فصرخ في وجهي بصوت غليظ كالرعد: عد إلى قمطرك .. عمى في عينك!
وأذهلني صراخه، فعدت إلى مكاني يكاد يغمى علي من الرعب والألم. ولبثت في مكاني مروعا محزونا. وفي أثناء النهار شعرت بحاجة إلى التبول؛ ولكني كتمتها في خوف شديد، ولم أفكر مطلقا في استئذان المدرس في الخروج. وغلبني الحياء في الفسحة فلم أستطع أن أسترشد بأحد عن موقع المرحاض. وجعلت أتململ تململ الملدوغ، وأشد على ركبتي في ألم وجزع. ومر الوقت في ثقل وعذاب حتى دق جرس الخروج، فأطلقت ساقي للريح، فبلغت البيت في ثوان، وارتقيت السلم وثبا، وفي الشقة وجدت أمي في انتظاري، فهتفت بي لما رأتني: أهلا بنور العين ...
ووقع بصرها مصادفة على البنطلون، فبدا في وجهها الانزعاج، وتمتمت بصوت منخفض: رباه .. بلت على نفسك!
وانفجرت باكيا، وقلت لها منتحبا: لن أعود إلى المدرسة، إن جدي لا يدري عنها شيئا، وإني أكره الناظر والمدرسين والتلاميذ، أنقذيني منها ولن أبتعد عنك ما حييت!
فجففت دموعي، ونزعت ملابسي، وهي تقول برقة: لا تقل مثل هذا الكلام، ستألفها وتحبها، كيف تبقى في البيت والغلمان جميعا في المدرسة؟! وهل يمكن أن تصير ضابطا مثل جدك إذا تركت المدرسة؟!
وواصلت البكاء، وألححت في الشكوى، ولكنها جعلت تلطف من حزني وتحذرني من البوح لجدي بشكواي أن يغضب ويحتقرني. ولأول مرة أعارت دموعي أذنا صماء. •••
وبدا لها - كي تشجعني على مواصلة الحياة الجديدة - أن توصلني كل صباح إلى المدرسة؛ فكنا نذهب معا، وأدخل أنا المدرسة، بينما تقف هي على الطوار المقابل لها، وأظل ملازما للسور أبادلها النظرات والابتسام من خلال قضبانه، والكآبة ترين على صدري والضيق يمسك بخناقي. كرهت المدرسة وحياتها جميعا، ولكني أجبرت على الذهاب إليها، ولم ينفعني عصياني ولا بكائي ولم يغنيا عني شيئا، فأيقنت أنه قضي علي بسجن طويل الأمد. ولأول مرة وجدتني أحسد الكبار على حريتهم، وأغبط النساء على قبوعهن في البيوت. وإلى ذلك العهد يرجع سروري بيوم الخميس، فكان اليوم المفضل عندي من الأيام؛ أما بقية أيام الأسبوع فقد جفوتها واستثقلتها، وكنت أستشعر الكآبة ابتداء من أصيل يوم الجمعة، ويمر السبت والأحد والإثنين والثلاثاء في ضيق وتبرم، حتى يأتي صباح الأربعاء فأتنفس الارتياح، ثم أستيقظ عند الفجر الخميس وأتقلب تحت الغطاء في سرور وحبور، والدنيا لا تسعني من الفرح. ولذلك تفوقت في دروس الخميس، ولم تعد المحفوظات والديانة ... على أن ذلك العهد لم يخل من ذكريات تثير الابتسام، وإن بدت لي وقتذاك في إطار من الجد والصرامة؛ من ذلك أننا كنا نبتاع السميد في الفسحة، وإذا أعوزنا الملح استعضنا عنه بالجير الطافح من جدران الفناء. وكان مدرسنا الشيخ يروق له أن يشرب كوبا من العرقسوس في أثناء الحصة الأولى، فكان إذا تناول الكوب يأمرنا بالوقوف وبإدارة ظهورنا له حتى لا يصيبه مكروه من أعيننا النهمة. وجاءنا يوما متجهما وقال إنه شعر ليلة أمس بمغص، وإنه لا يشك في أن أحدنا استرق إليه النظر وهو يشرب العرقسوس، وأنذرنا إذا لم نرشد عن الجاني بالضرب على أيدينا جميعا، ولما كنا نجهل الجاني فقد ضربنا جميعا. وكان زميله الآخر شيخا هرما رقيق النفس، فلم يكن يضرب أحدا إلا إذا أعيته الوسائل، وكانت طريقته المفضلة في إسكات التلاميذ وضبط النظام أن يخوفنا بالعفريت الذي يسكن أرض الحجرة من قديم الزمان، قائلا إنه لا يحب الضوضاء، وكان إذا أفلت الزمام من يده يجلس القرفصاء وينقر على أرض الغرفة، ثم يقول بخشوع ورهبة: «عفوك يا سيدنا .. إنهم لا يدركون شيئا .. لا تركبهم وسامحهم هذه المرة.»
أما الدراسة فإني لم أتعلم شيئا على الإطلاق. ولعل الفن الوحيد الذي أتقنته في مدرسة الروضة الأولية هو قياس الزمن بمراقبة تحول ضوء الشمس عن جدران الفصل، وأنا أعد الثواني في انتظار جرس الخروج. وكان المعنى الوحيد الذي يتضمنه توجيه سؤال من المدرس أنني سأضرب كذا مسطرة على ظاهر كفي. ولم أحفظ في بحر عام دراسي إلا بعض السور القرآنية الصغيرة التي كنت أسمع أمي ترددها في صلاتها. وجاء الامتحان في نهاية العام فظفرت بجملة أصفار تكفي لجعلي مليونيرا لو ظفرت بها في غير الشهادة الفاضحة. ولما اطلع جدي على الشهادة غضب وقال لأمي بحدة: هذا نتيجة تدليلك .. لقد .. أفسدته يا ستي.
ثم توعد الناظر شرا، ومضى لمقابلته في المدرسة، ورجع إلينا بعد ساعة وهو يقول بارتياح: نجحت يا سيدي بالقوة، وإياك أن تسقط في السنة التالية!
وكان يداعبني أمل بأن سقوطي ربما عدل بهم عن إرسالي إلى المدرسة، فلما بشرني بذاك النجاح المغتصب خاب أملي. وجاءت السنة الثانية فلم تكن بخير من الأولى ، وزاد من شقائي هفوة لسانية عثرت بها فضاعفت من تنغيص حياتي بقية المدة التي قضيتها في الروضة الأولية، رفعت أصبعي مرة لأستأذن المدرس في الخروج، ولكن بدلا من أن أدعوه: «يا أفندي» أخطأت وأنا لا أدري فقلت له: «يا نينة»!
صفحة غير معروفة