هبطت السلم، عائدا إلى الفصل، حيث لقيت الجميع هناك؛ يلعبون، ويغنون، ويثرثرون. مغلقين الشبابيك، ومتنعمين بالدفء. أخبرتهم بصوت عال، وتمثيل محكم، أن الأستاذ يريدهم هناك حالا. فرد أحدهم ب «تناحة» أعجبني منطقها: «لو عايزنا، ييجي هو هنا!» ... فعلا، إنه لا يريدنا، ولا يكترث.
نزلت قاصدا غرفة الزراعة، متذكرا أنها مادة هامشية، لا ندرس فيها شيئا تقريبا. وجودها يساوي عدمها. لكن أليس لهذا الوقت قيمة؟ إن الدقيقة لها أهميتها، ويجب ألا تعبرنا هكذا دون أن نستفيد منها. سيحاسبنا الله على كل ثانية! قلت في نفسي أني سأذهب إليه، وأسأله لماذا لا يحرك ساكنا؟ وكيف نتصرف حين صمته المبهم هذا؟ وماذا أفعل أنا؟
بلغت مكانه، ودنوت منه. كان مثل ميت يتنفس. صنم يقرأ. روبوت بنظارة «كعب كباية»، متدلية على أنفه. بحثت عن الكلمات على لساني، فلم أجد. ريقي ناشف كالحطب. هل أنا خائف من مواجهته؟ نعم. حشدت غيظي، واستنفرت جرأتي، ونطقت سائلا: «يا أستاذ ... يا أستاذ ...» ودون أن يترك ما يقرأ، أو يعيرني نظرة واحدة، رد بلهجة زاجرة، ونبرة خفيضة: «ارجع مطرحك.»
عدت إلى دكتي بتباطؤ كان كل ما أملك من اعتراض، وانتظرت جرس نهاية الحصة حتى أعود إلى فصلي، متمنيا أن يلاقي أستاذي من يعامله هكذا يوما ما، وداعيا الله أن يخرجني من هذا السجن على خير.
حلم الحب
كنت أمام عمارة قديمة، تشبه بيت جدتي، وأناس متجمعين، يشبهون أقاربي الذين لم أعد أراهم إلا في المآتم، وعبد الحليم حافظ يقف ببدلة فخمة، متوترا، يفرك كفيه كزوج يقف على باب حجرة عمليات، منتظرا تحوله إلى أب. هدأت من روعه، فهناك حفلة داخل المكان، وهو نجمها، ولا بد أن يثق في نفسه، ويواجه جمهوره، ليبهرهم بأحلى الأغاني. نظر إلي بعيون مبيعة للحزن، قائلا برهافته المعهودة، لكن مع يأس هذه المرة: «مش ح أقدر من غيرها ...» فهمت تلميحه لغيابها. لكن ماذا نفعل؟ لقد افترقا. لا أعلم السبب بوضوح؛ أكانت غنية وهو فقير؟ أم العكس؟ أم فهم خطأ أنها خانته؟ أم العكس؟ إلى آخر قاموس الميلودراما الذي تقتات منه أفلامنا القديمة. انتقل حزنه إلي، لكني لم أظهر ذلك، ودفنت شجني وراء ابتسامة بارعة، مربتا على كتفه، كي يخلع عنه توتره، ويتجه لمسرحه، وفرقته، وحلمه. دخل وأنا أسمعه يرد دون كلام أنها - أيضا - حلم، ربما الحلم الذي لا تكتمل بدونه بقية الأحلام. تلاشى ظله، لكن ليست حرارة مشاعره. وبعد ثوان، سمعت همسة أعرفها وأحبها. التفت في الجانب، لأجدها في سيارة مختفية تحت ظل شجرة وارفة. إنها سعاد حسني، حبيسة سيارتها، عاجزة عن الدخول، والالتقاء مع حبها. أف! ... ما الذي يعقد العلاقات الإنسانية إلى هذه الدرجة الغبية؟! لماذا يلتقي البشر لينفصلوا؟! ألا يدركون أن البعد موات؟! لماذا يصنعون عذابهم بكل هذا الإتقان؟! إنهم كعشماوي والمجرم الذي سيتم إعدامه شنقا في الوقت ذاته! فهمت من ازدحام الدموع في مقلتيها أنها تتألم لعدم قدرتها على رؤيته، وحضور نجاحه. أخبرتني أنها مستعدة للتضحية بأي شيء حتى تكون بجواره في تلك اللحظة، مقاسية شعورا ضاغطا أنها نصف إنسان، وتهفو إلى نصفها الآخر بجنون، لكن الظروف التعيسة تمنع ذلك. عرفت أني أشاهد قناة المستحيل. أني أقرأ رواية مكتوبا عليها ألا تكتمل. البعض يرى في سماع الأحلام التي يتعذر تحقيقها طرافة وتسلية. كيف يحتملون ذلك؟! إنه أكثر شقاء يمكن