الزائدة
نمت تحت عيني اليسرى زائدة جلدية رفيعة، طالت بسرعة، فارضة نفسها علي؛ خاصة عند جلوسي على الكومبيوتر للقراءة أو الكتابة. لمرات عديدة، قفشت نفسي أداعبها عبر إبهام وسبابة يدي اليسرى، تسليا عند مشاهدة عمل فني، أو حين الانغماس في التفكير بأمر ما. إنه بديل لحركات مماثلة اعتزلتها، كتمرير باطن أظافري على شعيرات ذقني، أو تمزيق شفتي السفلى بأنيابي العليا، أو هز ساقي، أو هرش حواجبي ... إلخ. بمرور الأيام، طالت الزائدة أكثر حتى قاربت السنتيمتر طولا، وصارت ملحوظة للكل. تمتد مرتفعة في الفراغ، مثل ذراع في وضع دعاء، أو هتاف. بدأ إصرارها على الظهور أمام عيني يضايقني. غيرها ظهر واختفى بعد قليل، لكن هذه متقدمة في الطول والعمر. جربت مرهما نصحني صديق به. وبعد أسبوع أو 10 أيام، لم يحدث أي شيء. بل شككت أنها زادت طولا وسماكة أيضا! ما هذا الاستفزاز؟! لقد تحولت إلى جار سوء، لا يريد الرحيل، ولا تأخذه مصيبة! ذهبت إلى الطبيب في المستشفى الحكومي. الرجل ذاهل. دائما ذاهل. يفتح عينيه إلى آخرهما، وينظر إليك مليا، في صمت ثقيل، كأنما يتهمك بجريمة هو شاهدها الأول، ويحاول تهديدك بألعاب نفسية حتى تعترف. ما علينا، حكيت له الأمر بلهجتي الطفولية المسرعة، فنظر وصمت، حتى ظننت أنه غاب عنا، ثم سألني معاتبا: «وما قصتهاش ليه؟!» قالها بنبرة أستاذ يلوم تلميذه على عدم عمل الواجب. هل هذا الرجل طبيب بالفعل؟! سكنني الشك مؤخرا حول كون أصحاب المهن متخصصين فيها. فنحن - كما تعرف عز المعرفة - أصبحنا نعيش عالما مقلوبا، لا أحد فيه يعمل بتخصصه؛ خريج التجارة يعمل في سواقة الميكروباص، وخريج الآداب يعمل في الزراعة، وخريج الشرطة يعمل في الإعلام، وخريج الحقوق يعمل في التجارة. أعلنت استغرابي كله، وناولته واحدة من نظراته الصامتة. صحيح كانت نسخة مختصرة، لكنها أمتعتني. كتب لي بخاخا كمن يطرد بائعا لحوحا على باب بيته. جربت هذا البخاخ لشهر، شهرين. قصرت الزائدة كأنما قصت ظفرها، وأعتقد أنها عوضت ما فقدته حينما توقفت عن استعمال بخاخ د. «برق» هذا. طالبتني أمي أن أزور عيادة متخصصة في الأمراض الجلدية نالت احترام ومحبة الكل، ولم يسمع أحد عن فشلها في معالجة أي حالة من قبل. سجلت الأمر في أجندة المواعيد، ثم اختفت الأجندة. سجلت في جانب رأسي فكرة كتابتها من جديد، ثم اختفى هذا الجانب. مرت أسابيع متشابهة لم أحصها، ثم اكتشفت - في لحظة ما - أن مرأى الزائدة في مرآتي لم يعد غريبا. وجودها لم يعد يمثل لي مشكلة، أو يشغل بالي من الأساس. بالي منشغل بكل ما هو أهم؛ تصليح الصنبور الذي لطالما ينقط، توبيخ البواب على عدم مسح السلم، مراسلة شركات بالخارج كي تمنحني فرصة سفر، ادخار مبلغ يثمر أملا في أن أشتري ولو كوخا طيبا للزواج الذي تأخر كثيرا، محاولة العثور على جزار مأمون اللحم، أمين الميزان، وبطاطس غير مرشوشة، والنص الأصلي لقصة الشاطر حسن؛ كي أعرف أي الطرق اختار ... السلامة، أم الندامة، أم اللي يروح ما يرجعشي. انصرفت عن مداعبتي للزائدة إلى تمرير أصبعي على نتوء بالكرسي البلاستيكي الذي أجلس عليه، وذاب حضورها وسط مفردات العالم الذي أعيش فيه. باختصار، تعودت على الزائدة، وتعود الناس عليها، حتى أكرمتها ذات صباح، تراقصت فيه سحب الرضا فوق رأسي، مدشنا حقيقة كونها ليست بزائدة، وإنما جزء أصيل مني . والآن حينما تسألني أمي، بلهجة استهجان وعرة، متى ستذهب إلى العيادة الجلدية إياها؟! أنظر إليها وفي عيني ابتسامة ناعمة، كسولا عن أي رد.
