وضج الغلمان بالضحك، وضحك المدرس نفسه وقال لي بسخرية: إيه يا سيد أمك؟
وقهقه الفصل بالضحك، وتولاني الذهول، ولبثت ذاهلا حتى اغرورقت عيناي، لم يكن لي فيهم رفيق أو صديق، فقد بدا عجزي عن اتخاذ الأصدقاء منذ ذاك العهد البعيد، فلم يرحمني أحد منهم، ودعوني منذ تلك الهفوة: ب «نينة»، حتى غلبت على اسمي الحقيقي، وكنت أتحاماهم مقهورا مغلوبا على أمري، ونار الغضب ترعى صدري.
وفي نهاية العام جاءتني شهادة الأصفار فاتهمت أمي المدرسة، وقرر جدي أن يلحقني بالمدرسة الابتدائية، ولما كنت متخرجا من مدرسة أهلية اشترط الناظر أن أؤدي امتحانا، ومضى جدي بي إلى المدرسة قبيل افتتاح العام الدراسي، وانتظر نتيجة الامتحان. ولم تكن بحاجة إلى الانتظار، ورجا الناظر أن يقبلني بصرف النظر عن نتيجة الامتحان، وأراد الرجل أن يجامل جدي لكبر سنه ومقامه، فطلب إلي أن أكتب اسمي «كامل رؤبة» ولكني أخطأت في كتابة رؤبة، فاعتذر الناظر من عدم إمكان قبولي. وعاد بي جدي وهو يسخر مني طوال الطريق، وقال لأمي وهو ينفخ: لا فائدة ترجى من إعادته إلى المدرسة الأولية، فسأحضر له مدرسا خصوصيا هذا العام.
وأنصت إليه وأنا لا أصدق أذني، سألته وأنا أداري فرحي: هل أبقى هذا العام في البيت؟
فحدجني بنظرة غاضبة من عينيه الخضراوين وقال بغيظ: يا فرحة أمك بك!
7
واستقبلت عاما مثمرا لأول مرة في حياتي، وجلست آمنا مطمئنا بين يدي مدرسي الشيخ، أتلقن مبادئ العربي والحساب. بدأت أخطو الخطوات الأولى في طريق التعليم، وإن مضت ساعات الدراسة في ثقل وضيق كالعادة، ولكي أضمن معاملة حسنة من المدرس أجلست أمي غير بعيد من باب حجرة المدرس للاستنجاد بها عند الحاجة. ولا عجب فإن ذكرى العامين اللذين قضيتهما في مدرسة الروضة - ما بين ضرب المدرسين واعتداء التلاميذ - لم تمح من نفسي قط. ولم أكن أتصور حتى ذلك الوقت أن التعليم واجب ضروري سأؤديه شطرا طويلا من العمر، ولكني عددته عقابا فرض علي لسبب لا أدريه، ولم أيئس من أن يلين قلب جدي يوما فيعفيني منه.
على أن أمي لم تكن أسعد حالا مني؛ كانت تعاني عذابا من نوع أشد، وقد ازدادت كآبة في تلك الأيام، فلم تكن تخلو إلى نفسها حتى تبكي مر البكاء، ولم تكن تجلس إلى جدي حتى تفاتحه بالأمر الذي يقض مضجعها! أجل لم يعد يفصل بيني وبين التاسعة إلا أشهر قلائل، فإذا بلغتها حق لأبي أن يضمني إليه، وهو لا بد فاعل كما فعل بأختي وأخي من قبل. وقد تهددنا ذاك الخطر حين بلغت السابعة، ولكن جدي كتب إلى عمي - وهو من كبار المزارعين في الفيوم - راجيا أن يستشفع لي عند أبي ليتركني في كفالة جدي حتى أبلغ التاسعة، وقبلت الشفاعة بمعجزة من السماء. وها قد اقتربت التاسعة، ولسوف أنتزع من أحضان أمي ما لم يتنازل أبي عن حقه في استردادي. وبكت أمي يوما في محضر جدي وقالت له: لقد فقدت راضية ومدحت فلم تقع عليهما عيناي منذ تسع سنوات، ولم يبق لي إلا كامل، فهو عزائي الوحيد في هذه الحياة، ولا أدري ماذا أفعل إذا سلبني الرجل إياه؟!
وهز جدي رأسه الأشيب متبرما، وكان ذاك الحديث يكربه، وقال لها: وماذا بيدي أن أفعل؟! هذا حكم الشرع، وما لنا من حيلة فيه، والرجل الذي تعنينه هو أبوه على أي حال، وليس برجل غريب!
فهتفت أمي في تألم واحتجاج: أبوه! .. أتدعو هذا الوحش أبا؟! يا أسفي على راضية ومدحت في البيت الذي جعل السكير منه حانة. إن الأبوة لم تختلج بصدره قط، وكامل قد ترعرع في رعايتي ونهل من حناني، ولم يدر شيئا عن شواذ المخلوقات، فإذا أخذه الرجل هلك بين يديه، وهلكت هنا وحدي!
صفحة غير معروفة