزة عن الدخول، والالتقاء مع حبها. أف! ... ما الذي يعقد العلاقات الإنسانية إلى هذه الدرجة الغبية؟! لماذا يلتقي البشر لينفصلوا؟! ألا يدركون أن البعد موات؟! لماذا يصنعون عذابهم بكل هذا الإتقان؟! إنهم كعشماوي والمجرم الذي سيتم إعدامه شنقا في الوقت ذاته! فهمت من ازدحام الدموع في مقلتيها أنها تتألم لعدم قدرتها على رؤيته، وحضور نجاحه. أخبرتني أنها مستعدة للتضحية بأي شيء حتى تكون بجواره في تلك اللحظة، مقاسية شعورا ضاغطا أنها نصف إنسان، وتهفو إلى نصفها الآخر بجنون، لكن الظروف التعيسة تمنع ذلك. عرفت أني أشاهد قناة المستحيل. أني أقرأ رواية مكتوبا عليها ألا تكتمل. البعض يرى في سماع الأحلام التي يتعذر تحقيقها طرافة وتسلية. كيف يحتملون ذلك؟! إنه أكثر شقاء يمكن أن تتعرض له. حلم بلا تحقق هو طعنة في حق إرادتك كإنسان. أليس العجز هو أسوأ ما يتعرض له خليفة الله، القادر القدير، على الأرض؟! يبدو أن ملح الأيام السوداء التي نعيشها منذ عقود ملأ المسام، والدماء، والأرواح، حتى غدا المرور به في طريقنا، أو في طرق الآخرين، جزءا من أنفاس الواقع ليس إلا. نظرت إليها والقنوط يقطع لساني، كانت تعرف أن لا شيء بيدي أو بيدها. هزمتها دموعها، بينما تراجعت مهزوما أمام الموقف، عائدا إلى بوابة البيت، أو المسرح، راكلا بقدمي حجرا رماديا تائها. كان مثل قلبي. لكن على عكس الحجر، سأل قلبي نفسه: أيهما أردأ حالا؛ قلوب تحب، وتحب ... أم قلوب لا تجد من تحبه، وتحب منه؟
كيف تعالج قرف الديناصور؟
حادثني الديناصور - بقرف حارق - أن الأيام لم تعد كريمة معه كما كانت زمان. فالكائنات مقهورة جاهز. والقتال انتهت منه المتعة، أو انتهى. وافقته محاولا الشعور بمأساته. هممم، المفترس يعاني مللا ... ملل سهولة الافتراس. تقمصت وجهة نظره؛ كما اعتدت طيلة عمري حتى قبل أن أصبح مؤلفا، وأكثر من ذلك عبرت عن مشكلته كأنها مشكلتي. لا أدري من علمني هذا الفعل الشنيع؛ أن أتقرب إلى عدوي، باحترام جم. هل الغاية خبيثة، وراءها تعقل بعيد، كي أكسب ثقته، ثم أنفذ إليه من حيث لا يتوقع؟ أم أنه غباء صرف، وخنوع بغيض، هدفه مكسب القرب لآخر؟! ما وصلت إليه أن لا أحد علمني ذلك، أنا من سعيت إليه كثيرا رغم شمي رائحة النفاق فيه. شرحت له ما حدث، ويحدث. لا أحد يريد أن يقاتل. ليس لاقتناعهم بالسلام، وإنما لضعفهم من كثرة الحروب. النزول إلى الغابة لشراء غرض من السوبر ماركت صار رحلة مفعمة بالمخاطر. هناك الموتوسيكل الذي يجتاح الرصيف. وهناك السيارة التي تنطلق في الاتجاه العكسي بسرعة عمياء. وهناك الشحاذ اللحوح، العنيف. وهناك تلال القمامة المتوحشة. وهناك طوفان الأمطار، أو المجاري ، الذي يغرق الشارع في انطلاق. وهناك الكلاب الضالة. وهناك الحفر والنقر، المختلفة الأحجام والأعماق. وهناك الرصيف الذي احتله الباعة ليعرضوا فيه بضاعتهم المستوردة الفقيرة. وهناك ذلك المخلوق المتضخم، الذي ينفث فينا نارا لا آخر لها، واسمه الزحام. وهناك البرود الإنساني الغليظ، الذي سيجعل البائع إذا ما سمعك لا يرد عليك. وهناك الأسعار التي تتجاوز السحب في مسخية تتزايد يوميا. وهناك تاريخ الصلاحية الذي سيكون إما ممسوحا، وإما مزيفا، وإما - في أحسن الاحوال - منتهيا بعد أيام. هذه خمس دقائق من حياتهم يا سيادة الديناصور، فما بالك بأعمار وحيوات؟! لقد أرهقتهم غابتهم، واستنفدت طاقتهم. وأنت تتحدث عن فنون الحرب، ومناهج القتال، ولذة الندية. كل الرائع موجود بالخارج الآن، أو بالداخل زمان. لذلك لا تطمح في رائع هنا حاليا، وإلا استنفد هذا طاقتك أنت أيضا. بدا وكأن الديناصور يزن كلماتي. وفي ارتفاع حاجبه الأيسر، وتقدم شفته السفلى، وهزة رأسه الخفيفة، أدركت استحسانه للوزن. أطلقت زفرة راحة غير مسموعة، وخرج الاطمئنان مع أولاده في رحلة خلوية داخل صدري. لكن في أقل من ثانية، كان الديناصور قد اختطفني من مطرحي، وبلعني في بطنه. طبعا أنا لست سيدنا يونس، وإنما ماسح جوخ غير موهوب. ليتني قلت إن الكائنات تخافه لأنه الأقوى، أو إنهم صاروا يحبون افتراسه لهم بمرور الوقت!
زيارة من الولد العجيب
مزق منتصف ورقة برنامج ال
Word ، خارجا برأسه منها. كانت ملامحه ضحوكة، لكن بها شقاوة ذكرتني بأشقى زملاء فصلي في المدرسة الابتدائية؛ كانوا يكسرون جل القواعد، ويلعبون دون مذاكرة، ويحققون أسوأ الدرجات. لذا، منذ صغري، رسخ عندي أن «شقي» تساوي - دائما - «فاشل». ومع هذا لم يرسبوا، ليس لأنهم واظبوا على تدارك أنفسهم في آخر لحظة، والنوء بها عن مصيبة كهذه، بل لأن معلمات المدرسة كن ينفذن أوامر مالك المدرسة. كان يريد المحافظة على مدرسته بلا راسبين. مسألة سمعة يجب أن تبقى نظيفة، لامعة، مثل بدلته الغالية التي كانت تغطي جسده الضخم.
نرجع للطفل ذي الثماني أو التسع سنوات، الذي مزق صفحتي، متطلعا إلي بابتسامة واسعة تحتفل باللحظة والفعل. لم أظن أنها دعوة للعب، بقدر ما شممت رائحة سخرية كريهة، وبالتالي أمرته بصوت صلب أن يخرج من الصفحة، ويعيدها كما كانت. فنفذ الماكر الجزء الأول، خارجا من الصفحة، لكن نحوي! اخترق الولد شاشة الكومبيوتر إلى غرفتي، وانتهت الورقة كأنها لم تكن. سيطرت على غضبي بأعجوبة، ومثلت دور البارد باقتدار، وتركته يلهو على سطح سريري بسيارة لعبة صغيرة كانت في جيبه، لأفتح ملفا جديدا، وأبدأ في الكتابة من البداية.
تعدى على هدوء الحجرة، مبتكرا بفمه أصواتا للسيارة. سألته بلهجة محايدة دون أن أشيح بوجهي عن الشاشة: «انت جاي ليه؟» فهمهم، ثم صدمني ببساطة: «عشان أقولك إني زهقت منك!» أتوقف عن نقر الأحرف، وألتفت إليه واللوم يقودني. وبينما هو نائم على بطنه فوق الملاءة، يلعب بأقدامه في الهواء، حرك حدقتيه نحوي، كأنما يستشف رد فعلي، ثم ما لبث واستأنف اللهو بسيارته، لاطما إياي: «ما انت عارف انك كداب.» أزمجر غاضبا، فتوتر بسرعة، وتراجع مصححا: «ما انت عارف ان حضرتك كداب!» أنهض واقفا كمن يشحذ طاقته لمشاجرة، أو يرفع أهبة الاستعداد لاندلاع معركة. لم يكترث، عائدا إلى سيارته، ناهضا لتمريرها على الحائط الملاصق للفراش، معلنا دون النظر إلي؛ لم أعرف إحراجا مني، أم استهانة بي: «كل مرة تقولي فيه ناس طيبين، وقانون بيتطبق، وعدالة بتتحقق. دا انت مفيش مرة خليت البوليس يفشل في القبض ع المجرم!» ...
انثنى مفصل رقبتي للأرض وحده. ثم في ثانية واحدة، تنبهت رافعا رأسي إلى وضعه العادي. ضغطت أسناني على بعضها، ومس الاضطراب أنفاسي، فاتجهت إلى الشيش، كي أشم بعض الهواء. أكمل الولد بأريحية كأنه يحادث صديقه عن معلمه غير المفضل: «وعمال تكلمني عن المثل والمبادئ والقيم ... ما تخليك واقعي بقى!» عرفت أن هذا ليس وعيه. لا يوجد طفل يتكلم بهذه الألفاظ. إن أحدا قام بتحفيظه كل ذلك. لكن من؟ ولماذا؟ وكيف يستجيب له بهذه السرعة؟ هذا الولد صديقي. فانلته البيضاء ذات الخطوط الحمراء هذه أنا من أهديته إياها في العيد الماضي. طاقيته الزرقاء ذات الكاب الصغير من اختياري. الزمردة البنفسجية التي قهر بها الغولة الهائلة أنا من وضعها في طريقه. الدولفين الذي قطع فوقه بحر الظلمات كان ولا يزال ملكي. وحينما يرفض عائلته، أو ترفضه، أنا من أصالحهم في النهاية. فكيف تمت برمجته ليهاجمني على هذا النحو؟!
ناديته، فلم يجب. أعدت النداء بصوت عال، فالتفت إلي ببراءة حتى كدت أصدق أنه يسمعني لأول مرة. طلبت منه الاقتراب، فأمسك لعبته، سائرا على السرير، حتى وصل إلى الطرف الذي أقف بجواره. وجهه ساعتها كان في مقابلة وجهي بالضبط. وفي ضوء الشيش هالني ما رأيته؛ ملامح الولد تقدمت في السن. لا، لم يصبح على أعتاب المراهقة بشعر تحت أنفه، وعيون أكثر اتساعا، بل صار في الأربعين، أو ما بعدها. ثمة تجاعيد وشعيرات بيضاء، وتجهم لا ترسمه إلا فرشاة الزمن. تجمد لساني، لكن علا لهيب الهلع في عيني. فابتسم الولد ابتسامة يتلبسها شبح الحزن، وربت على كتفي مهونا، وأخبرني بصوت خفيض؛ لم أميز لسيطرة اليأس أم تعمد الاتهام: «نعم، أنا كبرت. لكنك أعجز من إدراك ذلك.» وبعد انكسارة في عينه شرخت لحظتي، تلاشى نثرات ملونة، لمعت في ضوء الشمس المتسلل من الشيش، ذائبة فيه، خارجة من الحجرة نحو عالمه الأصلي، الذي يعيش فيه ويتمتع به.
شعرت بثقل خطيئة من الكبائر. أسطوانة رخام غليظة احتلت صدري. ساقي ثابتة لا تتحرك، مزروعة في بلاط الأرضية. تذكرت لحظة قاسيتها منذ سنوات عندما التحقت بالمعهد، وورشة إبداعية، واشتركت في مكتبة عامة، جاريا بينها وبين مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائية، كل ذلك - في الوقت ذاته - لدراسة التأليف. وكيف في يوم ما من تلك الأيام، هبطت من على فراشي، لأعجز عن نقل قدمي من موقعهما. ألزمني الدكتور: «راحة لمدة 10 أيام على الأقل. أنت أجهدت نفسك.» كنت ولا أزال أحمل نفسي فوق طاقتها، كي أقرأ وأتعلم، أكتب وأتقدم. ثم يجيء هذا الولد الآن ويسحب كل طاقتي، لتتوقف ساقاي قبل أن تصلا إلى الكومبيوتر مجددا. ... بكيت طبعا. ليس من هذا الشلل، وإنما من الولد العجيب ، وعالمه الصاخب.
جوائز
بصوت عجول؛ فيه حماس طفلة، وخفة راقصة باليه، وتوتر موظف جديد، تخبرني أن شراء الوجبة المستحدثة أخيرا، ذات المائة جنيه، يضمن لي الدخول في سحب جوائز؛ منها الكومبيوتر المحمول، والمبلغ الباهظ، والسيارة الفاخرة. بعد أن هدأ توهجها، ساد صمت من إخراجي، ثم سألتها بترو: «... مفيش رحلة حج؟!» فأجابت بابتسامة تتلألأ إلى ضحكة، فهمت أنها ردها الوحيد. بعدها، طلبت ال
order
المعتاد، الرخيص، من سندوتشات الدجاج المقلي، بدون مايونيز، أو خس. ثم ودعتها كأنما أربت على رأس طفلة أبهجتني.
برنامج الطبيخ
الشيف الذي يسكن التليفزيون يوزع نفسه بين عرض مقادير الطبخة، وتنفيذ خطواتها، والرد على هواتف المشاهدين. ميزت على مريلته القاتمة كلمة «القاضي» مكتوبة بخط الثلث؛ تذكرت أنه مطعم شهير، وعرفت أنها دعاية أخرى. خلال مكالمة مع أم أصرت أن يتحدث أولادها الستة إلى الشيف، توالى العجب العجاب، في سرعة وعادية. البوتاجاز الراقد في جانب الكادر اشتعل في لهب مروع. الأكلة خرجت من الفرن، متفحمة متضخمة، وهاجت في هيئة بين الإنسان والغوريلا، مبتلعة مساعد الشيف الدائم الصمت. الأولاد الستة ظهروا، مقتحمين المكان، عابثين بديكور المطبخ، ومفرقعين «بمب» بدا كالقنابل. أمهم هاجمت واحدا من عمال الاستوديو، دخل الكادر في محاولة للسيطرة على الأمر، لتدكه بلكمة من يدها، متحولا إلى عصفور دائخ. سقطت الجدران الملونة في الخلفية، لتتعرى جدران أقدم، شروخها نهش أظافر وحش مهول كيف لا يخاف منه أحد؟! كل ذلك، والكاميرات دائرة، والصور تتابع في آلية، والشيف يتصرف كأنما لم يحدث شيء، محافظا على إيقاعه الخفيف، ولغته المهزارة، بينما تأكدت عيناي - بعد فحص - أن الكلمة على مريلته تحولت من «القاضي» إلى «الفوضى». التفت إلى زوجتي الجالسة على الأريكة تشاهد حينا، وتقلب مجلة في يديها حينا آخر، واستشرتها بتراخ: «إيه رأيك؟!» فأشاحت بيدها في غير اكتراث، ثم عرضت أن أحول إلى قناة المسلسلات القديمة، مبدية اهتماما بتنحيتها المجلة جانبا.
ضيف غير مرغوب فيه
شقة واسعة، واااسعة، حجراتها عديدة. الأثاث غربي، فيه تجريد وحداثة مما يشي بغلو ثمنه. لكن سيطرت إضاءة صفراء على كل شيء؛ الجدران، والأرضيات، وربما الهواء. صادفت صديقي، راقدا على شيزلونج فاره، وهنأته بكل ذلك. لكنه لم يكترث كثيرا، مطلقا تركيزه في شاشة هاتفه المحمول. شدت انتباهي ملابسه الفاخرة. سامر لم يتعود ارتداء ملابس من سوق الكانتو، لكن هذا أفخم كثيرا من الملابس التي ألفته بها في المرحلة الثانوية، والجامعية، وما بعدها. قابلت بروده ببرود، وطفقت أتجول في الشقة. إن كل حجرة مفتوحة على حجرة أخرى تشبهها. لا توجد أبواب، وإنما قواطع جدارية غير عريضة. هناك صمت مستفز، ووحشة تكاد تنطحك. الأثاث الفاخر له تكوينات مثل قطط نائمة في شبع، أو سكران ملقى أرضا. أتمشى بلا توقف، مصادفا جمال، وهيثم، وأبو المجد. كانوا يتكلمون، أو يأكلون، ولا أحد يحييني أو يلتفت إلي أصلا. دخلت حجرات قادتني إلى حجرات، حتى كدت أتأكد أني في بيت جحا حديث! أين ذهب سامر؟ إني لم أقابله منذ 15 عاما. من يوم تقابلنا مصادفة في المترو بعد خصامنا، كي يؤكد هذا الخصام ولا يسعى لهدمه. ثم ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وما هذا المكان؟! أهو بيته؟ لا، إن بيته - هو وعائلته - كان في السيدة زينب، أمام المسجد. كم اجتمعنا هناك، وحولنا حجرته إلى سيرك، وسايبر، وسينما، ومسرح، ومقهى، وحديقة، وملاه، وحضانة أطفال أشقياء. في أحيان، كنت أجلس غريبا وسط أصدقائه، جمال وهيثم وأبو المجد، ربما لأني أتحدث بكلمات غليظة عليهم، أو أحكي ما لا يهتمون به. لكن سامر كان يحب هذا - عينه - في. كنا نلتقي في هذه الجدية. يشاهد الكل على الكومبيوتر الفيلم الذي لم ينزل مصر بعد، في سابقة تعد من المعجزات بنهاية التسعينيات، لكن أنا وهو فقط من يجلس بعدها لمناقشة إيجابيات وسلبيات العمل بموضوعية وهدوء. يبتعد الكل عن القراءة، لكن أنا وهو نتبادل المسرحيات، والروايات، ونتبادل آراءنا فيها لاحقا. حتى الأغاني، تبادلنا شرائطها للاستماع والاستمتاع والجدل. لن أنسى خبله حينما قدته إلى القسم الموسيقي في مكتبة مبارك العامة، ولقي هناك أشعار فريق الروك الأمريكي الذي يعتنقه. يااااه، في هذه اللحظة ، حقق حلما كان يراه من ضروب المستحيل. ولن أنسى كيف حين دعوته لحضور معرض فن تشكيلي بقصر الفنون، أن فتح لي - بجرأته المعهودة - بابا كنت دائما ما أظنه مغلقا، لأفاجأ بقاعة كبرى تمتلئ بلوحات باهرة. يومها كنت كمن فتحت أمامه مغارة علي بابا، وأتذكر مقولته لي: «إنت وشك احمر م المفاجأة.» انشقت المودة لما ذهبت لدراسة الفن بعد الجامعة، ثم انخرط هو في أعماله التجارية. أتذكر جيدا - كمن يتذكر جرحا قديما - ذهوله من شراسة السوق، وهمجية قوانينه. لما تردت لقاءاتنا إلى هاتفية، كنت أحدثه عن فيلم مجري قديم، كالشعر المرئي، لا حوار فيه، يستعرض الحب مع فصول السنة الأربعة. فيرد علي - كأنه لم يسمعني - بحكايات عن غريمه التجاري الألد، الذي يسرق مخازن منافسيه، أو يحرقها، والآخر الذي يلفق لهم فضائح جنسية، أو قضايا مخدرات. سامر كان بريئا، مثلي. لكنه مع الوقت لم يعد يجد نفسه في. كنت أذكره ببراءة يكرهها، ويسعى لنفيها، أو إعدامها. اختار أن يعبر طريقا يحوله لشخص آخر كي يحتمل كل هذه القذارة، ثم يتدرب عليها حتى يتعامل بها. الطريق إلى «الجانب المظلم» كما يقولون في أفلام حرب النجوم التي لم يستسغها. وكنت أنا المطب الذي يكسر الأعناق؛ مرة لشاعريتي العضال، ومرة لمثاليتي الثرثارة. بعد ذلك، لا شيء. عدم. ليل بلا قمر، أو نجوم، أو سماء. كل الأزهار الملونة بلعها خفاش هائل سرعان ما لف وجهي، وأسر عيني، ممتصا دمي. حدث فراق. هو أخطأ، كذلك أنا. لكنه - على عكسي - لم يعرف الاعتذار. العلاقة التي يكون احترام المشاعر فيها من طرف واحد، علاقة فاشلة، مقيتة. واستمرارها ذبح متواصل لذلك الطرف نفسه. شممت رائحة مقلب زبالة. ثم مع الأيام، تعملقت الزبالة لتصير وحشا ضاريا هب مكشرا عن أنيابه في زئير مرعب. لذلك رحلت. كان الأفضل لي ... وله أيضا. «له» لأن الملل قاتل. وفي عالم الملل القاتل، كنت رئيس الولايات المتحدة المملة، أكبر وأخطر قوة ضاربة. سامحني يا سامر. كان عندك حق تمل مني. حاولت الرجوع كي أستغل تواجدي معه ، ونتحادث مجددا، لكني فهمت أن انصرافه للموبايل في وجودي لم يكن مصادفة. كما أني تهت داخل منزله هذا. نفرت من وقفة بلا معنى، فمددت يدي من خارج الكادر، منتشلا نفسي من هذا الكابوس المتنكر كحلم عادي.
