Word ، خارجا برأسه منها. كانت ملامحه ضحوكة، لكن بها شقاوة ذكرتني بأشقى زملاء فصلي في المدرسة الابتدائية؛ كانوا يكسرون جل القواعد، ويلعبون دون مذاكرة، ويحققون أسوأ الدرجات. لذا، منذ صغري، رسخ عندي أن «شقي» تساوي - دائما - «فاشل». ومع هذا لم يرسبوا، ليس لأنهم واظبوا على تدارك أنفسهم في آخر لحظة، والنوء بها عن مصيبة كهذه، بل لأن معلمات المدرسة كن ينفذن أوامر مالك المدرسة. كان يريد المحافظة على مدرسته بلا راسبين. مسألة سمعة يجب أن تبقى نظيفة، لامعة، مثل بدلته الغالية التي كانت تغطي جسده الضخم.
نرجع للطفل ذي الثماني أو التسع سنوات، الذي مزق صفحتي، متطلعا إلي بابتسامة واسعة تحتفل باللحظة والفعل. لم أظن أنها دعوة للعب، بقدر ما شممت رائحة سخرية كريهة، وبالتالي أمرته بصوت صلب أن يخرج من الصفحة، ويعيدها كما كانت. فنفذ الماكر الجزء الأول، خارجا من الصفحة، لكن نحوي! اخترق الولد شاشة الكومبيوتر إلى غرفتي، وانتهت الورقة كأنها لم تكن. سيطرت على غضبي بأعجوبة، ومثلت دور البارد باقتدار، وتركته يلهو على سطح سريري بسيارة لعبة صغيرة كانت في جيبه، لأفتح ملفا جديدا، وأبدأ في الكتابة من البداية.
تعدى على هدوء الحجرة، مبتكرا بفمه أصواتا للسيارة. سألته بلهجة محايدة دون أن أشيح بوجهي عن الشاشة: «انت جاي ليه؟» فهمهم، ثم صدمني ببساطة: «عشان أقولك إني زهقت منك!» أتوقف عن نقر الأحرف، وألتفت إليه واللوم يقودني. وبينما هو نائم على بطنه فوق الملاءة، يلعب بأقدامه في الهواء، حرك حدقتيه نحوي، كأنما يستشف رد فعلي، ثم ما لبث واستأنف اللهو بسيارته، لاطما إياي: «ما انت عارف انك كداب.» أزمجر غاضبا، فتوتر بسرعة، وتراجع مصححا: «ما انت عارف ان حضرتك كداب!» أنهض واقفا كمن يشحذ طاقته لمشاجرة، أو يرفع أهبة الاستعداد لاندلاع معركة. لم يكترث، عائدا إلى سيارته، ناهضا لتمريرها على الحائط الملاصق للفراش، معلنا دون النظر إلي؛ لم أعرف إحراجا مني، أم استهانة بي: «كل مرة تقولي فيه ناس طيبين، وقانون بيتطبق، وعدالة بتتحقق. دا انت مفيش مرة خليت البوليس يفشل في القبض ع المجرم!» ...
انثنى مفصل رقبتي للأرض وحده. ثم في ثانية واحدة، تنبهت رافعا رأسي إلى وضعه العادي. ضغطت أسناني على بعضها، ومس الاضطراب أنفاسي، فاتجهت إلى الشيش، كي أشم بعض الهواء. أكمل الولد بأريحية كأنه يحادث صديقه عن معلمه غير المفضل: «وعمال تكلمني عن المثل والمبادئ والقيم ... ما تخليك واقعي بقى!» عرفت أن هذا ليس وعيه. لا يوجد طفل يتكلم بهذه الألفاظ. إن أحدا قام بتحفيظه كل ذلك. لكن من؟ ولماذا؟ وكيف يستجيب له بهذه السرعة؟ هذا الولد صديقي. فانلته البيضاء ذات الخطوط الحمراء هذه أنا من أهديته إياها في العيد الماضي. طاقيته الزرقاء ذات الكاب الصغير من اختياري. الزمردة البنفسجية التي قهر بها الغولة الهائلة أنا من وضعها في طريقه. الدولفين الذي قطع فوقه بحر الظلمات كان ولا يزال ملكي. وحينما يرفض عائلته، أو ترفضه، أنا من أصالحهم في النهاية. فكيف تمت برمجته ليهاجمني على هذا النحو؟!
ناديته، فلم يجب. أعدت النداء بصوت عال، فالتفت إلي ببراءة حتى كدت أصدق أنه يسمعني لأول مرة. طلبت منه الاقتراب، فأمسك لعبته، سائرا على السرير، حتى وصل إلى الطرف الذي أقف بجواره. وجهه ساعتها كان في مقابلة وجهي بالضبط. وفي ضوء الشيش هالني ما رأيته؛ ملامح الولد تقدمت في السن. لا، لم يصبح على أعتاب المراهقة بشعر تحت أنفه، وعيون أكثر اتساعا، بل صار في الأربعين، أو ما بعدها. ثمة تجاعيد وشعيرات بيضاء، وتجهم لا ترسمه إلا فرشاة الزمن. تجمد لساني، لكن علا لهيب الهلع في عيني. فابتسم الولد ابتسامة يتلبسها شبح الحزن، وربت على كتفي مهونا، وأخبرني بصوت خفيض؛ لم أميز لسيطرة اليأس أم تعمد الاتهام: «نعم، أنا كبرت. لكنك أعجز من إدراك ذلك.» وبعد انكسارة في عينه شرخت لحظتي، تلاشى نثرات ملونة، لمعت في ضوء الشمس المتسلل من الشيش، ذائبة فيه، خارجة من الحجرة نحو عالمه الأصلي، الذي يعيش فيه ويتمتع به.
شعرت بثقل خطيئة من الكبائر. أسطوانة رخام غليظة احتلت صدري. ساقي ثابتة لا تتحرك، مزروعة في بلاط الأرضية. تذكرت لحظة قاسيتها منذ سنوات عندما التحقت بالمعهد، وورشة إبداعية، واشتركت في مكتبة عامة، جاريا بينها وبين مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائية، كل ذلك - في الوقت ذاته - لدراسة التأليف. وكيف في يوم ما من تلك الأيام، هبطت من على فراشي، لأعجز عن نقل قدمي من موقعهما. ألزمني الدكتور: «راحة لمدة 10 أيام على الأقل. أنت أجهدت نفسك.» كنت ولا أزال أحمل نفسي فوق طاقتها، كي أقرأ وأتعلم، أكتب وأتقدم. ثم يجيء هذا الولد الآن ويسحب كل طاقتي، لتتوقف ساقاي قبل أن تصلا إلى الكومبيوتر مجددا. ... بكيت طبعا. ليس من هذا الشلل، وإنما من الولد العجيب ، وعالمه الصاخب.
جوائز
بصوت عجول؛ فيه حماس طفلة، وخفة راقصة باليه، وتوتر موظف جديد، تخبرني أن شراء الوجبة المستحدثة أخيرا، ذات المائة جنيه، يضمن لي الدخول في سحب جوائز؛ منها الكومبيوتر المحمول، والمبلغ الباهظ، والسيارة الفاخرة. بعد أن هدأ توهجها، ساد صمت من إخراجي، ثم سألتها بترو: «... مفيش رحلة حج؟!» فأجابت بابتسامة تتلألأ إلى ضحكة، فهمت أنها ردها الوحيد. بعدها، طلبت ال
order
المعتاد، الرخيص، من سندوتشات الدجاج المقلي، بدون مايونيز، أو خس. ثم ودعتها كأنما أربت على رأس طفلة أبهجتني.
صفحة غير معروفة