أن تتعرض له. حلم بلا تحقق هو طعنة في حق إرادتك كإنسان. أليس العجز هو أسوأ ما يتعرض له خليفة الله، القادر القدير، على الأرض؟! يبدو أن ملح الأيام السوداء التي نعيشها منذ عقود ملأ المسام، والدماء، والأرواح، حتى غدا المرور به في طريقنا، أو في طرق الآخرين، جزءا من أنفاس الواقع ليس إلا. نظرت إليها والقنوط يقطع لساني، كانت تعرف أن لا شيء بيدي أو بيدها. هزمتها دموعها، بينما تراجعت مهزوما أمام الموقف، عائدا إلى بوابة البيت، أو المسرح، راكلا بقدمي حجرا رماديا تائها. كان مثل قلبي. لكن على عكس الحجر، سأل قلبي نفسه: أيهما أردأ حالا؛ قلوب تحب، وتحب ... أم قلوب لا تجد من تحبه، وتحب منه؟
كيف تعالج قرف الديناصور؟
حادثني الديناصور - بقرف حارق - أن الأيام لم تعد كريمة معه كما كانت زمان. فالكائنات مقهورة جاهز. والقتال انتهت منه المتعة، أو انتهى. وافقته محاولا الشعور بمأساته. هممم، المفترس يعاني مللا ... ملل سهولة الافتراس. تقمصت وجهة نظره؛ كما اعتدت طيلة عمري حتى قبل أن أصبح مؤلفا، وأكثر من ذلك عبرت عن مشكلته كأنها مشكلتي. لا أدري من علمني هذا الفعل الشنيع؛ أن أتقرب إلى عدوي، باحترام جم. هل الغاية خبيثة، وراءها تعقل بعيد، كي أكسب ثقته، ثم أنفذ إليه من حيث لا يتوقع؟ أم أنه غباء صرف، وخنوع بغيض، هدفه مكسب القرب لآخر؟! ما وصلت إليه أن لا أحد علمني ذلك، أنا من سعيت إليه كثيرا رغم شمي رائحة النفاق فيه. شرحت له ما حدث، ويحدث. لا أحد يريد أن يقاتل. ليس لاقتناعهم بالسلام، وإنما لضعفهم من كثرة الحروب. النزول إلى الغابة لشراء غرض من السوبر ماركت صار رحلة مفعمة بالمخاطر. هناك الموتوسيكل الذي يجتاح الرصيف. وهناك السيارة التي تنطلق في الاتجاه العكسي بسرعة عمياء. وهناك الشحاذ اللحوح، العنيف. وهناك تلال القمامة المتوحشة. وهناك طوفان الأمطار، أو المجاري ، الذي يغرق الشارع في انطلاق. وهناك الكلاب الضالة. وهناك الحفر والنقر، المختلفة الأحجام والأعماق. وهناك الرصيف الذي احتله الباعة ليعرضوا فيه بضاعتهم المستوردة الفقيرة. وهناك ذلك المخلوق المتضخم، الذي ينفث فينا نارا لا آخر لها، واسمه الزحام. وهناك البرود الإنساني الغليظ، الذي سيجعل البائع إذا ما سمعك لا يرد عليك. وهناك الأسعار التي تتجاوز السحب في مسخية تتزايد يوميا. وهناك تاريخ الصلاحية الذي سيكون إما ممسوحا، وإما مزيفا، وإما - في أحسن الاحوال - منتهيا بعد أيام. هذه خمس دقائق من حياتهم يا سيادة الديناصور، فما بالك بأعمار وحيوات؟! لقد أرهقتهم غابتهم، واستنفدت طاقتهم. وأنت تتحدث عن فنون الحرب، ومناهج القتال، ولذة الندية. كل الرائع موجود بالخارج الآن، أو بالداخل زمان. لذلك لا تطمح في رائع هنا حاليا، وإلا استنفد هذا طاقتك أنت أيضا. بدا وكأن الديناصور يزن كلماتي. وفي ارتفاع حاجبه الأيسر، وتقدم شفته السفلى، وهزة رأسه الخفيفة، أدركت استحسانه للوزن. أطلقت زفرة راحة غير مسموعة، وخرج الاطمئنان مع أولاده في رحلة خلوية داخل صدري. لكن في أقل من ثانية، كان الديناصور قد اختطفني من مطرحي، وبلعني في بطنه. طبعا أنا لست سيدنا يونس، وإنما ماسح جوخ غير موهوب. ليتني قلت إن الكائنات تخافه لأنه الأقوى، أو إنهم صاروا يحبون افتراسه لهم بمرور الوقت!
زيارة من الولد العجيب
مزق منتصف ورقة برنامج ال
صفحة غير معروفة