الجديد
هاتفت ابن أختها، وكان شابا أريبا، كي ينزل معها، ويشتري لها تليفزيونا. أوصته أن يحسن الاختيار، فقد باعت تليفزيونها القديم لزوجة صاحب محل الخردوات في الشارع المجاور لها، وهي لا تطيق العيش يوما دون جهاز العجائب الملون. وبعد بحث طويل، استدعى آلام كعبيها الغليظين من الراحة، وفتح ملفات هشاشة العظام المنسية، أشارت للفتى أن يشتري لها تليفزيونا ظهر أمامها فجأة. أحست الحاجة أن هذا الجهاز يناديها، ويبتسم لها. شعرت أنه ابن حلال مصفى، وسيخدمها بعينيه. أخبرها الفتى أن هذا التليفزيون ليس من عائلة عريقة، وأن ضمانه ليس بالثري. لكنها أصرت، منهية أي مناقشة بوجه خشبي معرض. دخل الجهاز إلى البيت بزغرودة أطاحت بأشباح فكرت في الاستقرار مكان الجهاز الأقدم. وبخرته الحاجة، كأنه عريس على وشك الفرحة الكبرى. طالعت صورته الصافية، وألوانه البراقة، فعلا صوتها مبتهجا: «يا ما شاء الله!» لم يكن مثل تليفزيونها القديم، أو أي تليفزيون شاهدته من قبل، سواء في بيت ابنتها، أو بيت ابنة خالتها؛ تلك التي تتفاخر بأموال زوجها تاجر العطارة، والتي تشك أن حقيقته ستنكشف كتاجر للمخدرات في نهاية المسلسل!
وبعد ثلاثة أيام بالضبط، اتصلت الحاجة بابن أختها. ألسنة لهب غضبها خرجت من هاتفه لتحرق جانبا من فوده. حاول تهدئة الموقف، لكن عصبية هائلة - لم يشهدها في خالته سابقا - تحكمت وحكمت. زارها مسرعا، وحاول الفهم. إنها تزعق، وتتهم، وأحيانا تكبت الدموع، بخصوص خدعة البائع لهما. أي خدعة؟ خدعة أن هذا التليفزيون قديم. فكر الشاب بعض الشيء، متذكرا أن الجهاز كان في صندوقه، وعليه اللصق الخاص به. والمحل له اسم، وسمعة، لن يطيح بهما. ومع ذلك، فحص الجهاز، مستغلا خبرته في مجال البيع والشراء، قبل الوظيفة الحكومية، فلم يجد أي اتساخ قديم في الخطوط الرفيعة المحفورة على الجوانب ، أو تآكل في الأطراف، أو حتى غبار في الدواخل. هذا تليفزيون جديد، ولا يدعي أنه جديد. فعلى أي أساس تقول الخالة ما تقول؟!
أجابته أنها وجدت في هذا الجهاز نفس مسلسلات الجهاز السابق، ونفس برامجه، ونفس كلامه، حتى الفيلم الذي تذيعه القناة الحكومية كل أسبوع، لا يزال يذاع في نفس القناة بهذا التليفزيون أيضا! المذيع ذو السحنة المقرفة، والصوت المخنث، والشتائم الأبيحة، مستمر على كرسيه، بشكله، وصوته، وسبابه! ثم كيف تجد الأفلام كما هي؟! في التليفزيون القديم، اعتادت مشاهدة ذلك الفيلم الذي ينتهي بنور الشريف عاجزا عن إنقاذ ورشة أبيه عماد حمدي، حتى يموت الأخير. لماذا تشاهد الفيلم في هذا الجهاز، وتجد نور الشريف يفشل مجددا، وأباه يموت ثانية؟ صاحت في الشاب حاسمة، كمايسترو يختم مقطوعة أوركسترالية هائجة، أنه لا بد من إرجاع هذا التليفزيون فورا!
بعد خناقات متنوعة مع صاحب المحل وصبيانه، حاول الشاب عبرها إيجاد أي قطط فطسانة في الجهاز، نجح في استبداله بآخر أغلى، مع دفع الفرق. وبعد ليلة واحدة، عادت ألسنة اللهب لتنطلق من موبايله. لم تجد أمه بدا من زيارة أختها المتذمرة، حيث نصحتها بعدة نصائح. فكل التليفزيونات واحدة، تحب الاهتمام والمدادية؛ لذلك لا بد أن تضعه في غرفة دافئة، بعيدا عن هذه الصالة الباردة. وتبعده عن الشبابيك، فالعيون تفلق الحجر، وما لا يؤذيك، سيعكنن عليك. وتهديه مفرش كروشيه ظريفا يكلل رأسه. ولا مانع من كلمة طيبة، ولمسة حنان، وكل شيء ح يبقى تمام!
نفذت الحاجة تعليمات أختها، لكن بقي الحال على ما هو عليه، راصدة أن ذلك الضيف الذي يتكلم في برامج المساء بحديث غير مفهوم، لا يزال يخرف بلا أدنى تغيير. وأن الحكومة، الله ... يصلح حالها، كما هي من التليفزيون السابق، ترفع أسعار السلع، حتى بقي أن ترفع سعر الهواء، وركعة الصلاة، وساعة النوم.
لم تتصل بأختها، أو ابن أختها، وإنما لجأت لحلول والدتها؛ رشت حول الجهاز الماء المخلوط بالخل، فهو لا يخرب ولا يخل، ووضعت إبرة الخياطة في المقشة، حتى يرحل الضيوف الثقال بلا رجعة. وذرت الملح على التليفزيون، لعل عين الحسود لا تقربه، ويبرأ من نظرات جارتها التي رمقتها حين الدخول به من باب العمارة، وابتسمت بعيون الجاموس التي تملأ وجهها!
اشتكت لابنها المسافر خارج البلاد، فعرض عليها أن تترك هذا التليفزيون، وتأتي للعيش معه. هي تتوق لذلك، وتحلم به، لكن الولد مع زوجته وأولاده، وهي لا تريد تنغيص حياة أحد. كما أنها تكره الغربة، ولا تريد مفارقة روح زوجها، ذلك الذي لا يزورها إلا على فراشهما الدمياطي ذي خشب الزان الفاتح المزدان بالأويمة، والسيقان المنحوتة على شكل ذيل حصان.
بعد أشهر من الضيق، لم تتأقلم الحاجة مع تليفزيونها. فقط اختارت ألا تزيد من الجلوس أمامه. وباقي الوقت تقسمه بين الحديث في الهاتف مع قريبات في سنها، وتنظيف البيت دون أسباب داعية، والجلوس في الشباك لمتابعة سلوك بنات الجيران، والاستمتاع بصوت طفل جارها أثناء تدربه على ترتيل القرآن، والدعاء على جارتها ذات العيون الواسعة.
الساعات الطويلة
لم أرض برؤية التلاميذ في أول يوم دراسي يقفزون من فوق أسوار المدرسة. عليهم أن يرفعوا هذه الأسوار بعد ذلك إلى القمر. قرأت المكتوب على خلفية ميكروباص «إحنا متنا، وجايين هنا نتحاسب»، ضحكت بسرعة، ثم بعد ثانيتين أعدمت المرارة ضحكتي. حادثني صديقي عن طلبات حماة المستقبل، كي تتم زيجته المتعثرة. إنها تريد تكييفا! وما لها المروحة؟! لو فقط يتوقفون عن هذه الترهات. أوضح لي العمق الحقيقي للحفرة حينما حكى عن مسألة تفاخرها بأبناء عائلتها، ومناصبهم، ومعايرته أنه - وعائلته - لن يصمدوا أمامهم في مقارنات كهذه، مما استفزه، ودفعه لارتداء كلابظات الملاكمة، والدخول في حلبة المنافسة، متذكرا «من كان يشتغل ماذا» من أفراد عائلته، خاصة في سلك القضاء، ووزارة الداخلية، حتى تنخرس الشمطاء. أف. هذه هي الطرق المثالية للفشل في العلاقات الإنسانية. تضحك حبيبتي، بكل صفاء. تغمض عينيها عند الضحك، فأعيش حلما فردوسيا. أريد أن أشم أنفاسها، فإن فيها الحياة. أريد أن أكون الهواء الذي تتنفسه، لأصبح أنا وهي كيانا واحدا، أتلذذ بالسباحة في دمها، وأرتاح آخر المطاف في قلبها. لا والله، لست حافظا للأغاني، أو مستمعا لها. ولكن حبي حولني رغم أنفي لشاعر. ربما هذا هو الحب؛ الإعلاء والتسامي، تنشيط الجينات الخاملة. العظيم الذي يكشف العظيم بداخلك. لكن هل يدوم الحب؟ سقت نفسي بعيدا عن هذه التساؤلات السخيفة، السقيمة. أطالع لوحات كاريكاتير ابن عمي. كان معرضا موفقا. لكن يصيبني الحزن أنه لن يحقق مكسب بواب عمارتي الذي يعمل سمسارا، والذي عرفت مؤخرا (هي بالأحرى: فوجئت مؤخرا) أنه يحصد مبالغ شاهقة في أتفه بيعة يخوضها. أعزي صديقة على موت خالها. رحل بعد مرض قصير. أتذكر كلمة قريبي، شيخ الجامع المؤمن، أن المرض قبل الموت دليل على محبة الله، فإنه يخفف به من ذنوب العبد قبل حسابه في العالم الآخر. أسأل نفسي: هل سأعيش قبل أن أموت؟ وهل - إن عشت - سيرزقني الله بالمرض دليل محبته لي؟ لم أجد أي إجابات، وهرعت لمقال ناقد شهير، ألوذ به من أسئلتي الشائكة؛ كان مقالا سيئا، كله تحطيم وتهشيم، أين الإيجابي إذن؟! ثم إنه من أبجديات مقال النقد السينمائي أن تنتقد الفيلم، وليس سلوك بطله، أو حكاياته خارج العمل. أسافر إلى منتجعي المفضل. الجو هادئ، والأمواج رقيقة، لكن صورتي لا تشبهني. أستشعر سخونة زفيري أكثر من برودة شهيقي، فأقفز في بيتي مجددا، إلى أن أقرر السفر خارج هذا البلد. الغيوم الرمادية هنا صارت على أطباقنا، نأكلها بلا بديل. والسيول تغرق الطرق منذ يوم ولدت. 38 سنة وجميع الشوارع والحواري مبيعة للشتاء بعقد مزور لا أمل في كشف زيفه أو إلغائه. زهقت من الفساد الذي يطوف في الهواء، ويضربنا جميعا في كل مكان. صارت الحياة محاولة حذرة، أو غير حذرة، لعدم التعرض للرطم من تلك القطع الصلبة الطافية على نحو أعمى؛ ليصاب قلبك بإنفلوانزا حامية، لا ينتهي لها سعال أو بلغم، ولا تهبط حرارتها إلا إذا نسيتها بمسرحية كوميدية أو نكتة بذيئة. دار كل هذا في ذهني وأنا أتطلع لابتسامة طفل عمره شهور، يداعبني من وراء الكرسي الذي يواجهني في الطائرة. في عينيه فرح أبله تعودت زمان أن أراه رسالة مقدسة للأمل. رأسه الأبيض الصغير مثل نقطة في علامة تعجب، أو وجه ضاحك من انفعالات الفيسبوك الآلية. وهبت صاحبة هذا البوست وجها مماثلا، وأغلقت الفيسبوك بعد مضي ساعات طويلة، أو ربع ساعة ... لا أذكر.
السعيد
طيلة عملي في ذلك الحي، لم أسأله عن اسمه الحقيقي. الكل كان يعرفه ب «سعيد» أو «السعيد». وجهه مفرط البشاشة، وفي عينيه ابتسامة طيبة دائمة. أشعر أحيانا أنه نال بعد كفاح آلام كبرى إيمانا مطلقا حقق له الرضا الكامل. وأشعر أحيانا أخرى أنه لم، ولا، يفكر أساسا في أي ألم، متمتعا منذ صغره بهرمونات رضا زائدة. كان كائنا نادرا في جميع الحالات. لم نكن أصدقاء، لكنه تعود التردد على سايبري الصغير، والدردشة معي أكثر من ممارسة ألعاب على كومبيوتر.
سايبري الصغير هذا فتحته مؤخرا مطرح دكان ترزي مات منذ سنين، أشبه بمخابئ الحرب؛ لضيق مساحته، وانخفاض سقفه، إلى حد يكتم الأنفاس، وقبوعه تحت الرصيف بأربع درجات طويلة، ناظرا إليه كوضع مؤقت، أو سد خانة، انتظارا لرسالة؛ عبر الإيميل، الهاتف، الحمام الزاجل، أيا ما يكون. من شقيقي الذي هاجر لأمريكا منذ سنوات، كي يدعوني للعمل معه، كما طلبت منه ... ولا يجيب.
يوم الجمعة في الشتاء له هواء يذكرني باللحم السمين. هواء لذيذ الطعم، ثقيل الدسامة، به فتنة تنعشني، تدب في نفسي حبا للحياة، وتوهمني أني صديق للسعادة، رغم حصارنا - جميعا - داخل قلعة باردة تمتد أسوارها لعمق السماء. بعد العصر، كان طوفان الأولاد عاشقي لعبة «الفيفا» لم يغرق المكان بعد، لذلك نعمت بهدوء ناعم، تسلى بتحريك الباب الخشبي القديم، جيئة وذهابا، في «تزييئة» لها إيقاع أحببته كأغنية حلوة. ثم توقف الباب فجأة، فانتبهت. كان السبب أمرا لم يمس مزاجي بسوء، وإنما جهز له عرشا جديدا. فقد ظهر السعيد من وراء الباب، مطلا بوجهه الأسمر، سائلا إياي بكل البشر: «أخبار السيادة إيه؟»
جهزت الشاي، ووعدت نفسي أن أستسلم لحواره تماما هذه المرة. في كل مرة سابقة، كنت أقطع استرساله؛ إما بدخولي في موضوعات تهمني أنا، أو بقيامي لأصفع رأس طفل لا يريد ترك الكومبيوتر بعد نهاية مدته، أو بحديث شخصي يتداعى داخل رأسي، شاغلا إياي عن متابعة ما يقول بدقة. هذه المرة، أريد أن أستمتع بهذا الكائن الفريد، وأتعلم منه كيف أبتسم، أو - على الأقل - أرتوي من نبع هذه الابتسامة.
رشفة من الشاي، ويبدأ. جدته مريضة، ولا علاج لها في بلدنا. وهو لا يملك أي مال بالطبع. لكن وما المشكلة؟ السيدة تريد اللحاق بزوجها الذي سبقها إلى الآخرة منذ سنين. تجهز كفنها كمن تفصل ثوب زفافها. زوج أخته العصبي، رمى اليمين على الأخت، لسبب تافه، يتعلق بعلو صوت التليفزيون في أثناء عشائه. بكت الأخت أنهارا، ورفض طليقها دفع النفقة، ثم اختطف أولاده منها، إلخ إلخ إلخ ... وهو يرى أن الله - أولا - حرر أخته من هموم زوج جلف، وبيت متعب، وثانيا، أرجعها - من بعد طول فراق - إلى بيتها الأصلي الذي ترتاح فيه، وأهلها الذين تحبهم ويحبونها، وثالثا، فتح الباب أمامها كي تختار مجددا من هو أفضل، أو أقل سوءا!
رشفة جديدة، ويتحول للحديث عن نفسه؛ العمل، لا يوجد. لقد توقف عن عد الوظائف التي يتقدم لها عقب تخرجه، بعد وصوله للرقم 27. الزواج، انس. كيف يحاول الحلم ببيت وزوجة وأسرة، وهو لا يملك إلا معاش أبيه الذي يكفي أسرته عيشا وغموسا بالعافية؟! لم ينس السخرية، بدون ذرة مرارة، حول كونه لن يحتاج - وأسرته - أجهزة التنحيف الرياضية التي يعلنون عنها في التليفزيون.
رشفة ثالثة، طويلة وبطيئة، ثم تتسع البؤرة. إلى أين تتجه البلد؟ لا أحد يدري. الطريق غائم، وغير ممهد، وينذر بكارثة أبشع من الخيال. رجال دولتنا غير مؤهلين إلا للفساد والإفساد. والرجل الكبير نقي، دائما وطني نقي، ولكن العيب فيمن حوله. والدولة الكبرى تتآمر علينا، والدولة الصغرى تخطط نهايتنا، وباقي الدول تمص دمنا «جملة وقطاعي». لكنه - والابتسامة ملتصقة بوجهه - يقلد صوت وأسلوب حديث أحد الكتاب المنافقين، الذين يزرعون قنوات التليفزيون كذبا أقرع، في مهارة تدفعني إلى ضحك حميم لم أذقه مع أقرب وأظرف الناس .
مالت الشمس في الأفق، كفاتنة تستلقي على أريكة، لتنشر ضوءها الدافئ من وراء سحب ديسمبر، في أرجاء المخبأ، فيتوهج دهان الأستر الأحمر، ويشع المكان رغم عدم إنارتي للمبات النيون، معتمدا على الضوء الطبيعي المجاني، ذي الرومانسية المحببة. في أثناء ذلك، كان الصمت يعبرنا في مارش جنائزي قصير، بينما اقتحمت المكان دفقة ريح باردة، صفقت الباب بوقاحة، محاولة إثبات قوة لا ينكرها أحد.
أنهى شايه، ونهض وسط دائرة من الطاقة الإيجابية، وصافحني شاكرا إياي على الشاي، ثم ناصحا في تهوين، عليه أو علي: «ما تفكرش كتير؛ تعيش أطول». وضع كفيه في جيبي السويتر البني العجوز الذي يرتديه، واتجه إلى الباب، مادا عنقه للأمام، ناظرا نحو الأرض، مدندنا لحنا لم أميزه. وبينما أخفضت رأسي، كي أحكم رباط حذائي، الذي لاحظت أنه محلول، لم أكن أتصور - أبدا - أن الصوت الذي سمعته كان ارتطامة جسد «السعيد» أرضا، أمام الباب، ساقطا جثة هامدة.