اللمسة
في صباح جميل، يكفي أن نوره وصل إلى قلبي وأنعش نبضاتي، صادفت على الرصيف زهرة بيضاء خلابة، كأن الهواء قطفها وطار بها إلى هنا، أو سقطت من بوكيه متجه إلى محب محظوظ. ضخت الفرحة دماء راقصة في عروقي، مؤمنا أن الله أهداني هذه الزهرة. ولما دنوت منها، ولمستها، تحولت إلى زهرة بلاستيكية.
في الطريق، اشتريت أصيصا ممتلئا بالطين. وبمجرد وصولي إلى المنزل، وضعت الزهرة في الأصيص، واخترت لها موقعا في شرفتي الواسعة، تواجهه الشمس يوميا، بين العاشرة والحادية عشرة صباحا، ساقيا إياها بإخلاص.
خلال أسابيع معدودة، علت ساق الزهرة سامقة، طارحة زهورا بلاستيكية ملونة، لكن صامتة، سميكة، تلمع ببرود، ولا عبير فيها، وإنما رائحة شبه كريهة تقارب رائحة ورقة سلوفان اقتربت من النار، أو مدفأة صينية رخيصة تعمل بالكهرباء.
فاحت رائحة الزهور غائرة، تسربت من الشرفة إلى الصالة، وحجرة النوم، بل ممرات رأسي. لم تنزعج زوجتي، فقد تحول أغلبها إلى بلاستيك منذ زمن، وربما كانت هذه الرائحة في أنفها «عبيرا»، لكن انزعج ولدي الصغير، متأففا، بأنف منكمشة، وابتسامة تخفي قرفا.
تعمدت مؤخرا إطعام ولدي أكلا بلاستيكيا. أريده ألا يحس بالغربة، وأريد لقرفه أن ينتهي. لكني في لحظة تبدو عابرة - وهي ليست كذلك - توصلت إلى الإجابة العبقرية. فبينما كنت أغلق الشيش بإحكام، قبيل المغرب كما كل يوم، صدمتني الحقيقة برقة؛ إن الولد سيكبر، غدا أو بعد غد، وستصير له القدرة على تحويل الأشياء إلى بلاستيك أيضا، فلماذا الاستعجال إذن؟
وأنا أريح جسدي على الفراش في قيلولة سريعة، علا صياح مخاوف وليدة بأن أيامه ستكون أفضل، ولن يتمكن من نيل هذه القدرة. لكن، ساعتها لماذا سأخاف؟! إنه اليوم الموعود. اليوم الذي لا نجرؤ على الحلم به في زمننا، وفشلنا جميعا في الوصول إليه حتى حينما أردنا. تصارع الخوف والشك والقلق في صدري، ولم يهزمهم نومي، إنه فقط أخفض أصواتهم.
تابعت المسلسل مع زوجتي، إنها تنفعل به كأنه الحياة، تغرق نفسها فيه أكثر من مواقف جادة تواجهنا. اعتدت على ذلك، وركنت إليه في شيء من المحبة. أعشق في حبيبتي قصر عمر ذاكرتها. تلك المقدمة التي تعلو العقل، والتي تتهشم عند البعض من كثرة التصادم مع المتاعب، عالية عندها للغاية. أعلى من الاصطدام بأي مقلق حقيقي. لم تعلم أن أكثر من نصف نظرات هيامي بها، وحمدي الدائم لله عليها، كان لهذا السبب عينه. أشجاني أن ملمس يدها صار ناشفا، أدق عليه بأطراف أصابعي كأنه سطح منضدة. لكني من ناحية، تعايشت مع ذلك على أنه من ضغط أعمال البيت، وغسيل المواعين السرمدي. ومن ناحية أخرى، لم أرد أن أجرح شعورها، فهي المهد الذي يلفني ويهدهدني، وبدونه أنا هاموشة تائهة. ومن ناحية ثالثة، من قال إن الحياة لا بد أن تكون كريمة بالكامل، مرضية طوال الوقت؟! أدام الله وجودك يا ثروتي، وأبعد عنك أي لحظة ثقيلة، وجعل يومي قبل يومك.
صفحة غير معروفة