بعدها بأيام، شعرت أن الشمس تتراجع مبتعدة، وأن نسيم البحر تلوث، وأن غبارا ملأ رأسي ليعكنن لحظتي. ما الأمر؟! هذا جو يناسب كوابيس المدينة وليس أحلام الساحل. لقد قاطعت مضجعي القديم الذي يشع عذابا، وصرت أنام كل ليلة بعمق فريد على أنغام الموج. استر يا رب. استر والنبي.
خرج الكابوس من عباءة الخفاء، وقفز بوقاحة إلى واقعنا، مهاجما عقر دارنا، كاتما أنفاسنا. ماذا يحدث؟ الشرطة تقبض علينا. ماذا؟! لأي جريمة؟! يقولون تشويه مياه البحر، الاستيلاء على الشاطئ، إقامة مشروع دون ترخيص ... ضربات عشوائية غبية وحادة مثل هذه. المحامية التي أعرفها جاءت من العاصمة؛ جادة، وعالية الصوت، وعظيمة الثقة كالمعتاد، لكن غير فاهمة ماهية الأمر بوضوح. ظلت تخفض عنقها وصوتها سائلة في تحير، رافعة حاجبها الأيسر، وطرف فمها الأيمن: «بطيخ؟ ... تحت البحر؟!»
باختصار - وأنا هنا أفضل الاختصار فيما يوجع قلبي - لجأنا للأبواب الخلفية، والظلام الذي يسمح بتمرير ما لا يسمح النور به؛ نقد وريقات مناسبة للشخص المناسب كي يتم العمل المناسب، تحت العنوان البليغ «لا من شاف، ولا من درى». هذا هو التلوث الذي أحسست به مبكرا. تماما مثلما حلمت بوفاة عمي بعد مجيئه من صلاة الجمعة، قبلها بأسبوع. وبزواج ابنة خالتي من جارها القصير، قبلها بسنوات. طبعا، رفضت هذا التلوث حين عرضه سليم، وأمنت عليه المحامية. لكنه كان الحل الأوحد الذي يبعدنا عن البرش. فكرت طويلا، وتنازعتني الرغبات والأهداف، ودخلت حلبة المصارعة مع ضميري، لأرهقه ويرهقني. الاتهام في جذروه باطل، لكن يبدو أن ثمة تجارا كبارا لم يرق لهم توغلنا في عالمهم، وغزونا لأسواقهم، واستيلاؤنا على زبائنهم؛ لذلك فلنحارب النار بالنار. لكن رائحة الرماد كانت مقززة. لم يحتملها قلبي الحساس. شعرت أني أنزلق في الموبقات التي أبغضها، وفلحت في النوء عنها طيلة عمري. أيقنت أن روحي أبي وأمي لن تزوراني في المنام ثانية، إلا معاتبتين في عصبية.
استمر عملنا كالسابق. لم يتأثر المكسب كثيرا. شاعت مزارع البطيخ تحت مياه البحر في الإسكندرية وغيرها. انفجرت ضحكة سليم المسرسعة ذات مرة: «أنا السبب. أنا العبقري. أنا رائد الحركة. كتب التاريخ ح تحمل - أخيرا - اسمي!» احتكر أحد المسئولين تجارة البطيخ البحري من الباطن. حقا، الفساد عندنا دولة كما قال صحفي معارض نفاه النظام إلى خارج البلد. لم يعد دمي صافيا أبدا بعد انخراطنا في دفع الرشاوى. وعاد فراشي - حتى في الإسكندرية - يصفع راحتي، ويمزق نومي، ويعذبني بعرق أغزر من السابق. تزوج سليم من امرأة جميلة، كانت لا تعرف القراءة والكتابة. «مش عايز إزعاج» كما قال. عاشا في سعادة بشقة فاخرة تبعد عن الشاليه مسافة 3 أحياء. من أرباحي اشتريت منه الشاليه، وقررت العيش فيه. أود الزواج مثله، لكن يبدو أني مولود بتردد خاص بهذا الأمر. كم أبغي استئصاله، لكن يبدو أن هذا لن يحدث قريبا.