الصوت المتحدث من الثلاجة
صرت شاحبا مثل دراكيولا، وأنام مثله. أبقى عاملا طوال الليل، ثم أستسلم لنوم يلتهم النهار من العاشرة صباحا حتى الثامنة مساء. نوم مؤلم يقارب الجحيم عذابا. أناس يتحدثون في أذني بلا كلل، كل أصواتهم تنويعات على صوتي. ينقرون رأسي كنقار خشب مجنون. أظن أنهم يكتبون قصصا للصغار، والكبار، ومقالات، وروايات، ثم يعدلون عليها، جملة جملة. نومي صار مصنعا لإزعاج غزير وصلب. أكاد أبكي، لكن جفاف عيني يحرمني من هذا الترف. أرى وجهي في المرآة؛ بعيون منتفخة، تخنقها هالات سوداء. أف. أشعر بانسداد في أنفي، وخشونة في حلقي. حسنا، إنها فعلة المروحة الدائرة علي طوال اليقظة وطوال العذاب/النوم سابقا. أسرع لتناول ملعقة عسل أبيض، لعلها تحارب هذه الإنفلوانزا قبل استفحالها. أفتح الكومبيوتر كالمحكوم عليه بأداء ذلك إلى ما لا نهاية، ومعه أفتح التليفزيون. لا أدري لماذا أفعل ذلك؟ ربما آلية اعتراضية في عقلي تحاول تعطيلي عما أريد فعله، ولا أفعل غيره، وهو الكتابة. لا أجد ردا على رسائلي الإلكترونية. لا أحد لديه الوقت للرد. القنوات الأرضية تذيع نفس الفيلم للمرة المليار. فيلم كوميدي نهايته ميلودرامية. نحن الأغبياء الوحيدون في العالم الذين نفعل ذلك. نضحك، ونضحك، ونضحك، ثم نتفنن في وضع نهاية مأساوية لكل هذا الضحك في النهاية. في الخارج، حيث العقول أرقى، والنظام حاكم، يفعلونها بشكل متناغم، فيبتكرون الكوميديا السوداء، إنما هنا ... الحياة سوداء، غير متناغمة. لماذا أفكر في كل شيء؟ أنا مؤسس مصنع الإزعاج، ومديره، ومستهلكه الأعظم!
أعاني هذه الأيام. شيء غير منضبط بي، على الرغم من التزامي بالصلاة مؤخرا. مثلا، أحاول الخروج من روتيني الأبدي؛ فأبحث عن ألعاب للتسلية على الإنترنت. وجدت لعبة اسمها «المدافع عن النجم». معركة طائرة مع وحوش فضائية تمتلك أسلحة متقدمة بلا حصر. هؤلاء اليابانيون مبدعون عباقرة. فماذا حدث؟ ما حدث أني بقيت ألعب، وألعب، لسبع ساعات متواصلة، حتى تخشبت يدي - لأول مرة في حياتي - على فأرة الكومبيوتر. وانعدم الدم في عروق ذراعي. وصارت وحوش اللعبة يطاردونني في كل بقعة. لقد احتلوا تفكيري، وصاروا يضربونني كلما أغلقت عيني ولو لثانية. أي أني حاولت تهدئة أعصابي بما أرهقها! حذفت اللعبة من الكومبيوتر. فإن لها إغواء شهوانيا لا أريده أن يدنس وقتي. حينما تضيع 7 ساعات يوميا، مع أعصابي، فإن ذلك ضرر يرفضه مجلس إدارة عقلي بالإجماع. ما أسوأ الجمال إن ضر، إنه هكذا ينقلب إلى قبح، وأنا لا أطيق القبح.
لاحظت مؤخرا ميلي إلى التهام الطعام على نحو مفجع. نعم، كنت رشيقا، ألعب الحديد، ولا يستغرق وقت أكلي إلا أقصر مدة وسط زملاء الجامعة، وأهل بيتي، رحمهم الله جميعا. ثم بعدها، صرت أنتقم من الحياة أكلا. وأعي بوضوح أني أشبع مرتين، أو ثلاثا، في الوجبة الواحدة؛ حتى امتد كرشي، وترهل جسدي، وإن كنت أحتفظ بالصورة الذهنية لي رشيقا طيلة الوقت. وقبيل مطالعة صورتي في أي مرآة، أو سطح عاكس، تلتصق بذهني صورتي أيام كنت جميل النحافة. العجيب أن ذلك لم يأت لي بالفتيات أبدا! على أي حال، ما يحدث هذه الأيام لم أمر به من قبل. لقد صرت وحشا؛ ألتهم الطعام بلا توقف. لم تعد هناك نقطة شبع واضحة، قريبة أو بعيدة. مرة تماديت في الغي، وانزلقت لفوهة بلا قاع، لينفتح فمي ملتهما كل شيء دون توقف. لحظتها خفت أن ألتهم مفرش المائدة، والجريدة أسفل الأطباق، والأطباق نفسها! في اللحظة اللاحقة، أشفقت على روحي، وكدت أبكي. لكن مجددا، البكاء صار صديقا لا يزورني مطلقا.
في الليل، أشعر بنوبات جوع تثور مثل ديناصور في فيلم أمريكي، يريد حشو بطنه، وإخماد شراسة جوعه بشراسة شبع. انطلقت إلى الثلاجة. جبنة رومي، جبنة بيضاء، طماطم، فلفل حار يدب الدم في رأسي بعنفوان أحبه، بيضة مسلوقة قديمة، بقايا حلة محشي الأمس وصينية بطاطس اليوم، يكفي هذا. حين إرجاع الباقي للثلاجة، نما إلى مسامعي صوت دقات من الرف العلوي؛ دقات متوازنة لها إيقاع واحد لا يتغير. خمنت أنه الطبق الألومنيوم العجوز، الذي كان في جهاز أمي. طبق قاعه نصف كروي، يحب المرجحة خاصة إذا ما وجد نفسه على سطح مستو، ويبدو أن اهتزاز الأرفف البلاستيكية منحه هذه المتعة. لكني لاحظت بعد شيء من التدقيق، أن الطبق ليس في الرف الأخير، ولا في الثلاجة كلها. من أين يصدر هذا الصوت إذن؟! ليس من خلفية الثلاجة. أنا متعود على زعلها، ومرضها، وأحفظ أصواتهما. هذا الصوت لا ينتمي لهذا أو لذاك، فما سببه؟ وسط تحيري سكن الصوت، لأزداد حيرة! هل أتخيل أمورا لا وجود لها؟! تذكرت مرة حينما كنت طفلا، ولمحت فأرا أسود ضخما يجري من أسفل أريكة الصالة، إلى أسفل الثلاجة المجاورة لها. وكيف تجمدت واقفا لما لم أحسب وقته. وكيف - أيضا - أقنعت نفسي أن ما شاهدته كان وهما، إلى أن شاهدته ثانية يهرب من تحت كرسي الشرفة إلى سورها. حسنا، هذه المرة لن أقع في هذا الخطأ؛ ما أسمعه واقع لا مراء فيه، وسأكتشف هذا الصوت عاجلا ... أو ... هه؟ ثانية واحدة. ثمة صوت غريب نطق الآن «آجلا» بدلا مني! لا يوجد داخل جدران شقتي الخرساء غيري. أنا لست مريضا وأتصور ما لا وجود له. وعيي يقظ جدا، ومخي حام دائما. إنها المشكلة الكبرى التي أقاسيها عمري، ولم يفلح معها أي استرخاء مسكين. لقد جربت فتح فيديوهات اليوتيوب التي تحمل ساعات من صوت خرير الماء، وأمواج البحر، وانهمار المطر؛ لكن لم يفلح معي أي منها. لطالما كنت أقتل استرخائي بأسئلة حول الناس الذين يمشون تحت هذا المطر، وأين تم تسجيل ذلك، ناهيك أن صوت الماء يثير عندي رغبة في التبول، وكيف يشعرني هدير البحر أن ثمة طوفانا قادما سيبتلع البيت والعمارة والحي.
قطع تفكيري الرذيل هذا صوت لرجل يبلغني ألا أتفاجأ. كان في نبرته ابتسامة مرحة، ودعوة للاطمئنان والثقة. دعاني الصوت إلى الاستماع إليه دون ذعر، فهي تجربة علمية جديدة - لم أدر له أم لأحد يعرفه - تقوم على التواصل مع بعضنا عبر الثلاجات. انبهرت كمن شهد نافذته مكسورة الشيش تتحول إلى غادة حسناء، أو جدرانه الكالحة تتحول إلى أشجار ناضرة، أو بلاط أرضيته الميت يتحول إلى رمال شاطئية رطبة، تقبلها أمواج حثيثة ثم تجري مبتعدة، لتقترب مقبلة إياها من جديد. كان كلامه مثيرا، وعرضه مغريا. اليوم الناس تتواصل في بيوتها بالبريد الإلكتروني والفيسبوك والواتس آب، وجميعها أكرهه بعنف. لكن هذه طريقة مبتكرة. استحليت الأمر كمكعب سكر من هذه المكعبات التي كنت أهنأ بأكلها طفلا عند خالتي، حتى تصفني ب «حرامي السكر». كم من السكر أكلت، يااااه. الآن لو فعلتها لعلا مستوى السكر في دمي، ورحت بلاش. يا أيها الصوت الغريب، من أنت؟!
جاوبني بأريحية، معرفا نفسه. إنه «محفوظ»، رجل من عائلة ميسورة الحال، ورث أرضا زراعية شاسعة، يتغذى من إيجارها المنتفخ سنويا. لم يحتج للعمل طيلة حياته، رغم تخرجه في كلية عليا. قدمت له نفسي، متذكرا صفحات من ملخص السيرة الذاتية، الذي يسمونه - لا أعلم لماذا -
CV ، والذي أضيف له كل أسبوع سطرا، خاصا بمقالة أو قصة صدرت لي. وحكيت له، كما لم أحك مع خطيبتي المزعومة، عما أحب وعما أكره. برامجي المفضلة وأفلامي المقدسة. في التجربة لطف تشعلقت فيه بجذل وإصرار. دق قلبي حنينا. ذكرتني نبرة صوته بصديقي العزيز الذي اعتزلني. لم تكن تشبهها، لكنها أعادتني إلى مساحة ألفة وصراحة جمعتنا معا، ثم تاهت في نفق السنين ذي الاتجاه الواحد. شعاع البرودة الخارج من الثلاجة لطف المكان كتكييف رقيق. ورغم علمي جيدا أن فتح الثلاجة لأكثر من اللازم يؤدي إلى مشاكل؛ من أول تسرب غاز الفريون إلى اتساع ثقب الأوزون، فإني لم أهتم. نقدت حذري مبلغا، وأرسلته لشراء سجائر من المريخ، وذابت كل همومي في ابتسامة عانقت شفتي من بعد فراق دام لشهور وشهور وشهور. •••
صار أول ما يعطر وجودي فور القيام من النوم هو التواصل مع «محفوظ»، والاطمئنان عليه، وتبادل الحواديت معه، وسماع قفشاته التي تضحكني. الضحكات كانت حلوى شحيحة جدا، لم أجدها في أي سوق منذ طفولتي تقريبا. ثم جاء صاحب الصوت ومنحني إياها بغزارة. كيف عرف نوعية المفارقات اللفظية التي أعشقها؟ مثل دعائه على من يستهجن، من أول المسئولين إلى الفنانين: «الله يهديهم ... ويهدهم» أو «ربنا يكرمهم ... ويأخذهم»! أحببت صوته العميق الوقور الذي تمازجه أحيانا حشرجة ما فتكسبه بساطة وطرافة. ومع تحول حديثه للتهريج يغلي إيقاعه، قاطعا المسافة من البطء للسرعة في تتابع خاطف تفتنني جاذبيته. بهرني ذكاؤه في إلقاء الإفيه. حينما تسمعه تظنه شيخا رصينا يلقي خطبة جمعة، ولكن ما يلبث أن يفاجئك بجملة راقصة السخرية، غنية الإضحاك. إنها مفارقة متقنة وفريدة، أجبرتني على الاشتياق إلى خفة دمه أكثر من أي نجم للهزل عرفته في الفن أو خارجه. وبدلا من تناول عشائي أمام مسرحية كوميدية في التليفزيون، أو فيلم أكشن على الكومبيوتر، أو مسلسل كلاسيكي على اليوتيوب، أتيت بالمائدة البلاستيكية ذات العجل، ورسوت بها أمام الثلاجة، غير عابئ إن أطارت برودتها سخونة عشائي، المهم هو لقائي مع «محفوظ»، وارتوائي من سمره. كان رجلا لذيذا بحق، رغم كراهية أستاذي في الجامعة لاستخدام صفة «لذيذ» لأي شيء غير الطعام، أو الفاكهة، أو الحلوى، مؤمنا بأن استخدامها مع البشر - مع الإفراط فيه - دليل تغلغل للمادية في العلاقات الإنسانية على نحو خطير ومرفوض. سحقا لأستاذ الجامعة. كان باردا، ثقيل الظل، بلا مذاق . من يحب هذه الشخصيات، أو يشتاق إليها؟! يحكي لي عن أساتذته، وكيف كانوا يعاكسون زميلاته، بتلميحات عابرة أو بتصريحات وقحة. أحب الإطالة في أي موضوع رائحته شهوانية، وإطلاق النكات الجنسية بغزارة، مع تعمد وصف الآخرين بعوارتهم، أو بشتائم تمسها. تذكرت خالتي العزيزة، وكيف كانت تستعمل عبارات مثل «كبير المؤخرة» لوصف ضيف ثقيل الحضور لا يريد المغادرة. هذا في أحيان نادرة كانت ترفضها رقابتي بالطبع. لكن هنا الأمر يختلف. تعبيراته كانت مسرحية وضيعة التجارية، منطلقة البذاءة، لا تنتهي. وأنا أمقت ذلك. تحول رد فعلي مع الوقت من ابتسامة مجاملة، إلى ربع ابتسامة، إلى تجهم صرف. رأى ذلك كله في نبرة صوتي. وحينما يستمتع بما أكره، أستأذنه في غلق الثلاجة، لأن برودتها جثمت على صدري. هل يفهم ما أقصد؟ لا أظن؛ لأنه يعود إلى سلوكه - كما هو - في المرة التالية، ومن قبلها، أعود أنا إليه.
صوته مألوف جدا. أظل أفكر، وأتحرى؛ من في حياتي امتلك نبرة كهذه؟! أحب تمضية الوقت في تذكر شيء نسيته. أظنها محاولة للفخر بقدراتي الذهنية، أو الحفاظ عليها نشيطة. مرة بقيت ساعتين على فراشي، محاولا تذكر اسم فيلم غنائي قديم. كنت أذكر كل ما فيه، عدا اسمه. لم يكن وقتها هناك إنترنت، ولا ساعتها شخص متيقظ يجيب عن تساؤلي، ولا بجواري كتاب يطفئ ناري. وبعد الساعتين، تذكرت اسمه: «السعد وعد»، وكان له عنوان فرعي يتبعه دوما «محدش واخد منها حاجة». من قال إنه لا أحد ينال منها شيئا؟! إنه الحب يا سادة. هذا إن كان حقيقيا. حب الإنسان لربه، ونفسه، وغيره. إنه العمل الصالح الذي يجعل للكفن جيوبا تحمل ما سيشفع لنا في العالم الآخر. لكن يبدو أني أدركت هذا متأخرا ... بعد الأربعين. تعودت في كل علاقة إنسانية أن آخذ فقط، أمتص خير الآخرين، أو الآخرين أنفسهم. لم أعتد أن أرد على الخير بمثله. زهق صديقي السابق مني، ومن عدم تقديري لحبه. يقرضني كتابا، ولا أقرضه جريدة. يعزمني على غداء، ولا أعزمه على بونبوني. يتصل بي في عيد ، ولا أتصل به إلا لأحكي عن ضياع أعيادي. بئس الأفعال وساءت مرتفقا. لم يكن بخلا، وإنما غباء فهمته بعد وفاة الأوان. لكن فلندع الماضي يذبل؛ لن أسقيه ولو بزيارة واحدة. يؤكد صاحب الصوت ذلك، ويقص لي حكاية فتاة عرفها، وأحبها، وهجرته، ثم إدراكه المتأخر أنه السبب. كان يتكلم أكثر مما يفعل. الحب عنده كلمة يهمسها برقة بالغة، لكن لا يبدلها في أي يوم أو ليلة إلى فعل. أمضى الوقت متلذذا ببريق عينيها، ولمسة يديها. حاول أن يتلذذ بما هو أكثر من ذلك، لكنها لم تسمح له. الآن يحاول البحث عن مذاقها وسط تلال الفتيات اللائي يقضي معهن وقته. فلا يجد إلا سرابا أكد لي أنه ينتظره، ويسعى وراءه بكل تصميم. ورغم إخباره لي أنه يضع روبا صوفيا على كتفيه، فإنه اشتكى من «سقعة» ثلاجته، متعللا بذلك كي ينهي الجلسة. بينما أحسست في صوته باختناق بعيد، يتنكر كصخرة صلدة.
اكتشفت مرة أن تغييري للمبة الثلاجة بأخرى أقوى منها زاد من وضوح الصوت. ورغم ذلك لم أسمع أي أصوات مميزة حوله، كأنه يتحدث في غرفة مصمتة. ربما وصلت إليه زقزقة عصافير شارعي، أو جانب من موسيقى مذياعي، أو حتى خطوات الصاعدين والهابطين على سلم عمارتي من وراء باب الشقة؛ الذي يفصل بينه وبين الثلاجة متر واحد. الحق أني لم أخبره بمسألة اللمبة، ولم يخبرني هو ما إذا كان أحس باختلاف كما أحسست. مساحة الحذر بين الأصدقاء من جديد. وهي نفس المساحة التي فرضناها من البداية. فلا تبادل لأرقام الهواتف، أو معلومات عن مكان السكن، أو حتى وصف للشكل. ربما يكون هذا مطلب مثل مطالب ما يدعونها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تدعوك لتسجيل معلومات معينة، قد يكذب أصحابها في أعمارهم، وجنسياتهم، بل جنسهم ذاته! في زمن آخر كان الضيق سيحوم حولي بخصوص مساحة الحذر هذه، ويدعوني لتجاوزها. لكن في زمننا العليل هذا، أعجبت بهذه المطالب. ليس لما فيها من غموض قد يمنحك قدرة على الكذب، أو متعة في التخيل، وإنما لأنها تحتفظ لك بخصوصية ، وبدون الصورة يرجع الكذب إلى أيام براءته، أيام كان الصدق لا يزال بصحته وسطوته، له وجود وأتباع، والهرب منه صعب أو غير مستحب.
أقلقتني مسألة انحلاله الأخلاقي. هذه الكلمة نفسها كانت تثير الضحك وسط زملاء الجامعة، مثل قنبلة تفجر الكل ضحكا. لماذا رأى هؤلاء الجهلة الأغبياء أن اللغة العربية أمر يستحق الهزء؟ ليس ذنبي أنكم مشوهون. قدوتكم في الحياة سلطان السكري من مسرحية العيال كبرت. فاشل مسطول مبسوط دائما، يسخر من كل إنسان حتى نفسه، دون أي نية للانصلاح. أنتم النكتة وليس لغتي، لكنها نكتة محزنة للغاية. على أي حال، ذلك أحزنني بالأمس، ومن رحمة الله أن الأمس مضى. ما يحزنني اليوم هو علاقاته النسائية المتعددة؛ صديق الثلاجة يروي عن مغامراته مع نساء الليل والنهار بشكل يقززني، بل يؤلمني. نعم، أعرف، جيدا، جدا، أن لكل إنسان أخطاء، ولا أحد كامل، وأن الله هو الذي يحاسب ... وإلى آخر محفوظات الحرية التي لا بد أن يلتزم بها الناضجون. لكن هذه خطايا وليست أخطاء. وأنا أحب «محفوظ». صرت أشتاق إليه، وأطمئن إلى حواره، وأحفظ كلامه، وأشعر بأشجانه. حينما نحب، يسكننا من نحب، ونسكنه. يصبح الخوف عليه واجبا كالخوف على روحك تماما. والانزلاق في الخطيئة على إغوائه مخيف، يوسخ البيت بنجاسة هادمة. لا بركة في عيش نحصد به غضب الله. بالأحرى، لا عيش مع غضب الله، وإنما عمر أغلبه يابس، ثم موت نلاقي فيه أسوأ ما يمكن أن نصنعه؛ أبدية من العذاب. أعرف أن ترديد ما أقول أمام 90٪ ممن أعرفهم سيؤدي، أو يودي، إلى رد فعل زملاء الجامعة إياه. لا أعلم لماذا صارت الجدية، أو لعلها الحقيقة، كوميدية هكذا. ربما لأن عالم الجهل حاكم، وهواء الكذب ممتع، وسيقهرنا اليأس إذا ما حاولنا إصلاح كون من الفوضى، أو تشييد نظام وسط أطلال. إذن لا حل إلا في الحياة والتلذذ. أما رضا الرب ... فشاق. سنستغفر في الوقت المناسب الذي لن يجيء أبدا، وسنحاول إخراج نقود للغلابة أحيانا، وترحمات ندمائنا علينا بعد موتنا ستتكفل بالباقي.
طاردتني فكرة مواجهته برأيي، لكن تجمد لساني في حلقي. فعلتها سابقا وخسرت من أحب، وأنا لا أريد خسارته. إنه ما تبقى لي من كل هذا الزمان. إلى من سأتكلم، وأنصت إليه، بعد ذلك؟ سيقيدني الصمت، ويرميني في زنزانة غرفتي، ليجلدني الشتاء الدائم. قلت حسنا، سأرمي وسط حديثي النصيحة كنكتة، ولا مانع من إضفاء بعض السكر على نبرتي ساعتها. ولما فعلت ... صمت كأب شتمه ابنه. داس على صدري الخوف. لكن بعد لحظات، عبرتني مثل سنة، ضحك راميا عبارات مثل: «هو انت جاي تربيني؟!» تنفست الصعداء، رغم أني أكره هذا التعبير، واستأذنته في خطف طبق بامية طبختها، وتصادف أنها شهية، كي أعيد تسخينه، طالبا منه انتظاري، ففعل مغنيا: «أنا مالي ... أنا في حالي ... سيبوني في وحدتي ديا ... أنام خالي ... وأقوم خالي ... ولا فرحة عزول فيا ...» كانت أغنية عتيقة لعبده السروجي، لا أدري لماذا تسلى بها في أثناء غيابي.
حين عودتي، وتغميس البامية خلال حوارنا، صدمني بجملة قالها ... جملة نالت من كرامتي. كان يسخر من وحدتي، وكيف أنه - على عكسي - يلمس ويعتصر، يتشمم ويحتضن، يلثم ويضاجع. توقفت عن الأكل، حزينا من كلمته أكثر من حزني على وحدتي. اشتبهت في مراهقة مقيتة دفعته أن يرد لي التدخل في تفاصيل حياته الشخصية، بتدخل في تفاصيل حياتي الشخصية. هناك قواعد سنها العرف بين الأصحاب. تكلم، وتدخل، لكن هناك أمورا، وأفعالا، وأماكن، لا يدخلها الحوار. ربما في علاقات ولحظات وشخصيات استثنائية. لكن في علاقاتي، وكل من عرفتهم، لا. معظم أبناء الطبقة المتوسطة لهم عادات وتقاليد قديمة لكن فعالة. أومن بها عن اقتناع، وأمارسها بحرص. هنا حدث تجاوز لما نسميه الخط الأحمر. دفعت أول ما دفعت بتقبل الآخر، ذلك الذي يكملك ولا يشبهك. لكني رفضت أن تكملني هذه البذاءة، فهي لا تنتمي إلي. أغلقت باب الثلاجة مرة واحدة. وظللت واقفا بشفة مال طرفها لأسفل كأنما أثقلها قفل أوصدته. شعلة من سواد تتأجج في قلبي، وتخرج محتلة المكان من حولي. أهرع لفعل أي شيء، أي شيء، إلا فتح الثلاجة مجددا ، وتركت طبق البامية على المنضدة وجبة هانئة لأي ذباب أو نمل. •••
مرت أيام وأيام لا أحادثه فيها. حسنا، كان ألما قاسيا. لم أعلم أكان هو صاحبه، أم كرامتي، أم واقعي، أم ماذا بالضبط؟ تعجبت من كون كلمة «عذاب» قريبة من كلمة «عذب». المسافة بين الحزن والسعادة تكون بحذف حرف. الحذف مفيد إذن. لما سألوا روبرت دي نيرو، الممثل الأمريكي الكبير، ما نصيحتك لكل الشباب الذين يريدون العمل في مجال التمثيل، رد بثلاثة كلمات فقط
Less is More ، أو الأقل أفضل. التخلص من الدهون فيه كل المنافع للجسم. ترشيد التفكير طريق مضمون للراحة. فهل الدرس المستفاد، يا سيدي المتعقل الحكيم، أن أحذفه من حياتي؟ لقد فتحت الثلاجة مرارا طيلة الفترة السابقة، ولم أحاول أن أدعوه للحديث، أو حتى أوجه له التحية. مرة حياني، ولم أرد. ثم اختفى صوته بعدها. أنا لا أريد أن أفقده. تبا للكرامة. أين سمعت جملة «لا كرامة في الحب»؟ هل قالها أحد أمامي فعلا، أم أن الجعان يحلم بسوق العيش؟ سأتفرغ لإنهاء المقالتين المطلوبتين، وليذهب الكون بأسره إلى الجحيم بعدها.
بلل وسادتي طرف من دموعي. وحين قمت من النوم، كنت سأفتح الثلاجة على نحو بديهي كي ألقي عليه التحية؛ لعله متيقظ، أو لم ينم من الأمس. لكني تنبهت محولا اتجاهي للحمام. وبينما كنت أغسل أسناني، رددت اسم حبيبتي القديمة. كنت أستخدمه كتميمة حظ، أنطقه كي يبعد عني الأرواح الشريرة، والأفكار المرهقة، والذكريات السيئة تلك التي تطاردني بإخلاص الظل، وضراوة كلب مسعور. أحببت صوتي حينما يردد اسمها. يبث في اطمئنانا أعجب له. إنه اطمئنان حقيقي، رغم يقيني أنها ليست هنا لتداوي جروحي. لكن لاسمها مفعول سحري غامض ...
دخلت على الفيسبوك، فتحت صفحتها، تطلعت إلى صورتها. الحمد لله أننا لم نتزوج. بعد 15 سنة انقلب شكلها إلى إنسانة أخرى، يذوب الضمور في نضارتها، وينخر العجز ابتسامتها. أقول لنفسي ربما لو دامت العلاقة لكنت أراها الآن أجمل البشر. لا أعرف. ولم أتعود تخيل مصائر البشر خارج قصصي. انقلبت صورتها إلى نيجاتيف شبحي، ومللت من التسلل إلى صفحتها، سانا قانونا يحظر فعل ذلك إلى يوم الممات. وبينما يجتاحني سكون مرعب، شفط الأصوات كلها من جسمي وشارعي وسمائي، قررت - وبكاء عظيم يضطرم بين ضلوعي، مستعدا لإحالة عيني إلى بركان - أن أفتح الثلاجة وأحكي له عن وحدتي. لعله يجبر روحي الكسيرة، ويجبر بخاطري الذليل.
استقبلني بترحاب اعتبرته أسفا مشبعا، ووقعت أرضا، أحكي وأبكي ... وهو يفسح لي المجال، كي أخرج الأحجار التي أنتجها قلبي طيلة عشرين سنة سابقة. تخلصت من كل مساجيني. ذكرى ابنة عمتي التي أحببتها ولم تحبني. ذكرى ابنة الجيران الشقراء التي انتقلت إلى حيث لا أعلم. ذكرى زميلة العمل التي مزقني حبها، ورفضتني لأنها تريد الأغنى. وحبيبتي التي لم أنجح في الفوز بها، واتهمتني بالتقصير. من قال إني مقصر أو متواكل أو أي شخص من هذا القبيل الأحمق؟! أنا إنسان عبقري. أعظم من قابلت. إذا أردت فعل شيء فلا بد أن أفعله على نحو صحيح، كامل الصحة أو يقارب ذلك. إذا أردت كتابة مقال عن السد العالي، أقرأ لمن يمجده، ومن يراه وبالا، ثم أعلن وجهة نظري على وسادة حريرية وثيرة من العلم والمعرفة. إذا أردت أن أذكر جملة لسعد زغلول في قصة، ينتهي بي الحال إلى قراءة كل كراسات مذكراته، ثم أكتب بعدها ذلك السطر الذي كنت أبحث عن إجادته. إذا أردت كتابة عمل يدور عن حرب أكتوبر، أبحث عن جميع روايات أدب الحرب، وكل ما كتب عن الحرب بأنواعها العسكرية والسياسية والنفسية، والجرائد والمجلات المتوافرة من تلك الفترة، لأقتني وأقرأ وأحلل، وأصل إلى أفكار وألفاظ بل إيقاع المرحلة، ثم أكتب ذلك العمل، أو لا أكتبه. هذا أنا، وهذه هي شخصيتي. أرادت هي بيتا، وأردت أنا أيضا. لكن لا بد أن يكون كل شيء كما ينبغي. مشروع الزواج يحتاج إلى أساسيات، وكماليات، بل تأمينات للغد صممت أن أحققها على نحو كامل الصحة أو يقارب ذلك. لكن ... إمكانياتي المادية وقفت عائقا. عند تخطيطي للمشروع، وجدت عوائق ستمنع ذلك. تراجعت ... أهملت الحلم ... تركته يغيم ... تتراكم عليه فضلات التجاهل. يا قوم، مبدئي واضح ... إما أن أفعلها بشكل صحيح، أو لا أفعلها. واخترت الثانية. لم تفهم ذلك، فرحلت، ولا ألومها. أمسحها بأستيكة من على قلبي إن ارتسمت عليه في لحظة ما متمردة. هذه هي حكايتي. فلا تذلني بعاهراتك يا صديق الثلاجة الغامض. لست في حاجة لمن يهين رجولتي، أو يسبني بالنقصان. نعم، أنا وحيد، وقد أبقى هكذا. لكني لا أريد قضاء المسافة إلى القبر في قبر آخر من التقطيم. سأغرق شجوني في قصصي، وأنفي الوقت في مقالاتي، ولا أريد دموعا علي أو - لاحظ - ضحكات علي، من أي أحد قريب أو بعيد.
طبطب علي بصوت يعافر كآبته، واعتذر لي كمن يستغفر. بينما اعتقلني بكاء غزير، قهر كرامتي، ثم رفعها في شموخ من جديد. •••
بعدها، تباعد حضوره أو حضوري. اهترأت العلاقة كالثوب الذي يقدم. لم أتفاجأ؛ فهي سنة العلاقات في عصرنا. صحيح أن علاقتنا كانت مختلفة، لكن العصر الذي نعيشه واحد، وغالب. أنت ملعون بالعصر الذي تولد فيه، ولا يمكنك اختراقه للوراء لتعيش الماضي الأقل قبحا.
تنهدت في ألم حار لما عدت إلى تناول الفيتامين الذي كتبه لي الطبيب كي يوفر لي قدرا من العمق في أثناء النوم. لم يكن بدواء ناجح كل النجاح، إلى جانب أنه - في الوقت ذاته - فاتح شهية؛ مما سيعيد فتح أبواب شهيتي على مصاريعها، لينطلق طوفان جوعي مجددا، مكتسحا الموائد، ومدمرا قوامي، ومغرقا أملي في التحسن. علاقتي ب «محفوظ» أبعدتني عن هذا الدواء. تزاوج حديثه مع معدتي فأنتج شبعا من نوع غريب. لماذا خلقنا الله نتوق إلى وليف، ولماذا لم يجعلنا نسخة قوية من روبنسون كروزو؛ شخص قادر على قضاء حياته كلها فوق جزيرة يعمرها وحده دون أي إنسان معه؟! أجبت هذه الأسئلة مئات المرات في قصص كتبتها للأطفال، ولا زلت - رغم ذلك - أسألها في عناد ومرارة وتعب. الاتزان العاطفي نعمة. قد يحنو القدر عليك، ويضعها في طريقك، أو لا يحنو. وإذا لم يحن ... فأتمنى أن يرحمني من منطقة التفكير في رأسي، ويأمرها أن تحنو هي علي. إنها تطرح فيروسات الشك بخصوبة. فيروسات مزمنة الإلحاح، خبيثة الموهبة، تعرقلني في أسئلة مثل هل كان «محفوظ» صادقا معي؟ هل ابتكر هذه المغامرات النسائية كي يدفع عنه حقيقة كونه وحيدا مثلي، وربما خجولا لم يكلم فتاة في حياته؟ لا أدري. قد يكون ذلك حقيقة، أو محض وهم. طيب، هل كانت تجربة التواصل عبر الثلاجات لدراسة شخصيتي؟ هل هناك مكتب ما يفعل ذلك معي، ومع غيري، بهدف التسلل إلى حيوات مواطنين بعينهم، أو حتى على نحو عشوائي، لدراسة طبقات اجتماعية محددة؟ كنست هذه الأفكار بسرعة. بعضها وقع من بارانويا أنا أكثر عقلانية من المشي وراءها، وبعضها طار من انفجارات فيلم عن شرير يريد السيطرة على العالم ... ولو أن العالم شرير بالفعل، ومسيطر عليه إلى حد. أضحك متهكما إذا ما سمعت شاعرا - دائما ما يكون شاعرا - يهذي في رومانتيكية قائلا إن المشاعر هي الصدق الوحيد في أي زمان. لكن هناك أصابع خفية تكون وعي من تظنهم صادقين أيها الأبله. تشكلهم كما الصلصال كي يشتروا سلعهم، ويتغذوا على ثقافتهم، ويؤمنوا بما يبغونه من أفكار، ويمارسوا ما يريدونه من فساد. المشاعر أراجوز في سيرك عالمي ... فهل كنت من مرتادي هذا السيرك، وهل تلاعب «محفوظ» بي كما يتلاعب البهلوان بالكرات؟ إن أفكاري لا تتوقف عن الكلام، وتلقي في طريقي بنقر وحفر، ملاحظة مثلا أن لثغة «محفوظ» في حرف الراء مماثلة للثغتي في نفس الحرف، والاسم الثنائي لمستأجر أرضه الزراعية هو ذاته الاسم الثنائي لموظف البنك الذي يسلمني أرباح وديعتي البنكية. لك أن تتخيل أنها أخرجت فيلما قصيرا قابلت فيه «محفوظ» في المنام، ووجدته يشبه صورة لي بجوار بحر مطروح منذ ربع قرن؛ بنفس القميص التركواز المفتوح، والنظارة الشمسية الخضراء العدسات، الذهبية الإطار، التي استعرتها من ابن خالي. لا يا أفكاري السخيفة، أنا لست بمختل. حلي عني الله يبارك لك. انشغلي بهواية كالصمت مثلا. ابتلعي طنا من سد الحنك. اذهبي وراء الشمس، أو في رحلة استكشافية للعالم الآخر. أصدري قرارا بمصادرتك، أو حكما شرعيا بتحريمك . دعي الحية تلوشك، والعو يلهفك، والقبر يلمك. غوري في 60 ألف داهية سوداء، أو أي لون أغمق من الأسود!
علاقات محرمة
جرت علاقة غير شرعية بين كلمة
beauty center ، وترجمتها بالعربية «مركز تجميل»؛ فأثمرت ابن سفاح اسمه «بيوتي سنتر». هذا الولد نشأ فاسدا، وأباح بيته للعلاقات المشبوهة. وفي ليلة هناك، دارت علاقة بين زومبي وبلاطة بيضاء أثمرت عرائس آية في الدمامة، وجوههن أكثر بياضا من شحوب الموتى، يلطخن عدسات التصوير، وهواء المدينة، ومخيلة العزاب. فر المستقبل منهن، لكن بغباء، إلى الماضي، وسقط كلاهما - أستغفر الله العظيم - في الفاحشة، مما أثمر كائنا مشوها، يلازم ظلالنا جميعا، ويتسلل إلينا خلال نومنا في الظلام، كي يعقرنا؛ فتتجمد أفكارنا، وتعقم أحلامنا. ... متى ستعود إلى مجتمعنا أخلاق رفض العلاقات المحرمة؟!
الزائدة
نمت تحت عيني اليسرى زائدة جلدية رفيعة، طالت بسرعة، فارضة نفسها علي؛ خاصة عند جلوسي على الكومبيوتر للقراءة أو الكتابة. لمرات عديدة، قفشت نفسي أداعبها عبر إبهام وسبابة يدي اليسرى، تسليا عند مشاهدة عمل فني، أو حين الانغماس في التفكير بأمر ما. إنه بديل لحركات مماثلة اعتزلتها، كتمرير باطن أظافري على شعيرات ذقني، أو تمزيق شفتي السفلى بأنيابي العليا، أو هز ساقي، أو هرش حواجبي ... إلخ. بمرور الأيام، طالت الزائدة أكثر حتى قاربت السنتيمتر طولا، وصارت ملحوظة للكل. تمتد مرتفعة في الفراغ، مثل ذراع في وضع دعاء، أو هتاف. بدأ إصرارها على الظهور أمام عيني يضايقني. غيرها ظهر واختفى بعد قليل، لكن هذه متقدمة في الطول والعمر. جربت مرهما نصحني صديق به. وبعد أسبوع أو 10 أيام، لم يحدث أي شيء. بل شككت أنها زادت طولا وسماكة أيضا! ما هذا الاستفزاز؟! لقد تحولت إلى جار سوء، لا يريد الرحيل، ولا تأخذه مصيبة! ذهبت إلى الطبيب في المستشفى الحكومي. الرجل ذاهل. دائما ذاهل. يفتح عينيه إلى آخرهما، وينظر إليك مليا، في صمت ثقيل، كأنما يتهمك بجريمة هو شاهدها الأول، ويحاول تهديدك بألعاب نفسية حتى تعترف. ما علينا، حكيت له الأمر بلهجتي الطفولية المسرعة، فنظر وصمت، حتى ظننت أنه غاب عنا، ثم سألني معاتبا: «وما قصتهاش ليه؟!» قالها بنبرة أستاذ يلوم تلميذه على عدم عمل الواجب. هل هذا الرجل طبيب بالفعل؟! سكنني الشك مؤخرا حول كون أصحاب المهن متخصصين فيها. فنحن - كما تعرف عز المعرفة - أصبحنا نعيش عالما مقلوبا، لا أحد فيه يعمل بتخصصه؛ خريج التجارة يعمل في سواقة الميكروباص، وخريج الآداب يعمل في الزراعة، وخريج الشرطة يعمل في الإعلام، وخريج الحقوق يعمل في التجارة. أعلنت استغرابي كله، وناولته واحدة من نظراته الصامتة. صحيح كانت نسخة مختصرة، لكنها أمتعتني. كتب لي بخاخا كمن يطرد بائعا لحوحا على باب بيته. جربت هذا البخاخ لشهر، شهرين. قصرت الزائدة كأنما قصت ظفرها، وأعتقد أنها عوضت ما فقدته حينما توقفت عن استعمال بخاخ د. «برق» هذا. طالبتني أمي أن أزور عيادة متخصصة في الأمراض الجلدية نالت احترام ومحبة الكل، ولم يسمع أحد عن فشلها في معالجة أي حالة من قبل. سجلت الأمر في أجندة المواعيد، ثم اختفت الأجندة. سجلت في جانب رأسي فكرة كتابتها من جديد، ثم اختفى هذا الجانب. مرت أسابيع متشابهة لم أحصها، ثم اكتشفت - في لحظة ما - أن مرأى الزائدة في مرآتي لم يعد غريبا. وجودها لم يعد يمثل لي مشكلة، أو يشغل بالي من الأساس. بالي منشغل بكل ما هو أهم؛ تصليح الصنبور الذي لطالما ينقط، توبيخ البواب على عدم مسح السلم، مراسلة شركات بالخارج كي تمنحني فرصة سفر، ادخار مبلغ يثمر أملا في أن أشتري ولو كوخا طيبا للزواج الذي تأخر كثيرا، محاولة العثور على جزار مأمون اللحم، أمين الميزان، وبطاطس غير مرشوشة، والنص الأصلي لقصة الشاطر حسن؛ كي أعرف أي الطرق اختار ... السلامة، أم الندامة، أم اللي يروح ما يرجعشي. انصرفت عن مداعبتي للزائدة إلى تمرير أصبعي على نتوء بالكرسي البلاستيكي الذي أجلس عليه، وذاب حضورها وسط مفردات العالم الذي أعيش فيه. باختصار، تعودت على الزائدة، وتعود الناس عليها، حتى أكرمتها ذات صباح، تراقصت فيه سحب الرضا فوق رأسي، مدشنا حقيقة كونها ليست بزائدة، وإنما جزء أصيل مني . والآن حينما تسألني أمي، بلهجة استهجان وعرة، متى ستذهب إلى العيادة الجلدية إياها؟! أنظر إليها وفي عيني ابتسامة ناعمة، كسولا عن أي رد.