أحيانا أرى المستقبل بجلاء ساطع. تصدمني أمور، وتفرحني أخرى. أحلم ببحر كله بطيخ، يجيء إليه المصيفون من جميع أنحاء العالم، بل المجرات. يسبحون ويأكلون ويستجمون. لكن سقف أحلامنا دائما قصير. محكوم علينا ألا نطمح بما يتعدى طموح الكبار. السمك الكبير الذي يأكل السمك الصغير حقيقة يعيشها كل زمان ومكان، وأحفظها منذ دروس الابتدائية، وبرامج د. مصطفى محمود، ومسلسل فالكون كريست. المشكلة أنها - هنا - مفروضة علينا دون فكاك. الحلم عليه رقابة. ويدك لن تطول لتمسك الشمس. هناك أوامر مختومة من الإدارة الحكومية تحظر على عينيك النظر إلى أعلى، لأنه ملك أسياد على كراسي شاهقة، أصواتهم منكرة، وهراواتهم جائعة للبطش، وأحذيتهم في وجهك طوال العمر. عدت إلى نقطة استسلام قديمة، لكن - هيهات - فخورا بخوضي للتجربة. ما آلمني رغم ذلك، لحظات عجز مأفونة، سخيفة، تعرف كيف تنفذ إلى روحي ساعة مغرب، لتقلب البحر ماء مغليا، والبطيخ خيارا مرا، والأمل عبدا ذليلا. ربما في الزواج نسيان، أو انتصار ما يتجاوز الهزيمة، أو أي علاج آخر لا أعرف له اسما. ربما. من كان يظن أن البطيخ يمكن أن ينمو في البحر على أي حال؟
الحلم
عرفت أني حبلى. في بطني طفل وليد تمنيته منذ زمن، وكنت أدعو الله يوميا في كل صلاة أن يرزقني به. لكني في لحظة صراحة، فتحت بطني، وقيدت الطفل، من لحمة ساقه الحمراء، بكلبش حديدي ربطته بعظامي، لأغلق بطني بعدها، مطمئنا أنه لن يولد الآن. اكتشفت أن زوجتي قد رأتني. فسألتني مندهشة، مستنكرة: «لماذا؟!» نظرت إليها النظرة المحترقة ذات المغزى، فحاولت ابتلاع أسفها الجسيم، وقوة قاهرة - أعهدها - تلوي رأسها إلى إطراق. مع الوقت، شعرت بتوعك في بطني، وأن معدتي ليست على ما يرام، وأن ثمة شيئا زائدا في أحشائي لا بد أن يخرج. لكني فرضت على الأمور هوية «العادي»، ومارست التناسي، وتجاوز الألم ... في غير راحة حقيقية.
تسوق
لم أكن أحمل شيئا كي أودعه في خزانة المكان قبل أن أدخل، إنهم لا يضعون حارسا عليها من الأصل، ولما وضعوا، كان بدينا ينعس كثيرا، كثلاجة كبيرة تفصل كهرباؤها مرارا. اختطفت السلة المعدنية اللطيفة، وأخذت أتجول في الممرات الواسعة الطويلة. المكان يلمع في ضوء النهار الداخل من الشبابيك، ولمبات نيون غزيرة بالسقف، وللتكييف قدرة غريبة على إيهامك أن كل شيء جميل ونظيف. الأنواع متعددة، والألوان فاتنة ... ماذا سأختار؟ وهل ستكفي سلتي؟ عموما، يمكن أن أمسك الباقي في يدي الثانية، أو أملأ السلة برجا أسند قمته بذقني. اخترت لعبة السلم والثعبان، لم ألتفت مبكرا فيها إلى عظة السلم الزاهي الذي تسمو عبره إلى أعلى فتكسب، والثعبان الداكن الذي تمتطيه ساقطا إلى أسفل فتخسر. المهم أنها تجمعنا وتضحكنا. هناك كاميرا ستصورنا في أثناء ذلك، لنتحسر لاحقا، وتثقل الهموم أجسادنا، وتغلظ وسائدنا. هناك قلم يكتب كل الإجابات الصحيحة في المدرسة، ويضمن النجاح. وهناك 10 أصدقاء يباعون في
package
صفحة غير معروفة