اللمسة
في صباح جميل، يكفي أن نوره وصل إلى قلبي وأنعش نبضاتي، صادفت على الرصيف زهرة بيضاء خلابة، كأن الهواء قطفها وطار بها إلى هنا، أو سقطت من بوكيه متجه إلى محب محظوظ. ضخت الفرحة دماء راقصة في عروقي، مؤمنا أن الله أهداني هذه الزهرة. ولما دنوت منها، ولمستها، تحولت إلى زهرة بلاستيكية.
في الطريق، اشتريت أصيصا ممتلئا بالطين. وبمجرد وصولي إلى المنزل، وضعت الزهرة في الأصيص، واخترت لها موقعا في شرفتي الواسعة، تواجهه الشمس يوميا، بين العاشرة والحادية عشرة صباحا، ساقيا إياها بإخلاص.
خلال أسابيع معدودة، علت ساق الزهرة سامقة، طارحة زهورا بلاستيكية ملونة، لكن صامتة، سميكة، تلمع ببرود، ولا عبير فيها، وإنما رائحة شبه كريهة تقارب رائحة ورقة سلوفان اقتربت من النار، أو مدفأة صينية رخيصة تعمل بالكهرباء.
فاحت رائحة الزهور غائرة، تسربت من الشرفة إلى الصالة، وحجرة النوم، بل ممرات رأسي. لم تنزعج زوجتي، فقد تحول أغلبها إلى بلاستيك منذ زمن، وربما كانت هذه الرائحة في أنفها «عبيرا»، لكن انزعج ولدي الصغير، متأففا، بأنف منكمشة، وابتسامة تخفي قرفا.
تعمدت مؤخرا إطعام ولدي أكلا بلاستيكيا. أريده ألا يحس بالغربة، وأريد لقرفه أن ينتهي. لكني في لحظة تبدو عابرة - وهي ليست كذلك - توصلت إلى الإجابة العبقرية. فبينما كنت أغلق الشيش بإحكام، قبيل المغرب كما كل يوم، صدمتني الحقيقة برقة؛ إن الولد سيكبر، غدا أو بعد غد، وستصير له القدرة على تحويل الأشياء إلى بلاستيك أيضا، فلماذا الاستعجال إذن؟
وأنا أريح جسدي على الفراش في قيلولة سريعة، علا صياح مخاوف وليدة بأن أيامه ستكون أفضل، ولن يتمكن من نيل هذه القدرة. لكن، ساعتها لماذا سأخاف؟! إنه اليوم الموعود. اليوم الذي لا نجرؤ على الحلم به في زمننا، وفشلنا جميعا في الوصول إليه حتى حينما أردنا. تصارع الخوف والشك والقلق في صدري، ولم يهزمهم نومي، إنه فقط أخفض أصواتهم.
تابعت المسلسل مع زوجتي، إنها تنفعل به كأنه الحياة، تغرق نفسها فيه أكثر من مواقف جادة تواجهنا. اعتدت على ذلك، وركنت إليه في شيء من المحبة. أعشق في حبيبتي قصر عمر ذاكرتها. تلك المقدمة التي تعلو العقل، والتي تتهشم عند البعض من كثرة التصادم مع المتاعب، عالية عندها للغاية. أعلى من الاصطدام بأي مقلق حقيقي. لم تعلم أن أكثر من نصف نظرات هيامي بها، وحمدي الدائم لله عليها، كان لهذا السبب عينه. أشجاني أن ملمس يدها صار ناشفا، أدق عليه بأطراف أصابعي كأنه سطح منضدة. لكني من ناحية، تعايشت مع ذلك على أنه من ضغط أعمال البيت، وغسيل المواعين السرمدي. ومن ناحية أخرى، لم أرد أن أجرح شعورها، فهي المهد الذي يلفني ويهدهدني، وبدونه أنا هاموشة تائهة. ومن ناحية ثالثة، من قال إن الحياة لا بد أن تكون كريمة بالكامل، مرضية طوال الوقت؟! أدام الله وجودك يا ثروتي، وأبعد عنك أي لحظة ثقيلة، وجعل يومي قبل يومك.
تقابلت وصديقي على مقهانا المفضل. يحكي لي عن ابنته المجنونة، تلك التي ترفض مناهج المدرسة بحجة عدم اقتناعها بها، وتتفرغ لقراءة روايات كلاسيكية. ابتسمت مذكرا إياه برغبتنا في إطالة شعورنا ونحن في سنها، وميلنا للرقص، وصفيرنا للجميلات على النواصي. في سن معينة تتعمد الخروج عن الأسفلت. لكن بعدها، حتى وإن لم يكبحك نضج ما، فإن الأسفلت له طريقته الفعالة في إرجاعك إليه. وبينما كان يمص قطعة بلاستيك بيضاء في يده - قبل أن يكسرها بأسنانه، ويبتلعها في ضجر - هونت من أزمته، ونصحته ألا يحمل هما، فالتعقل في الطريق.
أحيانا أسأل نفسي - وأنا سارح على مقعدي في المترو، تمر عيني على صور الناس المهزوزة، أو واجم أمام شباك مكتبي، أحدق في حركة السحب البطيئة - هل أنا أهل للنصيحة؟! منذ الصغر يختارني الكل ليسألوني عن علاج همومهم؛ من أول زميل الصف الرابع الابتدائي الذي أحب فتاة أكبر منا في الصف السادس، وأراني إياها من شباك فصلنا وهي تصعد السلم لفصلها، مصارحا إياي بشعوره وحيرته ، وصولا إلى سائق التاكسي الذي صادفته في مشوار ما، وينوي ألا يخبر ابن عمه عن زواجه القريب، حيث إن ابن العم لم يخبره قبلها بزواجه، ملتمسا مني الرأي الفصل في انتقام عادل كهذا. لماذا يلجئون إلي؟ هل يؤهلني شكلي للحكمة؟ وهل الحكمة بالشكل؟! هل يستشعرون أني أفتقر للمشاكل، وبالتالي فإن بالي مرتاح، وهو ما يترك فراغا يحتمل مناقشة مشاكلهم؟ ربما جاوبت بعضهم بذكاء، واقتنعوا أني لقمان العصر. على أي حال، لم يكن الأمر ذا أهمية، بل إنه رفع من قيمتي في أنظارهم، ومدني بثقة إضافية. سمعة العقل الراجح أفضل من سمعة خطاء أخرق، أو مجرد تافه.
كرهت الزجاج، ينكسر مثيرا فوضى جارحة. لذلك، عند رجوعي من العمل في ذلك اليوم سميك الحر، لم أشتر أكوابا زجاجية، رغم أناقتها، وإنما أكواب بلاستيكية. تعذرت لزوجتي أني لم أجد غيرها، وهاجمتني آلام قدمي التي بقيت عامين تتلقى جلسات العلاج الطبيعي ... وليس أي من ذلك هو السبب. لا شك أني أحببت ملمس البلاستيك في أزرار ريموت التليفزيون والريسيفر والتكييف، ومفاتيح النور والغسالة والكومبيوتر. بها نعومة، ورفق، وافتتان بالفاعلية، واحتفال بالإنسانية وما وصلت إليه. أتذكر بنائي لهرم من قطع بلاستيكية جمعتها من ألعابي المتكسرة، أو ربما كسرت بعضها كي أجمعها. كان ذلك أيام دراستي الابتدائية، ولم أكن أمتلك لمسة التحويل المتواترة بعد. إنها لم تظهر علي إلا في السنوات الأخيرة فقط. هل كانت بعد بلوغي الخامسة والأربعين، وترهل بطني، وهشاشة شعر رأسي؟ هل كانت بعد بيعي لبيتي القديم في الحي الشعبي المعربد الزحام، الدائم الصخب، الفضولي الجيران؟ هل كانت بعد اليوم الذي لم أعد أشعر فيه بآلام رأسي أثناء استخدام الموبايل؛ بعد سنوات دأب فيها الصداع على قصفي، وجنحت أعصاب وجهي إلى التشنج، كلما استخدمته؟! لا يهم ... هذا سؤال لن تفيد إجابته أحدا، تماما كسؤال البيضة والفرخة.
وفي صباح معتدل جديد، أنار قلبي وأنعش نبضاتي مثل سابقه، دلفت إلى الشرفة، لأطمئن على زهوري ومتانتها. لكني - لأول مرة - لاقيت فيها عبيرا أحببته. كان أشبه برائحة الملابس الجديدة ، أو مكان مغلق يحكمه التكييف. إنه عبير تألفه بسرعة، وله فخامة من نوع خاص. يا للروعة، يظهر أن هذه الزهور تطلق عطرا خاصا بها بعد فترة ما. تسلمت الراحة مقاليد الحكم، وسمعت زقزقة عصافير بثت سلاما مقدسا، وضممت ولدي إلى أحضاني في لحظة ابتسم لها دون فهم.
السعادة في الاطمئنان. وهي قاعدة علمها لي والدي دون أن ينطقها. فحينما يهدأ كل شيء في البيت، والحارة، والشارع، ونطمئن أن الغد هادئ، مستقر، مثل الأمس، وأن الإجابات لدينا، ولا داعي للأسئلة، وأن أفضل تجديد في ترك القديم يؤدي عمله دون اعوجاج، أو شطط، وأن الصبر على الشدائد هو قمة الإيمان؛ حينما يتحقق كل ذلك، فابتسامة أبي النادرة، الراضية، تفرش حدائقها الزاهرة على وجهه. آآآه، كان يلمس الأشياء فتتحول إلى خشب؛ يا لها من أيام أكثر بركة، وأقل غلاء.
الباسمة
أقابلها بشكل شبه يومي على الفيسبوك، توزع ابتسامتها على الجميع كما توزع الزهرة شذاها. وسط الحروب الأهلية، ومستنقعات الأخلاق، وتلال جثث اللحظات، وعفونة ونتانة حياتنا ... تبتسم بلا رادع. كاد تفاؤلها يمسني كقبلة الأميرة للضفدع، تلك التي ستعيده إنسانا، أو أميرا «لا أذكر بصراحة»، لكن هيهات. من يبتسم ساذج، ولم يسمع الخبر المحزن بعد. والحزن حاكم نشيط، يظهر في التليفزيون والجرائد باستمرار كي ينبئنا أن الألم ليس فرضا شرعيا، وإنما عضو في جسد الإنسان، لا يمكن بتره. العجيب أني وسط سيول التشاؤم الحارة، والتي أغرقت مدينتي منذ 4 عقود، كنت أتذكر صمود هذه الباسمة. إنها في عشرينيات عمرها، فهل ستبقي على ابتسامتها المجاهدة طويلا؟ مر على علاقتنا في الواقع الافتراضي عامان، وهي لا تزال هي. كل شهر، في صور منفردة، أو مع آخرين، تضج ألفة ومودة، باسمة لعين الكاميرا. في مرة رسمتها كعملاق يلكم بركانا على وجهه «أين ذهبت تلك اللوحة؟!»، يبدو أني بدأت في الإيمان بها غصبا عني. نعم أعرف، للإلحاح قوته. وفي مرة أخرى، رأيتها منعكسة في عين الفجر. لا أيها الأحمق، لم أشرع في حبها. وإنما - بصراحة - أحببت إصرارها على الابتسام . من أين تأتي بهذه القوة فوق البشرية على تحدي هراوة الأيام القاصمة؟! وفي مرة ثالثة، وجدت نفسي أفكر - جديا - في طبع صورتها، وتوزيعها على نزلاء المستشفيات، وحبيسي السجون، وموظفي الدولة، وعاطليها، وربما تكبيرها كي يتم تعليقها على كل سحابة تمر في سمائنا، بل لصقها على السماء ذاتها في أماكن متنوعة، حتى ينضبط الحال، ونهفو للمحال.
لا تظن أني ساخط. على العكس، أنا متصالح مع نفسي، ولحظتي، إلى أبعد مدى. منذ سن المراهقة، أدركت أني لا بد أن أكون باردا كي أعرف كيف أهنأ بالحياة، أو أحيا. من شب على شيء؛ شاب عليه. الحكاية باختصار أن المرارة، المزدانة بألوان السخرية، هي ملابسي الداخلية التي لا أستغني عنها. الجميع يرتدي تلك الملابس، وإن بدرجات جودة متفاوتة. حتى حينما سافرت إلى الخارج، واستنشقت هواء لم أعرفه من قبل، أصاب صدري سعال كريه، تصاعد إلى ربو، كاد يكلفني حياتي. لذلك عدت إلى بلدي، حبيبتي، بشوارعها الفاسدة، وناسها المحتقنين. ليعود وجه الباسمة يلاحقني. قبل النوم، عند الاستيقاظ، أثناء صمت المطبخ عند إعداد الشاي، في اللحظة الأولى التي أواجه فيها المرآة قبيل حلاقة ذقني، على درجات السلم الفارغة وقت الخروج، عند سماع زقزقة عصافير شجر الشارع في العصر، حين غروب الشمس على نحو رومانسي هادئ، مع ضجيج أطفال الجيران، بأصوات صراخهم الحلوة، عند الاستماع إلى موسيقى غربية مريحة ساعة تنظيفي للمنزل، عند تغيير الملاءات، وفتح الثلاجة، ومشاهدة الكارتون. كانت مثل روب حريري ناعم، يلفني مخفيا رائحة ملابسي الداخلية تماما. إلى أن هاجت الأوركسترا مرة واحدة، في نغمة عالية، تحمل بشارة نفيسة؛ معرضا للمنتوجات القماشية أعلنت أنها ستشارك فيه!
بدون «هممم»، هرعت إلى حلاقي العجوز، وطلبت منه تغيير فورمة شعري. أصابه القلق، وربما زمجر اعتراضا، لكني هدأته بابتسامة مزيفة، وأخبرته أنه طلب مخرج في قناة تليفزيونية سأظهر بها. اقتنع الرجل في لحظة، موافقا على تغيير يبغضه، لمجرد أني أدخلت لفظة «التليفزيون» في الحوار. حسنا، لا عجب، فالرجل يعبد جهاز تليفزيونه، ويفتحه على القنوات الرسمية طيلة الوقت، لدرجة أن وجهه صار شبيها جدا بوجه مذيع نشرة الأخبار، منقلبا - خلال عامين فقط - إلى أصلع مثله، وفي لون بشرته! بعدها، اشتريت عطرا غاليا. لا، لم أكن بخيلا أتعمد رخص العطور في السابق، وإنما لم تكن هناك مناسبة تستحق. حذاء فاخر كان ضروريا أيضا. لا تزال جملة والدتي ترن في أذني: «البنت بتبص للجزمة الأول.» ربما جاء ذلك من زمن كان الخجل فيه لا يزال على قيد الحياة «ستينيات القرن الماضي تقريبا»، لكني تيقنت أنها ستكون خجلة. هناك ذلك الارتفاع الدائم في كتفها، والذي يجاور رأسها في عدد كبير من الصور، كأنه يكمل لوحة ابتسامتها، في تشكيل يمزج الحياء الواعي بالخجل الطفولي. جررر ... أنا مشتاق إليك بالفعل. أريد مطالعة هذه الكائنة. أهي حقا ودودة هكذا؟! لا تسئ فهمي من فضلك. أنا مفتون - مثلا - بحيوان الباندا؛ حضوره الوديع، حركته الحزينة، عينيه اليائستين، و... ابتسامته العظيمة. وبالتأكيد إذا ما سمعت عن زيارته للبلد، سأختطف نفسي إلى مكانه فورا، كي أطالعه ثلاثي الأبعاد، وأشم رائحته، وأشعر بملمسه، وربما أنال محبته. لطالما شعرت أننا أقارب، بل أصدقاء. ربما كانت روحانا في أجساد أخرى، عاشت معا في زمن قديم، أو مجرة سحيقة، أو لا تزال تعيش في بعد لا نعلم عن وجوده شيئا. نضحك على النكات معا، ونغني الفرحة معا، ونصنع من آلامنا عجين صلصال نشكله على هيئة أطفال بلا هموم. تبا لعصرنا. تبا لهذا المصير. حسبك ... أنا أتكلم عن حيوان الباندا!
وفي اليوم الموعود، استيقظت منتعشا. صحيح حلمت بأني أمشي في طريق صحراوي، وقابلت غزالا تائها تحول إلى أسد يزأر غضبا، لأكمل سيري في الصحراء بكل برود، وصحيح أن المشي استمر بعدها لدرجة مسخية الملل. لكني معتاد على هذه الأحلام القذرة، ولا أحب أن أفكر فيها طويلا، خاصة اليوم. وهناك، وسط ممرات، ومعروضات، وأناس، وأصوات ... قابلتها. لا تنتظر تعبيرات من عينة «توقف قلبي»، «اشتعل دمي»، «اختلجت خطوتي» ... انس أيا من ذلك. الحق أني لم أهتز؛ فأنا عقلاني. المشاعر عندي تسكن المخ. تزور القلب أحيانا للمصيف ، لكنها لا تستقر هناك. تماسكت، وركبت مصفاة على فمي ليخرج حديثي رائقا رشيدا، وقللت من فولت لساني كي لا تتعجل كلماتي وتصطدم ببعضها. وصممت جملة جيدة، فيها ترحاب اللقاء الفيزيقي الأول، بعد لقاءات افتراضية عديدة، وفيها كذب عن اهتمامي بالمعروضات القماشية. شهيق ... زفير؛ متعمدا النظام. ثم دخول وسط دائرة المحيطين بها. ألقيت السلام عليها في نبرة مرحة، غير مألوفة بالنسبة لي. ميزتني مائلة برأسها، مع لمعة خفيفة في عينيها؛ ترجمتها كترحاب ما، ثم مدت يدها كي تصافحني. لا أخفيك سرا، تكهربت لثانية. كهرباء لذيذة، لم أعشها إلا مرات سابقة تعد على أصابع دجاجة؛ منها عندما أخبرتني حب المراهقة، حينما دعوتها إلى مطعم ثم أحبطنا اكتشاف إغلاقه: «كفاية إنك معايا». ومرة حين منحتني حب الشباب - حسبنا الله ونعم الوكيل فيها - فرصة لأطالع عينيها، عندما سمحت لي، في مرة وحيدة، أن أحادثها. هذه المرة، رفع سلامها حاجبي، وربما حرارتي. خشيت جدا أن يحمر وجهي. وبعد حوار أبله قصير، عن منشوراتي على الفيسبوك، وآخر أخبار جاري الذي يرفع صوت مذياعه، وكتبت مرارا عن شجاري معه، ورغبتي في تدمير محطته المفضلة حتى لا يجد ما يسمعه ... لاحظت أنها تقاطعني لتصيح في وجه زميلة لها، ضمن فريق مساعديها حسبما فهمت، وتسبها لبطئها، بينما تعترض الأخيرة - في أثناء ترتيبها المعروضات - بنظرة متظلمة خرساء، وراءها غل يحرق المعرض بأسره. لمحت في الباسمة جفافا، وصدمتني ذبذبات عنيفة تشع منها، من النوعية التي توتر أعصابك، أو تخربها. خمنت أنه حر اليوم، أو عداء قديم. ثم بعد قليل من حوارنا في اللا شيء، ركلت بقدمها ما لم أر أسفل المنضدة التي تقف وراءها، لأسمع نباح تألم. نظرت بانزعاج بديهي إلى أسفل، لأرى جروا صغيرا، من النوع الذي يحتويه كفاك بسهولة، يهرب مذعورا في سرعة لم أميز معها هل اللون الأسود في بياض جلده جزء منه، أم انطباع قدمها!
ظلت ابتسامتي قائمة. عضدت نفسي بأن هذه مصادفات لا يصح تقييم الإنسان وفقها، خاصة في اللقاء الأول. لكني وسط كل ذلك، شعرت بشيء غريب. أتعرف عندما تكون نائما، وتشعر بشيء غريب في أنفك، ثم تدرك أنه نزيف؟! كان الأمر يشبه ذلك. إن كتفها اليسرى مرفوعة طوال الوقت ناحية رأسها، والابتسامة لا تفارق وجهها ... حرفيا، مهما بان عليها غضب، أو مقت. انشغلت عني في غير استئذان. شحب حماسي إلى إيقاع متثاقل، وانسحاب وشيك. كان يجب ألا أطيل في الحديث حتى لو كان الإعجاب مسيطرا، لكني تراجعت أسرع من ذلك. ورغم تقهقري إلى نقطة أبعد، كانت عيني ككاميرات الجواسيس؛ تلتقط لها صورا دقيقة على نحو خاطف، دون أن تشعر أو يشعر أحد. ثمة غموض، وتساؤلات كعاصفة ترابية تعكر يوما ربيعيا جميلا. ابتعدت أكثر، فخبطت في صديق مشترك، أعرفه من خارج الفيس، وله أخت تشارك بالمعرض. وبعد احتضان، وقبلات على الهواء للخدين، واستفسار تقليدي محفوظ يدعي الحرارة عن الصحة والحال؛ انخرطت معه في حوار بخصوص مطعمه، و«الراجل المهم» الذي أراد الاستيلاء عليه منذ فترة، بينما هي خطة تمويهية، ومقدمة سياسية، غرضها الحقيقي التحول في لحظة مزيفة العشوائية إلى الباسمة؛ تبدأ بحركة عنق تواجهه فجأة، مع نبرة من تذكر للتو، لأبادر: «بأقولك صحيح، هو ...» ثم سألته عنها، بوضوح الفضولي السمج، فتصدع بشره، وأخفض صوته حاكيا في غيظ أن أخته كانت تعمل معها منذ خمس سنوات، وكيف عانت من كونها مخلوقة عصبية، أنانية، لا يعنيها إلا مصلحتها فقط. وتذكر أكثر من موقف لها مع آخرين، تلذذت بنفاقهم تحقيقا لمنفعة، أو إذلالهم حين طالبوا بحقوقهم. ثم تعرضت لحادث سيارة أتلف جانبا من جهازها العصبي، ليرتفع كتفها ناحية رأسها، ولا تفارق الابتسامة وجهها. وهنا ... اقتحم نزيف الأنف النوم ذاته، ليلطخ الحلم، ويطير جنته.
رحلت شاعرا بالبكاء، لكني عرفت كيف أكبح دموعي بامتياز كالمعتاد. ومع مرور الوقت، زاد قدر المرارة الساخرة، وواظبت على نسيانها؛ في كل إنجاز لعمل، ومشاهدة لفيلم، وشراء لحاجة، وأكل لطعام، وتسريح لشعر، ومتابعة لفيسبوك، وصبر على حماقة، ودندنة لإخفاء شجن، ومحاربة لوحدة، وتأمل للغد.
عطايا
طلب منير من التليفزيون أخا أكبر؛ فأسئلته حول العالم كثرت وتعقدت ، ولا إجابة من أبيه أو أمه. كلاهما مسافر لعالم آخر، رغم معيشتهما على الأرض. الأب في مجرة العمل، وإذا ما عاد، ينام طالبا الهدوء، ويصحو طالبا مزيدا من الهدوء. أما الأم ففي كوكب المطبخ، لا تسافر منه إلا لكوكب غرفة النوم، حيث تنشغل بالتريكو، والكلمات المتقاطعة، وإذاعة أم كلثوم. إنهما ينصتان طوال الوقت لأصوات لا تهمه، وإذا ما صارحهما بأسئلته، لا يهتمان. لم يظن بعض الآباء والأمهات أن الطفل يجب ألا يكون سوى طفل؟! أي كائن يأكل ويشرب وينام، ولا يستخدم عقله إلا للنجاح في المدرسة، وعدم إحراجهما أمام الآخرين. لا إجابات من أستاذ المدرسة أيضا. إنه يترك الدرس، ويجلس خارج الفصل لقراءة الجريدة، وإذا ما ثارت الفوضى في الفصل، وهرع إليه طالب يشتكي زميلا ضربه ومزق قميصه، يوجه رأسه إليه بنظرة جليدية البرود، ثم يعود إلى جريدته غير عابئ حتى بلعن ذلك الشيء الذي عطله لثانية واحدة.
عطف التليفزيون على الولد، الذي يعلم حالته مر العلم، ومنحه أخا فارعا ووسيما. لكن للأسف، تعود هذا الأخ الطيران في المدينة لفترات طويلة، يتصيد فيها الفتيات، ويدعوهن إلى الكازينوهات، وظلال ما وراء أشجار المتنزهات، ليفوز بخاطف أو متمهل القبلات! صاح فيه منير: لماذا تتركني؟ وكيف تظن أن ما تفعله هذا لعب؟ فنظر إليه الأخ الأكبر باحتقار، وأمره بالسكوت، ثم استكمل في نبرة اعتراض هادر، أن هذه هي الحياة. تصفيف شعرك على أحدث موضة، وشرب السجائر، وارتداء النظارة الشمسية، والتفرغ لمتابعة أجساد الفتيات هي الحياة. كل ما غير ذلك وهم، أو قرف. وصفعه بالجملة التي يكره: «إنت لسه صغير ومش فاهم حاجة!» أخرج منير ثورا ناريا ضخما من قصة ما يحبها، اختطف هذا الأخ، وحبسه في القصة. بعدها، طاب للأخ العيش هناك، خاصة لما نجح في العمل كتاجر للجواري.
استمر الحزن في تقريح أوقات منير، وغدا هو والوحدة صديقين. جلسته المتأملة في الشرفة طالت. عثر على منبع للشعر بين ضلوعه، لكنه لم يجد من يحتفي بهذا الشعر، أو حتى يقيمه. اعتاد إيداع شموس كل الأيام في الثلاجة، والنوم دون أحلام. إلى أن طلب من دولاب الصالون أخا، أو صديقا، أو صاحبا مخلصا، المهم شخص يستشيره ... يرجع إليه ... يسأله. إن الأسئلة تهوى الإجابات، وتشوق إليها، وإذا لم تجد حبها المنشود، تنقلب للعنف، وتخنق من حولها. فهل للأسئلة أي إجابة؟!
كان دولاب الصالون، الذي يحب أن يدعى «بوفيه»، مسنا وطيبا. يحتوي تحفا وأنتيكات هجرها الزمن، وشابت غبارا. ولما سمع طلب منير، وأوجعته شكواه، أشفق عليه بأخ عجوز؛ صحته متأخرة، وكلامه قليل - حسنا، كل الحكماء في القصص كذلك - ومنحوت على ملامحه سنوات وسنوات ... فكيف تكون السنوات بلا خبرة؟! ألف الأخ العجوز الرقود على سجادة مرسوم عليها غزالة تقف فوق صخرة، سامقة بسيقانها القوية، رافعة صدرها في اعتداد. إن منير لم ير الغزالة، ولن يرى الغزالة، في حياته إلا في هذه السجادة الأنيقة. وحين يلجأ للأخ الذي يفضل رحابها، ملتمسا إرشاده، يجيبه الأخ في مودة، ناصحا إياه بالشيء الصحيح: لا مواربة. لا مراوغة. لا استعمال للغة «اليومين دول». لا رشوة تتجمل كإكرامية، ولا نفاق يتنكر كدبلوماسية. الحق لا بد أن يقال في وجه التخين، والأعور يجب مصارحته بأنه أعور. مارس منير هذه النصائح، ليلاقي الويل ألوانا. سكنه التعب، وصارت المعاناة ورما يلازمه، لا هرب منه، ولا علاج له. استغرب، لماذا لا يحاول الأخ العجوز أن يطلع على العالم الذي نعيشه؟ إن كلامه قديم. قديم جدا. حينما يردد بعضه أمام زملاء العمل، أو سائقي التاكسي، أو أهل خطيبته، ينفجرون في الضحك. ألفاظه عتيقة، صار لا وجود لها إلا في المسلسلات التاريخية التي لم يعد ينتجها أحد، أو يتذكرها أحد. شعر بالغربة بسبب الخطوط التي طالبه الأخ العجوز بالسير عليها. غربة تفصلك عن الحياة، وتؤخرك عن قضاء مطالبك، وتعكنن عليك لحظتك، فتعقم عن السلام. وفي صباح ما، بلغ السن مبلغه، وتلاشى الأخ العجوز من فوق السجادة. تآكل أو تحلل متطايرا في ريح شتوية مغسولة، من هذه التي تشرف أغلب الصباحات الشتوية. ومن يومها، صارت الغزالة على السجادة متكومة على الأرض، بعيون تحبس دموعا غزيرة.
وماذا بعد؟ البشر من حول منير يتناقصون. أوراق متأسية مثل «الله يرحمه» أو «الله يرحمها» تراكمت على أرففه. اليتم متجبر، لا يترك للحنين حضورا ملطفا. وحديقة العمر اجتاحها الموت ليدق فيها مباني خرسانية لا فن فيها ولا سكان. الليل أمسى أطول من النهار، أي نهار. والصمت شبح سمج، يخرج من القبور، كي يلدغ منير، ويعاود مكانه مجددا. انتهت خطبته مع أكثر من محبوبة انكشف أنها لا تستحق هذا اللقب. وتقاسم فراشه مع فراغ غليظ، جاء ليحتل ويتوسع. ضحكة الأطفال تعذبه. ولحظة المغرب تقطم وسطه. وبزوغ الفجر لا يبهجه. رثت علبة السكر له، ورأفت به، واهبة إياه فتاة في نصف عمره. تجالسه وتؤانسه. خاف من تنامي شهوته، وتسلى حرمانه بعرض أحلام يقظة حمراء عليه، جعله يرش على الفتاة البريئة ملحا في نوبة ثورة، قاصدا إكراهها على المغادرة. بكت الفتاة متظلمة، ووصمته بنظرة مبغضة، ثم خرجت من باب سلم الخدم غير المستخدم منذ عصور إلا من قبل جامعي القمامة.
وفي مستهل عصر وهن العظام، ووجع الحركة، وذبول الأزهار، وعجز الأجنحة، أهداه كرسي الشرفة صديقا شابا. الكرسي كان عليما بحال منير منذ الصغر؛ يصغي لقصائده فيفخر به رغم عدم فهمه لمعظم الأبيات، وتسره أخلاقه القويمة رغم اعوجاج السنين. كما أنه يحمل جميل محافظته عليه؛ فإنه لم يستغن عنه لأي محتاج قريب، أو جمعية خيرية بعيدة. ويبدو أن منير قام بكثير من أفعال الخير في حياته؛ مثل عدم الانزلاق في النميمة، أو التعامل بفظاظة، أو إضمار الشر، أو إضاعة وقته في التفاهات، لذلك أكرمه الله على خيره، وأثابه من فضله.
بردت نسمة سحرية حزن منير. كان الشاب هو الابن الذي لم يلده، والصديق الذي لم ينله، والأخ الأكبر الذي تمناه؛ إنه ذكي، مهذار، حكيم. يقولون إن شباب هذه الأيام يكتسبون الخبرات بسرعة. طهارته أكيدة أيضا، لكن يأسه طاغ. من أين أتى منير بكل هذه التعاليم لقتال اليأس؟ لقد مارس دور المعلم ببراعة مشهودة مع الشاب. اكتشف أن رحيق العمر الماضي كان وفيرا بحق. لم يمض يوم إلا وتعلم فيه ما ينير الطريق، ويسند المشوار، ويقرب الهدف. صحيح شاخت الأسئلة مع الوقت، لكنها لم تمت، وفي الإجابات الزهيدة التي اغتنمها ... حياة. حياة لم يعترف بثرائها، بل لم يره، إلا الآن. وفي ثانية ثمينة، أدرك أن الإنسان لا يفوز بكل شيء. وأن الدنيا لا تعطي نفسها بالكامل لأحد. تذكر طرفة قالها جده، ولم يعها في وقتها، خلاصتها أن الحياة تطبق الديمقراطية بإنصاف لا يتوافر للأنظمة السياسية؛ فالناس قاطبة لها نسبة من الإرضاء، ولا يوجد فرد - مهما بلغ سلطانه - يحكم جميع الأراضي، ويملك كل الكنوز.
واظب منير على إسداء ما يعرفه للشاب. رعاه ولاقى منه الوفاء. وهبه سحبا، ولم يرد الشاب واحدة منها طينا. حدثت خلافات وخصامات، لكنها كانت مثل شقاق أعظم المحبين، وجروح جسد وولفرين، تلتئم جميعها بعد قليل. أشرقت شمس الرضا في نفس منير. ومن شكر الشاب له، غامر الإعزاز، صنع لنفسه شاطئا رحيبا لا تمسه إلا رياح تصح الروح.
الجالس
ظهر على الناصية مرتديا جاكيت رماديا، أو بنيا شاحبا، أو لعله بلا لون، فوق جلباب فاتح. ثم تقدم جالسا على الكرسي البلاستيكي الأحمر. كان عجوزا نحيفا، وكأن الزمن لم يأكل منه شبابه فحسب. شروده عميق. يطلق بصره في اللا شيء، ثم يهرش رأسه ببطء كالحيران في القصص المصورة. بمرور الوقت، لاحظت أنه لا يعبأ بمسح عرقه المتفصد بغزارة من فرط حرارة الجو، أو ب «تيتو الساحر» الذي يتجول نافخا النيران من فمه، أو ببوادر مشاجرة كادت أن تتقد بين عجوز وشاب على صف الكراسي المقابل للمقهى والتابع لها. وإنما لاحظت إنصاته الوفي لنشرة الأخبار في راديو المقهى، حيث يهز رأسه في حركة آلية، فيها تلق أكثر منه تفهما، عقب آخر سطر من كل خبر يعلنه المذيع بنبرته التي صرت أحتقر محايدتها. شككت أنه مختل. جدتي في أيامها الأخيرة تعودت ذلك. نظرة العين الغائبة، وموت الانفعال في الوجه، هما ما أكدا لي أن بالأمر خطأ ما. أشار صاحب المقهى - الشبيه بشيخ منسر، وليس فتوة نبيلا كما والده - بفتح التليفزيون. وكان التليفزيون على حامل معدني مقابل للرجل. وفي ثانية واحدة، تألقت على الشاشة فاتنة لبنانية تتمايل مغنية ما لم أهتم بسماعه عمري، غامزة للمشاهد في إغواء صريح أحببته. ومع الإيقاع الراقص للأغنية، تبدد جمود الرجل، وتمايل مع الفتاة، محركا رقبته يمينا ويسارا، في رقصة طربت لبهجتها. بينما بين الحين والحين، يلتفت لصوت النشرة الإخبارية، العالي بنفس الدرجة، ويهز رقبته لأعلى وأسفل في جدية. تمكنت البسمة من شفتي، على الرغم من اجتياح موجة ريح ساخنة للمكان، وقلقي من سماء حمراء السحب، تعني - كما علمتني أمي ليلة ما - غدا لافحا ندعوا الله بالستر منه.
بعض الجحيم
أدخل وصديقي إلى المطعم. المكان ضيق رغم اسم المطعم العالمي، الشهير بوجباته السريعة. لمحتها جالسة وحدها على منضدة لها 4 كراسي. يا الله! جمال يطوف بك في جنات بلا نهاية. حضورها فيلم مقدس. تشع أحلاما وردية، وآيات شافية. قبعت داخل سجني القديم. وبحثت عن كرسي فارغ، فوجدت واحدا، طويلا وبلا خلفية، ككراسي البارات، أجلست صديقي عليه، ثم ذهبت - باعتباري مضيفه - إلى قسم الطلبات. هناك، انعكست واضحة في لوح معدني مصقول وطويل. عبارة عن ابتسامة ملائكية في هيئة فتاة. كانت قريبة جدا من الصورة التي لا أجرؤ على تخيلها لحبيبة، وعروس، وشريكة حياة، وقرينة روح حتى الممات، وما بعده. كتمت الأماني الثرثارة. وسددت مسام عاطفتي بالجبس والأسمنت الأسود. تخيل قاطرة بخارية فحمها يغلي نارا، وأغلقت مدخنتها ببساطة. نعم، كنت أنا القاطرة الموشكة على الانفجار. اضطررت للانتظار حتى ينتهي شاب بدين من إلقاء طلباته. واضح محاولته المستميتة لتلميع شعره بمادة ما، واختياره لفانلة قاتمة تخفي ترهلاته. ما إن انتهى، حتى فوجئت بصوتي يخرج خفيضا هادئا. يبدو أنه قد تم استهلاكه في صرخات داخلية لم أسمعها. طلبت السندوتشات لي ولصديقي، ثم عدت إلى مكاني بخطوات بطيئة، راغبا وبقوة، في التجديف والنظر إليها. سأختطف نظرة واحدة سريعة. لن تشعر، ولن تتضايق. فعلتها، وإذا بي أجد البدين يجاورها. كانا يتحدثان مبتسمين في وقار . تذكرت رصدي - في جميع المطاعم التي دخلتها - أن الثنائي المتحاب، أو المخطوب حديثا، يجلسان بجوار بعضهما، وليس «في مواجهة» بعضهما. ربما رغبة في الاقتراب، وتقصير المسافات. ربما طمعا في لمسة يد، أو دفء كتف. حين وصلت إلى صديقي، المستغرق في متابعة مباراة كرة قدم في التليفزيون المفتوح، انتبهت إلى غياب الكرسي الذي سأجلس عليه. وقفت منتظرا تلك الأسرة الصاخبة التي تلتهم طعامها بشراهة. يبدو أنهم سيسكنون المكان، أو يأكلون كراسيه أيضا. خرج البدين ليتابع مكالمة في محموله داهمته وسط ضجيج التليفزيون والزبائن. طردت صبري، على الوقوف أو اقتناص النظر، وتقدمت خطوات إلى منضدتها. تقابلت عيني - أخيرا - مع عينها. آآآه. عيون سوداء عميقة. لو أطلت النظر إليها لوصلت إلى سعاد حسني، ونفرتيتي، وبنت السلطان في القصص الشعبية، وكل ليلى أصابت قيسا بالجنون. عيون كالمرسى الذي تهفو إليه سفينة طال تيهها. عيون تقيس عليها الحقيقة، ليظهر الزائف، وينكشف السراب. سألت بنفس الصوت الخافت: «ممكن آخد الكرسي؟» قاصدا أحد الكراسي الشاغرة لمنضدتها. فوافقت بهزة خفيفة من رأسها، وصوت لم أسمعه؛ إذ إني كنت مشغولا بالتحليق في سمائها. ما عذبني أكثر كان رداءها. أبيض وبنفسجي. كيف عرفت ألواني المفضلة؟ هذه الفتاة مطبوعة من أحلام يقظتي! جررت الكرسي إلى جوار صديقي الذي امتصته المباراة، حتى اختفى. جلست معطيا جانبي لها. كنت أصلى نارا حامية. لم أذق الجحيم على الأرض إلا في هذه اللحظة. تاريخ آلامي طويل، والحمد لله. لكن تلك النار التي تضطرم، بلا رادع، وتأكل جسدك، حتى تكاد تسمع لظاها وتغيظها، لم أعرفها إلا في تلك اللحظة الملعونة. لم يلحظ صديقي العزيز تفصد عرقي، واضطراب تنفسي، وإحساسي السحيق بالفشل. الزمن لوري يدهسني ببطء. آخ، أريد لهذا المشهد أن ينتهي. أن يموت. أبرع في تمثيل التماسك حتى كادت أسناني تنكسر من فرط الضغط عليها. أجري وراء قلبي، لألحقه، وأصفعه معيدا إليه عقلانيته، أو حتى أعرقله لأقلل سرعته. صوت ضحكتها الناعمة الصغيرة يملي أكواد تفجير القنبلة النووية. تتصاعد درجة حرارة اشتهائي للنظر إليها، لكن القاضي حكم على ذلك بالإعدام الفوري. أستغفر الله العظيم. إلى متى سأبقى غرابا ينعق وحده في الصحراء؟ الشمس الحارقة لا ترحم، ولا تغرب. حقدت على البدين، وعلى حظه. أردت إلغاءه
delete
مع
shift ، والحلول مطرحه. خرجت المظاهرات قاصمة، تطالب أن يكون نهر هذه العيون السود لنا فقط، لا شريك فيه، ولا غريب يقربه. سمعت العامل ينادي. إنه طلبي. صحا صديقي من المباراة، ومن قبل أن يفكر في تناول الطعام هنا، كنت اختطفت الكيس الورقي، وهربت للخارج. لحق بي مستغربا، فتعللت أن الجالس بجوارنا عدو قديم. ومع رحيلي، لم أحاول، أي محاولة، أن أنظر إلى الخلف، علما بأن واجهة المطعم وبابه من زجاج، ومجرد إدارة عنقي سترويني من محياها. ومع تقدم الطريق، ودعوات صديقي علي، قرأت لها ولفتاها الفاتحة، داعيا الله أن يبعد عنهما الشرور، والحاقدين، ولحظات الألم ... من أمثالي.
علاج غير تقليدي
انتابتني حالة من الشره المازوخي. صارت أبواب معدتي مفتوحة 24 ساعة. فمي بالوعة فيضان لا ينتهي تدفقه. والشبع حلم مثل الغول، والعنقاء، والخل الوفي، ومحاسبة الفاسد. وكي تزداد الأرض جفافا، سكنني كرش يتشاجر مع البنطال في كل نزول، ويتناطح مع الحزام في كل خطوة، محولا شكلي من نجم الفيلم إلى صديقه المضحك.
اتجهت للطبيب. إنه رجل عجوز، كان يعالج أبي رحمة الله عليه. سمعه ثقيل، ولسانه أثقل. لا ينهض من كرسيه، أو يرفع نظارته من على طرف أنفه، أو يكوي قميصه الذي انتهت موضته من قبل أن أولد. لما سألته الحل، أزاح شعرا - لم يعد موجودا - من فوق أذنه، ومط شفتيه ناظرا إلى كرة بلورية على مكتبه، مفكرا بعمق، أو سارحا في نوع عشائه، أو حزينا على شبابه الذي راح. ثم التفت إلي كشخصية معلم البطل في الأفلام وهو على وشك إعلان سر الانتصار: «كل كتبك إللي انت مش عاوزها ...» تراجعت رقبتي للوراء في استغراب، بينما وضح كاتبا: «ده دوا ح يخليك تاكل الكتب بدون ما تحس بطعمها. وكل ما كان الكتاب سيئ، ومؤلفه غبي، ح ينزل على معدتك يكرهها في الأكل . وبكده تبقى ضربت عصفورين بحجر واحد؛ ح تعالج شراهتك، وح تتخلص من كتبك الوحشة!»
لأول مرة أعجب بالعجوز، وأراه فتيا، محطما للتقليدي، ناسفا للمألوف. شعرت فجأة بحميمية مع تجاعيده، ونبرة صوته، كأنه قريب لأبي الراحل يحمل طيفه، أو عم مجهول لي لم أنهل من محبته بعد. في الطريق، أخذت أتذكر عناوين كتبي التي لا قيمة لها، وكم كنت أتندر على مستواها الهابط أمام الجميع. وفي المنزل، وقفت أمام المكتبة، فاتحا مصاريعها على الآخر، في تحفز لاعب مصارعة متشوق للنزال، وواثق في الفوز.
بدأت بكتاب سخيف يشمل 120 صفحة من القطع الكبير؛ كان عن القيمة الفلسفية لرئيس سابق، ودوره كرائد للتجديد الفكري. أظن أن ذلك الرئيس السابق - وهو المصاب بجنون العظمة - لم يكن ليقتنع بحرف من هذا المجلد الثقيل النفاق، المبدع الكذب. أكلته بخفة كما آكل سندوتش من الدجاج المقلي المزعوم، من تلك المطاعم الأجنبية التي دخلت إلينا في عصر ذلك الرئيس ذاته. مسرحية كلها تمجيد في إنجازات رئيس مخلوع. ليس المستفز أن هذه الإنجازات انكشف زيفها عقب خلعه، وإنما أن المسرحية مكتوبة بركاكة وسماجة لا حد لها. الكتابة كريهة، فيها لزوجة متزلف كل ما فيه ذليل، وموهبة لا تساوي حفنة رمال. لكن الكتاب كان أقرب لكتيب، فهذا المنافق كان يمتلك فضيلة الإيجاز. كتاب سينمائي يجمع مقالات كاتب أقصى ما يستطيعه صفحة ونصف من القطع الصغير عن الفيلم الواحد. ليست مشكلتي صغر حجمه، ولكن ضخامة تفاهته. كلام سطحي يمكن لطفل أن يقوله، وربما ساعتها سيكون أكثر اتساقا وفطرية. المقدمة لناقد كبير، يفخم في الكاتب والمكتوب على نحو أراني بجلاء منظره والمؤلف ينقده مبلغا محترما. بلعته «على بؤ واحد» سعيدا بالتخلص من صفحاته الخرساء، وغلافه القبيح. مجموعة قصصية لكاتبة تتغزل في الريف، وتقاليده، وتفاصيله، بينما يهتف كل سطر فيها بأنها لم تزره يوما. لا ... لم ألتهمه. إنه يصلح لليال أعاني فيها من الضيق، حيث يتفرغ لإضحاكي باقتدار. رسائل بريدية قديمة مع شخص بقيت لفترة طويلة أمثل أنه صديق لي، بينما كان أمير المغرورين ، وملك اللحوحين، والإزعاج في صورة بشرية. حاولت الادعاء على نفسي أنه صديق في مرحلة عز فيها الأصدقاء. ثم منيت روحي أن الله سيجازيني خيرا عن مصادقة من أكره. لكن لا يمكن أن يجازي الله الكذب بالخير. لا يمكن. كتب في الاقتصاد والفلك والذرة لمؤلفين عرب وأجانب. لم يضايقني أي من أفكارها، وإنما ضايقني شرائي لها. إنها عار أخجل منه، وحان وقت محوه. فقد اخترتها بعناية، ووضعتها في الصدارة، ليس لأقرأها، وإنما لأفخر بها أمام الآخرين، محاولا إظهار عمقي في عيونهم، واقتناص مكانة زائفة. فعلها لواء كنت أعرفه، واحتقرته لذلك. لا داعي للكذب. للحقيقة جمهورها المخلص الغفير، حتى لو كان ضميري فقط. أكلتها مع المايونيز وعيش السن، شاعرا بشبع لم أعرفه إلا أيام طفولتي؛ حين أشرب اللبن بعد العشاء متجها للنوم راضيا مرضيا. ... لكن بعد بضع أيام، حدث ما لم أتوقعه. لقد صرت أثرثر مع زملاء العمل كأني محاضرة بلا نهاية. أقف على آذانهم، دون مغادرة أو استراحة، في تمكن يصلح للمنافسة في الأولميباد، بل موسوعات الأرقام القياسية. كيف أصبحت أتكلم وأتكلم أكثر مما أعمل؟! إن هذا لم يكن من سماتي، أو شيء أحترمه وأبغيه. إليك الأخطر؛ صرت أخاطب مديري بلهجة تقطر رقة، مع ابتسامة في عرض تليفزيونات ال
HD . أنا أكره هذا الرجل، وهو يعلم ذلك بوضوح، وشهدت جدران المكاتب - قبل موظفيها - على خلافاتنا المتقدة، أو لمزاتنا المتبادلة على البارد، لمرات ومرات، فماذا حدث؟! هو لم يتغير، لا يزال يصمم وينفذ مفاسده الصغيرة، ويترك عقد نقصه لتنبح في وجه الموظفين الراضين بالقهر اليومي والعصبية المجانية. الظاهر أني من تغير! لكن كيف؟! لاحظت الأمر غير السوي في سلوكي مع جارتي البدينة المجنونة، والتي تترك خرطوم تكييفها متدليا على حائط شرفتي، حتى هاجر الطلاء، وترك مكانه قشورا منفرة، بل بدأ الطلاء الداخلي، المقابل لجدار الشرفة في غرفة نومي، يهجرني هو الآخر، ويترك بدلا منه ذلك العفن الناتئ الوقح. إنها توقظني من النوم كل ليلة، باتصال تطالبني فيه بإزاحة قطتي التي تموء أمام باب شقتها ، على الرغم من حلفي لها بالله، والرسول، والمصحف الشريف، والكعبة الشريفة أني لا أملك قططا! لماذا اشتريت لها زهورا، وأغدقتها بأدب جزيل، بل تورطت في إخبارها بأنها جميلة، وعليها أن تفكر في الزواج بعد طلاقها الذي مر عليه 20 عاما؟! كأني صرت روبوتا مبرمجا، وأنا مسجون بداخله، أهتف بصوت نحيل، كما أفعل في الكوابيس، دون أن يسمعني أحد. حتى زميلتي في تدريس كورس اللغة الإنجليزية، الذي أشارك فيه ليلا لتحسين دخلي وتغيير الأجواء، هذه الزميلة ذات اللون الخمري انتبهت إلى تملقي صاحبة «السنتر» الجهولة المتحذلقة بطريقة فاضحة، وكذبي عليها بخصوص جودة الكراسي الجديدة، فرسمت ذات اللون الخمري، وطابع الحسن، جهامة على وجهها لم أصطدم بها من قبل، ثم ابتعدت عني لاحقا في لوم مستعص، أو عقوبة مغلظة، ليروح العبير الوحيد الذي كان يمتعني، ويشعرني بوجودي، ويهبني أملا في غد ناعم. هل نقلت لي الكتب الحقيرة عدواها؟! أكيد! هذه آثار جانبية لعلاج الطبيب. هو المجرم الأصلي. الله يخرب بيتك يا شيخ. سأزورك كي أنتقم منك. لا، سأجبرك على علاج هذا المرض الجديد، ثم أنتقم منك!
خلال 3 أيام، تلاشت معظم الأعراض ببطء، لكن بفاعلية، خاصة مع توقفي عن تناول الدواء، أو أكل الكتب. فانطلقت إلى عيادة الطبيب، محاولا ضبط أنفاسي حتى لا أتعامل معه بانفعال يفسد قضيتي. وهناك، وجدت العيادة فارغة. وبينما أستعد لدفع حق الكشف، هب التمرجي الضخم من وراء مكتبه الخشبي الصغير، وهو يسكتني بابتسامة مضطربة، ثم يمسك يدي - كما لم يفعل من قبل - دافعا إياي برفق للخارج. ظننت أنه ميز غضبتي المكبوتة، أو توتري الدفين، لكني وجدته يبلغني على السلم بصوت خافت، فيه مودة وشفقة، أن الدكتور مرض مؤخرا. هاجمه خرف الشيخوخة، وهو لا يعلم بعد. ظهرت الأعراض طاغية حينما كتب روشتات غير طبيعية لمرضاه؛ منها الزعيق في وجه الزوجة لمريض الصداع، وصفع مسئول حكومي لمريض القولون، والعمل في اللصوصية لمريض النحافة.
أحرق الأسى قلبي، وفشلت دموعي في إطفائه. أردت أن أدخل إلى حجرته، لأبوس جبينه، وأهزر معه، وأذكره بضحكات ماضية، كما أدركت فعل ذلك مع أبي قبيل وفاته. لكن التمرجي أخبرني أنه وصل إلى مرحلة يحادث فيها أشباحا تجري على الحائط، ويغني لمحمد فوزي دائرا حول نفسه، وفي الأغلب لن يميز شخصيتي أو يرد علي. عجز أي منديل عن تجفيف أشجاني التي فاضت، ورجعت إلى المنزل ألملم تماسكي.
بمرور الوقت، انسحبت أعراض الثرثرة والكذب والنفاق كلية، وعدت إلى طبيعتي، لكن بكل أسى، بقي الكرش كما هو، لا ينتهي أو يضعف؛ تماما كصمتي حين محاولة مصارحة زميلتي بشوقي إليها، وإعجابي بلونها الخمري، وطابع حسنها، بل الهالات السوداء أسفل عينيها. وازدادت الشراهة لتشمل مزيدا من الطعام، والمجلات، وبعضا من خشب المكتبة، والأرضية.
البطيخ في البحر
تعال نزرع البطيخ في البحر!
جملة تبدو لك، ولكل عاقل، عبثية. لكنه سألني إياها في صوت يخرج من صدره. إنها نفس النبرة العميقة التي أخبرني بها بأن زوجته مصابة بمرض عضال، وأن عمه أفلس بائعا كل ما يملك، وأنه يكره الحاكم معدوم الخطة الذي انتخبه الجميع. إنها نبرة جادة، صدوقة، لا أخطئها.
بدأت في محاورته، محافظا على رزانتي، ممسكا زمامي «بالعافية» حتى لا تقرب البسمة الساخرة وجهي. تراجع بظهره، محركا بطن كفه على كرشه صعودا وهبوطا، كأنه يحمي حماسته، أو يشوقني إلى سر مبهج، وانطلق يتحدث في إيمان عتيد، واتقاد يفور، أن هذا هو المشروع الأنجح. لقد قرأ عنه في كتاب قديم بمكتبة كلية الآداب، قسم التاريخ، أيام كان يعد الماجستير الذي لم يكمله. احتفظ بالمعلومة لنفسه، وقرر أنه سيحققها يوما ما. ضحك ضحكته المسرسعة، الأشبه بضحكة الأراجوز والنابعة من قرار عذوبته، حينما تذكر غباء الجميع. فنصف الطلبة وطاقم التدريس أقل ذكاء من انتهاز فرصة كهذه حين قراءتها، والنصف الآخر لا «يهوب» ناحية المكتبة من الأصل. امتطى جواد حديثه، مندفعا بلا توقف، حاكيا عن سهولة التنفيذ، وسرعة المكسب، وضرورة المشاركة. أخبرني أنه لا يحتاج إلى مؤازرة مالية، وإنما إيمان بما يقول. زوجته رحلت عن الدنيا، ولم ينجب أولادا، وباقي أصدقائه مهرجون لا يثق بهم، وبصراحة لا يرضى لهم الربح.
تابعته وأنا أشرب كوب شايه ذي الرغاوي على مهل، جالسا في هدوء صالون بيته ذي الرائحة المكمكمة، التي يتمازج فيها قدم القطن مع غياب التنفيض. سليم يستطيع إقناعك بملامح وجهه الطيبة، وعينيه البريئتين، وابتسامته الواسعة إلى درجة العته. إنه غير مخادع. من أيام المدرسة لم يسرق قلما، أو يزعم إحراز هدف، أو يغش في الامتحان ... لأكثر من اللازم. في الجامعة كان له جنوحه، لكن داخل إطار بعيد عن التطرف الحق. شرب سيجارة «ملغمة»، وإهمال مذاكرته، ومرافقة بنات فضائحهن بجلاجل لم تكن بخطايا مهلكة في قانوني. كما أنه يحترمني، مشيرا إلي كإله العقل في أسطورته. يراني الأفضل لنظامي والتزامي. لحني بالنسبة له بهي. إنما لحنه بالنسبة له ... نشاز. حسنا، أنا أحبه، وأثق به، لكن زرع البطيخ في البحر؟! أمر غريب تماما!
طالبني بالتفكير في الأمر، راميا في حجري نظرة أعرفها، وأكرهها، وهو يعرف أني أكرهها. نظرة التأسي على الخوف الزائد، واليأس من رافض المغامرة. رماني بها منذ سنوات، يوم رفضت الذهاب معه إلى الملاهي، لأن العجلة الدوارة قد تصيبني بالقيء، وبيت الرعب سيبتليني بذعر لا أحتاج إليه، إلى جانب بعد المشوار، وصخب الزحام، وغلاء التذكرة. ذهب هو، واستمتع، شاتمني بعينيه - لاحقا - على تفويت فرصة كهذه. لم يدرك أن لكل شخص متعته، وأن ما يمتعه لا يمتع غيره. لم أخض في حديث مثل هذا. هو يعهده، ويمل منه، وأنا عدت أمل منه كذلك. لن أكتب قواعدي على صدري، وأجبر البشرية على قراءتها. نظرة رفض موجزة وصامتة أكثر بلاغة وأقل تعبا.
بحثت على الإنترنت عن مسألة «زرع البطيخ في البحر» هذه. لا شيء بالعربية أو الإنجليزية. إنها خرافة ولا شك. وهو ما بث نورا في أحد كهوفي. هممم! الخرافة! ولم لا؟ وهل يتبقى لنا غيرها حاليا؟! إن واقعنا اليوم يعوزها. نحن لم نفلح في شئون شتى. فارقتنا الحلول المنطقية. توفي العلم فينا، ومن حولنا. غاصت بنا مشاكلنا لما وراء الطين، وتحت الحضيض. فما المشكلة في بعض الخرافة إذن؟!
اتصلت بسليم ، وزرنا معا مكتبة الكلية، وبحثنا عن كتب عتيقة في سور الأزبكية، بل راسلنا صديقا مشتركا يعيش في بيروت كي يرسل إلينا كتبا أخرى بها ولو شذرات عن الأمر. صممت أني لن أدخل التجربة إلا وأنا محمل بصحة العلم، ووافقني صديقي عن اقتناع ومحبة. كنت أريد الدخول في مشروع، أي مشروع. ما أحقر حياة تأكل وتشرب وتنام فيها دون إنجاز حقيقي يعيش بعدك! نعم، أعرف أن العمل الصالح يدوم، ويترك لك ذكرى طيبة في الدنيا، وحياة سعيدة في الآخرة، لكني أريد عملا صالحا من نوع آخر، غير اتباع الضمير في وظيفتي، والبعد عن الكبائر والموبقات، ومودة الأهل والأقارب، والتبرع للجمعيات الخيرية والمستشفيات، وحلو الكلام، والابتسام في وجه الجميع، و... و... و... لماذا لا أكون مثل ابن الخالة؟ لديه الوظيفة الحكومية الباردة، المحايدة المذاق، البطيئة الإيقاع، العديمة الفائدة إلى حد كبير، وإلى جانبها ... المشروع الخاص. صحيح تقلب من مشروع إلى مشروع، وفشل مرارا، لكنه لا ييئس، ويستمر قاصدا المختلف، والمربح. الإصرار على الجديد يمنحك الحياة، وحتى إن خسرت تكسب من ورائه خبرة لا تقدر بثمن. لا أظن أننا يجب أن نعيش في هذه الدنيا دون ادخار ثروة من الخبرة. إنه الغنى الأهم. أتمنى يوم موتي أن يقولوا: «كان رجلا خبيرا»، بدلا من «كان رجلا طيبا». احتقرت رواية قرأتها صبيا تسأل في ذروتها: «لماذا نعيش؟» السؤال الأصح هو: «كيف نعيش؟» ولعله الإجابة المثالية للسؤال الأول.
جمعنا - كما تجمع قطع «البازل» - معلومات متناثرة لكن كافية عن المشروع. وفي سرية تامة دفعت سليم أن يخفض صوته حين الحديث معي في صالة بيتي، كي لا يسمعه جاري الأصم! قررنا السفر إلى الإسكندرية، حيث شاليه متهالك ورثه عن أبيه، وكان يذلنا به أيام الجامعة. وهناك، بدأنا في العمل بعد الاتكال على الله.
كانت الخطة في زراعة البطيخ تحت مياه البحر. وبعدها، يتحول المنى إلى حقيقة، وتشدو الطيور بموسيقى الفردوس، ويشرق التوفيق دون غروب. حيث سيكون الطرح بطيخا كبيرا، باهت الاخضرار، متطرف الاحمرار، لا مثيل للذته. يقولون إنه يعالج العقيم ويهبه البنين والبنات، ويحفز العظيم داخلك فتقهر المستحيلات، وينهي الهزائم ويديم الانتصارات. آمنت بذلك. وحتى إن لم يتحقق، فقد آمنت بالتجربة. هواء البحر كان أجمل من هواء راكد حكم حجرات بيتي، ومكتب عملي، وشوارع مدينتي. هذا الامتداد في الأفق، الذي يدفعك إلى الإيمان بأن يدك يمكن أن تطول الشمس، كان الحلم الذي افتقدته لليال معذبة الطول، أدمنني فيها التقلب الرجيم، والشخير المزعج، والاستيقاظ على وسادة غارقة في العرق، صيفا وشتاء!
انبسط حقل البطيخ تحت الماء. حصدنا المحصول. ذقنا طعمه. طافت بنا حلاوته في عوالم لم نعرفها، أو نتخيل روعتها. يا الله! كنت أظن أن أفضل طعم يمكن تذوقه لبامية أمي الويكة، وفول عربة عم سيد على ناصية مدرستي الابتدائية، وملوخية زوجة عمي الريفية، وأي طعام مع صحبة يحتضنها الحب. لكني فوجئت بمذاق عجيب، يتعدى فتنة هند رستم، وأغاني شيرلي باسي، وضحكات الطفولة الخالصة، وعيون حبيبتي العسلية الشفافة، وحوار بديع خيري، وفيلم العودة إلى المستقبل، وطيبة جدتي حين تلومني، وتشجيع أستاذ اللغة العربية لي بدلا من تجاهل أبي الدائم، وفرحة أول قصيدة نشرت لي، وجرأة مواجهة الظالم، بل القضاء عليه. رحماك يا رب. دموع تأثرنا أغرقت البحر ساعتها، ولم يترك سليم اللحظة تمر دون الرقص وسط الماء كالمخمور.
هل بعنا الكثير؟ لا ... بعنا المحصول كله، وتهافتت الأسواق على البطيخ الساحر. لم نحاول تغلية الثمن، أو ترويج الأساطير حول بضاعتنا. العين تفلق الحجر، وداري على شمعتك تقيد، وغيرها من حكم الأجداد والأمهات الصائبة جدا بالمناسبة. لكن مع الوقت تأكدت أن عيني الثالثة، الموجودة في قفاي، كانت محقة في شكوكها. هناك من يراقبنا من بعيد. وسر الزراعة تحت البحر لم يعد سرا. القلق عند سليم يتحول دوما إلى غضب أخرق. وكاد في لحظة أن يلغي المشروع من مكانه، وينقله بالكامل إلى مكان آخر. لكني هدأته. فأسلوب الزراعة محفوظ عندنا، مرة في الكتب، ومرة في رءوسنا. ثم حتى لو - لا قدر الله - راحت الفكرة، فنحن أهل للمنافسة، وسنظل بإذن الله من الرابحين . لم يقتنع بكلامي، بل إني لم أقتنع ببعضه أيضا، شاما رائحة عقلانية زائدة فيه، لكني حاولت أن أغسل قلوبنا بالاطمئنان، وأطعم طريقنا ضد أي حمى توتر.
وفي ليلة ما، بينما كنت أحلم بشبح والدي يحذرني أن ثمة سيارة ستصدمني، استيقظت على صراخ سليم. كان صراخا ثائرا وليس مستغيثا. خرجت لأجد الخطوط الحمراء عريضة على وجهه. عرض يحدث له حين التشاجر، وغالبا الفشل في غلبة من يتشاجر معه. علمت أن ثمة لصا شابا اقتحم الشاليه وسرق كتبنا. راح السر والتجارة كما صاح سليم بين اللعن والإحباط. لكني هونت عليه، بعد تأكيد مرارتي. وأخبرته أن أجدى رد فعل هو الاستمرار في حلمنا، بل توسيع رقعة زراعتنا. هضم كلماتي سريعا، ورفع رأسه بنظرة تحد شعرت بصلابتها، مقررا أن الحق معي.
بعدها بأيام، شعرت أن الشمس تتراجع مبتعدة، وأن نسيم البحر تلوث، وأن غبارا ملأ رأسي ليعكنن لحظتي. ما الأمر؟! هذا جو يناسب كوابيس المدينة وليس أحلام الساحل. لقد قاطعت مضجعي القديم الذي يشع عذابا، وصرت أنام كل ليلة بعمق فريد على أنغام الموج. استر يا رب. استر والنبي.
خرج الكابوس من عباءة الخفاء، وقفز بوقاحة إلى واقعنا، مهاجما عقر دارنا، كاتما أنفاسنا. ماذا يحدث؟ الشرطة تقبض علينا. ماذا؟! لأي جريمة؟! يقولون تشويه مياه البحر، الاستيلاء على الشاطئ، إقامة مشروع دون ترخيص ... ضربات عشوائية غبية وحادة مثل هذه. المحامية التي أعرفها جاءت من العاصمة؛ جادة، وعالية الصوت، وعظيمة الثقة كالمعتاد، لكن غير فاهمة ماهية الأمر بوضوح. ظلت تخفض عنقها وصوتها سائلة في تحير، رافعة حاجبها الأيسر، وطرف فمها الأيمن: «بطيخ؟ ... تحت البحر؟!»
باختصار - وأنا هنا أفضل الاختصار فيما يوجع قلبي - لجأنا للأبواب الخلفية، والظلام الذي يسمح بتمرير ما لا يسمح النور به؛ نقد وريقات مناسبة للشخص المناسب كي يتم العمل المناسب، تحت العنوان البليغ «لا من شاف، ولا من درى». هذا هو التلوث الذي أحسست به مبكرا. تماما مثلما حلمت بوفاة عمي بعد مجيئه من صلاة الجمعة، قبلها بأسبوع. وبزواج ابنة خالتي من جارها القصير، قبلها بسنوات. طبعا، رفضت هذا التلوث حين عرضه سليم، وأمنت عليه المحامية. لكنه كان الحل الأوحد الذي يبعدنا عن البرش. فكرت طويلا، وتنازعتني الرغبات والأهداف، ودخلت حلبة المصارعة مع ضميري، لأرهقه ويرهقني. الاتهام في جذروه باطل، لكن يبدو أن ثمة تجارا كبارا لم يرق لهم توغلنا في عالمهم، وغزونا لأسواقهم، واستيلاؤنا على زبائنهم؛ لذلك فلنحارب النار بالنار. لكن رائحة الرماد كانت مقززة. لم يحتملها قلبي الحساس. شعرت أني أنزلق في الموبقات التي أبغضها، وفلحت في النوء عنها طيلة عمري. أيقنت أن روحي أبي وأمي لن تزوراني في المنام ثانية، إلا معاتبتين في عصبية.
استمر عملنا كالسابق. لم يتأثر المكسب كثيرا. شاعت مزارع البطيخ تحت مياه البحر في الإسكندرية وغيرها. انفجرت ضحكة سليم المسرسعة ذات مرة: «أنا السبب. أنا العبقري. أنا رائد الحركة. كتب التاريخ ح تحمل - أخيرا - اسمي!» احتكر أحد المسئولين تجارة البطيخ البحري من الباطن. حقا، الفساد عندنا دولة كما قال صحفي معارض نفاه النظام إلى خارج البلد. لم يعد دمي صافيا أبدا بعد انخراطنا في دفع الرشاوى. وعاد فراشي - حتى في الإسكندرية - يصفع راحتي، ويمزق نومي، ويعذبني بعرق أغزر من السابق. تزوج سليم من امرأة جميلة، كانت لا تعرف القراءة والكتابة. «مش عايز إزعاج» كما قال. عاشا في سعادة بشقة فاخرة تبعد عن الشاليه مسافة 3 أحياء. من أرباحي اشتريت منه الشاليه، وقررت العيش فيه. أود الزواج مثله، لكن يبدو أني مولود بتردد خاص بهذا الأمر. كم أبغي استئصاله، لكن يبدو أن هذا لن يحدث قريبا.
أحيانا أرى المستقبل بجلاء ساطع. تصدمني أمور، وتفرحني أخرى. أحلم ببحر كله بطيخ، يجيء إليه المصيفون من جميع أنحاء العالم، بل المجرات. يسبحون ويأكلون ويستجمون. لكن سقف أحلامنا دائما قصير. محكوم علينا ألا نطمح بما يتعدى طموح الكبار. السمك الكبير الذي يأكل السمك الصغير حقيقة يعيشها كل زمان ومكان، وأحفظها منذ دروس الابتدائية، وبرامج د. مصطفى محمود، ومسلسل فالكون كريست. المشكلة أنها - هنا - مفروضة علينا دون فكاك. الحلم عليه رقابة. ويدك لن تطول لتمسك الشمس. هناك أوامر مختومة من الإدارة الحكومية تحظر على عينيك النظر إلى أعلى، لأنه ملك أسياد على كراسي شاهقة، أصواتهم منكرة، وهراواتهم جائعة للبطش، وأحذيتهم في وجهك طوال العمر. عدت إلى نقطة استسلام قديمة، لكن - هيهات - فخورا بخوضي للتجربة. ما آلمني رغم ذلك، لحظات عجز مأفونة، سخيفة، تعرف كيف تنفذ إلى روحي ساعة مغرب، لتقلب البحر ماء مغليا، والبطيخ خيارا مرا، والأمل عبدا ذليلا. ربما في الزواج نسيان، أو انتصار ما يتجاوز الهزيمة، أو أي علاج آخر لا أعرف له اسما. ربما. من كان يظن أن البطيخ يمكن أن ينمو في البحر على أي حال؟
الحلم
عرفت أني حبلى. في بطني طفل وليد تمنيته منذ زمن، وكنت أدعو الله يوميا في كل صلاة أن يرزقني به. لكني في لحظة صراحة، فتحت بطني، وقيدت الطفل، من لحمة ساقه الحمراء، بكلبش حديدي ربطته بعظامي، لأغلق بطني بعدها، مطمئنا أنه لن يولد الآن. اكتشفت أن زوجتي قد رأتني. فسألتني مندهشة، مستنكرة: «لماذا؟!» نظرت إليها النظرة المحترقة ذات المغزى، فحاولت ابتلاع أسفها الجسيم، وقوة قاهرة - أعهدها - تلوي رأسها إلى إطراق. مع الوقت، شعرت بتوعك في بطني، وأن معدتي ليست على ما يرام، وأن ثمة شيئا زائدا في أحشائي لا بد أن يخرج. لكني فرضت على الأمور هوية «العادي»، ومارست التناسي، وتجاوز الألم ... في غير راحة حقيقية.
تسوق
لم أكن أحمل شيئا كي أودعه في خزانة المكان قبل أن أدخل، إنهم لا يضعون حارسا عليها من الأصل، ولما وضعوا، كان بدينا ينعس كثيرا، كثلاجة كبيرة تفصل كهرباؤها مرارا. اختطفت السلة المعدنية اللطيفة، وأخذت أتجول في الممرات الواسعة الطويلة. المكان يلمع في ضوء النهار الداخل من الشبابيك، ولمبات نيون غزيرة بالسقف، وللتكييف قدرة غريبة على إيهامك أن كل شيء جميل ونظيف. الأنواع متعددة، والألوان فاتنة ... ماذا سأختار؟ وهل ستكفي سلتي؟ عموما، يمكن أن أمسك الباقي في يدي الثانية، أو أملأ السلة برجا أسند قمته بذقني. اخترت لعبة السلم والثعبان، لم ألتفت مبكرا فيها إلى عظة السلم الزاهي الذي تسمو عبره إلى أعلى فتكسب، والثعبان الداكن الذي تمتطيه ساقطا إلى أسفل فتخسر. المهم أنها تجمعنا وتضحكنا. هناك كاميرا ستصورنا في أثناء ذلك، لنتحسر لاحقا، وتثقل الهموم أجسادنا، وتغلظ وسائدنا. هناك قلم يكتب كل الإجابات الصحيحة في المدرسة، ويضمن النجاح. وهناك 10 أصدقاء يباعون في
package
واحد. سحقا لهذه المجموعة. دائما، وأبدا، يتبقى منها صديق واحد، يتحول - تدريجيا - إلى صاحب، أو يختفي من الوجود وحده دون تفسير! أعجبتني صباحات مشرقة، وأماني متفائلة، وسماء فضية تفردها بيديك، لكني ابتعدت عنها. لا أدري هل كان ذلك لعدم احتياجي لها، أم لغلائها. عبوات صغيرة لنصائح الأب، مؤكد على غلافها الخارجي، بخط منمنم، أنها مفعمة بمادة الحنان المستخلصة من قلوب أعظم آباء العالم. هجرتها، هذه السلع يصنعها نصابون، ويشتريها مغفلون. لم أصدق أن المكان يحوي وجبات الحزن السريعة! إن الأطباء حذروا أنها تجعل الدموع تجف مع الوقت، والجلد يثخن، والمشاعر تبهت. أنا أفضل شراء الحزن ككتاب أقرؤه بتمعن، وأحتفظ به في مكتبتي، فلا يفارقها لاستعارة، أو لتبرع. لكن لم لا؟ سأشتري وجبة أو اثتنين. التغيير مفيد، و«خلينا ع الموضة». علاقات الحب المراهق، نصف المجهزة، لم تغرني. ليست هناك أي متعة حقيقية فيها. إما أن يكون الطعام طعاما ومغذيا، وإما فلتذهب هذه الوجبات إلى الجحيم. جربت منها واحدة من قبل، وقضيت سنة كاملة في تلو معذب. معدتي ضمت إرسالها مع صدري وعقلي، لأعيش بثا حيا للشقاء اتصل يوميا. مررت على الحلوى. اتجهت دون تفكير إلى أنواع حلوى الغلط، معبئا سلتي بها. أريد أن أخطئ، فقد عشت أعمارا محروما منها، وحارما نفسي من تذوقها. كانت لذيذة. لذة تضربك بألم يسمو بك في حدائق عليا، وجنات لينة، ونوم مريح. وجدت أيضا حلوى الخطيئة، فهجمت عليها. أوقفني تعقلي حتى لا أغترف منها الكثير. أنت تعلم ما تسببه. هذه الحلوى لا تسوس الأسنان فحسب، إنها بالإضافة إلى ذلك تزيد الكولسترول، وتورم الجسد، وتعرقل عن الصلاة، ولا تعالجها حبوب الاستغفار العادية بسهولة. ستحتاج لعملية توبة مؤلمة ، وغالية ، وسيبقى ضميرك ينشرك بمنشاره، كثيرا أو قليلا، إلى يوم الرحيل. أف ... الشهوة نار تحرق. ماذا أفعل يا ربي؟ لماذا خلقتنا بنار تجوع لتشبع، وتشبع لتجوع؟! ما الحكمة؟! ثم إن عصرنا تباع فيه العرائس بأسعار لا يقدر عليها إلا المتريشون؛ نوع نادر من البشر أنا لست منه. لهم مولات أفخم من هذا المتجر المسكين بالمقارنة، ذات أدوار بلا نهاية، وتقبع في مدن خضراء شاسعة، محروسة بأمن خاص، لها أسوار شاهقة، وأسلاك شائكة، حتى لا تصور، أو تتصور، الحياة فيها. طيب ... لن أزيد في حلوى الخطايا، رغم أني أحتاج إلى سكرها الساخن، ولحظاتها المنقذة. هناك نجاحات معلبة، أخذت بعضها. لا يوجد في بيتي من يطبخ لي، ويستمتع معي. أكره رائحة النجاح المعلب، ذلك الذي تأكله وحدك ليلا أمام مسلسل التليفزيون، لكن ما باليد حيلة، وما لا يمكن حله يجب تحمله. سوائل التنظيف التي أفضلها أفلام قديمة. لكن النوعية المتوافرة حاليا، في كل أرفف القسم، أفلام جديدة توسخ شقتي. إنها نوعية رديئة بنت رديئة، تترك آثارا لا تنمحي في الأرضية، وخطوط هم أسود على قلبي. المكان غدا صامتا، حتى الموسيقى الداخلية المسجلة، التي اعتدت على سخافتها، تلاشت. لا أظن أن سمعي هو الذي ضعف! جلت بنظري في دائرة أنا مركزها. ما الأمر؟! ... أين الناس؟! إني لا أجد مشترين، أو باعة. الممرات ضاقت كذلك. هل يجددون المكان؟! هل أعلنوا أن غازا تسرب، ولا بد للكل من الاحتماء في مخابئ لم يدلني عليها أحد؟! لاح أمامي منظر يدميني وجعا. إنها الذكرى التي تعرف بخبث كيف تهرب كل فترة من سجني لها. يوم كنت في المعهد، أجلس داخل قاعة الدراسة، بالصف الأول، والمكان صاخب بطلبة دفعتي، يشغلون كل الصفوف عدا الأول. كانوا يرفضون مواجهة الدكتور، أو القرب منه إلى هذا النحو. منهم من يتحاشى أسئلته عن المنهج الذي لا يعرفونه، ومنهم من يريد الاختفاء في زحام بعيد، خلف رءوس عديدة، ليثرثر، أو يعبث بموبايله، أو يغمض عينيه نائما. انشغلت بترديد لحن أغنية أحبها لمحمد عبد الوهاب عن عشق الروح، بنبرة داخلية خافتة لا يسمعها غيري، أسمتها أختي في طفولتنا «زن». لكن بعد دقائق، تضاءلت الهمهمات، وخفت الأنفاس. لم أعبأ إلى حد القلق، يبدو أن الدكتور اقترب من الباب، وبدأ الكل في الصمت خوفا. دائما ما يحكمهم الخوف، وليس الاحترام. لكن الصمت تزايد، ولا حضور لدكتور. عزمت على فعل ما لم أفعله منذ دخولي؛ التوقف عن الدندنة، والنظر ورائي. وإذا بي لا أجد حضورا. المقاعد فارغة مثل جرائد بلا كلمات، أو ساعات دون عقارب. أين ذهبوا؟ علمت بعدها أن ثمة من أبلغهم أن المحاضرة ألغيت. لكن لماذا لم يخبرني أي منهم بهذه المعلومة؟ لماذا خرجوا وتركوني وحدي؟! الكل - بمن فيهم أصدقائي المخلصون - سعى من أجل نفسه، وأنا ... لم يتذكرني أحد. تحولت نبضاتي إلى صلبة، وصفعتني الوحدة صفعة تاريخية مشهودة لم يهدأ صداها مع الزمن حتى الآن. اقتربت بما يشبه التصوير البطيء إلى الكاشير، حيث اكتشفت أن خطوتي صارت منهكة للغاية. أتخيل قدرتي على المشي بأسرع من ذلك، لكن سيقاني لا تترجم هذه القدرة. الإضاءة تخبو محتضرة، وباب الخروج يبتعد. أسمع عاصفة كونية شنيعة بالخارج. هل قامت الحرب، أم القيامة؟! هذا العالم لا بد أن ينتهي يوما ما. ليس لأن لكل شيء نهاية، وإنما لأنه يستحق نهاية تعادل خطاياه المهلكة. جريت بسيقاني كأني أدفع فيلا إلى الأمام. تجردت - باكيا - من سلتي. جريت وجريت وجريت، صوت العاصفة جبار، دون برق رحيم ينير ظلام الشارع وراء الأبواب الزجاجية المغلقة. في آخر هذا النفق المعتم، انبعث نور. بقعة نور في حجم ابتسامة أمي. آمنت به، ومددت يدي إليه. تواصلت معه لا أعرف كيف. مسني امتداده الشفاف، وشعرت بدفء سار، واطمئنان حاضن. هناك منفذ. والله العظيم هناك منفذ. آآآخ، لو كنت اشتريت النور الطازج - المجاور لباب الدخول - من البداية، لما كان هذا هو حالي. رغم رخص ثمنه، فإني قررت بعناد غبي أني سأنتظر العرض التخفيضي عليه. ما أقذر مخي. سأغادر السوبر ماركت هذه المرة محملا بندم أكثر من كل مرة. وبعد اليوم ، أعرف أني سأذكر نفسي بشرائه أولا، ثم أنسى، أو أتجاهل ... كالمعتاد.
صفحة غير معروفة